تاريخ النساء. أم وجهة نظر النساء في كتابة التاريخ؟

التصنيفات: غير مصنف

التقديم:

تاريخ النساء. أم وجهة نظر النساء في كتابة التاريخ؟

إن قرائتنا للتاريخ، هي بمثابة استجابة لمقولات شائعة، تقلل من شأن النساء، ومن شأن مساهمتهن في الحياة العامة. هي محاولة لدحض الادعاءات التي تستخدم التاريخ ذريعة لتكريس نمط تقليدى لدور المرأة في المجتمع. هي محاولة لتوظيف التراث في صالح النساء. هي محاولة للخروج من أسر القراءة الواحدة للتراث. وبإيجاز، وقدر من التعميم، يشمل هذا التتبع التاريخى لمشاركة المرأة في التاريخ العربي شقين رئيسين:

الأول: يبحث عن المرأة باعتبارها ذاتا فعالة، لها دور إيجابي في الحياة، فنعيد تقييم الدور الذي لعبته نخبة من النساء، تذكرهن كتب التاريخ باقتضاب، ولا تعطيهن حقهن، وأخريات من النساء اللاتي تجاهلهن التاريخ والمؤرخون، فسقطن تمامًا – من الذاكرة القومية. ومن المؤكد، أن البحث الدؤوب في المصادر التاريخية المختلفة، التي لا تقتصر على كتب التاريخ، ولكن تشمل السير والأغاني والمراجع الأدبية، سوف يكشف عن العديد من الشخصيات النسائية المنسية، التي ساهمت مساهمة فعالة في صنع الحضارة.

الثاني: يتناول بالتحليل مواقف من المرأة، عبر العصور المختلفة، لا بهدف تكريس واستمرارية قيم أو قضايا بعينها، ولكن بهدف إعادة فهمها وتقييمها وتحليلها، في ضوء السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي، لهذه الفترة التاريخية. وبهذا؛ تعاد قراءة وكتابة موقف الحضارة العربية، من خلال منظور نقدي. يأخذ في الاعتبار التحيز المجتمعي، والحضاري ضد المرأة، الذي تفشى في عصور مختلفة، وأفرز أنماطًا من القيم والأفكار التي تحقر المرأة، كما يأخذ في الاعتبار الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية السائدة، التي تفرز مواقف وتفسيرات مغلوطة، أو غير مبررة. وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى وجود مادة علمية ثرية جدًا. في مجال إعادة قراءة التاريخ الثقافي للشعوب، اتسمت بتبنيها مناهج البحث الحديثة، في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وارتبطت ارتباطًا وثيقًا بحركات التحرر، في القرن العشرين. هذه المقولة تنطبق بشكل عام على حركات التحرر من الاستعمار، ومن أشكال التمييز كافة على أساس الجنس أو النوع أو الدين. وعلى سبيل المثال، وكما تقول جون سكوت Joan Scott، انبثق الاتجاه الأكاديمي لكتابة تاريخ النساء في الغرب، من الأجندة السياسية لحركة تحرير المرأة في السبعينيات. وتمت بالفعل كتابة أعداد كبيرة من السير والدراسات الأخرى، التي تبحث عن النساء في التاريخ، وتعيد تقييم ما كتبه المؤرخون على مر العصور. إلا أنه مع قدوم التسعينيات، بات واضحًا أن توفير كم كبير من المعلومات، عن مساهمة النساء في التاريخ، لا يؤدى بالضرورة إلى تصحيح الصورة، ومن ثم، تصحيح المفاهيم السائدة عن دور النساء في الحياة. كما أن الكتابة عن مجموعات أخرى من النساء، ممن لا يشاركن بالضرورة في الحياة السياسية (أى عالم السلطة والحكام)، التي يعتبرها المؤرخون هامة وجديرة بالتدوين، لا يترتب عليها إعادة النظر في الافتراضات والتصنيفات الأكاديمية، ولا يترتب عليها إضفاء قيمة حقيقية لعمل النساء. فاذا تساءلنا إلى جانب هذا عن، هل الهدف من كتابة تاريخ النساء، هو التحقق من، أو الوصول إلى معلومات مؤكدة، تفيد التوثيق لعمليات الانتقاء والاستبعاد التي تم ممارستها، ضد مصلحة المرأة؟. وماذا عن الانتقاء المتضمن في مشروع كتابة تاريخ النساء؟. من الأمور التي وضحت أيضًا هي أهمية الأخذ في الاعتبار علاقات القوة في المجتمع الواحد (على المستويات كافة: الدولة، الأسرة، الأفراد) التي تؤثر بشكل مباشر في توجيه ما يدون، وما يعتبر جديرًا بالحفظ.

إن القراءات الحديثة في تاريخ الشعوب المختلفة، فتحت، ومازالت، مساحات واسعة للمعرفة، كما سلطت الضوء على علاقة المعرفة بالقوة، أو بالسلطة السائدة؛ مما ترتب عليه مراجعة بعض الفرضيات الأساسية، في مناهج البحث المعتمدة. وكما ذكرنا من قبل، هناك تراث غزير من الدراسات في التاريخ، استطاع بالفعل – التصدي لعمليات الاستبعاد والتهميش، التي تعانى منها المرأة في العلوم، وفي الحياة اليومية. هذه المادة البحثية موجودة بصفة أساسية بلغات أجنبية؛ لأنها بطبيعة الحال تتناول تواريخ شعوب أخرى، إلا أن هناك أيضًا كماً لا بأس به من الدراسات التاريخية، المكتوبة بلغات أجنبية عن التاريخ العربي (لباحثين وباحثات من أصل عربي أو أجنبي) تهتم بالنساء، كفئة من الفئات المهمشة، وتسعى إلى التعامل، مع الآثار المترتبة، على عصور الإقصاء والاستبعاد.

وبالنظر إلى المكتبة العربية، نكتشف خلوها شبه التام، من الدراسات في التاريخ العربي، التي تتطرق إلى قضايا التشكل الثقافي والاجتماعي للجنس. وأسباب هذا القصور كثيرة وشائكة، وتستحق المناقشة، أذكر منها على سبيل المثال، ودون الاستفاضة في عرضها، التدهور العام الذي طال الجامعات الوطنية، انهيار مؤسسات البحث عامة، والبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة، سيطرة السلطة السياسية المباشرة على الجامعات، ومن ثم، على البحث العلمى، عدم وجود حركة نسائية، ذات قدرة على فرض أسئلتها واهتماماتها، على الساحة الثقافية.

ومن ثم، هناك حاجة شديدة لخلق تراكم معرفي من الدراسات، التي تبحث في التاريخ العربي، من منظور يأخذ في الاعتبار التشكل الثقافي والاجتماعي للجنس، والتي تستفيد من النظريات الحديثة، في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتي تتناول التاريخ من زوايا، عبر التخصصات المختلفة.

ومن هذا المنطلق، قامت مجموعة بحث المرأة والذاكرة، بالدعوة إلى لقاء عربي، يضم باحثين وباحثات، من تخصصات مختلفة، في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مهتمين بالتطرق إلى قضايا المرأة في التاريخ العربي، من واقع تخصصاتهم واهتماماتهم البحثية. ولبي دعوتنا متخصصون، وأساتذة في التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، والنقد الأدبي، وعلم النفس، والإعلام، والقانون، جاءوا من المغرب وتونس والجزائر ولبنان وفلسطين ومصر. ووقع الاختيار على عنوان اللقاء زمن النساء والذاكرة البديلة؛ لأسباب كثيرة، أهمها تحفيز المشاركين والمشاركات على الاشتباك، مع فرضيات البحث في التاريخ، من منطلق يأخذ في الاعتبار قضايا التشكل الثقافي والاجتماعي للجنس أى gender. وكنا على وعى، بأن طرح الموضوع بهذه الصيغة، لا يجعله جزءًا من الموضوعات المتفق عليها، حتى في مجال المهتمين بقضايا المرأة جاء العنوان أيضًا عامًا، بالقدر الذي يسمح بضم مشروعات بحثية قائمة بالفعل، لباحثين في مجالات متفرقة فلقد كان الهدف الرئيسي للقاء، هو التعارف بين الباحثين في البلدان المختلفة، وتبادل الخبرات والمعلومات، علمًا أن قنوات الاتصال، بين الباحثين في البلاد العربية، ليست سهلة أو متاحة.

وأخيراً، إن زمن النساء هو الزمن غير المنظور، في الدفاتر التاريخية الرسمية، هو زمن الناس العاديين، زمن المستبعدين، زمن الناس بعيدًا عن أساطير النخبة والحكام. إنه الزمن المفقود في الكتب الرسمية، الزمن المتجاهل في الإحصائيات الرسمية، عن مقدار مشاركة المرأة في الدخل القومى مثلاً. ولقد طرح تساؤل: هل يؤدى التنقيب عن زمن النساء، إلى خلق ذاكرة بديلة؟. قد يكون هذا السؤال سابقًا لأوانه، ولكن إذا استطعنا تخيل أن هذه الذاكرة البديلة، لا تأتي بالضرورة من خلال عملية إقصاء وإحلال، وهى العملية التي تتبادر إلى الذهن، وإنما نفترض إمكان وجود بدائل أخرى، كعملية توسيع وتضمين، أو عملية تشمل إعادة مركزة، أو إعادة ترتيب أولوليات، أو تراتبات السلطة؟. هل من الممكن فعلاً وجود ذاكرة غير منحازة؟.

يحتوى هذا الكتاب، على دراسات قدمت خلال اللقاء، وأخرى تم استكمالها أو بلورتها بعد انتهائه. والسمة المشتركة بينها جميعا – هى الاهتمام بالتاريخ الثقافي، في تناول قضايا المرأة، إما بالتركيز على فترات سابقة، وإما من خلال دراسة الواقع المعاصر للمرأة العربية. نجد أيضًا – اقتناع القائمين على البحث، بأهمية إجراء الأبحاث الأكاديمية المتخصصة، في سياق تجمعات نسائية نشيطة، مهمومة بتحسين وضع المرأة في المجتمعات العربية. إلى جانب هذا، تعددت المناهج والاتجاهات، واختلفت وجهات النظر والآراء.

فهناك بالطبع تساؤلات حول مفهوم الذاكرة البديلة، يطرحها توفيق بشروش، من وجهة نظر رجل يهتم بقضايا المرأة، بشكل عام. أما مريم بوزيد فتستخدم مدخلاً أنثروبولوجيا في قراءة التاريخ؛ لتستنبط منه معلومات، عن تباين وضع النساء عبر العصور، وتحاول فهم أسباب الإقصاء الذى يعانين منه. وتشير على سبيل المثال إلى حياة الترفيات، وطقوسهن، وطريقة كتابتهن السرية المهددة بالاندثار؛ باعتبارهن نموذجًا لمجموعة من النساء، كانت لهن ممارسات وأدوار مختلفة، عما نعتبره سائداً ومتفقاً عليه؛ لتؤكد فكرة التباين، بين تجارب النساء في عصور وظروف مختلفة، وتشير إلى أهمية اكتشاف هذا التنوع؛ لكسر سطوة النموذج الواحد.

أما نهى بيومى فتتركز ورقتها، على نقد وتحليل المفاهيم المرتبطة بالتوجه، نحو خلق ذاكرة بديلة، وتناقش مفهوم الإقصاء، وعلاقة السلطة بالمعرفة، ودور الكتابة، في إفساح مساحات أرحب للمرأة؛ بهدف استنطاق المكبوت في المكتوب. وهي تفعل هذا، من خلال تبنى أسلوب الغوص في الوعى، واستكشاف طبقات ذاكرتها؛ لتتلمس معالمها وتجلياتها على الواقع.

ورحلة التنقيب عن أحوال النساء، في العصور المختلفة، تأخذ طرقًا متعددة. تقوم هدى لطفي بقراءة تحليلية، لمعجم السخاوى عن النساء؛ لتستخلص معلومات أو إشارات، عن حياة النساء الاجتماعية، في العصر المملوكي، وتفترض من البداية أنه ليس من المنطق، توقع أن الحدود المسموح بها للمرأة المسلمة، بالتحرك في المجتمع، كانت على القدر نفسه، من الصرامة أو التسامح، عبر العصور الإسلامية المختلفة. وعلى هذا الأساس، من المهم جدًا، استنطاق المصادر غير التقليدية، وعدم الاعتماد الكامل على الوثائق الرسمية، التي عادة ما تؤرخ للمواقف الرسمية، أو الآراء الإيديولوجية السائدة، عما يجب أن يكون، عوضًا عما كان بالفعل.

وتلجأ نادية الشيخ، إلى تحليل خطاب بعض الكتاب المسلمين، عن المرأة البيزنطية، وتعتبرها طريقة غير مباشرة، لاكتشاف اتجاهات إيديولوجية عن صورة المرأة، ووضعها في فترات تاريخية معينة. وتعلق – مثلاً على إجماع المصادر العربية، على جمال النساء البيزنطيات؛ بحيث يمكننا استنتاج بعض الأشياء، عن معايير الجمال السائدة، والمقارنات الضمنية بين فضائل النساء العرب، مقارنة بالبيزنطيات. إلى جانب هذا، تمثل المقالة مقاربة جديدة، لفهم العلاقة المتأزمة، بين الذات والآخر. حيث يسلط الضوء هذه المرة على المنظور العربي، ورؤيته للآخر، عوضًا عما هو جارٍ من التركيز، على المنظور الغربي، عن المرأة العربية.

أما نهوند القادري عيسى، فترجع إلى الصحافة المصرية واللبنانية، في أوائل القرن العشرين؛ لتستشف اهتمامات وهموم النساء في تلك الفترة، من خلال الموضوعات والمقالات الصحفية؛ لتجد أن أبرز الهموم التي طغت على نساء تلك الفترة، المنتميات إلى الطبقة المتوسطة، هي مشكلة الخصوصية الوطنية، وعلاقتها بتحرر المرأة.

والهدف من التنقيب عن أخبار النساء بطبيعة الحال لا ينحصر في الوصول إلى معلومات أصح أو أشمل، عن أحوال النساء في عصور تاريخية مختلفة. فهذه المعلومات، إنما هي الخطوة الأولى، في سبيل إعادة النظر، في علاقتنا بالتاريخ، أو تسليط الضوء على الكيفية التي يوظف بها التاريخ؛ لتحقيق مصالح محددة، وبداية لفهم العلاقة الوثيقة، بين المعرفة الثقافية والقوة.

وعن التساؤلات التي تطرحها، مقارنة فترة تاريخية معينة بالحاضر، يقدم عماد أبو غازي قراءة في وثائق عقود الزواج، في الفترة الممتدة من القرن التاسع الميلادي، حتى القرن التاسع عشر الميلادي. ويهتم الباحث بعقود الزواج؛ كمؤشر لقدرة المرأة (أو عدم قدرتها) على التمسك بحقوقها، ويعقد مقارنة بين قدرة النساء على تضمين عقد الزواج الشروط في عصور سابقة، والهجمة الشرسة التي لاحقت مشروع تعديل نموذج عقد الزواج في مصر سنة ١٩٩٥. ومن المعروف، أن من أهم الأسلحة التي استخدمت لإجهاض هذا المشروع وصمه بالبدعة، وأنه يهدد الاستقرار والثبات في تنظيم العلاقة الزوجية في المجتمعات الإسلامية. ويبين الباحث مدى الانحياز والتجني المصاحبين لهذا المسلك، ويستعرض عقود زواج موثقة، تضمنت شروطًا وضعتها الزوجة، والتزمت بها المحاكم.

وتنقب أميمة أبو بكر، عن الرائدات الأوليات، من النساء العابدات والزاهدات، في القرون الإسلامية الأولى، وتضع بحثها هذا، في سياق الاتجاهات الحديثة، في دراسة تواريخ الأديان، من وجهة نظر المرأة؛ حيث تجرى محاولات لاكتشاف الدور التاريخي المنسي للنساء، في الحياة الدينية، وتتوقف عند أسباب تجاهل المؤرخين لحيوات العابدات، وتحاول فهم أسباب ذلك التجاهل؛ وفقًا للخلفية الاجتماعية والثقافية، في الفترة المحددة.

أما فريدة بناني، فهي تؤكد ضرورة مشاركة النساء، في تأويل النصوص الدينية. وهي تمثل بهذا الطرح، اتجاهاً عاماً في مجال الدراسات النسوية، يطبق على كل الأديان. وتفند الباحثة الآراء الفقهية المنحازة ضد المرأة، النابعة من الخلفية الاجتماعية والسياسية للفقهاء، وتعود إلى الأصول الأولى، في محاولة لترسيخ القيم الإسلامية الرفيعة، في شأن الرجل والمرأة.

ويحتوى الكتاب أيضًا على مقالات تستخدم أساليب البحث الأنثروبولوجي للتاريخ، للحياة اليومية المعاصرة للنساء. فتركز إيمان بيبرس، على علاقة الباحثة في علم الاجتماع، بالمبحوثات موضوع البحث، وتطرح أسئلة هامة حول العلاقة غير المتوازنة، بين الطرفين المذكورين، وتتلمس إمكان إيجاد علاقة أكثر توازنًا. أما مقالة أنيسة الأمين مرعى، فتحاول توثيق معالم شخصية المرأة اللبنانية، في فترة ما بعد الحرب الأهلية، التي عصفت بالبلد وأهلها؛ وذلك من خلال تحليل نوعية المادة التليفزيونية التي تشاهدها النساء، وأثرها عليهن. وتقوم الباحثة بمقاربة هذه المسألة، من منظور التحليل النفسي، وتربط تحليلها للظواهر النفسية المستقاة من البحث، بالواقع السياسي والاجتماعي في لبنان، في فترة ما بعد الحرب الأهلية.

إن هاتين المقالتين، في محاولاتهما فهم وتحليل حياة النساء في الحاضر، يضيفان منهجين من البحث والتسجيل، نابعين من تخصصى علم الأثروبولوجي وعلم النفس، من شأنهما أن تثريا البحث في التاريخ، إن تسجيل وتحليل أنماط الحياة اليومية للمرأة المعاصرة، هو عملية تأريخ للحياة الاجتماعية للمجتمع، قد تتوه أو تهمل في المصادر الرسمية، المعنية بتوثيق أحداث تلك الفترة.

ومن الاتجاهات البحثية التي نجدها في أكثر من مقال، في هذا الكتاب، الاتجاه الجديد لنقد خطابات الحداثة وأطروحاتها. وكما تقول ميرفت حاتم، قد جرت العادة في الخطاب السائد للتحديث، على تصوير وضع المرأة منذ القرن التاسع عشر، مرورًا بالقرن العشرين في صورة خط مستقيم ونبرة بطولية، تعدد فيها المزايا والحقوق التي عادت على المرأة من جراء حركة التحديث، التي صاحبت إنشاء الدولة القومية ومؤسساتها. ففي مقالتها دموع عائشة تيمور ونقد خطابي الحداثة والنسوى عن مصر في القرن التاسع عشر، تكشف ميرفت حاتم عن التناقضات المتضمنة في الخطاب الحداثى النسوى، من خلال قراءتها لحياة عائشة تيمور. وتركز على علاقتها بابنتها، وكيف ألقت عليها بمسئوليات البيت والأسرة؛ لكي يتسنى لها الوقت والتركيز الكافيان لإجادة الشعر وكتابته، ثم انهيارها التام عند وفاة ابنتها في سن مبكرة، وحرقها شعرها؛ نتيجة شعورها بالذنب تجاه ابنتها. فلقد كانت نتيجة تبنى مفاهيم حداثية عن التطور، منبثقة من رؤية رجولية: “لم يكن في وسع المرأة، ممارسة حريتها، إلا في أن تصبح رجلاً فخريًا. أما في سبيل المساواة، فكان عليها أن تنكر أدوارها كافة كامرأة، وتقبل باستمرار استهانة المجتمع بهما“.

وعلى المنوال نفسه، تناقش نجلاء حمادة الافتراض السائد في العلوم الاجتماعية، الذي يرى أن تحرر النساء، يتحقق مع تبنى أنماط وأساليب للحياة حداثية، وتنتقد المغالطات التاريخية التي يرتكبها مدعو الأصولية عن حال النساء المسلمات الأوائل، وتبين التناقض بين نظرياتهم، والمعلومات المتوفرة عن نساء كثيرات في المصادر العربية، وتتصدى أيضًا لمقولات بعض المنحازين إلى النمط الغربي الحداثي؛ وذلك من خلال إلقاء الضوء على جوانب من حياة سكينة بنت الحسين وهدى شعراوى؛ لتنتهى إلى نتيجة مفادها، أن علينا مراجعة الافتراضات السائدة في الخطاب الحداثي، عن تمتع نساء القرن العشرين، بمساحة أكبر من الحرية، والقدرة على التحرك.

وفي الاتجاه ذاته، تتحرى ريما حمامى وضع الفلاحات الفلسطينيات في فترة الوصاية البريطانية حتى ١٩٤٨؛ لتعيد تقييم مقولات شائعة عن مقدار مشاركة النساء الفلسطينيات في الدخل القومي. فطبقًا للإحصائيات الرسمية، تعتبر مشاركة المرأة في مجال العمل الرسمي منخفظة جدًا، كما تدل استطلاعات الرأى عن اتجاهات الرأى العام، أن أغلبية الرجال لا يشجعون عمل المرأة ويستندون في مواقفهم، إلى العادات والقيم الشرقية، التي لا توافق على عمل المرأة خارج المنزل، إلا لدواعي الضرورة. وتشير الباحثة، إلى سطوة هذه المقولات في سياق الخطاب التنموى والخطاب الأصولي، وترى أن كليهما يندرجان تحت خطاب حداثي طبقي، يركز على نساء الطبقة المتوسطة، ويتجاهل التنوع الملموس في أحوال النساء، من طبقات وفئات مختلفة.

وكما تنتقد ريما حمامي تجاهل الخطاب الوطني الليبرالى والإسلامي، لمساهمة المرأة الفلاحة في القوى العاملة، وعدم اعتبار عملهن جزءًا من الناتج الاقتصادي، تنتقد إصلاح جاد تجاهل المؤرخين والمعنيين بتوثيق تاريخ الصراع الوطني الفلسطيني، لدور النشيطات من نساء الريف، اللاتي شاركن في الثورات ضد الاحتلال، واللاتي قدمن شهيدات، لم يسجل التاريخ بطولاتهن أو تضحياتهن. ويمكن أن نعزو هذا التجاهل، إلى القصور الواضح في المفاهيم والافتراضات الحداثية، في فهم وتحليل أشكال المواجهة والتحرر.

أما سمية رمضان، فتهتم بدراسة فترة الحملة الفرنسية على مصر باعتبارها مرحلة هامة في التوثيق، لبدايات خطاب الاختزالات المتمثلة في قطبی الأصالة والمعاصرة، وتتساءل: هل أدى الاحتكاك بالفرنسيين، إلى فتح مساحات للحرية، أكبر مما كانت موجودة، أم إنه كانت هناك مساحات أكثر رحابة للتعبير والاختلاف؟. وبالتالي، هل كان للحملة أثر على وضع المرأة المصرية؟، لا تحاول الباحثة، في إطار هذه الورقة، تقديم إجابات سهلة، ولكنها تضع يدها على مفارقات ذات مغزى، بين مظاهر الاحترام السطحى، الذى أبداه الفرنسيون تجاه النساء، ووضع المرأة الفرنسية القانوني آنذاك؛ حيث كان لا يحق لها التصرف في أموالها.

ومن ضمن الأبحاث المهمومة بنقد وإعادة تقييم خطابات حداثية، وتجلياتها بصفة خاصة، في إنتاج تصورات عن المرأة العربية، بحث كاتبة هذه السطور، عن سير النساء والهوية الثقافية: نموذج عائشة. ويتناول البحث أربع سير من القرن العشرين، عن عائشة بنت أبي بكر. وذلك لاستكشاف كيفية توظيف هذه السير، في فرض اتجاهات إيديولوجية معينة، عن ماهية الهوية الثقافية العربية، وعن وضع النساء في ظل هذه الإيديولوجيات. والهدف من البحث في هذا الموضوع، هو التماس سبل مشاركة الباحثات المهتمات بقضايا المرأة، في التدخل العملي الإيجابي، في عملية إنتاج تصورات متنوعة، أو بديلة للسائد المسيطر.

ونتساءل مرة أخرى: كيف أثرت عملية التحديث التي شهدها العالم العربي، على وضع المرأة؟ هل أن الأوان لإعادة تقييم الافتراضات السائدة، عن تخلف الماضي وتقدم الحاضر، أو عن ارتباط تحرر المرأة بتبنى معطيات الحداثة؟. كيف وصلنا إلى هذا المأزق؛ حيث يتناحر أهل البلد الواحد حول مفهوم الهوية؛ وحيث تتشقق مجموعات متفرقة، يجمعها هدف واحد، هو النهوض بوضع النساء، ولكن تتفرق وتتباعد حول مواقفها من التاريخ وعلاقته بالحاضر؟. هذه الأسئلة كامنة أو معلنة، يمكننا أن نستشفها، في معظم الدراسات المتضمنة في هذا الكتاب، وهي كلها أسئلة تهدف إلى التحرر من قيود السائد والمتفق عليه، وإعادة قراءة الماضي، من منظور يسمح لنا بفهم أعمق للحاضر.

وأخيرًا، سوف نجد أن من الهموم التي تطفو على السطح في أكثر من مقال، هي أهمية تعريف وتحديد المفاهيم المستخدمة؛ لتجنب اللبس والخلط السائد في الأفكار، في الحياة الثقافية بوجه عام. ولكي نتجنب أى خلط أو مغالطة، فيما يخص موضوع البحث، فلقد أشرت مرارًا إلى التاريخ العربي، وهو تعبير يراد به التضامن والاتصال في هذا السياق، أي في سياق لقاء وعمل، يسعى إلى خلق قنوات تعارف وتعاون مشترك، بين باحثين وباحثات عرب. لا يعنى هذا استبعادنا لفترات أخرى من التاريخ المصري. فبذات القدر نهتم كمجموعة، بالتاريخ المصري القديم، والتاريخ القبطى. إن محاولة إعادة قراءة التاريخ، من وجهة نظر المرأة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشروعات الفئات المهمشة، والأقليات الذين عانوا الحرمان من المشاركة في كتابة تاريخهم. من هذا المنطلق، فإن الروح الأساسية في هذا التوجه، لا تنتقى لكي تستبعد أو تقهر، ولكنها تركز مجهوداتها لكى تعوض سنوات الاستبعاد، لتصل في نهاية المطاف إلى التوازن المنشود.

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي