تناقضات الخطاب الوطني في تناوله لمسألة المرأة

تاريخ النشر:

2004

اعداد بواسطة:

تناقضات الخطاب الوطني في تناوله لمسألة المرأة:

قراءة في مجلةالأستاذلعبد الله النديم

جاء في العدد الثالث والثلاثين من مجلة الأستاذ الصادرة في 4 أبريل سنة ۱۸۹۳ التعليق التالي على كتاب عائشة تيمور مرآة التأمل في الأمور (۱۸۹۲)(۱):

مرآة التأمل في الأمور رسالة لطيفة لذات العصمة والعفة الفاضلة عائشة هانم التيمورية نددت فيها على كثير من عادات النساء وبعض المصائب التي تحدث من خروجهن وفساد أخلاق الجواري اللاتي تركن وشهواتهن فكانت أكبر عظة من فاضلة لها في الآداب والأخلاق باع طويل وإننا نهنىئ عصرنا بوجودمثلها فيه ونرجو أن ينفع الله تعالى بتآليفها ويطيل حياتها الطيبة المباركة (ص. ٧٧٥)

في هذا التعليق، يتجاهل عبد الله النديم صاحب مجلة الأستاذ المغزى المعلن والواضح لكتاب عائشة ويمدح الكاتبة لأسباب لا يمكن اعتبارها الهدف الرئيسي لكتابها. فلقد كتبت عائشة تيمورمرآة التأمل في الأمورللمشاركة في الجدل الدائر حول العلاقة بين الرجل والمرأة وما يترتب على ذلك من تعريف لوضع المرأة في المجتمع. تتأمل عائشة التوتر الحاصل بين الرجل والمرأة وتخلص الى أن مسئولية هذا المأزق تقع على كتف الرجل، وترجع في الأساس إلى عدم قيام الرجل بدوره المنوط به وفقًا للعرف والدين. فحقوق الرجل الواجبة على زوجته, أي حقه في أن تطيعه, مشروطة بحقها هي في أن ينهض الزوج بمسئولياته تجاهها، مثل مسئولية الإنفاق. أما إذا تقاعس الزوج أو تخلى عن دوره كرب للأسرة, تختل الموازين, وترتبك الأدوار, الأمر الذي قد يؤدي إلى سوء تصرفات بعض النساء ضعيفات النفس. فالمسئولية الأساسية لضياع بعض النساء بسبب خروجهم من المنزل هي مسئولية الرجل، ولكنها تتعقد بوجود نساء من الطبقة العاملة أو الشعبية يدخلن بيوت الناس بعد أن تحرر العبيد، فينقلن إليها أخلاقهنالوحشيةالدنيئة ويشجعن ربات الخدور على القيام بأفعال ليست من شيمهن أو عاداتهن. وعلى الرغم من أن عائشة تضع نفسها داخل إطار قيمي يكرس لعزلة النساء ولخضوعهن لأزواجهن، فلا تتصدى لأسس هذا الإطار، وعلى الرغم من بعض المقولات الطبقية التي لها وقع سلبي على القارئ المعاصر، إلا أنها تعتبر رائدة بكل المقاييس في طرح قضية تقسيم الأدوار الاجتماعية وشروطها للرجال والنساء، فتستكشف إمكانية تبادل الأدوار وفقا للقدرة على تحمل المسئولية والقيام بالواجبات. ولكي تقدم فكرتها الجريئة تعتمد على حكاية رمزية عن أسد يتكاسل عن الصيد، فتضطر اللبؤة أن تنوب عنه، وبالتدريج تحصل على امتيازاته وتحتل موقعه، وعندما يعترض الأسد تقول له:

كان ذلك مذ كنت أنت أنت وأنا أنا، وأما الآن، فقد انعكس الحال وصرت أنا أنت وأنت أنا فلك على ما كان لي عليك ولى عليك ما كان لك على، فأفحم الأسد ورجع على نفسه باللوم رجوعًا، وآلى على نفسه أن لا يستعين بها على الصيد ورجع ولو مات جوعًا.

كان الهدف وراء كتاب عائشة واضحًا لمعاصريها، كما لفت انتباه الأوساط الثقافية المعنية بقضايا الوطن والتحرر. وأكبر دليل على ذلك يتمثل في الرد السريع والعنيف الذي كتبه الشيخ عبد الله الفيومي في كتاب أسماهلسان الجمهور في مرآة التأمل في الأمور، حيث يحرص على التأكيد على فكرة أن طاعة الزوجة لزوجها مطلقة وغير مشروطة بوفائه بالتزاماته، بالإضافة إلى نقاط أخرى لا مجال للخوض فيها الآن. إذا, مرة أخرى، لماذا تجاهل النديم تساؤل عائشة عن إمكانية تبادل الأدوار بين الجنسين، وركز على فكرة المصائب التي تطول الأسرة والمجتمع جراء خروج المرأة من بيتها؟

تسعى الورقة إلى الإجابة عن هذا السؤال كمدخل للتعرف على نموذج من الخطابات المطروحة على الساحة في نهاية القرن التاسع عشر حول قضية المرأة، وذلك باعتبارها من العناصر الأساسية في تناول قضايا التحرر والتقدم. وقع اختياري على مجلة الأستاذ لعبد الله النديم لتميزها ولعلو شأن صاحبها، ومن ثم لأثرها المهم على الحياة الثقافية والسياسية في ذلك الوقت. أيضا, كان لمجلةالأستاذصدى واسع وسط الأوساط الثقافية والسياسية فكانت توزع ما يقرب من ثلاث مائة نسخة، وهو رقم كبير جدًا بالنسبة لوقتها. أيضا, يعد النديم صوتًا بارزًا في الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار، ونجح من خلال كتاباته الصحفية في نقد أساليب الاحتلال للهيمنة على الشعب المصري، كما عبر عن خطاب وطني ألهم الأجيال اللاحقة من المدافعين عن الوطن، من أمثال مصطفي كامل. تطرق النديم الى موضوعات عديدة، فانتقد بشدة تقليد عادات الغرب والأخذ بمظاهر الحضارة الغربية، وناقش أهمية الحفاظ على اللغة العربية الفصحى، ودعا إلى دعم دور الأزهر، والمزج بين التعليم الديني والمدني، اهتم بقضايا التعليم، وانتقد المدارس الأجنبية ودعا المواطنين إلى إنشاء المدارس المصرية لتربية أولادهم وفقا لثقافتهم. انتقد أيضًا العادات السيئة التي وردت على المجتمع المصري نتيجة محاولة بعض المتفرنجين التشبه بالغرب، والعادات السيئة الناتجة عن التمسك بعادات سيئة، كما دعا إلى الحفاظ على الصناعة الوطنية ومقاطعة السلع الأجنبية كسبيل لمقاومة الاحتلال والمساهمة في نهضة المجتمع. وأيضا, تميز النديم بأسلوب صحفي متميز حيث كان من أوائل من استخدموا العامية المصرية بهدف الوصول إلى طبقات الشعب العريضة. وأخيرا، ومثل جميع الرواد والرائدات، ناقش دور المرأة في المجتمع الحديث.

والسؤال المطروح هنا هو:هل كل خطابه الوطني ضد الاستعمار مساندًا لقضية المرأة وتوسيع مجال الحريات والفرص؟ وهل كان لاهتمامه بالطبقات الشعبية أثر على تشكيل خطاب وطني معبر عن هموم تلك الطبقات، ومختلف بعض الشيء عن الخطاب الوطني المعبر عن تطلعات الطبقة المتوسطة؟ أو, هل أدى قربه من الطبقات الشعبية إلى صياغة خطاب معبر عن هموم تلك الطبقات، خاصة النساء؟

 

كان النديم رائدًا من رواد الحركة الوطنية المناهضة للاحتلال الإنجليزي لمصر، فكان خطيب الثورة العرابية ومساندها في كافة المنابر، مما دفع الإنجليز إلى نفيه إلى يافا إثر هزيمة عرابي وفي ١٨٩٢، أصدر الخديوي عباس الثاني قرارًا بالعفو عن النديم، فعاد إلى مصر في 9 مايو ١٨٩٢، ولكنه اشترط عليه ألا يعمل في السياسة. إلا أن النديم استطاع من خلال أخيه استخراج تصريح لإصدار جريدة، وأصدر العدد الأول من الأستاذ في ٢٤ أغسطس ١٨٩٢ وهي ثالث صحيفة يصدرها عبد الله القديم بعد التنكيت والتبكيت، واللطائف. يوضح النديم في العنوان الفرعي لجريدته أنهاجريدة علمية تهذيبية فكاهية“, لا تتعرض للسياسة:

جعلناها خزانة لشوارد العلوم وفوائد الرسوم لا تتقيد بفن ولا تقتصر على موضوع فتنشر ما يحسن نشره ويلذ سماعه من المعقول والمنقول مما لا يطعن في دين ولا يمس شرف شخص ولا يقرب من الأهاجي ولا تتعرض للأمور السياسية أي أنها لا تتكلم في الإدارات والأعمال والعمال سواء في ذلك الداخلية والخارجية وأما فن السياسة من حيث هو فإنه يدخل في موضوعها العلمي فإن علم التاريخ والأخلاق والعادات وتدبير الممالك ووحدة الاجتماع العالمي من الفروع السياسية وهي مستقلة عما يتعلق بالسياسة الإدارية (ص.2-3)

يحاول النديم بأسلوب بارع وذكي تعريف السياسة بمعناها الضيق، أي السياسة بوصفها إدارة شئون الدولة والحكم، وهو التعريف الذي يرى هو أنه ينطبق على الحظر المفروض عليه كشرط لرجوعه من المنفى، ويميز بينه وبين فن السياسة، أو السياسية بمعناها الأشمل من حيث هي تحديد المواقف واتجاهات لها دلالات على مسار الأخلاق والقيم وتدبير الممالك. يلجأ النديم إلى الفكاهة والسخرية لتقديم نقده اللاذع لما يعتبره من مساوئ المجتمع المصري، ويفعل نفس الشيء لكي يحث المصريين على مقاومة الوجود الإنجليزي وإزكاء روح الوطنية والانتماء. لا يلتزم بالشرط المتفق عليه، ويهاجم بضراوة الاحتلال والمدافعين عنه، مما يترتب عليه في نهاية الأمر إغلاق المجلة بعد استمرارها لمدة عشرة أشهر ويصدر العدد الأخير في 13 يونيو ۱۸۹۳، ويودع النديم قراءه في مقالة عنوانهاتحية وسلاميشير فيها إلى الصعوبات التي تعرض لها بسبب آرائه في الأستاذ، ويجد أن السبب الرئيسي وراء الهجوم عليه أنهأخلص فيها النصح للشرقيين عمومًا والمصريين خصوصًا” (ص ۱۰۲۸) فعزعلى بعض أناس غربيين تنبه الشرقي واستعداده لمضاهاة الأوروبي وتقليده في أعماله وأقواله الحرة, ورأى أن ذلك ضار بسعيه الخاص وعلم أن الأستاذ صار في مقدمة الجرائد المرشدة إلى طرق الإصلاح والنجاح” (ص ۱۰۲۹) فاتهموا النديم بأنهثوروی مهیج“. ثم, ولدواعي الحرص غالبًا، ينهي النديم مقالته بالتأكيد على دعم الخديوى له، وأنه اضطر للتوقف عن إصدار الأستاذ لأسباب صحية.

تعتبر الأستاذ لسان حال النديم، فهو صاحب المجلة ومديرها وكاتب معظم المقالات والأخبار والتعقيبات. أصدرها النديم في مرحلة حرجة من حياته حاول فيها استكمال مشروعه الوطني. يتميز النديم بتنوع أساليب المخاطبة التي يتبناها للوصول إلى جمهور القراء، وهذه نقطة مهمة لها دلالات على مشروعه الوطني الإصلاحي. فلقد أدرك النديم حدود الدوائر التي تقرأ المجلات الثقافية المتخصصة، وتطلع إلى الوصول إلى جمهور أوسع من القراء من كافة طبقات الشعب، فاهتم بتبسيط اللغة العربية وترك المحسنات البديعية والتكرار ونجح فعلاً في المساهمة في صياغة لغة عربية تتناسب مع روح العصر ومتطلباته. نستطيع تقسيم مقالات النديم في الأستاذ إلى ثلاثة أنواع، تتميز فيما بينها في الأسلوب وفي مستوى اللغة العربية المستخدمة وفي الجمهور المفترض الذي تتوجه له. فهناك مقالات مكتوبة بأسلوب تقریری صحفي رصين، وهو الأسلوب الأكثر شيوعًا في صحافة ذلك الوقت، يخاطب فيها النديم الطبقة المثقفة المتعلمة التي تقرأ الصحف وتتابع القضايا الثقافية بشكل عام. وهو بهذه المقالات, قصدأن تكون امتدادًا لمجلة العروة الوثقى التي أصدرها الأفغاني ومحمد عبده” (۲) وهناك مقالات هي مزيج بين العامية والفصحى، يخاطب فيها النديم طلاب المدارس وخريجيها، أو طبقة المتعلمين في عمومها. أما النوع الثالث، فهو عبارة عن حوارات تشبه القصص التمثيلية، مكتوبة بالعامية المصرية ويأتي الكلام على لسان شخصیات من الطبقات الشعبية، وقد يتدخل النديم في حوار مع بعض تلك الشخصيات. يطمح النديم في حواراته تلك إلى مخاطبة غالبية الشعب، حتى الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، فهم كما يفترض – يمكنهم الاستماع إلى هذه الحوارات وفهم الأفكار المتضمنة فيها، لأنها مكتوبة بلغتهم.

والأستاذ، كما هو واضح من اختيار العنوان، مجلة تعليمية توجيهية يسعى فيها النديم تهذيب النفوس وتنوير العقول وتربية المواطنين والمواطنات وإرشادهم إلى الطريق الصواب، أو طريق الصلاح والإصلاح والتقدم. يشترك النديم في الجدل الدائر حول الأصالة والمعاصرة، حول العلاقة المرجوة بين الشرق والغرب، حول ما نأخذ من الغرب وما نترك لكي نتقدم ونحافظ على تراثنا، وينهج منهجًا تعليميًا، فهو الأستاذ الذي يوجه، وهو أيضًا الأستاذ الذي يمدح ويهجي، والذي يقرر ما ينفع وما لا ينفع وفقًا لرؤيته واتجاهاته. يوظف النديم جميع الأدوات الصحفية والبلاغية لتوصيل رسالته التوجيهية. ومن هذا المنطلق، قام النديم باستكشاف وتجريب أساليب أو أشكال مبتكرة للوصول إلى جمهور واسع من القراء. قد يكون من المجدي التوقف عند هذه الأساليب وتأمل مغزاها:

استخدم النديم العامية المصرية في صحافته للوصول الى عامة الشعب، وهو بهذه الخطوة يدخل في زمرة من تعدوا قواعد متفق عليها في النشر والثقافة قد تجلب المتاعب والاتهامات على من يخرقها. إلا أنه في مقالات عديدة في الأستاذ يدافع عن اللغة العربية ويدعو إلى إنشاء هيئة علمية لحماية اللغة العربية من غزو الألفاظ الأجنبية، أي أنه يأخذ موقفًا معاديًا لنشر العامية وباعتبارها خطرًا على اللغة العربية. والقراءة المتأنية للنديم تكشف أن لاستخدامه للعامية هدفًا عمليًا براجماتيًا بحتًا، هو توصيل صوته إلى عامة الشعب وفقًا لقناعته أن لغة الصحافة المتخصصة لا تخاطب الا المثقفين وتستثنى السواد الأعظم من الناس. (۳) ولذا، يختار النديم الطريق الصعب ويستخدم بالفعل العامية ولكنه يدافع أيضًا عن اللغة العربية. أما السبب الثاني في رأيي في تذبذب النديم بين العامية والفصحى فهو أن الجدل حول اللغة لم يقتصر على كونه جدلاً ثقافيًا أدبيًا وإنما كان جدلاً سياسيًا في المقام الأول، حيث لعب الاستعمار دورًا مهمًا في تعقيد هذا الجدل وعرقلته، وذلك عندما تدخل فيه ممثلو الاحتلال ودعوا الى تعميم اللغة العامية في المدارس، الأمر الذي اعتبره جميع الوطنيين تعديًا على رکن هام من ثقافتهم بل ودينهم، وأيضًا عندما خلقوا فضاًء اجتماعيًا وثقافيًا يكافأ فيه من يجيد لغة أجنبية على حساب من يجيد اللغة العربية.

ولذا عندما قام وليم ويلكوكس بالترويج لفكرة أن الفصحى هي سبب تأخر المصريين، اضطر النديم إلى إعادة النظر في استخدامه للغة العامية فقلل من الحوارات بالعامية، وناشد بعض الشخصيات التي اخترعها للتحدث بالعامية الالتزام بالفصحى. ثم أفرد مساحة كبيرة في مجلته لرسائل وصلته من القراء تطلب منه الاستمرار في استخدام العامية. الطلب الأول جاء من شخصياته المتخيلة من الطبقات الشعبية تناشده ألا يترك العامية لأن ذلك سوف يحرمهم من التعليم. الرسالة الثانية تأتيه منجمهور من الأفاضلبإمضاء أحمد توافق على استخدام العامية، لأنالضرر الذي يخشى على اللغة لا يأتي إلا من طريق نقل العلوم والتعليم في المدارس ومجامع العلماء“. ليس من الممكن الآن التحقق من مصدر الرسالة، أي إذا كان النديم قد كتبها بنفسه، وهذا وارد، فالمهم في الأمر أنها ساهمت في إعطائه شرعية الاستمرار في استخدام العامية بدعوى المنفعة العامة، مع التمسك بموقفه المناهض لسياسات الاحتلال. ولكن، كان الجدل حول العامية والفصحى معقدًا إلى درجة أن رأى النديم ضرورة ما لإضفاء شرعية مستمدة من جمهور القراء تبرر استخدامه للعامية. ولذا، يمكننا القول بأن النديم اهتم بالفعل بمخاطبة الجمهور الواسع من طبقات الشعب المختلفة.

من ناحية أخرى، استخدم النديم تلك الحوارات للتحدث باسم الطبقات الشعبية، ابتدع النديم شكل الحوارات بين شخصيات من الطبقات الشعبية تتحدث العامية وتناقش مشاكلها. وبالرغم من الهدف التعليمي والوعظي الواضح لتلك الحوارات إلا أنه يمكن اعتبارها من البدايات الأولى لنشأة الفن القصصي العربي الحديث(4)، فلقد استفاد من تجربته الواسعة واختلاطه بالأوساط الشعبية في كتابة الحوارات؛ من حيث عمق معرفته بالتفاصيل الحياتية للطبقات الدنيا. والسؤال الذي يلح على الباحثة هنا هو: هل حاول النديم من خلال الحوارات توصيل صوت الطبقات الشعبية، فجعل من مجلته منبرًا غير مباشر للتعبير عن مشاكلها ووجهة نظرها، ومن ثم سعى إلى توفير السبل الممكنة لدعم مشاركتها في تشكيل وعي الوطن وصياغة الحلول الملائمة؟ هل سعي النديم إلى التحدث باسم هذه الطبقات المهمشة في الوسط الثقافي محاولاً توصيل قضاياها إلى الدوائر السياسية والثقافية التي عادة لا تلتفت إليها؟ أم، هل استخدم النديم أصوات الطبقات الشعبية لإضفاء شرعية على مشروعه الإصلاحي الذي يعبر عن هموم وتطلعات الطبقة المتوسطة في مصر، مثله مثل بقية رواد النهضة، ولم يلتفت في حقيقة الأمر إلى واقع تلك الطبقات ومتطلباتها المختلفة؟ في الجزء التالي من الورقة سوف أحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تحليل خطاب النديم عن قضايا المرأة في المجتمع المصري.

الأستاذ مجلة تربوية تهدف إلى الإرشاد والتوجيه لصالح الأمة. يستخدم النديم النقد اللاذع والسخرية لتعرية عيوب في الرجال والنساء، وهي عيوب من شأنها إجهاض مشروع النهضة. لا يفعل هذا في فراغ ولكن هناك خلفية ثقافية وسياسية توجه وتحدد اتجاهات المناقشات. الواقع السياسي، أو الاحتلال الإنجليزي وسياسات القصر فرض نفسه على جميع النقاشات التي دارت حول القضايا الاجتماعية المختلفة. فلقد أدى تدخل ممثلي الاستعمار في النقاشات إلى إحداث الفرقة أو خلق بلبلة في سياق القضايا الساخنة، مثل قضية المرأة وقضية اللغة العربية، الأمر الذي أودى ببعض هذه القضايا الى متاهات لا زلنا نعاني منها حتى الآن. فكما أشرت من قبل، عندما قام وليم ويلكوكس بالترويج لفكرة أن التمسك باللغة العربية الفصحى من أسباب تأخر المصريين والمناداة بتعميم العامية في المدارس، تحول الجدل حول العامية والفصحى إلى جدل سياسي في المقام الأول، وتم اتهام من ينادون بالكتابة بالعامية بالخيانة والتواطؤ مع الإنجليز في تدمير الهوية الثقافية للأمة. ومن ثم، نجد النديم الذي أبدع بالفعل في استخدام العامية في تقديم القضايا، مضطرا لإيجاد مبررات لاستخدامه العامية في كتاباته وللدفاع عن الفصحى. هذه الاعتبارات السياسية كان لها دور رئيسي في خلق ثنائيات يتم بمقتضاها تقسيم الموضوعات وتحديد الاتجاهات أحيانًا على حساب القضية المحورية، أو على حساب الواقع الفعلي المعاش، على سبيل المثال، ثنائية التراث والمعاصرة, والشرق والغرب. وكما قال ألبرت حوراني، كان على الجيل الثاني من الرواد الإجابة عن سؤال: ماذا وكيف نأخذ من الغرب رغم وجهه الاستعماري القبيح؟(5)

في هذا الإطار كانت مسألة المرأة من القضايا المحورية التي ناقشها الجميع في سياق مناقشة هموم الوطن والتحديات التي تواجهه. وكما هو معروف أصبحت المرأة رمزًا للهوية الثقافية العربية المهددة بالاختراق إذا ما سمح المجتمع لأفراده بالمضي قدمًا في طريق التحديث على النمط الغربي. كان موقف ممثلي الاستعمار المعلن ضد عزلة النساء المصريات باعتبار هذه العزلة من شواهد تخلف المجتمعات العربية سببًا مباشرًا وراء بعض المواقف المتشددة جدًا تجاه مشاركة النساء في الحياة العامة والتي تبناها نفر غير قليل من ممثلي الحركة الوطنية في مصر. ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أن هذا الموقفالمؤيدلحركة تحرير النساء في مصر من قبل ممثلي الاستعمار كان موقفًا انتهازيًا بالدرجة الأولى تم استخدامه لتبرير دعاوی استعمارية أصيلة عن تخلف المجتمعات الشرقية وعدم قدرتها على توفير الحريات لمواطنيها، إلى أن تحول الخطاب عن تخلف المرأة الشرقية إلى عصا لضرب الثقافة الوطنية. (6) أيضًا، تلفت ليلى أحمد نظرنا إلى موقف اللورد كرومر من قضية المرأة في مصر، حيث قدم نفسه بوصفه المدافع عن حقوقها ضد ظلم الرجال المصريين، ثم نجده يرأس منظمة لمناهضة حركة تحرير المرأة في بريطانيا .(7)

ومن تجليات وطأة الاحتلال وتزكية النموذج الغربي للمجتمع الحديث بوصفه الطريق الأوحد لنهضة المجتمع على النقاشات الدائرة حول قضايا اجتماعية وثقافية، سيادة التصورات الثقافية عن المرأة الأوروبية أو الغربية في خطابات الرواد والرائدات وذلك بهدف مقارنتها بالمرأة المصرية. الكل أبدى رأيه في هذه المرأة وحياتها، معتبرًا إياها رمزًا للحياة الغربية الحديثة. ومن هذا المنطلق، تتعدد المواقف والتصورات. فمن ناحية، نلمس انبهارًا تامًا بها وبحياتها، ومن ثم دعوة المرأة المصرية إلى محاكاتها، مع التمسك بالقيم الشرقية الأصيلة. ومن ناحية أخرى، نجد رفضًا تامًا لها ولما تمثله من انفلات من التقاليد الحاكمة لحركة المرأة في المجتمعات الشرقية. هذا التباين في المواقف من نموذج المرأة الأوروبية دائمًا ما يعبر عن التباين في المواقف السياسية تجاه علاقتنا مع الغرب والحياة الغربية(8) والنديم، مثله مثل بقية الرواد، له آراء حاسمة عن المرأة الأوروبية وعن المصريات اللاتي يقلدن نمط الحياة الغربي.

كما أدى الخطاب الاستعماري المهين لقدرات الرجل المصري إلى الاهتمام بمفهوم الرجولة في العصر الحديث، أو ما هو شكل الرجل القادر على قيادة الأمة. لقد طعن خطاب ممثلي الاستعمار من أمثال اللورد كرومر والدوق داركور في رجولة الرجل الشرقي وفي قدرته على تسيير أمور بلاده. وكما بين نقاد ما بعد الاستعمار مثل فرانز فانون وادوارد سعيد وهومي بابا وجاياترى سبيافاك، اتجه الخطاب الاستعماري إلى تأنيث المستعمر والبلاد المستعمرة، كما يرصد مريناليني سينها خطابًا بارزًا عن الرجال المنتمين للنخبة البنجالية مصورًا لهم باعتبارهم مخنثين، مقارنة بالنخبة الإنجليزية التي تتسم بالرجولة(9) ومن ثم نجد أن تعريفات الذكورة والأنوثة كانت موضع جدل وصراعات حامية، تشتبك وتتداخل مع الصراعات السياسية والثقافية المحتدمة خاصة في البلدان التي تحمل عبء تاريخ من الاستعمار والاحتلال. بل يمكننا القول بأن مسألة المرأة كما طرحت على الساحة المصرية مثلاً، ما هي إلا الوجه الآخر من مسألة الرجل. فجميع الرواد الذين اهتموا بصياغة تعريفات للأنوثة تحدد ماهية المرأة ودورها في المجتمع الحديث، كانوا بشكل أو آخر يحاولون صياغة تعريفات للرجولة تتناسب مع التحديات التي تواجههم في مجتمع متغير. فمن الموضوعات الشائعة التي تناولها عدد كبير من الرواد والكتاب مشكلة البحث عن الزوجة المناسبة للرجل العصري الحديث. والافتراض الأساسي وراء المشكلة أن هذا الرجل العصري أصبح يمثل نمطًا من الرجولة المختلفة ومن ثم فهو يبحث عن شريكة حياته مختلفة عن النموذج السائد للفتاة المصرية. وفي كتابات عديدة، يسعى هؤلاء الرجال الى تعريف جديد للرجولة يتجاوز السائد في رأيهم. (10) أما مصطفى صادق الرافعي، فيكتب مجموعة من المقالات القصصية تركز في المقام الأول على تعريفات الأنوثة والذكورة من وجهة نظر العالم الرافض لتغلغل النمط الثقافي الغربي في الحياة المصرية، ويصف الرجل العصري المتشبه بالغرب بالمخنث، مستدعيًا بذلك تراثًا طويلاً من الخطاب الاستعماري عن الشرق(۱۱). والسؤال المطروح الآن هو: كيف ساهم النديم من خلال مجلته التعليمية في هذه النقاشات حول مسألة المرأة والرجل؟ هل تمكن من تقديم جديد من خلال أصوات نساء ورجال من الطبقات الشعبية؟

يتناول النديم موضوع وضع المرأة في المجتمع بأساليب مختلفة. ضمن حواراته المكتوبة بالعامية، نصفها يقدم شخصيات نسائية من الطبقات الدنيا، فنلتقي بحنيفة ولطيفة ودميانة، وزبيدة ونبوية وزاكية ونفيسة وحفصة وسلمى. يكتب أيضًا مقالات طويلة باللغة الفصحى، مثل المقالة التي كتبها للإجابة عن سؤال أرسلته إليه زينب فواز، كما يعلق على أخبار في مجلات أخرى أو يشير إلى صدور كتاب كما فعل مع مرآة التأمل في الأمور. يتطرق إلى ثلاثة موضوعات أساسية تخص وضع النساء في المجتمع وهي العمل، والتعليم، ومفاهيم الرجولة والأنوثة، وهي المفاهيم التي تحدد العلاقة بين الجنسين كما تحدد الاتجاهات المجتمعية حيال وضع المرأة، أو ما هو شكل المرأة المثالي وشكل الرجل المثالي في المجتمع الحديث.

كتب النديم مقالتين عن عمل المرأة ردًا على رسالة تلقاها من زينب فواز نشرها في الجزء الخامس من السنة الأولى ۲۰ سبتمبر ۱۸۹۲:

ورد إلينا هذا السؤال من درة صدف الحجاب. الجامعة بين فضيلتي العلوم والآداب. الست زينب هانم فواز ونصه:

قد علم السواد الأعظم ما لفلاسفة العصر الحاضر وأشهر العلماء من البحث في أمر المرأة والمساواة بينها وبين الرجل في العقل والذكاء والقدرة على الأعمال. ولكن لم نعلم أن أحدًا بحث في هذا الموضوع وهو أيهما أشد تعبًا في هذه الحياة الدنيا, الرجل بتعاطيه الأشغال من تجارة وصناعية وسياسية وزراعة أم المرأة في حملها ووضعه وتربيته وتدبير منزلها ومشاركتها للرجل أحيانًا في أعماله. فأرجو من حضرتكم وحضرات علمائنا الأفاضل جوابًا شافيًا. (ص 114)

يرد النديم على السؤال ويقسم النساء إلى قسمين الفلاحة والمدنية، ثم يقسم المدنية إلى فقيرة ومتوسطة وغنية. يسترسل في وصف الأعمال المتعددة التي تقوم بها الفلاحة والنساء الأخريات لينتهي إلى النتيجة التالية:

أن الفلاحة أكثر تعبًا من الرجل في الأعمال وأن فقيرة المدن تساوى الرجل المشتغل بعمل لطيف لا النجار والحداد والبنا مثلاً والمتوسطة أقلهن عملاً والغنية لا شغل لها إلا ذاتها اللطيفة ولا عمل لها إلا فيما يختص بالزينة والقلع واللبس والنوم واليقظة وعارض الولادة قصير المدة ينسى ألمه بعد أسبوع غالبًا. فإذا تأملت السائلة هذا التقسيم والتفصيل علمت الفرق بين الرجل والمرأة ورأت أن تحايل ربات الرفاهة على مساواة الرجل بدعاويهن غير مقبول عند ذوي الاختبار. (الأستاذ، 4 أكتوبر ۱۸۹۲ ص ١٦١)

أي أن النديم يستنتج من بحثه لأحوال النساء من المنتميات إلى طبقات مختلفة أن قضية عمل المرأة أو مشاركتها في الحياة العامة المطروح بشدة على الساحة الثقافية قضية لا طائل لها ولا يجب مناصرتها. هذه النقطة تستوجب وقفة عند شكل وماهية الخطاب السائد حول عمل المرأة في نهاية القرن التاسع عشر. فمن المعروف أن قضية عمل المرأة في المجتمع، أو هل يمكن للمرأة العمل خارج المنزل أم لا، هي قضية طرحت في سياق خطاب الطبقة المتوسطة من النساء والرجال، وهو خطاب تجاهل ومازال واقع النساء الفقيرات والفلاحات اللاتي يعملن دائمًا ولا يوجد أمامهن اختيار البقاء في المنزل. هذه القضية أيضًا هي قضية حداثية، تم صياغتها في إطار الثنائية التي أتت مع المجتمع الحديث الذي كرس لمفهوم العمل باعتباره العمل مدفوع الأجر الذي يتم خارج حدود المنزل، ومن ثم تجاهل أشكال العمل المختلفة التي تساهم في الاقتصاد ولكنها لا تظهر في الإحصائيات الرسمية، وكانت النساء من الفئات الخاسرة في هذه المعادلة المغلوطة، فعندما توارت القيمة المادية لعملهن داخل المنزل, تقلصت قيمته الرمزية أيضًا فأصبح أقل شأنًا من العمل الذي يتم خارج حدود المنزل. وأخيرًا، نصب الخطاب الحداثي حدودًا فاصلة بين العام والخاص، متجاهلاً حياة الناس في الريف، حيث تتماهي الحدود بل وتختفي تمامًا أحيانًا. النقطة الثانية هي أن موضوع المساواة بين الرجل والمرأة شاركت فيه النساء من الطبقات المتوسطة الغنية، كما شارك فيه الرجال من نفس الطبقات. ومن ثم جاء الخطاب معبرًا عن طموحات الفئة للخروج من العزلة المفروضة عليهن بحكم الطبقة التي ينتمين إليها. والنديم بطبيعة الحال ينتمي إلى الطبقة المتوسطة ويعبر عن وجهة نظرها. وعلى الرغم من التفاته إلى عمل الفلاحة الشاق، فيعي قدرة النساء على النهوض بالأعمال المنوطة بهن، إلا أنه لا يستخدم هذه المقارنة ليدعم مطلب النساء للمساواة، ولا يقول أنه متى أتيحت للنساء الفرصة، فهن قادرات على عمل الرجال، أو أن المرأة تعمل دائمًا وأن وضع النساء من الطبقات المتوسطة وضع خاص لا يجب تعميمه للحكم على قدرات النساء، ولكنه يختار أن يوظف هذه المقارنة لدحض مساعي النساء لتحقيق المساواة.

إذًا, كانت الفلاحة مساوية للفلاح لأنها تعمل وتكد مثله بل أكثر منه، فهل نستنتج من ذلك أن النديم يعلى من شأنها ويقدم نموذج الفلاحة العاملة كنموذج قيمة وجب على المرأة الغنية أن تحذو نحوه لكسب الاحترام والاعتراف بأهميتها؟ الإجابة بالنفي. أولاً، تظل المرأة المدنية المتعلمة هي النموذج القيم الذي تسترشد برأيه نساء الطبقات الفقيرة، فعندما تجتمع النساء الفقيرات لتدبر أمر الرجال، يقررن استشارةالست نجيةلأنها تقرأ وتكتبوتعرف الهوانم الكباروتستطيع سؤالهم عن حل ونصيحة(الأستاذ، الجزء السابع، 4 أكتوبر ١٨٩٢، ص ١٥٧). يحافظ هنا النديم على التراتب بين الطبقات الاجتماعية من حيث القيمة المعنوية فلا يتخيل أبدًا أن هؤلاء النساء الفقيرات قادرات على حل مشاكلهن لأنفسهن أو على تقديم المشورة والخبرة لمن هم أعلى منهن في السلم الاجتماعي. ثانيا، في حوار بين بهانة الريفية الأصل ولكنها مقيمة منذ فترة في المدينة، وست البلد التي وصلت مؤخرًا من الريف وتود تعلم عادات أهل المدينة، تتحدث بهانة بوصفها المالكة للحكمة والمعرفة الصحيحة. يأتي هذا الحوار ضمن سلسلة عنوانها مدرسة البنات، وهنا تصبح الفلاحة المتمدينة هي معلمة الفلاحة القادمة من الريف. توبخ بهانة ست البلد لقذارتها وقذارة عادات أهل الريف، ثم تعطيها دروسًا في معاملة زوجها، فعليها مقابلته بوجه بشوش، ثم لا يجب أن تجلس في حضرته وعليها أن تخفض صوتها عندما تتحدث إليه، كما عليها مراعاة مواعيد رجوعه من العمل لتحضر له الطعام في الحال، ثم يجب عليها العناية بمنزلها وينفسها من أجل إرضائه وتوفير لوازم راحته. كل هذا على خلاف ما تعودت عليه ست البلد في الريف. أما في مسألة الخروج من المنزل فتقول بهانة:

إوعى تباني من باب الحريم مش تقولي هنا زي الريف الواحدة تمشي زي الداهية ع البلد وشها مكشوف وخلقتها ما تسترها وحالها يلطف به ربنا. احنا هنا يا نسوان البندر ما نبقى عدلين وسيرتنا مسك إلا لما نستخبا في بيتنا. وداليه اكمن رجالتنا غيارين قوى والديانة تحرم أن الواحدة يشوفها غير جوزها ولا تكلم غير جوزها فتفضلي قافلة بابك عليك ما تفتحيه إلا لجوزك. (الأستاذ، الجزء السادس عشر 6ديسمبر ۱۸۹۲ ص 371-372).

نكتشف أن بهانة تعطى ست البلد دروسًا تحمل قيم الطبقة المتوسطة الساكنة في المدينة. ومرة أخرى، كما حدث مع قضية عمل المرأة، يتم توبيخ الفلاحة لعدم مراعاتها قواعد عدم الاختلاط التي هي سمة من سمات أهل المدينة من الطبقات المتوسطة والعليا ولا تسرى على الطبقات الدنيا أو على حياة الناس في الريف. لا يناقش النديم تلك القواعد بل يسعى إلى فرضها على الطبقات الشعبية، ولا يسترشد قط بحياة تلك الطبقات في مناقشته لقضايا الوطن والانتماء، وإنما يستخدم النديم أصوات الشخصيات الشعبية لتقديم وجهة نظر الطبقة المتوسطة. الطبقة الشعبية دائمًا في حالة جهل وتردٍ وتنتظر النصح والموعظة من الأستاذ أو من طبقة المثقفين الذين يمثلهم الأستاذ. وهذا يطرح تساؤلاً حول علاقة النديم بالطبقات الشعبية التي يفترض أنه يعرفها معرفة جيدة.

يعقد النديم حوارات حول التعليم المناسب للبنات والأولاد تحت عنوان مدرسة البنات ومدرسة البنين. وقبل تحليل الخطاب المستخدم في مدرسة البنات، قد يكون من المجدي إلقاء نظرة سريعة على محتوى وشكل مدرسة البنين. تشمل هذه المدرسة ثلاثة حوارات بين النديم وطالب في مدرسة اسمه حافظ، ثم حوار رابع بين حافظتلميذ النديم – يرشد فيه صديقه كامل. يدور الحوار باللغة العربية الفصحى السهلة. تتطرق الدروس إلى تفاصيل متعلقة بمسائل النظافة، الحفاظ على الصحة (الأستاذ, ٢٩٥٢٩٨)، والوضوء والطهارة والصلاة (الأستاذ،٣٥٣٣٥٦)، عن الحقوق المدنية, واحترام المعلم والوالدين، عن الأخلاق العالية في التعامل مع الآخرين فلا يشتم من شتمه ويترفع عن رد السيئة بسيئة مثلها(٣٦٤٣٦٩). أما في الحوار بين كامل وحافظ، ينقل حافظ ما تعلمه على يديّ النديم إلى زميله كامل الذي يذهب إلى مدرسة أجنبية ويعاني من الغربة وعدم معرفة المعلومات الضرورية له كمسلم ومواطن مصري (الأستاذ، ٣٩١٣٩٥).

أما في مدرسة البنات، فتختلف الموضوعات، وتستخدم اللغة العامية بين الشخصيات. في الدرس الأول، (الأستاذ، الجزء الحادي عشر 1 نوفمبر ۱۸۹۲ ص ٢٤٦٢٥١)، يدور حوار بين زاكية ونفيسة حول ماهية التعليم النافع للبنات، فتسخر زاكية من نفيسة لأنها تتعلم في المدرسة، إلى جانب القراءة والكتابة، لغة فرنسية وعزف على البيانو ورقص.” طيب الكتابة والقراءة أهي تنفع تقعدي يوم تقرى في المصحف الشريف والا في كتاب تعرفي منه أمور دينك والفرنساوي والإنكلیزی تعملی به ایه هو أنت رايحة تتجوزي فرنساوي والا إنجليزي” (ص ٢٤٦) تحاول نفيسة الدفاع عن نفسها فتقول أن هذه المواد يتعلمها علية القوم، وبنات الشوام، وآهو من ضمن التمدن الجديد أن الواحدة تتعلم لغة افرنجية” (ص ٢٤٦٢٤٧). تذهب زاكية الى أن اللغاب لا تنفع نفيسة في شيء فهي لن تختلط بأجانب لأنها لن تعمل، وتعلم بيانو فيه مفسدة أخلاقية لأنالمغاني تحرك فينا العشق يا نسوان والواحدة متى عشقت ما هیاش رايحة تعشق جوزها لأنه قدامها كل ساعة واللي في اليد تزهده النفس فرايحة تعشق بعيد عنك الشر واحد غيره وتبقى معاره وجرسه وهتيكة.” (ص ٢٤٨) أما الرقص فهو عار وخلاعة. المواد المفيدة للبنت من وجهة نظر زاكية هي اللغة العربية والدين والخياطة، وتستطرد أن الخياطة لها منافع عديدة لأنها تمكن المرأة من تلبية حاجات أسرتها من ملابس وفرش، ولأنها أيضًا عمل مناسب للمرأة إذا ما أرادت مساعدة زوجها في المصاريف.

يسخر النديم من خلال صوت زاكية من محاولات تقليد الغرب ويتخذ من اللغات والرقص والعزف وسيلة لمهاجمة المدارس الأجنبية التي انتشرت في مصر بعد أن انتشرت في الشام. موقف النديم واضح تجاه التقليد، وهو موقف يتبناه في مسائل عديدة. ولكن, نضع أيدينا على مشكلتين أساسيتين. أولاً، في نقده لتعلم العزف على البيانو، لا يقول مثلاً أن البيانو آلة غربية، جميلة في حد ذاتها، ولكن لماذا لا نهتم أيضًا بتعليم بناتنا العزف على آلة العود وتعليمهم الطرب العربي مثلاً، فيكون بهذا قد بين مشاكل التعليم الأعمى، وسلط الضوء على أهمية الحفاظ على مكونات مهمة في الثقافة العربية، ولكن، ما يفعله النديم هو رفض، ليس فقط البيانو، الآلة، ولكن رفض التذوق الموسيقى برمته بادعاء أنه يؤدى الى الانحلال الخلقي. نلمس هنا التعقيدات في الحوار الناتجة عن الحساسية المفرطة، أو فلنقل الموقف الدفاعي المرتبك، أو الشعور بالتهديد والضعف في مواجهة قوات الاحتلال، الأمر الذي أدى إلى ارتباك وتناقضات في تحليل العلل وفي إيجاد الحلول. الأمر الثاني، متعلق بسخريته من تعلم البنات للغات الأجنبية، من منطلق أنه لن يفيد. فالبنت هنا لن تستخدم معرفتها باللغة لأنها لن تحتاجها في أي عمل ممكن أو عمل مقبول اجتماعيًا من وجهة نظره. وهنا، يكرس النديم رؤيته المقيدة للنساء وأدوارهن الاجتماعية مستخدمًا سلاح التغريب.

طيب الرجالة بيتعلموا اللغات قلنا أنهم معذورين على شان يعاشروا الأفرنج ويعرفوا كلامهم ويقروا كتبهم ويعرفوا فيها ايه واحنا يا نسوان لا احنا رايحين نخطب في مجلس ولا نكتب جرنال ولا نعمل مترجمين ولا نسافر بلاد برا ولا دي ولا دي يبقى تعليمنا الفرنساوي وغيره ثمرته ايه دي كلها أمور تغم” (الأستاذ، ص ٢٤٧)

إذا اتفقنا أن النديم يعد من ممثلي الحركة الوطنية الهادفة الى إحداث تغيير جذري في الأوضاع بحيث يتحرر الوطن ويتقدم إلى الأمام، نجد أنه في تناوله لوضع النساء، يكرس للوضع القائم، ويسخر من إمكانية التغيير. أيضا، يتجاهل النديم، أو ربما يقصد تهميش، مساهمات نسائية مهمة في الصحافة، وهي مساهمات بدأت في الثمانينات من القرن التاسع عشر في مجلات تصدر في الشام ومصر. هؤلاء النساء كتين بالفعل فيجرنالونجحن في الدخول في نقاشات ساخنة مع كتاب من الرجال. (١٢) وكما فعل في موضوع عمل المرأة، يقلل النديم من شأن مشاركة النساء في الحياة العامة ويستخدم صوت المرأة الشعبية للتعبير عن الاستنكار.

في الحوار الثاني في مدرسة البنات (الأستاذ، الجزء الثالث عشر، 15 نوفمبر ۱۸۹۲ ص 298- 302 )،ويدور الحوار بين حفصة وابنتها سلمي لأن سلمى أصبحت عروسة وعليها أن تعرف أسرار حسن تدبير المنزل ورعاية زوجها. تركز الأم على أهمية النظافة، والترتيب والحفاظ على الصحة. فالبنت سوف تصبح مسئولة عن رعاية زوجها وبيتها وعليها خدمته وتوفير له كل سبل الراحة. يتلخص الدرس في نصائح للبنت تنفعها بعد الزواج، مثلأول حاجة تلزم الست منا أنها تعرف ترتیب مخزنها” (ص ۲۹۹)، ولا تبيتي حلة مكشوفة ولا مغرفة ولا معلقة من غير غسيل“, (ص ۳۰۰) ولا تحطيش روائح في أوضة النوم زي ورد ولا ياسمين ولا فل أحسن دا بطال على النايم” (ص 301). أما فيما يخص الزوج،تملى حميه واغسلي له جتته ونضفيه طيب وغيري له الهدوم عند النوم وافتحي عينيك في خدمته” (ص ۳۰۱). وفي حوار ثاني (الأستاذ ٣٥٦٣٦٠) بين حفصة وسلمي، تعطى الأم ابنتها دروسًا في كيفية غسل ملابس أبيها وأخوتها تمهيدًا لما سوف تفعله في المستقبل في بيت زوجها، ثم تحكى لها عن دينها وعن محمد وبعض قصصه، وتركز على أن المسلمين والمسيحين يفعلون نفس الأشياء مع اختلافات بسيطة لا تمس الجوهر. أي، يتلخص تعليم البنت في إعدادها لوظيفتها كأم وراعية لأسرتها.

وفي مدرسة البنات الرابعة، تقابل شخصيات أخرى، بهانة وست البلد، حيث تعلم بهانه ست البلد قواعد النظافة والسلوك المتبع في المدن خلافًا على عادات أهل الريف (كما ذكرت من قبل). وفي المدرسة الرابعة، يدور الحوار بين شريفة وبهية حول مشروعية ذهاب بهية لحضور حضرة. أولا, تركز شريفة على عدم جواز خروج المرأة بدون إذن زوجها لأي سبب:

بقى يا ستى أنا ما أعرفشي الكلام ده أنا أعرف إن طلوع الواحدة من بيت جوزها من غير اذنه حرام. وزيارة المشايخ من غير إذن الراجل حرام. ولبس الواحدة هدومها الكويسة وطلوعها بهم حرام. وصرفها الفلوس في ندر ولا قراية قرآن حتى من غير إذنه حرام” (ص 395-396).

ثم تسترشد برأي سيدنا الشيخ أحمد الذي يضيف أن جماعات الحضرة جماعاتناس خسرة ولا لهم ذمه ولا يحزنون” (ص ۳۹۷)، ويذهب إلى أن جلسات الذكر الحقيقية تتم داخل المساجد بدون حضور نساء. كما يعضد الشيخ من كلام شريفة ويقول:

أما طلوع الواحدة من ورا جوزها مفيش أكبر منه عند الله ذنب كبير قوى …. يبقى إذا سامحها جوزها يغفر لها ربنا واذا ما سامحهاش يا ويلها من الله لان دا حق الزوج يا أم أحمد موش حق ربنا حتى أنه يسامحها فيه من غير إذن جوزها. والداهية إذا كانت تلبس هدومها القديمة في البيت ولما تجي تطلع برة تلبس الهدوم الجديدة يا ويل دي من الله يا ما تشوف يوم القيامة ياما تلعنها الملايكة. (ص ۳۹۸).

تتلخص الدروس التي يقدمها النديم الى النساء في مدرسة البنات في النقاط التالية: أولا، في حين أن الولد يعتني بأموره ونظافته، فالبنت مكلفة بالاعتناء بكل الذكور في أسرتها، حتى في الإشراف على طهارتهم لكي يتمكنوا من أداء الفروض الدينية. ثانيًا، المرأة الصالحة، الشريفة (لاحظ رمزية اسم شريفة في الحوار الرابع) هي التي تطيع زوجها وتقبع في منزلها دائما, حتى ولو أرادت المشاركة في جلسة دينية. ثالثا، أن طاعة الزوج من طاعة الله، بل إن التقرب الى الله لا يتم للمرأة الا من خلال زوجها، فرضى الزوج عن زوجته مقدم على رضى الرب. رابعًا، أن المرأة الريفية عليها الاهتداء دائمًا بامرأة المدينة، وفقا لنمط واحد لتلك المرأة الشريفة يحدده النديم بالمرأة التي لا تخرج من منزلها. تكرس الدروس لتفرقة قوية بين الجنسين، فحين يخاطب النديم حافظًا باللغة العربية، وحين يرشده في أمور النظافة، والحقوق المدنية، فهو يعلمه ضروريات التعامل، من وجهة نظره، مع الحياة في المجتمع الحديث. أما البنت,فيتم تكريس وضعها خارج الحياة العامة، بل يتم حرمانها من السبل المتاحة لها خارج الحيز الخاص. فالحضرة وزيارات الأضرحة أصبحت حرامًا، بنت البلد التي اعتادت الخروج من منزلها لا يمكن أن تفعل ذلك وفقًا لقواعد مخترعة في المدينة، والمرأة التي تحاول تقليد الطبقات الأعلى وتتعلم لغات أجنبية وبيانو، توبخ لأنه ليس من المفترض أو المستحب، أن يغير تعليمها من حالها.

من الأهداف الرئيسية لمجلة الأستاذ هي نقد وتعرية العادات السيئة التي اكتسبها بعض الرجال من أثر التغريب أو بسبب تشبههم بالغرب، ويستخدم عادة شرب الخمر كمثل ورمز لاتجاهات التغريب المضرة والمعادية للثقافة والمصلحة الوطنية. ويعد هذا الموضوع من الموضوعات الشائعة في مقالات الكتاب الوطنيين، ولكن يبتدع النديم شكلاً جديدًا لتناول المسألة، وذلك عندما يخضع سوء تصرفات بعض الرجال لنقد ساخر عنيف من خلال أصوات زوجاتهم في حواراته بالعامية المصرية. تتبادل حنيفة ولطيفة (ص ١٣٢١٤٠) الشكوى المرة من أزواجهم لشربهم الخمرة وحالهم المتردي بسبب السكر والعربدة كل يوم. فالى جانب المشاكل المالية الوخيمة التي تقع على الأسر بسبب التبذير وسوء التصرف، هناك مشاكل اجتماعية وأخلاقية أخطر تأتي نتيجة إهمال الأزواج وتقاعسهم عن الوفاء بالتزاماتهم المالية والزوجية في رعاية أسرهم وزوجاتهم. يفقد الرجل هيبته واحترامه، ويتحول إلى كائن وضيع فيفقد مكانته في أسرته بين زوجته وأولاده. تضطر الزوجات إلى الاستدائه، والبهدلة، وقد تخرج الزوجة عن طوع زوجها فتترك المنزل بدون إذنه وتروح رخرة تدهول مطرح ما تدهول وتجي” (ص ۱۳۳).

وفي حوار أخر بين لطيفة ودميانة (١٤٩١٥٨), تعقد مقارنة بين الأديان السماوية الثلاثة في موقفها تجاه شرب الخمر، فتؤكد دميانة أن في المسيحية،اللي يشرب الخمر ما يدخل ملكوت اللهواليهودما يشربوش الا القليل في العيد بس” (ص١٥١). ثم يقارنان بين حالهم وحال الأجانب في بلادهم، فتصلان الى نتيجة أنه زى ما عندنا عئلا ومجانين زي ما عندهم رخرين لكن مجانينهم أكثر” (١٥٣). وعندما يطرح سؤال، لماذا هم أفضل من رجالتنا، أي لماذا هم متقدمون ونحن متأخرون تقرران أن تفوق الغربيين سببه اتحادهم ومساندتهم لمصالحهم المشتركة، على عكس ما يفعل المسلمون والأقباط والشوام. ثم تتباحثان في سبل الوصول الى حل لمشاكلهم, فتقرران عقد اجتماع للتشاور مع نساء أخريات. ثم، يعاد طرح موضوع سوء تصرفات الأزواج بين زبيدة ونبوية (ص 210-213)، حيث تشتكي زبيدة من زوجها الذي يحشش ويهددها بالطلاق باستمرار. ثم، تعقد الشخصيات المشاركة في الحوارات, الزوجات وبعض الرجال الذين ينقدون التقليد والعادات السيئة أيضا, اجتماعًا مع النديم للتداول في بعض القضايا .

يبدأ الحوار بمناقشة قرار النديم باستخدام العامية، فيتعهد النديم استخدام لغة يفهمهاالطفل الصغير والرجل والمرأة” (ص٢٢٦)، ثم ينتقل الحديث إلى مجلس الهوانم الذي ناقش سوء تصرفات الأزواج وهو مجلس حضره النديم ويحكي وقائعه لشخصياته. ناقشت النساء ماذا تفعله الزوجة حين يعتاد الزوج السكر؟ اقترحت أم حسن ضرب الزوج عند عودته الى المنزل، ولكن الست نجية (المتعلمة من الطبقة المتوسطة) اعترضت لأن هذاأمر قبيح ولا تفعله إلا قليلة الحيا” (ص ٢٢٦). اقترحت نفوسة أن تقفل الزوجة الباب في وجهه، فترد الست سنية (طبقة متوسط) أنالست منا إذا ما كانت تعرف قيمة زوجها تبقى هي والكلب على حد سواء” (ص ۲۲۷). اقترحت أم فلتاؤس توبيخ الزوج ونقده بشدة، فتعترض الست نجية مرة أخرى لأن على المرأة احترام زوجها مهما فعل لأنهعز المرأة وحافظ شرفها وهو الساعي في المعاش التعبان فيه وعليه مدار البيت والمرأة من غير الرجل ما تساوى أبيض ولا أسود” (ص ۲۲۷) تقترح الست عزيزة تدخل الحكومة، فتصرف للسكير نصف معاشه وتعطى النصف الآخر لزوجته ثم تعين مشرفين من المجلس الحسبي على أولاد البلد السكارى. ترد الست نجية أن هذا مستحيل لأن ليس من حق الحكومة التدخل في أموال الرجل ولأن هذا سوف يجلب الفضيحة للرجل والعار للمرأة. تقترح الست نجية أن يكتبواعرض حال للسكاري عن لسان أزواجهم بقلم النديم وننشره في الأستاذ ويكون من باب الرجا والالتماس فإن نفع ورجعوا عما هم فيه من البلاوي يا دار ما دخلك شر وإن استمروا في خسرانهم نكتب عرض حال للحكومة وتبقى تعرف شغلها فيمن ياخد فلوسها ويصرفها في ضياع عقله وشرفه.” (ص ۲۲۸)

يكتبن عرض الحال وهو جدير بالقراءة المتأنية ص ٢٢٩يتقدمن بين أيديكم بهيئة الخضوع والأدب ولسان الذل والاحترام سائلين مقام رجوليتكم أن تتفضلوا عليهن ببعض الذي تنفقونه في الملاهي ومذهبات العقل والشرف ليس لنا في هذا الباب إلا نخوتكم الإنسانية وغيرتكم الزوجيةتنذر الزوجات الأزواج أنه لولا حجاب الشرق وشرف الزوجة لفعلوا مثلهم، كما يعقدن مقارنة مع الزيجات الغربية ويقررن أن الرجل الغربي يوفي زوجته حقها.

يعترض بعض الرجال على ما جاء في عرض الحال، ولكن ينعقد مجلس الستات مرة أخرى فوجد أن الكثير من الرجال تابوا عن أفعالهم، واستمر البعض في طريق الرذائل، فقررن مطالبة النديم في الاستمرار في نقدهم، كما قررت الزوجات تكدير عيشة الأزواج السكاري في بيوتهم. (ص ٢٦٢٢٦٣). ثم يدور حوار بين حنيفة ولطيفة عن توبة بعض الأزواج وعناد البعض الآخر، والمقارنة بين الأحوال، ثم إصرار الزوجات على إصلاح حال الأزواج لأنهم لن يخافوا من سلاح الطلاق.

يتلقى النديم تعقيبين على حوارات النساء في نقد الأزواج، الأولى تعترض على تعرية عيوب المصريين أمام الأجانب والناس، وتعبر عن الغيظ لأنها وردت على لسان نساء. يرد النديم أن حال السكارى مفضوح للجميع، أما بالنسبة لحديث النساء. فينصحه أن يسمع حوارًا قادمًا بين لطيفة ودميانة،فالموعظة الحسنة مؤثرة ولكنها من النساء أشد تأثيرًا وأعظم وقعًا” (ص١٤٧). أما التعليق الثاني فيرسل به من أسيوطأحد نبهاء المصريينمسيحة الياس فيقول:

كان من حق الأستاذ استعمال النصيحة على ألسنة ذوات القناع لأنهن شريكات الرجال في الأفراح والأحزان وهن أولى بإبداء النصائح بصفة كونهن جزءًا مهمًا في الهيئة الاجتماعية فإن لم تؤثر نصائحهن فلا أمل في إصلاح الرجال بعد ذلك ولا يكره النصيحة بلسانهن الا متعنت قد حجب عن اللطائف فنرجوك أيها الأستاذ أن تستمر على هذه الخطة الضامنة للفوائد والنجاح وإلا فإن سكت عنا وتركتنا في بحر الغرور والضلال فعلى آمالنا في التقدم السلام. (ص ۲۸۲).

يتطرق النديم مرة أخرى إلى ماهية الرجولة، أو تصرفات وسمات الرجل الحديث، أو شكل وسلوك المواطن المصري القادر على النهوض بمسئولية قيادة الأمة وتحريرها ونهضتها. وهو قد فعل ذلك من خلال حواراته في مدرسة البنين، وأيضًا من خلال نقده لسوء تصرفات الرجال، وهي عادات وردت على المجتمع المصري بسبب الوجود الأجنبي، وكما تقلل من شأن الرجل في أسرته وتمحو هيبته وسلطته، فهي تستنزف طاقات وموارد المواطن المصري في مواجهة الاحتلال، فتعطل مشروع التحرر والإصلاح. فالرجل الذي يتشبه بالغرب ويشرب الخمر لا يصلح لبناء الوطن.

يعرف النديم ماهية الرجولة أيضًا من خلال رسم تصوراته عن ماهية الأنوثة أو المرأة المصرية المثالية، وهي تصورات تعبر عن انحيازاته الطبقية والفكرية. فالمرأة المثالية هي المرأة التي تطيع زوجها دائمًا، والعلاقة بينهما علاقة غير متوازنة، حيث يملك الرجل كل الحقوق، وعلى المرأة كل الواجبات. ثم، حين يقصر الرجل في أداء حقوقه تجاه زوجته، لا يحق للزوجة اتخاذ أي إجراء حاسم ضده، وكل ما هو متاح لها أن تخاطب إنسانيته وأن تستثير نخوته. حتى لجوئها إلى الله مشروط برضائه. وعلى هذا الأساس تصبح رجولة الرجل مرتبطة بسلطته على زوجته، فإذا فرط فيها، فهو يفرط في أحد دعائم المجتمع في مواجهة الآخر الغربي المعتدى.

يتعامل النديم مع خروج المرأة من بيتها باعتباره مجلب الفساد والانحلال الخلقي. فعلى الرغم من احتكاكه بالأوساط الشعبية، وبالناس في الريف حيث تتقاطع الحدود المدنية بين العام والخاص، أو بين حدود البيت وحدود الشارع، يصر النديم على تصدير تصورات تعبر عن انحيازاته الطبقية، لامرأة من الطبقة المتوسطة لا ترى الشارع ولا تتولى أي عمل خارج المنزل. هذا النموذج للمرأةالشريفةيثبت ويقدم على أنه نموذج المرأة الشرقية الأصيلة التي تحتمي بثقافتها وتتمسك بهويتها في مواجهة الهجمة التغريبية. والنقطة الجديرة بالاهتمام هنا أن النديم يروج لأخلاق الطبقة المتوسطة middle class morality مستخدمًا في ذلك أصوات نساء من الطبقات الشعبية ليضفي على أفكاره شرعيةالناس العاديين“.

والمفارقة هنا أن أخلاقيات تلك الطبقة المتوسطة الصاعدة استوعبت وتمثلت مفاهيم غربية حداثية تؤسس لثنائيات متضادة بين العام والخاص، بين العمل خارج المنزل وداخله، ومفاهيم حداثية عن الأمومة، وعن دور ربة المنزل باعتبارها الراعية الأساسية لبيتها ولأسرتها، عن النظافة والشكل الأمثل للمنزل العصري. هذه المفاهيم تكرس لوجود النساء داخل المنزل وتصر على فكرة أن وظيفة المرأة الأساسية هي وظيفتها داخل المنزل. وعلى هذا الأساس، تطالب المرأة من الطبقات الشعبية التي تخرج وتعمل خارج المنزل بالمكوث داخل منزلها لكي تصبحشريفة“, فعليها محاكاة أخلاقيات الطبقات المتوسطة لكي تكتسب الشرعية في المجتمع الحديث. ومن الجدير بالذكر أن هذه التصورات عن دور المرأة المثالية داخل منزلها كانت سائدة في المجلات والصحف، النسائية والعامة، وهي الصحف التي تولى إصدارها رجال ونساء من الطبقات المتوسطة. (عن الأسباب التي أدت الى الترويج لمفاهيم حداثية عن عمل امرأة داخل المنزل في الصحافة النسائية) أما عن موقف النديم من التعليم، فنجده متوافقًا مع رؤيته لوظيفة النساء الأساسية داخل محيط الأسرة، فهو يركز على تعليم النساء التدبير والنظافة لكي يتمكن من الاعتناء بأسرهن وتوفير البيئة الصحية المواتية.

ومن مظاهر التمييز ضد النساء في خطاب النديم، التفرقة في استخدام مستوى اللغة العربية لمخاطبة النساء والرجال. عندما يقرر النديم رفع مستوى التخاطب اللغوي في الأستاذ، أي الكتابة باللغة الفصحی، يناشده حنفي في اجتماع عقد بين النديم لمناقشة أمور كثيرة، العودة الى العامية لأنالكلام العربي النحوي صعب على الستات والناس أمثالنا” (ص ٢٢٦)، يرد النديم بالعبارة التالية:” لكم على أني أخاطبكم بكلام يفهمه الطفل الصغير والرجل والمرأة من غير تعب ولا يحتاج لتفسير ولا لشيخ يقول لكم على معناه” (ص ٢٢٦). هنا، نجد أن الفصحى صعبة على جميع النساء بدون تمييز بين متعلمات وغير متعلمات، ولكنها صعبة على بعض الرجال، على اعتبار أنها ليست صعبة على الرجال المتعلمين. أيضًا، يساوي النديم بين النساء والعامة،(۱۳) فيتحدد موقعه تجاه الطرفين، أي موقع الأستاذ المرشد والناصح. أما حين يقرر أن يقلل من استخدام العامية في مجلته، ويستخدم الفصحى مثلاً في الحوارات حول تعليم البنين، ويتمسك بالعامية في الحوارات حول تعليم البنات. ولهذا، على الرغم من استمراره في استخدام العامية في مجلته، الا أن هذا لا يترتب عليه استنتاج أن موقفه تجاه طبقات الشعب الفقيرة لم يكن موقفًا سلطويا وانما كان بسبب إيمانه بأهمية تحسين مستوى تلك الطبقات، واقتناعه بأن لديه القدرة والمعرفة في تحقيق ذلك.

وللإجابة عن السؤال المطروح في بداية الورقة، أو لماذا تجاهل النديم رسالة عائشة تيمور، نجد أنه يصر على معاداة أي محاولة من قبل النساء لتقديم وجهة نظر مختلفة عن قضايا تمس حياتهن. يعادي النديم النساء اللاتي حاولن إيصال أصواتهن من خلال الصحف والمجلات، فيتجاهل وجودهن، أو يقلل من شأن مساهماتهن، أو يسعى الى دحضها تمامًا. هذا يفسر تعليقه على كتاب مرآة التأمل في الأمور، حيث تطرح عائشة تيمور إمكانية تبادل الأدوار بين الجنسين، فتزعزع الأسس التي يبني عليها النديم تعريفاته لرجال ونساء وطن المستقبل. أما النديم، فهو يرفض تمامًا الفكرة ويدحضها مستخدمًا سلاح الأخلاق، والتقليد، والتغريب لإضعاف همة النساء الطامحات الى إحداث تغيير في المجتمع، خاصة فيما يخص وضع النساء فيه. فهو يتجاهل مغزی مضمون كتاب عائشة حين يقرر الإشارة اليه، ثم يدحض حججها من خلال حواراته على لسان نساء. وفي مواقف أخرى، حين يتحدث عن التعليم المناسب للنساء، لا يوافق على تعلم اللغات الأجنبية لأن النساء لن يصبحن كاتبات، ولن يلقين خطبًا, ولن يتفاعلن مع الحياة الثقافية، وهو هنا ينفى مساهمات النساء الموجودة بالفعل، ويعي الى التقليل من أهميتها. أما في سياق رده على سؤال زينب فواز، فهو يسعى الى سحب الشرعية من النساء من الطبقة المتوسطة الدافعات اللاتي يكتبن في المجلات ويطالبن بالمساواة، فيقول لهن إنهن غير قادرات على العمل.

وأخيرًا، ماذا كان رد فعل النساء، وهل نجح البعض في التصدي لتلك الهجمات؟ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى بحث آخر، ولكن، ألفت النظر هنا إلى کتاب زينب فواز، الدر المنثور في طبقات ربات الخدور، وهو كتاب شرعت في كتابته سنة 1891 ونشرته سنة 1894، ويحتوى على سير نساء كثيرات من الشرق والغرب كان لهن باع ومكانة في المجتمع. هل جاء هذا الكتاب ليرد على دعاوى النديم وآخرين؟ هل حاولت فيه التأكيد على قدرات النساء في الفن والأدب والعلم وأمور الدين؟ هل حاولت فتح الباب أمام ريح التغيير؟

۱صدر أول عدد من مجلة الأستاذ في ٢٤ أغسطس سنة ١٨٩٢ وآخر عدد في 3 يونيو سنة 1893. طبعت المجلة في مطبعة المحروسة. قامت الهيئة المصرية العامة للكتاب بإعادة طبع المجلة سنة ١٩٩٤ في سلسلة مركز وثائق وتاريخ مصر تحت إشراف د. عبد العظيم رمضان، الذي قدم لها، كما كتب د. عبد المنعم الجميعي دراسة تحليلية. وجميع الاستشهادات مأخوذة من هذه الطبعة.

٢عبد المنعم الجميعي، دراسة تحليلية، الأستاذ، ص 6 .

3- عن موقف النديم من العامية انظر مديحة دوس،العامية المصرية عند عبد الله النديمفي بحوث ندوة الاحتفال بذكرى مرور مائة عام على وفاة عبد الله النديم، المجلس الأعلى للثقافة، 1997،ص 291-300.

٤عن دور النديم في تأسيس الفن القصصي الحديث انظر ألفت الروبي،عبد الله النديم بلاغة التوصيل والقص، في بحوث ندوة الاحتفال بذكرى مرور مائة عام على وفاة عبد الله النديم، ص101- 128 و سيد البحراوي، محتوى الشكل في حديث عيسى بن هشام، مجلة كلية الآداب العدد 5۹ ۱۹۹۳، جامعة القاهرة، ص 63.وأيضا:

Sabry Hafez, The Genesis of Arabic Narrative Descourse: A Strdy in the Sociolo-gy of Modern Arabic Literature, London, Saqi Books, 1993,pp. 113-129.

5- Alvert Hourani, Arabic Thought in the Liberal Age 1798-1939. Oxford, Ox-ford University Press, 1970.

6- Rosemary Sayigh, “Roles and Functions of Arab Women: A Reappraisal, “ in Arab Studies Quarterly III, 3 (Autumn, 1981).

7- انظر Leila Ahmed, Women and Gender in Islam, New Haven and London, Yale University Press, 1992, p.153.

8- انظر Hoda Elsadda, “Notions of Modernity: Representations of the “Western Woman” by Female Authors in Early Twentieth Century Egypt, “ In The Arabs and Britain: Changes and Exchanges, Proceedings of a Conference organised by the British Council in Ciro, 1998, pp. 352-366.

۹انظر في هذا الموضوع كتاب

Mrinalini Sinha, Colonial Masculinity: The Manly Englishman and the Late Nineteenth Century. Man-chester and New York, Manchester University Press, 1995.

10- انظر في هذا الخصوص مقالة هدى الصدة،رؤية الرجل لذاته في مرايا تصوراته التمثيلية حول المرأة: قراءة في خطاب رواد النهضة،في مائة عام على تحرير المرأة المصرية، الجزء الأول،المجلس الأعلى للثقافة، ۱۹٩٩، ص ٣٤٩٣٦٨.

11- Hoda Elsadda, “Gendering the Nation: Conflicting Masculinities in Select-ed Short Stories by Mustafa Sadiq al-Rafl.” A paper delivered at the conference en-titled “Gender, Sexuality and Nation” that was held at SOAS in London, 20-21 June 2002, and was organised by SOAS and AHRB.

۱۲انظر النقاشات التي نشرت في المقتطف في الثمانينات من القرن التاسع عشر التي شاركت فيها النساء ودافعن فيها عن قضاياهن.

۱۳انظر مقالة مديحة دوس.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي