النوع الاجتماعي والاقتصاد السياسي للتنمية

تاريخ النشر:

2009

النوع الاجتماعي والاقتصاد السياسي للتنمية(*)

يأتى كتاب شيرين رايالنوع الاجتماعي والاقتصاد السياسي للتنمية (الصادر في إنجلترا عام 2002) متناولاً الاقتصاد السياسي للتنمية بمنهجية نسوية تسعى إلى الكشف عن أدوار النساء في المجالين السياسي والاقتصادي وذلك مع التركيز على السياق العام بما فيه من قيود تترك أثرها على تشكيل وصياغة فاعلية النساء في الاقتصاد السياسي. ويأتي الكتاب في 264 صفحة من القطع المتوسط، وينقسم إلى ستة فصول تسبقها مقدمة وتليها قائمة بالمراجع وفهرس. أما عناوين فصول الكتاب فهي كالآتي: 1) النوع الاجتماعي والقومية وبناء الدولة القومية: خطابات التنمية، 2) النوع الاجتماعي والتنمية: رؤى نظرية في سياقاتها، 3) العولمة: أجندات جديدة للنوع والتنمية؟، 4) إعادة الهيكلة عالميًا وإعادة هيكلة علاقات النوع الاجتماعي: سياسات التكييف الهيكلي، 5) النوع والحوكمة متعددة المستويات: السياسة الممكنة والقادرة على إحداث تحول؟، 6) تفاعلات نقدية: من القومية إلى العولمة.

تستهل شيرين رايكتابها بمقدمة تحدد فيها الفرضيات التي تقوم عليها دراستها. فتبدأ أولاً بفرضية تنطلق من تبنيها منظورًا نسويًا قائمًا على القناعة بأن مجال الاقتصاد السياسي هو مجال خاضع لعلاقات القوى بين الجنسين (الجندر)، وهو ما تفسره باعتبار أن الرجال والنساء يحتلون مواقع مختلفة فيه، مع تفاوت الموارد المتاحة لكلا الجنسين، بما يتيح لهم التعبير عن مصالحهم المشتركة بل والمتنوعة والتعبئة حولها بطرق مختلفة فيما بينهما” (ص1). ثانيًا، تحرص الدراسة على تناول مظاهر الاختلاف بين النساء والرجال من ناحية ومظاهر الاختلاف فيما بين النساء، وذلك بالأخذ في عين الاعتبار وجود أشكال من التفاوت نساء العالم على أساس الانتماء القومي والطبقي وغيرها من العناصر الأخرى المؤثرة في تجارب النساء والمؤدية إلى خلخلة مفهوم النساء باعتبارهن كتلة واحدة موحدة. ثالثًا، تسعى الدراسة إلى تناول العلاقة بين البنية والفاعلية (agency)، بمعنى تتبع دور بنى القوى الاقتصادية والسياسية في تحديد مواقع كل من الجنسين في المجتمعات وما لذلك من تبعات على قيام النساء والرجال بأشكال من الفعل السياسي.

وتشير المؤلفة في مقدمتها للكتاب إلى مجموعة من المفاهيم الخاصة بالنظرية النسوية، والتي كان لها أثر في تشكيل الخلفية النظرية للمؤلفة وبالتالي في توجيه مسار البحث. ومن أهم تلك المفاهيم مسألة الحيز العام والحيز الخاص في السياق السياسي، نظرًا لتأكيد النظرية النسوية على أن غيابالنساء عن الحيز السياسي العام إنما يشكل في حد ذاته حضورًا من منطلق سعى النسوية إلى البحث عن أسباب وعوامل هذا الغياب أو التغييب بما يحققه من مصالح المجتمع الأبوى وفرض سلطته الذكورية. كذلك تشير إلى مفهوم آخر أساسي في التحليل النسوى وهو المتمثل في أهمية التجربةالشخصية بما يوسع من مجال مفهوم السياسةووضعها في سياق أوسع يأخذ في الاعتبار التجارب الشخصية في التحليل السياسي. كما تؤكد المؤلفة أن النظرية ما بعد الكولونيالية ساهمت في إثارة الوعي بجوانب من حركات التحرر القومي في علاقتها بالحداثة وذلك في سياق الاستعمار.

ومن الجدير بالذكر أن شيرين رايتضمن مقدمتها للكتاب جزءًا تتحدث فيه عن حياتها وخلفيتها الفكرية، وهي السمة التي نجدها في كثير من الكتابات الأكاديمية النسوية اعترافًا من المؤلفة بوعيها بأن التجربة الشخصية هي مسألة سياسية، وبأن التجربة الشخصية بلا شك تترك بصمتها على العمل البحثي إن لم يكن على المنهج المتبع في الدراسة، وهو ما تعترف به في نهاية هذا الجزء من المقدمة، حيث تشير إلى إدراكها بتحيزها إلى المنظور الآسيوى نظرًا لنشأتها في أسرة هندية كانت أميل إلى مظاهر الحداثة، في زمن ارتبطت فيه الحركة القومية بمناهضة الاستعمار من منطلق الفلسفة الماركسية. ومن هنا ترى المؤلفة أن نشأتها ربما تكون قد وجهتها لبدء دراستها بتتبع علاقة القومية بالخطابات التنموية. أما الجزء الثاني من المقدمة فيتناول التحولات النسويةبما شهده تاريخ البشرية في القرن العشرين من طفرة في انخراط النساء في سوق العمل، مع ما صاحبه من تزايد الهوة بين النساء تبعًا للمؤثرات الطبقية والعرقية والسياسية وغيرها بما ينعكس على المؤشرات الرسمية الخاصة بأوضاع النساء الصحية والتعليمية والعملية على مستوى العالم على ما فيها من تفاوت، مما ساهم بدوره كما ترى المؤلفة في نشأة وتطور الحركات النسوية على مستوى النظرية والعمل العام.

يأتي الفصل الأولمن كتاب شيرين راي، وعنوانه النوع والقومية وبناء الدولة القومية، مؤكدًا العلاقة بين العمل التنموى والمشروع القومي، حيث تركز المؤلفة في هذا الفصل علـى كيف عملت القومية وجهود النضال القومي علـى صياغة خطابات واستراتيجيات التنمية” (ص 11 – 12)، حيث تؤكد أن الفكر القومي قام بصياغة الأجندات التنموية للنخب في سياق ما بعد الاستعمار. وإذا كان المشروع القومي أتاح مساحات جديدة تقوم فيها النساء بالتعبئة لتحقيق مصالحهن، بل وأحيانًا من منطلق مفهوم المواطنة ذاته، إلا إنه كثيرًا ما تم إدماج النساء قصدًا أو إقصاؤهن عمدًا من البرامج القومية لتحقيق أغراض سياسية. ومن هنا تتبع المؤلفة تجليات النوع وعلاقات القوى بين الجنسين في خطابات التنمية بالأخذ في الاعتبار عمليات تشكيل الدول القومية ما بعد الاستعمار، والعوامل الاقتصادية والاجتماعية الكامنة في فكر النخبة في إطار الفكر القومي، جنبُا إلى جنب دور الحركات النسائية في أوجه صراعها وأشكال تواطئها مع الأيديولوجيا القومية والتنمية. ويلقى هذا الفصل الضوء على أثر الاستعمار والحركات القومية ومراحل التحرر الوطني على صياغة خطابات النوع والتنمية وما ترتب عليها من تحديد مواقع الرجال والنساء داخل المجتمعات والاقتصادات القومية. وتخلص المؤلفة في هذا الفصل إلى أنه في الوقت الذي قامت فيه القومية على تبنى لغة المساواة بين أفراد المجتمع على قاعدة من المواطنة، إلا أن تطبيقات المواطنة ظلت تتسم بوجود تفاوت فيما بين الجنسين. وقد ترتب على ذلك حدوث قناعة لدى كثير من النساء والنسويات بوجود تناقض كامن بين المشروع القومى والمشروع النسوي. ولكن مع ذلك فإن نشأة الحركة القومية أسهمت في سعى النساء إلى خلق حيز خاص بهن داخل الحيز العام، مما كان له دور في تطور الحركة النسوية ذاتها.

وتبين المؤلفة هنا أن الدول القومية نشأت في العالم الثالث كرد فعل لتجربة الاستعمار والإمبريالية، إذ أصبح الفكر القومي هو أساس بناء الدول المستقلة. ومن ناحية أخرى فإن الحركة النسوية في العالم الثالث تستمد جذورها من مشاركة النساء في الحركة القومية، ولكن كان من دواعي الانخراط في حركة التحرر الوطني توحيد الجهود بما يتطلبه ذلك من تضحيات وتأجيل للمصالح الفئوية. وفي الوقت الذي كان يتم فيه تأكيد صورة المرأة الجديدةفي الدولة الجديدةأدركت النساء وجود فجوة بين الخطاب السياسي والواقع الاجتماعي (ص 36)، وهو ما تسوق عليه أمثلة من التجربتين الهندية والتركية واللتين تراهما مثالاً لما جرى في العديد من دول العالم الثالث. وفي الوقت الذي تمت فيه صياغة مفاهيم المساواة في الدول المتحررة من الاستعمار في إطار المواطنة، نجد أن مفهوم المواطنة في حد ذاته ظل يحمل اختلافات بين الرجال والنساء بدعوى عدم الانسياق تمامًا وراء النموذج الغربي!

ويتناول الفصل الثاني، وعنوانه النوع والتنمية، السياقات الدولية التي تطورت في إطارها حركات التحرر من الاستعمار، وما صاحبها من تطور لنماذج وخطابات التنمية، ولا يقتصر البحث هنا على مفهوم التنمية، بل يتجاوزه للتطرق إلى موقف الحركات النسوية منها. وتتبنى الدراسة هنا منهجًا تاريخيًا مقارنًا لفهم مظاهر التشابه والاختلاف التي واجهتها النساء والنسويات ضمن الإطار التنموي. ثم تسعى شيرين رايإلى تتبع الأسباب التي دعت الحركات النسائية في معظم البلاد الساعية إلى التحرر من الاستعمار ودفعتها إلى الالتزام بنماذج التنمية القومية على الرغم من الصياغة القاصرة لـمسألة المرأةفي البرامج التنموية التي وضعتها النخب القومية. ثم تنتقل المؤلفة إلى أهم القضايا النظرية التي تم طرحها في إطار التحرر الوطني والنقد النسوي لها، حيث ترى أن تفاعل النسويات مع البرامج المطروحة أتاح قيام مساحة نقدية نسوية داخل برامج التنمية القومية، وهي المساحة التي أثرتها كتابات النسويات الغربيات جنبًا إلى جنب نسويات العالم الثالث. وتختتم المؤلفة هذا الفصل بالتأكيد على الطابع الليبرالي للعمل النسوى في إطار الدول القومية والمشاريع التنموية على المستوى العالمي، وهو الطابع الذي تراه مهددًا الآن مع تراجع المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة القومية أمام تيار العولمة.

وتبين المؤلفة هنا ارتباط التنمية بالرأسمالية الغربية من حيث كون التنمية شكلاً من تطبيقات الفكر الليبرالي الغربي، وذلك من منطلق التحليل اللغوى للمفردات المستخدمة في الخطابين الماركسي والرأسمالي. ومن الملاحظات اللافتة للانتباه ما تورده المؤلفة، في سياق اهتمام الأمم المتحدة بقضايا النساء والذي تمثل في إعلان السبعينيات من القرن العشرين عقدًا للتنمية، إذ اقتصر الاهتمام بنساء العالم الثالث على تطبيق برامج الحد من الزيادة السكانية أي تنظيم / تحديد النسل، بالإضافة إلى قدر من الاهتمام بتعليم النساء ثم تنتقل في جزء مهم من هذا الفصل فتتبع تطور التحليل النسوى للتنمية انطلاقًا من مفهوم بمفهوم النساء في التنميةانتهاء بمفهوم النوع والتنمية” (ص 71) وإشكاليات كل منهما، والتي تتمثل منهجيًا في تركيز منهج النساء والتنميةعلى مظاهر غياب وتغييب النساء عن الخطط والسياسات التنموية، بينما يقوم منهج النوع والتنميةعلى تتبع أوجه اللامساواة بين الرجال والنساء. كما تتناول المؤلفة بقدر من التفصيل ما شهدته الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين من تطور الفكر النقدي التفكيكي ما بعد الحداثيفي نقد التنمية فيما عرف بـسياسات ما بعد التنمية” (post-development politics) اعتمادًا على مفهوم الاختلاف، باعتبار النساء هن الآخربالنسبة للرجال من جانب، وكذلك الاختلافات القائمة بين النساء أنفسهن من ناحية أخرى.

أما الفصل الثالث، كما يتضح من عنوانه العولمة، فيأتي مركزًا على العولمة باعتبارها قوة مهددة لنظام الدولة القومية بما لها من تأثير على الاقتصاد وتحويله من اقتصاد الدولة إلى الاقتصاد العالمي، وبما لذلك بدوره من أثر على السياقات الاجتماعية والثقافية. ويأتي منظور النوع فيركز على وضع النساء والرجال داخل هذا العالم المتغير، إذ ترى المؤلفة أهمية تناول ظاهرة العولمة من حيث ربطها بتحليل علاقات القوى بين الجنسين عند العلاقات تتبع الاجتماعية للإنتاج في ظل العولمة. ويتناول هذا الفصل بقدر من التفصيل علاقات الإنتاج في إطار الرأسمالية وتبعاتها على علاقات القوى بين الجنسين، وذلك من خلال ثلاثة سياقات مختلفة، وهي السوق والدولة القومية والحوكمة (governance)، وهي السياقات التي تراها محورية في فهمنا للعولمة من جانب وما يصاحبها من تحول وتنظيم لعلاقات الإنتاج. وتخلص شيرين رايإلى نجاح الحركات النسائية باعتبارها حركات اجتماعية في تسييس قضية النوع على مستوى الدول وعلى مستوى النظام الدولى ممثلاً على سبيل المثال في وعي مؤسسة عالمية كالبنك الدولى بأنها خاضعة لمراقبة النساء. كما أن النهوض بأوضاع النساء والجهود الرامية إلى تحقيق أكبر قدر من المساواة بين الجنسين أصبحت من المؤشرات المهمة عند تقييم النشاط التنموي. ومع ذلك، وفي إطار الاقتصاد الليبرالي الساعي إلى إعادة توزيع الموارد على المستوى العالمي، تواجه النسويات تحديًا قويًا في مسألة إعادة توزيععلاقات القوى بين الجنسين. كما نجد أن القضايا النسوية التي تفجرت منذ السبعينيات، مثل الاختلاف والنخبوية والتفاوض ومعارضة أنظمة الدول، قد اكتسبت درجة أكبر من التعقيد في إطار العولمة.

وتذكر المؤلفة في هذا الصدد أنه من المتعارف عليه أن زيادة التحاق النساء بسوق العمل بأجر يؤدي بالتبعية إلى تحسين أوضاعهن. وإذا نظرنا إلى سياق العالم الثالث، لوجدنا أن عملية عولمة الأسواق أدت إلى ارتفاع ملحوظ في نسب التحاق النساء بالعمل، إلا أن الملاحظ أيضًا أن عمل النساء يرتكز في مجالات بعينها دون الأخرى، كما أن ارتفاع نسب عمالة النساء صاحبه ارتفاع في معدلات تأنيث الفقر والعنف” (ص 117) في ظل تراجع دور الدولة. ومن هنا ترى شيرين رايضرورة تفاعل النساء مع مسألة الحوكمة على عدة مستويات، وهي : المشاركة في صياغة البرامج والأجندات الرسمية، ومستوى العمل النسوى العام، ومستوى المشاركة المؤسسية ودمج سياسات النوع والبرامج التنموية في العمل العام دون أن يكون ذلك على حساب مصالح النساء. وفي هذا السياق تؤكــــد أن العمل النسوى لا يقتصر على الاعتراف بوجود مظاهر تمييز بين الجنسين، بل السعى إلى إعادة توزيع الموارد بما يؤدى إلى إلغاء هذا التمييز، وبالتالي يتعين على الناشطات النسويات العمل معًا من أجل تحقيق تغيير في بنية المجتمع ممثلة في السلطة الأبوية والقوى الاجتماعية والاقتصادية.

ويأتى الفصل الرابع، وعنوانه إعادة الهيكلة عالميًا وإعادة هيكلة علاقات النوع، فتتناول شيرين رايفيه نشأة سياسات التكييف الهيكلى العالمية ( SAPS: Structural Adjustment Policies) وأثرها على حيوات النساء والرجال. حيث تستهل الفصل بتتبع درجات وتقييم سياسات التكيف الهيكلي وتبعاتها على الجنسين، ثم تنتقل إلى عرض لمواقف النسويات المتخصصات في علم الاقتصاد في مواجهة الاقتصاد النيوليبرالي (neo-liberal economics) في تحليلهن لسياسات التكييف الهيكلى العالمية. وتستخلص المؤلفة من تحليلها هذا درجات تأثر النساء بسياسات إعادة الهيكلة العالمية، حيث ترى أن النساء مقارنة بالرجال – من الفئة الأكثر معاناة مما نجم عن العولمة من تفكك العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة. كما تشير إلى أن سياسات إعادة الهيكلة في ظل العولمة أتاحت فرص عمل جديدة للنساء ولكن في ظروف عمل أكثر سوءًا وأقل ضمانًا. وأخيرًا تؤكد المؤلفة أن هذه السياسات الجديدة أدت إلى اتساع الهوة بين النساء على مستوى الطبقات وعلى مستوى بلدان الشمال والجنوب.

وتبين لنا المؤلفة في هذا الفصل كيف أدت سياسات التكييف الهيكليالعالمية إلى زيادة تقسيم العمل على مستوى العالم، فلم يعد الأمر يقتصر على اتساع الفجوة بين العالم الثالث والعالم الأول من حيث الإنتاج والاستهلاك، وإنما أدت زيادة معدلات التحاق النساء بالعمل إلى زيادة التراتبية بين الرجال والنساء في العمل وإلى اتساع الفجوة بين نساء العالم الثالث (الجنوب) كمنتجات ونساء العالم الأول (الشمال) كمستهلكات، وذلك في إطار العولمة حيث تقع مراكز الإنتاج في الجنوب بينما تتمركز الأموال والسلطة والهيمنة في الشركات العالمية الكبرى لا في الدول التي يتم الإنتاج على أرضها.

وتنتقل شيرين رايفـى الفصل الخامس، وعنوان ، النوع والحوكمة متعددة المستويات، حيث تقدم تحليلاً متعدد المستويات للاستراتيجيات السياسية المستخدمة على المستوى العالمي، ومستوى الدول، والمستوى المحلي، وهو التحليل الذي تسعى من خلاله إلى تأمل مسألة مدى إمكانية إعادة توزيع الموارد والعلاقات المطروحة في الفصل السابق، وأثر العولمة على عمليات الإنتاج وما يترتب عليها من أشكال تنظيمية للمواجهة والتعبئة. كما تلقى ضوءًا على أشكال الاختلاف المتنامية بين النساء نتيجة تلك التعبئة وصور التضامن القائمة فيما بينهن. ولعل من الإضافات المهمة في هذا الفصل هو توقف المؤلفة أمام خطاب التمكين” (empowerment) مشيرة إلى أن فاعلية مفهوم التمكين في الممارسة النسوية مرهونة بالوعي بالقيود المفروضة على النساء؛ فتمنعهن من الفاعلية عمومًا وتشكل إطارًا للاختلافات في ما بينهن. وتخلص من ذلك إلى أن دعم مفهوم التمكين يعتمد على معرفة بمصالح النساء والاختلافات القائمة في ما بينهن جنبًا إلى جنب الحاجة إلى إعادة توزيع الموارد الاقتصادية والاجتماعية. ويتضمن هذا الفصل عرضًا لأدوار الحركات والمنظمات النسائية في التعبير عن مصالح النساء، كما تؤكد المؤلفة فيه أن المواطنة الحقيقة الفاعلة ووجود قدر معتبر من المساواة والسياسات الهادفة يمكنها أن تكون قواعد راسخة في جهود تمكين النساء، مع الأخذ في الاعتبار أن المشاركة السياسية للنساء والمنظمات النسائية لا تؤدي بالضرورة وتلقائيًا إلى تمكين النساء ما دامت قضايا النساء غائبة عنها، أو حين تستخدم مسألة تمكين النساء لزيادة الإنتاج داخل النظام القائم بدلاً من تغيير البُنى المؤسسية والممارسات القائمة بالفعل.

ويتطرق هذا الفصل إلـى تجربة برنامج تنمية النساء ( Women’s Development Programme) الذي تم تطبيقه في ست مقاطعات من إقليم راجستان في الهند بدءًا من عام 1984 بمساعدة من مؤسسة اليونيسيف (ص183 وما يليها). وبناء على هذه التجربة وغيرها من جهود الحركات النسائية والمنظمات غير الحكومية في العالم الثالث، ترى المؤلفة أن معظم المبادرات (مثل مبادرة الصديقة” Sathin في إقليم راجستان) تخضع للإدماج داخل مؤسسات السلطة وبالتالي يقتصر دورها على تنفيذ البرامج بدلاً من وضع الخطط، كما تشير تلك التجارب إلى أن البنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمؤسسات السياسية الرسمية تمثل عائقًا أمام الناشطات النسويات، ليس من منطلق ما تضعه من قيود أمام جهود التغيير فحسب وإنها لما تثيره من إشكالية محاولة ضم المجموعات النسائية والناشطات النسويات ضمن مؤسسات السلطة ودوائر التأثير الرسمية.

كما توضح المؤلفة كيف ساهمت مثل هذه المبادرات في إلقاء المزيد من الضوء على مدى الاختلاف القائم فيها بين النساء : بين نساء الجنوب والشمال، بين الناشاطات والفيموقراط” (femocrats: أي النساء العاملات ضمن منظومة مؤسسات الدولة)، بين النساء اللاتى يعملن بالجهود الذاتية أو بتمويل محدود واللاتي يعملن بتمويل من المؤسسات الدولية. وغيرهن من النساء. كما تؤكد التجربة عدم وجود أي تحول ملحوظ في المنظومات الاقتصادية أو السياسات وذلك على مستوى المؤسسات الرسمية المهيمنة، سواء المؤسسة الدولية (البنك الدولي) أو مؤسسات الدولة الرسمية أو حتى على المستوى المحلي. وهو ما يطرح بدوره تساؤلات حول المصداقية بشأن جهود إدماج عنصر النوع في التنمية وبشأن مسألة تمثيل النساء في المنتديات العالمية.

و تختتم شيرين رايكتابها بالفصل السادس الذي تتناول فيهتفاعلات نقدية“, حيث تشير إلى ما تحمله العولمة من تحديات للنساء في ظل تراجع أهمية الدولة القومية في ظل النظام العالمي الجديد. ومع ذلك تؤكد أن تراجع دور الدولة القومية لا يعني غيابها، بل الملاحظ هو ما طرأ عليها من تحولات في ظل التوسع الكبير في الأسواق العالمية على حساب الأسواق المحلية. كما تحذر مما تطلق عليه النوستالجياأو الحنين في دراسات نقد العولمة، وهو ما يتمثل في الحنين إلى الدولة القومية وتصويرها باعتبارها ضحيةالعولمة (ص 199)، وخاصة لما كانت تحمله الدولة القومية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية من وعود وآمال لتحقيق التنمية من خلال المشاريع القومية. وهي ظاهرة تشترك فيها كل دول العالم الثالث مع ما بينها من اختلافات وتباين في التفاصيل التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعلى الرغم من عجز الدول عن تحقيق وعودها بالاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي، فإنها ظلت تلعب دورًا كبيرًا في التنمية نظرية وتطبيقًا. ومن هنا أصبحت صورة الدولة العاجزة أمام تحديات الأسواق العالمية الجديدة هي صورة أقرب إلى ضحية العولمة، رغم مسئوليتها عن قراراتها السياسية والاقتصادية أمام التغيرات العالمية، وهو ما يتمثل على سبيل المثال في استجابة النخب الحاكمة لسياسات إعادة الهيكلة بما يخدم المؤسسات الاقتصادية العالمية الكبرى. وفي الوقت نفسه تلفت المؤلفة الانتباه إلى التأكيد القائم في المشروعات التنموية المعاصرة على البيئة المحلية، مع إشارتها إلى أن البيئة المحلية ليست كيانًا واحدًا بل تتنوع فيما بينها، ما بين الريف والحضر على سبيل المثال، حيث لكل بيئة منها خصوصيتها الاقتصادية والاجتماعية وانعكاساتها على حياة النساء. وتختتم شيرين رايكتابها بالتأكيد مرة أخرى على أن المرحلة التالية في كفاح النساء يجب أن ترتكز على إعادة توزيع الموارد من أجل إعادة صياغة علاقات القوى في المجتمع ، داعيًة إلى قيام تحالفات بين القوى الاجتماعية والمجموعات النسائية وإلى التضامن بين الحركات الاجتماعية التحررية في سبيل تدعيم العمل النسوى وسياسات التغيير.

وأخيرًا تجدر الإشارة إلى أن شيريـــــن رايدرست فـــی جامعتیدلهيبالهند و كيمبردجفي بريطانيا، وانضمت إلى جامعة واريكفي بريطانيا عام 1989 حيث أستاذة للسياسة والدراسات الدولية، وهي مهتمة بقضايا النوع في مجال الدراسات السياسية والاقتصادية عامة والتنمية والعولمة خاصة، ومن آخر إصداراتها كتاب سياسات النوع في التنمية (2008) والحوكمة العالمية: رؤى نسوية (2007). وتجمع المؤلفة بين المعرفة بتجربة الدول القومية ممثلة في الهند مسقط رأسها وموطن نشأتها، والعلم بالنظرية السياسية والاقتصادية ممثلة في قضايا التنمية والحوكمة، وذلك من منظور يأخذ في الاعتبار عنصر النوع وعلاقات القوى بين الجنسين. ومن هنا يتسم الكتاب منهجيًا باتساع دائرة البحث متتبعًا مختلف الخطابات والسياسات على مدى تاريخي واسع ينطلق من عصر الاستعمار إلى العولمة المعاصرة، كما تتطرق الدراسة إلى مناطق جغرافية متنوعة، ما بين الدول القومية التي نشأت في ظل الحركات القومية للتحرر من الاستعار منذ منتصف القرن العشرين، مرورًا بدول في قارتي أفريقيا وأمريكا الجنوبية، وانتهاء بالدول القومية الناشئة في أوروبا الشرقية في نهايات القرن العشرين، والقوى الاقتصادية الصاعدة في الشرق الأقصى. كما يكشف الكتاب عن معرفة أكاديمية بالدراسات الدولية والحركات النسائية وخطابي التنمية والعولمة. ولعل من أهم الإضافات التي يقدمها هذا الكتاب في سياقه الأكاديمي هو تبنيه منظورًا يأخذ في الاعتبار علاقات القوى بين الجنسين، خاصة مع ما يطرحه من رؤية للعمل النسوى في إطار العولمة، مع تزايد سلطة المؤسسات الاقتصادية الدولية وبرامجها على حساب المشروعات القومية. كما يحمل دعوة للتحالف والتضامن النسوى والمجتمعي لتحقيق التغيير بما يضمن أكبر قدر من العدالة والمساواة.

 

هالة كمال : مدرسة بقسم اللغة الإنجليزية، جامعة القاهرة، عضوة بمؤسسـة المـرأة والذاكرة، وباحثة مهتمة بدراسات الجندر.

(*) Shirin M. Rai, Gender and the Political Economy of Development: From Nationalism to Globalization, Cambridge: Polity Press, 2002.

اصدارات متعلقة

أسئلة وأجوبة بشأن الوقاية من كوفيد 19 ومكافحتها للعاملين /ات في مجال الرعاية الصحية
الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي