حكومة الجسد

تاريخ النشر:

2002

حكومة الجسد

ميرفت عبد الناصر*

في رائعته خفة الوجود غير المحتملة” – يحكى لنا كانديرا عن تيريزا التي صارت تتعجب كلما نظرت إلى نفسها في المرآة متسائلة عن ما يمكن أن يحدث لها إذا زاد أنفها ميليمترا واحدًا في اليوم وكم من الأيام ستمضى ليصبح وجهها وجها آخر؟ وهل إذا تغير وجه تيريزا ستظل تيريزا هي نفس التيريزا أم ستصبح شخصًا آخر؟ فمن أين تبدأ حجم الأناوأين تنتهي؟

هل ترسم الأنا بحدود شكلها؟ وماذا لو أصبحت الأنا في مأزق.. هل يتغير الشكل تباعًا ليحكي قصة تلك الأزمة؟ وهل الشكل هو حدود الأنا فقط أم أيضًا لسان حالها؟..

هذا المقال يدور بالفعل حول هذه العلاقة الحميمية بين الأنا وشكلها الخارجي، أنه طرح مختزل للغة الجسد المعقدة بأبجديتها المستمدة من نوع عصرها وطبيعة بيئتها الغنية بالمفردات التي من خلالها يترجم الجسد اضطرابه وتوتره النفسي

لا يوجد جسد في فراغ، وإنما في إطار بيئة ثقافية تجعل من الجسد المعادل المحسوس لروح هذه البيئة أو تلك الثقافة بكل ما فيها من أوجاع وآلام وتجارب أفراد بل إن تاريخ الجسد وتطوراته عبر العصور قد يكون مرآة تعكس التاريخ الحقيقي للشعوب..

اعتاد الجسد عبر العصورأن يتغير ويتشكل تبعًا للمتغيرات الاجتماعية حتى أصبحت محاولات التمرد عليه أو التصالح معه رمزًا قويًا لرغبة صاحبه في السيطرة على بندول المتغيرات الخارجية وبالتالي أصبح التشكل الجسدي تعبيرًا عن سعى النفس لخلق نفس جديدة أكثر توائمًا مع الواقع. هذا التعبير الجسدي الجديد ما هو إلا هويةمرسومة بحدود الجسد الذي تحول إلى بيئة خاصة أو وطن نحيا داخله وليس من خلاله وهو ما صار يعرف باسم حكومة الجسد“..

ولكن هل كانت لغة الجسد لغة ميتة وأصبحت بين يوم وليلة لغة حية؟ وإذا كان هذا صحيحًا فلماذا؟ أم أننا أصبحنا أقل أمية وأكثر علمًا بترجمة معانيها؟ وما هذا الذي يجرى في العالم الآن ليجعل من الجسد الإنساني مسرحًا لأحداثه؟ وهل جسد الرجل يتحدث عن نفسه مثلما يحدثنا جسد المرأة؟ أم أن المرأة أكثر قدرة على استخدام هذه اللغة من الرجل؟ وهل هذا بسبب كونها على وجه العموم أكثر حنكة من الرجل في استعمال أي من اللغات.. أم لأنها في حقيقة الأمر لا تملك وسيلة تعبيرية حقيقية عن نفسها إلا عن طريق لغة الجسد؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي يجعل المرأة تفضل لغة الجسد عن لغة اللسان؟ هل لأن لسانها في مثل هذه الأحيان يكف عن قول المباح وغير المباح من أي كلام!

العلاقة بين نفسية المرأة وجسدها وعالمها الخارجي علاقة معقدة وأكثر خصوصية بكثير من علاقة الرجل بنفس هذه الأشياء فهي علاقة محكومة بأدوارها المجتمعية غير الثابتة والتي هي في حالة تحول مستمر يرادف تغير بنود الأجندة الاجتماعية المطروحة والتي تتحكم فيها معتقدات قديمة أو مستحدثة، هذا غير نوع وطبيعة النظم الاقتصادية السائدة أو (المرغوب) فيها أن تسود!

اليوم تواجه المرأة صعوبة التعريف في وقت يعيش الوطن فيه نفس الأزمة.. هناك نوع من فوضي التعريف في ظل مناخ حر اقتصادي وإعلامي ومعلوماتي جعلنا اليوم جميعًا في مواجهة حادة مع ما نعنى بمصطلحات مثل الوطن والثقافة والهوية. الكثير من هذه المتغيرات الاقتصادية والمعلوماتية جرى العرف الحالي أن يدرجها تحت اسم العولمة“.. هذا اللفظ الذي استهلكه الجميع ففقد قدرته على وصف الحالة الإنسانية الحالية.

ولهذا فأنا أفضل لحد كبير مصطلح العالم الجديدبالرغم مما يتضمنه من كنايات سياسية سلبية.. ربما لأن العالم الجديد هو عالم محتمل، أي عالم في حالة تكوين وتشكيل مستمر.. عالم انتقالي يريد أن يجمع بين ما هو موروث وتقليدي ومتعارف عليه وأيضًا ما هو حديث ومتمدين ويشبه عوالم الديموقراطيات الصناعية التي حققت نجاحات اقتصادية هائلة ومن هنا جاءت المشكلة الحقيقية؟ هل نقبل الحرية بكل ما يمكن أن يأتي معها أم لا؟ نفتح الشباك أم نقفله ؟ هذا إذا كان إغلاقه مازال في يدنا!

ولكن ما علاقة المرأة (آسفة جسد المرأة) بالاقتصاد أو الإعلام الحرة؟. ماذا حدث للمرأة (أو في المرأة) بعد أن فتح الشباك؟

ويجيب على السؤال جورباتشوف في كتابه بيرسترويكا“.. .. “نحن فخورون بأن الحكومة السوفيتية قد أعطت المرأة حقها في التعليم والعمل والحياة السياسية ولكننا أهملنا أن مقابل هذا لم يعد عند المرأة الوقت لترعى بيتها وأطفالها ولهذا فنحن نرى أن رسالتنا الأولى الآن هي أن نعيد المرأة إلى مكانها الطبيعي.. البيت!”

أليس هذا بالفعل ما حدث مع البيرسترويكا المصرية، أقصد سياسة الباب المفتوح! إن وقع التحرير الاقتصادي على المرأة العاملة الجديدةلا يختلف كثيرًا من بلد إلى آخر.. الشركات الكبرى الخاصة التي تولت مهمة هذا التحرير الاقتصادي شككت في قدرة المرأة الإنتاجية وشعرت أيضًا بأن أي حقوق أو مكاسب حصلت المرأة عليها تحت مظلة اقتصاد الدولة ذات تكلفة عالية مما جعل المرأة في سوق العمالة الحرة عامل غير مرغوب فيه!

والطريف أن السينما المصرية لم تغفل هذه المفارقة التاريخية في وضعية المرأة في سوق العمل حيث وثقت لها في فيلمين كليهما أشد سخرية من الآخر.. المسافة الزمنية بين مراتى مدير عامو استقالة عالمة ذرةربما لا تتجاوز العقدين وهي أيضًا نفس المساف الزمنية التي قطعها المجتمع في سفره من اقتصاد الدولةإلى ما يقترب من الاقتصاد الحر“!..

ومما زاد من تعقيد الوضع الاقتصادي في مصر هو كسب الأسواق الخليجية للعمالة المصرية في ظل أطر وتشريعات اقتصادية واجتماعية تختلف كثيرًا عن السوق المحلى هذا غير أن السياسة الاقتصادية الجديدة اكتسبت أيضًا نوعًا من الشرعية الدينية التي جعلت خروج المرأة للعمل ضرورة اقتصادية وليس حقًا إنسانيًا في حد ذاته.

ومرة أخرى.. ما علاقة كل هذا بالجسد؟

بينما كانت المرأة في المجتمع المصري تتحرر أحيانًا وتكبل في أحيان أخرى وفقًا لمسيرة الاقتصاد كانت المرأة في المجتمع الأوربي الغربي وفي أمريكا الشمالية (نظرًا لظروف قد تكون مماثلة) تتأرجح على دفتى النحافة والسمنة.. بين انضباط وفوضى الجسد وهو ما أدرج فيما بعد تحت مصطلح سلوكيات الأكل المرضية“.

وكما يستدل من الاسم، تدور سلوكيات الأكل بالفعل حول الأكل وتناوله وهو سلوك إنساني بيئي ذو أبعاد اجتماعية وثقافية متعددة. ولقد وصف هذا النوع من السلوكيات في السبعينيات وتم تصنيفه على أنه مرض نفسي خاص بالمرأة، وإن كان يصيب أحيانًا قلة نادرة من الرجال.

ما طبيعة هذا السلوك؟.. ولماذا التحكم في الأكل؟.. ولماذا المرأة؟.. ولماذا الآن؟

السلوك نفسه يشمل الامتناع المتعمد عن تناول الطعام الذي يؤدي بدوره إلى درجة عالية من النحافة والتي تعنى بدورها التقليل من دهنية وجنسية وخصوبة الجسد الأنثوي، ويصاحب هذا الامتناع انقطاع الدورة الشهرية للمرأة الذي يرمز للشيء نفسه ولهذا وصف هذا السلوك بأنه محاولة للتخلص أو التطهر من الأنوثة (أو على الأصح الجنوسة) ليصنع للمرأة شكلاً جديدًا يرغم المجتمع أن يرى إنسانيتها بدلاً من جنوستها. فترات التجويع المتعمد هي التي تمثل الظاهرة الأساسية في هذا السلوك وتتناوب في كثير من الأحيان مع فترات تفقد فيها المرأة القدرة على التحكم فيما تتناوله من طعام مما يؤدى إلى الشراهة المفرطة التي قد تؤدى بدورها إلى السمنة وفي هذه الأحيان تحاول المرأة التخلص مما تناولته من طعام عن طريق التقيؤ المتعمد أو أخذ الملينات أو العقاقير التي تفقد الشهية.

يقال أن المرأة الجديدةعندما خرجت للعمل كان مطلوب منها الجمع بين الجاذبية (كأنثى) والإنتاجية (كعاملة) والرعاية وتفضيل الآخرين على نفسها (كزوجة وأم)، والجمع بين هذه الأدوار قد يبدو للبعض ممكنًا ولكن في حقيقة الأمر لا يقدر عليه إلا قلة خاصة وأن الظروف التربوية مازالت تعد الفتيات لأدوار تختلف كثيرًا عما ينتظر منهن.

هذا هو الصراع الديناميكي الذي تعيشه المرأة والذي يجعلها في حالة من عدم الوفاق مع نفسها ومع التوقعات المجتمعية لما ينبغي أن يكون عليه دورها، وتزداد حدة الصراع كلما زادت المسافة بن أجندة المجتمع العلنية وأجندته السرية لما ينبغي أن يكون عليه دور المرأة المجتمعي.

هنا تصبح المرأة في حالة من التذبذب بين الرغبة في أن تقبل مجتمعيًا والرغبة في تحقيق السلام الداخلي لنفسها وينتهي بها الأمر إلى الإحساس بالضعف وقلة الحيلة إزاء البيئة الخارجية قد يقترب أحيانًا من الشعور بالقهر ويصل بالمرأة إلى استخدام الجسد كوسط سهل تشعر أنها مازالت قادرة على التحكم فيه مما يعطيها إحساسا وهميًا بالتحكم بشكل عام.

وهناك من يقول أن هذا السلوك الذي يتدرج في حدته لا يمكن وصفه بالمرضى لعصرنته واندماجه في السلوكيات الطبيعية المقبولة مجتمعيًا، فالرشاقة وترقبها وتتبعها هي مقياس هام لجمال وجاذبية المرأة العصرية تروج لها بيوت الأزياء ووسائل الإعلام الحديثة.

والسلوك نفسه من الممكن أيضًا أن يكون كناية عن كل ما هو مطلوب من هذه المرأة الجديدة، فهي تلعب من خلال هذا السلوك الدور التاريخي المفترض من المرأة عبر العصور وهو السعي للقبول من خلال الشكل الظاهري ولكنه في نفس الوقت ينقل رسائل أخرى مثل القدرة على التحكم وضبط النفس والانجاز في تسخير الجسد لرغبة العقل وفوق كل هذا يرغم عيون المجتمع على الحركة من الأرداف إلى العقول“.. فتصبح المرأة ذات عقل منتجوليست رحماً يعيد الإنتاج” !

وعندما يصبح هذا السلوك أكثر تطرفًا أي مرضيًا يصير نوعًا من التمرد أو الإضراب أو حتى الصراخ عن طريق الجسد!.

هذا النوع من التغيرات الجسدية (الأكلية) كانت تعتبر في الماضي القريب قاصرة على الغرب فقط ولكنها بدأت تظهر في ثقافات وبلدان أخرى مما أعطاها إبعادًا أكثر عمقًا من مجرد كونها سلوكيات متطرفة أو مريضة تخص فقط المرأة الغربية بكل ما تعنيه كلمة الغرب من أنماط وأيضًا من تقدم ورخاء ورقى وفوق هذا كله معاناةتفرضها هذه الحياة المرغوب فيها من فرط الضغوط والتحديات التي تواجه مواطنيها وبالأخص المرأة.

وعلى الرغم من أن السلوك في حد ذاته خاصة في درجات شدته الأكلينيكية يعتبر مرضًا له أعراض وظواهر تنص عليها كتب التشخيص الإرشادية المتعارف عليها دوليًا ويدعو لوجود وحدات علاجية على درجة عالية من التخصص لعلاجه والتحكم فيه. هناك الكثير من الأصوات التي ترى أن تطبيبهذا النوع من السلوكيات والظواهر أمر لا يستند إلى جدلية صحيحة أو مقنعة وبالطبع مازال الجدل والنقاش قائمًا!..

نحن نتعامل هنا مع ظاهرة مجتمعية ذات جذور نفسية والإحصائيات تقول أنها في تزايد وأنها اخترقت الحواجز الطبقية وأيضًا الجغرافية! ظاهرة لم تهم الطب النفسي إلا حديثًا جدًا وبالتحديد خلال الثلاثين عامًا الماضية بينما ذكرت هذه السلوكيات لأول مرة في مجلات البحث الطبية منذ حوالي مائة عام ولقد ذكرت في كل من لندن وباريس في نفس الوقت، الأمر الذي جعل المحللون يرون أن هناك علاقة ما بين الظاهرة وبين الحركات النسوية التي كانت قد بدأت في العاصمتين الأوربيتين في ذلك الوقت.. .

ولقد وصفت الظاهرة حينئذ بنفس صورتها المتعارف عليها الآن – أي إنها رفض متعمد للطعام من جانب المرأة التي غالبًا ما تكون في مقتبل العمر كنوع من الإضراب عن الطعام لإثبات الذات في محيط الأسرة أو المجتمع لدرجة إيجاد علاقة بينها وبين الحركات النسوية في ذلك الوقت.. ألم تفعل المرأة في مصر نفس الشيء لكي تحصل على حقها في التصويت ؟! وماذا عن قديسات القرون الوسطى في إيطاليا؟ ألم يكن الإضراب عن الطعام لواحدة مثل كاثرين فيسينا ترفعا عن ضرورات الجسد وأملا في أن تؤخذ مأخذ الجد من خلال ممارسات صوفية قاسية بهدف الترويض الجسدي الذي يجعل منها أهلاً لمكانة دينية (وسياسية) كبرى في مجتمع كاثوليكي متزمت.. وربما النزاع الذي جرى في الولايات التوسكانية بعد موتها على من له أحقية الحصول على هذا الجسد يشير أيضًا إلى هذا!

ولكن الوصف التاريخي الأول لسلوكيات الأكل لم يعط الظاهرة خصوصية مرضية مستقلة فلقد ظلت لزمن طويل تقريبًا حتى السبعينات من القرن الماضيتعيش في عباءة الهيستيريا مما جعل الباحثون يرون أنه لا يوجد فارق حقيقي بين الهيستيريا وهذا النوع من السلوكيات, فكليهما يستجيب لضغوط نفسية مجتمعية من نوع خاص. في حالة الهيستيريا ينصب الضغط الاجتماعي على سلوك المرأة الجنسي، أما في الآونة الأخيرة فلقد أخذت الضغوط أشكالاً أخرىوإن ظلت جنسية في كثير من مضامينها تنصب على التحكم الظاهري في الجسد كرمز للتحكم العام في إدارة الحياة والقدرة على النجاح والإنجاز، وبهذا تصبح الصورة أكثر وضوحًا, فالديناميكية السيكولوجية في كل الأحوال تظل واحدة. ربما يشعر البعض أن الموضوع ما هو إلا سفسطة علمية أكاديمية بحتة.. لماذا كل هذا الاهتمام بمجموعة من الفتيات يرغبن في النحافة.. أليست الرشاقة أمر مرغوب فيه وشيء جذاب؟

وأعود مرة أخرى لأقول أن الطرح ليس عن سلوك ترفي لبعض الفتيات يتمركز حول الجمال الظاهري أو جذب الانتباه.. فهذه الحالات في تطرفها قد تصل إلى الموت غير مضاعفاتها الصحية الأخرى، والمدى الذي تتمثل عليه هذه السلوكيات يتعدى هذا أيضًا فيشمل الشراهة والبدانة بكل عواقبهما.

ومع هذا فإني أؤكد أن اهتمامى الأول هو التعرض للظاهرة كشكل من أشكال التحكم الجسدي تمارسه المرأة الآن وله صفه التنامي، سلوك وجّه نظرنا بصورة أدق إلى طبيعة الأضطراب النفسي وقابلية السلوكيات العصابية للتشكل والتغير في ظل معطيات مجتمعية جديدة وهو أيضًا الذي وضعنا وجهًا لوجه مع مفهوم الثقافة وتعريف كل من الغرب الشرق؟ (وبالطبع هذا موضوع آخر!)

لفترة طويلة – كانت هناك قناعة سائدة بأن أي أمرأة لا غربيةبعيدة عن أي من الصراعات التي ذكرتها (أرفض هنا استعمال المصطلح الأكثر تداولاً وهو المرأة الشرقيةلأننى ببساطه لا أعرف ما يعني!) فالمرأة اللا غربية توصف بأنها تنعم بحماية مستمدة من تقليدية وركود مجتمعاتها مما أعطاها وقاية ثقافية خصوصيةلهذا النوع من الصراعات الذي أستمر بطبيعة الحال حكرًا على المرأة الغربية فرض عليها بحكم تطورها التعليمي وخروجها للعمل ومواجهتها المتكررة مع المجتمع من أجل الحصول على حقوقها.

ومع ذلك نرى أن هذه السلوكيات قد بدأت تظهر بالفعل في المجتمعات اللا غربية مما يطرح علينا العديد من الأسئلة ويفرض علينا أن نرى الأمور بعمق أكثر. فالجدل الحقيقي يدور حول مفهومي الثقافة والهويةاللذان يمران الآن بأزمة حقيقية في كل المجتمعات تقريبًا، فجميعها يعيش اليوم مرحلة انتقال حرجة.

فما هو السر مثلاً وراء ظهور هذه السلوكيات بين الفتيات السود في جنوب أفريقيا الآن خاصة بعد إلغاء نظام الأبارتيد؟ ولماذا يقولون أن هناك انتشارًا لا مثيل له في الأرجنتين ولماذا الصين وأوروبا الشيوعية أو ما كانت شيوعية؟.. مما جعل البعض يتكلم عن ديكتاتورية السوق التي حلت محل ديكتاتورية الحزب!

هل أصبح الجسد الآن عملة تسوق في الأسواق الحرة؟ وهل هناك علاقة مباشرة بين آليات السوق ونوع التوقعات التي ينتظرها المجتمع من المرأة ومن دورها؟ وهل هذا بدوره يعضد ما سبق وأن قلته بأن سقوط الأنظمة الأشتراكية جاء معه انهيار لكل الأنظمة المساندة على الأقل نظريًاللمرأة ولعملها خارج البيت؟

وإذا كنت استخدمت في هذا الطرح مثال الأكل وسلوكياته كمثل محوري في النقاش فهذا لأن دراساتي البحثية وكتاباتي تدور حول الثقافة وهذه السلوكيات، ولكن يهمني جدًا أن أوضح أن الأمر لا يقتصر بأي حال من الأحوال على الأكل وسلوكياته فقط، فالجسد مازال يملك مفردات أخرى إزاء كل هذه التغيرات الاقتصادية والمجتمعية التي نتحدث عنها.

من الممكن جدًا أن يأخذ الجسد أشكالاً وصورًا أخرى للتعبير عن الهوية المتحيرة بناءًا على نفس التحليلأشكال تختلف عن فعل التخسيس أو الشراهة ولكنها تشترك معه في كونها محاولة للوصول إلى هوية ما تتوافق مع ظروف هذه المجتمعات الانتقالية المليئة بالمتناقضات والمتضادة مع نفسها دائمًا.

فالجسد بشكله ووزنه حاضر ومرئي يعطى رسالة واضحة عما يعترى نفس صاحبته – أو صاحبه ومن هنا يمكن لنا أن نرى أن محاولة التخسيس المفرط هي محاولة من المرأة الصغيرة البقاء في جسد الطفولةتجنبًا للتحديات والتناقضات الاجتماعية التي تواجه المرأة الناضجة، بل أكثر من ذلك هي محاولة اختفاء أو إخفاء للنفس في صدفة الجسدمما يجعل الجسد في حالة من الأختفاء والظهورفي نفس الوقت أي أنه يتعامل مع المشكلة من خلال حل ساخر متناقض مع نفسه شبيها بكل المتناقضات التي من حوله!.. نوع من التمرد المقبول اجتماعيًا ينم عن سلوك أنثوى مهموم بالشكل كما تعود المجتمع تقليديًا من المرأة ولكنه يتضمن رسالة عصرية أكثر عمقًا وتعقيدًا.

ومن هنا نأتي إلى نوع آخر من التمرد الجسدي الذي ظهر بكثرة في مجتمعاتنا بين الفتيات وزاد انتشاره مؤخرًا ضمن الجاليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا وهو ارتداء الحجاب اختياريًا.. مع أن هذا الخيار لم يكن مطروحًا مثلاً في زمن المجتمع الذي تربيت فيه! تستعرض ايرين ماكلويد الأسباب السياسية والاجتماعية في مصر والتي جعلت الفتيات يقدمن على هذا الاختيار، ولقد ترجم كتابها إلى العربية تحت عنوان التمرد الهاديء” !..

هذا النوع من تطويع الجسد أخذ بعدًا آخر له عمق عقائدی وسیاسي واقتصادي.. تشكلا مظهريًا ذي صبغة دينية خاصة تحقق شيء من المرجعية المتخيلة عن الذات ومقبولة من ثقافة بلد أو بلدان تعيش حالة من المد الديني.. أمر ربما يشبه حال بعض قديسات القرون الوسطى.. وهو أيضًا بحكم طبيعته نوع من اللا ظهور الظاهرالذي يتعامل مع جنسية الجسد ودرجة صاحبته التحكم فيه.. هو نوع من المصالحة أو محاولة المصالحة بين رسائل المجتمع المتناقضة التي تطلب من المرأة تقدمًا عصريًا بشرط أن يظل هذا في أطر تقليدية. فالهوية الجديدة التي تحققها المرأة اليوم بلغة الجسد لابد أن تجمع بين المحلية والعالمية.. بين القبلية والكونية.. بين الحديث والتقليدي.. ولهذا كان لابد لها أن تتحلى باكسسوارت تاريخية تضفى على الصورة الجسدية الجديدة شعورًا قوميًا أو حتى وطنيًا.

أتمنى أن أكون قد نجحت لحد ما في شرح هذه العلاقة المحيرة بين الجسد والهوية والمتغيرات الثقافية.. . ولكن الهدف في الحقيقة ليس فقط إيجاد علاقة بين هذه المتغيرات ولكن اكتساب شيء من البصيرة عن ما يعنيه كل هذا وما يمكن لنا أن نفعله الآن.

لماذا لا تجد المرأة في المجتمعات الانتقالية غير لغة الجسد للتعبير عن قلقها وتخبطها النفسي؟ هل من الممكن أن نعينها على التسلح بلغة التواصل والممارسة الفعالة في أعادة تشكيل مجتمعها الانتقالي بدلاً من إعادة تشكيل جسدها؟

 

* أستاذه وأستشارية الطب النفس بجامعة لندن

For reference and bibliography:

Nasser M, (1997) Culture and Weight Consciousness, Routledge/ London New York.

Nasser M, Katzman M, Gordon R(2001) Eating Disorders and Cultures in Transition, Routledge. London /New York.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي