سير النساء والهوية الثقافية: نموذج عائشة

التصنيفات: غير مصنف

سير النساء والهوية الثقافية: نموذج عائشة

مدخل

تحتل التصورات السائدة عن المرأة، في المجتمعات العربية، مكاناً هاماً وسط الجدل السياسي الدائر حول الهوية الثقافية، حول العلاقة بين الشرق والغرب.. حول التراث والمعاصرة وحول الخصوصية الثقافية والعالمية. إذا ركزنا على الوضع في مصر، نجد أن قضية الهوية الثقافية للمصريين، كانت من أبرز القضايا إثارة للجدل، تحديداً في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي تزامنا مع فترة النهضة الحديثة. فقضية الهوية الثقافية هي وجه آخر لقضايا الأصالة والمعاصرة، والخصوصية والعالمية، أي أنها مرتبطة بالمأزق الحضاري الذي حدث نتيجة تبنى المجتمع المصري قيم ومظاهر الحضارة الغربية؛ بهدف الدخول السريع في العصر الحديث. كان السؤال ومازال هو: كيف نأخذ بسبل العلم والتقدم (المستوردة) دون أن نفقد هويتنا؟. أو كيف نحافظ على خصوصيتنا الثقافية، ونتجنب الانصهار في بوتقة الثقافة الغربية التي تقدم نموذجاً باهراً للتطور والرقي؟. ومن المعروف، أن هذا المأزق أفرز مواقف متباينة، بعضها يتسم بالمبالغة والتطرف، والبعض الآخر ينحو إلى شيء من الموضوعية، وترجمت هذه المواقف إلى تيارات سياسية وفكرية.

والمهم في هذا الصدد أن هذه القضايا تتشابك وتظهر باستمرار في معظم المناقشات المرتبطة بالنهوض بوضع المرأة. فلقد وقع على عاتق المرأة العربية عبء القيام بدور حامية الهوية الثقافية العربية إلى أن أصبحت رمزاً لها، وأصبح وضعها في المجتمع رهنًا بالتعريفات السائدة للهوية، أو لما تمثله تلك الهوية للإنسان العربي المعاصر. إن عملية تنصيب المرأة ممثلة للهوية الثقافية، ليست حكراً على المجتمعات العربية، وإنما هي سمة من سمات مجتمعات أخرى، عانت من نير الاستعمار، ومن سنوات من الهجمات على ثقافتها.

ولقد اجتهد مفكرو النهضة، في تحديد معالم الهوية الثقافية المصرية. طه حسين كتب مستقبل الثقافة في مصر؛ ليجيب عن سؤال: ما هى جذور مصر الثقافية؟. “أمصر من الشرق أم من الغرب؟. (أي) الشرق الثقافي والغرب الثقافي(١)، وينتهى إلى نتيجة، أن مصر تنتمى إلى ثقافة الغرب والبحر المتوسط، ما يستوقفني في كتاب طه حسين هو تعريفه الصارم لمفهوم الثقافة؛ فهو يستخدم مصطلحي ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وكأنهما يدلان على كتلة جامدة من العناصر المتسقة كل الاتساق، ومن ثم يسهل فهم التناحر الحتمى بينهما. يستوقفني أيضًا – اقتناعه التام بتفوق ثقافة الغرب، واهتمامه بارتباط الثقافة المصرية بها. أما زكى نجيب محمود، فيبدأ بمقولة إن هنالك شيئًا اسمه ثقافة عربية، وإن هذا الاسم المطلق العام، إنما هو اسم يشير إلى مجموعة من ثقافات إقليمية، تشترك كلها في جوهر مشترك – ثم تعود فيتميز بعضها عن بعض (٢).

ولكن، كيف نفهم دلالات الهوية الثقافية؟. هل لها عناصر محددة أو ماهية معروفة؟. هل هي مجموعة قيم وتقاليد ومعتقدات مشتركة لا تتغير، وتنسحب على الجميع؟. يحدد رايموند ويليامز Raymond Williams ثلاثة معان حديثة تستخدم فيها (كلمة الثقافة)، وهي وثيقة الصلة بعضها ببعض: “عملية تنمية عامة، فكرية روحية وجمالية…. أسلوب حياة معين لشعب أو الحقبة أو لجماعة بشريةأعمال وممارسات النشاط الفكرى، لا سيما النشاط الفني (3). وإذا انطلقنا من تعريف ويليامز، هل تغير هذا الأسلوب مع تغير الزمن التاريخي؟. هل هذا يعنى أن الثقافة أو الهوية الثقافية تتطور، أو تتغير بتغير الزمان والمكان؟. كيف نتحدث إذن عن نمط ثقافي واحد ومحدد؟. ومن له الحق في التحدث عن الهوية الثقافية؟. هل حدث أن استأثرت مجموعة ما بالحديث عن الهوية الثقافية نيابة عن مجموعات أخرى؟. هل أدى ذلك إلى طمس تعبيرات مغايرة عن الهوية الثقافية؟. هل معالم هويتنا، أو هويتي الثقافية محددة مسبقاً، ووجب على أن أتبناها دون نقاش؟. هل من المجدى الحديث عن ثقافات متعددة، وهويات متعددة؟.

مما لا شك فيه، أنه سادت لفترات طويلة تعريفات جوهرية essentialist للهوية الثقافية، حولتها إلى كتلة صماء غير قابلة للتغير، أو التحرك. ولقد اتسمت معظم كتابات رواد النهضة بهذا الاتجاه الجوهري في تعريفهم الهوية. ويستمر هذا الاتجاه في كثير من الكتابات، إلى يومنا هذا. يتشابك مفهوم الهوية الثقافية، ويلتقى مع مفهوم الهوية القومية الذي ساد في الستينيات، وصاحب حركات التحرر من الاستعمار في دول العالم الثالث. ومن الجدير بالذكر، أن مفهوم الهوية القومية في سياق بدايات حركات التحرر من الاستعمار، كان مصدراً هاماً للقوة، وتوحيد الصفوف وتحديد القضية؛ لأن في هذه اللحظة التاريخية، كان التأكيد على تميز الهوية القومية مصدراً هاماً للقوة في مواجهة الاستعمار. ولكن، في لحظات تاريخية، لاحقة تحول مفهوم الهوية القومية إلى شعار أجوف وأسيء استخدامه إلى أبعد الحدود؛ بحيث يمكننا القول إنه أصبح مصطلحًا سيئ السمعة (٤). لقد استخدمت مصطلحات الهوية الثقافية، والهوية القومية، والخصوصية الثقافية، في مراحل متعددة؛ لتخريب مجهودات النساء في الحصول على حقوقهن: لإحباط محاولات تعديل قوانين الأحوال الشخصية، في بداية القرن ومنتصف الثمانينيات في مصر، ولحرمان النساء الجزائريات من الحصول على مطالبهن بعد الاستقلال، وللامتناع عن التصديق على اتفاقيات دولية تلزم الحكومات باتخاذ إجراءات من شأنها تحسين وضع المرأة. والأمثلة كثيرة.

وكما شغل رواد النهضة بموضوع الهوية، يستمر الجدل حول معانيها ومعطياتها إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من بعض المغالطات والرتابة التي يتسم بها هذا الجدل، في كثير من الأحيان، إلا أنه في واقع الأمر سيظل حياً وهاماً، في ظل علاقات القوة غير المتوازنة، التي تسود العالم في نهاية القرن العشرين. وتركز هذه الورقة على العلاقة بين القوة والمعرفة. أو بعبارة أدق، بين القوة وخطابات متباينة عن الهوية، مقدمة على أنها حقائق معرفية. فلقد كان نتيجة التوزيع غير المتكافئ للثروات، وعلاقات القوة غير المتوازنة بين شعوب العالم، أن تنامي لدى مجتمعات العالم الثالث شعور بعدم الثقة في إمكان حصولهم يوماً ما على المزايا الموعودة في الأنظمة الليبرالية، التي تتغنى بالديمقراطية وتكافؤ الفرص. والقراءة المتأنية لمعطيات الساحة العالمية توحى بأن الأغنياء سوف يزدادون غنى، وأن الفقراء سوف يزدادون فقراً، وأن المثل الإنسانية العالمية لن تطول الجميع، بل هي مخصصة لأقلية متميزة، سوف يكون لها السطوة والقدرة على التأثير على العالم. ومن القدرات التي سوف تميز تلك الأقلية القدرة على إنتاج وتشكيل تعريفات عن الهوية، أى القدرة على تحديد معالم ومعطيات الهوية؛ استناداً إما إلى اللون وإما إلى الجنسية وإما إلى النوع الجنسى وإما إلى العرقى وإما حتى إلى جواز السفر الذي يحمله شخص ما. هذه المعطيات أو التعريفات قد تترتب عليها مواقف شتي، فالهوية العربية قد يترتب عليها في لحظة تاريخية معينة، تحرش أمني في المطارات الأمريكية والأوروبية، وقد تؤدى أيضًا – إلى الحرمان من المعلومات، أو من أبسط قواعد حقوق الإنسان.

ونظراً إلى أهمية مفهومي الهوية الثقافية والقومية، ونظراً – أيضاً إلى خطورة توظيفهما سياسياً، أصبحا محل بحث وتحليل، وبالتالي توجد كتابات ثرية جداً في هذا الموضوع لا مجال لمناقشتها في هذا السياق، وأكتفي بقول إنني لا يعنيني كثيراً الوصول إلى تعريف محدد للهوية الثقافية؛ لأن اهتمامي ينصب على تحليل التصورات الموجودة بالفعل عن الهوية، ثم مناقشة إمكانات المشاركة في إنتاج تصورات أخرى. وسوف أتطرق بتفصيل أكثر إلى هذا الموضوع في نهاية الورقة، ضمن مناقشة مفهوم سياسات الهوية.

باعتباري امرأة مصرية عربية مسلمة، تهمنى وتؤرقنى النماذج النمطية المنحازة، والرائجة عن المرأة العربية داخل وخارج البلاد العربية. وباعتبارى باحثة معنية بقضايا المرأة، مهتمة بإحياء ونشر الدور الفعال الذي لعبته المرأة في التاريخ العربي؛ بهدف التصدي للافتراضات السائدة عن أدوار المرأة التقليدية، في الماضى، أجدني معنية بالمشاركة في محاولات نقد وتشكيل التصورات الثقافية. إن تسليط الضوء على إسهامات النساء العربيات عبر التاريخ، وإعادة النظر في بعض الافتراضات، التي تحدد مواقفنا من التاريخ، سوف تؤدى إلى دحض نوعين من الأفكار المسبقة عن غياب المرأة العربية من الحياة العامة، وأيضاً عن ضعفها، أو قلة حيلتها في مواجهة سلطة الرجل القاهرة. وتصدر أول مجموعة من الأفكار المسبقة من الداخل من قبل قوى رجعية، تسعى إلى التقليل من شأن النساء، وتهميش مساهماتهن؛ بهدف الإبقاء على العلاقات غير المتوازنة في المجتمع بشكل عام. أما المجموعة الثانية من الأفكار المسبقة فمصدرها قوى رجعية أخرى تقبع خارج البلدان العربية، فتروج نماذج نمطية عن نساء عربيات يعانين من القهر والتخلف، وذلك كله من أجل خلق أسباب تبرر التدخل في شؤون تلك الدول المتخلفة“.

ومن المجهودات الثقافية التي تدخل في نطاق المشاركة في تشكيل تصورات بديلة تتمثل في إفساح مساحة التركيز على تجارب النساء وإنجازاتهن، من خلال السرد القصصي لحياتهن، كما تتجلى في السير الذاتية والسير الغيرية. إن كتابة سير النساء، واستعادة سيرهن الذاتية، كانت بمثابة حجر الأساس في سياق حركة كتابة التاريخ النسائي في المجتمعات الغربية، وبعض المجتمعات الآسيوية، في العقد الماضي. وإذا افترضنا أن هناك حاجة ملحة لاستعادة واسترجاع تاريخ النساء العربيات المغيب، وأن إحدى السبل الممكنة هو كتابة السير، يتعين علينا قبل الخوض في هذا المضمار أن نحترس من ارتكاب خطأ الحديث باسم جميع النساء العربيات (من هى المرأة العربية)، وخطأ افتراض وجود تعريفات واضحة وصريحة، لما نعنيه عند الحديث عن المرأة العربية. ويصبح السؤال: كيف نشرع في تشكيل صور بديلة للمرأة العربية، دون الانزلاق في فخ التفكير الجوهري essentialist فندعى الحديث باسم المرأة العربية الحقيقية، أو ندعى استرجاع هويتها الثقافية الأصيلة، المسكوت عنها في الخطاب الذكوري (5). علينا الانتباه لنوعين من المحاذير، عند استخدام مصطلح المرأة العربية. كلاهما متعلق بقضايا الهوية. الأول سببه سوء استخدام مصطلح الهوية الثقافية في العالم العربي المعاصر: فلقد تحول مفهوم الهوية الثقافية الذي ساد مجتمعات ما بعد الاستعمار. خاصة في الخمسينيات والستينيات، إلى أداة لقمع وإسكات الأصوات المعارضة التي تصدت للنخب الحاكمة. ومن ثم، اكتسب مصطلح الهوية الثقافية طابعاً سياسياً جعله غاية في الخطورة، قابلاً لتأويلات متضادة، حاملاً لمعان وإيحاءات معظمها مكبل للحريات، خاصة بالنسبة للمرأة.

أما النوع الثاني من المحاذير، فيتعلق بالنظرية النسائية للمعرفة. فلقد أدت مجهودات إعادة النظر، والتفكير في إنجازات حركة كتابة التاريخ النسائي، إلى لفت الانتباه إلى مخاطر التركيز المتزايد على تجارب النساء باعتبارها تعبيراً حقيقياً عن هويتهن كنساء. بعبارة أخرى، إن تصنيف المرأة، كفئة أو كمجموعة واضحة المعالم ومتوافقة المصالح، يثير تساؤلات عديدة حول الاختلافات الملحوظة بين النساء، والتي تنم عن تباين واختلاف في المصالح والتطلعات، ومن ثم يشكك في شرعية التحدث باسم النساء جميعاً.

سوف أحاول في هذه الورقة تحليل وفهم التوظيف السياسي لسير النساء الذي يهدف إلى تحديد معالم الهوية الثقافية لمجتمع في سياق ما بعد الاستعمار، أى فهم كيف تتحول كتابة سيرة امرأة عربية، إلى ساحة من الصراعات السياسية حول قضايا الهوية. ثم، سوف أستكشف إمكانات ومشاكل كتابة سير نساء، أو استعادة سير ذاتية لنساء؛ باعتبار ذلك مشروعًا هامًا للباحثات المهتمات بقضايا المرأة، والمعنيات بالمساهمة في إنتاج معرفة ثقافية تاريخية تعضد من شأن النساء، وتمكنهن من المشاركة بفاعلية أعلى في تشكيل وصياغة المفاهيم في مجتمعاتهن. ولقد اخترت بعض الكتابات عن حياة عائشة بنت أبي بكر، نماذج للتحليل. وأخيراً، سوف أحاول تعريف بعض المفاهيم المستخدمة في الورقة، مثل الهوية الثقافية، والهوية القومية، وسياسات الهوية identity politics ؛ وذلك لتقديم وجهة نظر؛ تذهب إلى ضرورة الشروع، في صياغة وتشكيل تصورات نسائية عن الهوية الثقافية.

إن اهتمامي بسير النساء هو في واقع الأمر تعبير عن محاولة للمشاركة في تشكيل تصورات ثقافية مكملة أو مضاهية أو متناقضة، مع الصور السائدة التي تؤثر على الوجدان الجماعي، بل توجه مساره، وتحدد تطلعاته. وبداية، ما العلاقة بين سير النساء، وعملية تشكيل التصورات الثقافية في المجتمع؟. إن هذا الطرح لمشروع إعادة كتابة سير النساء العربيات مبنى على بعض الافتراضات النظرية والتطبيقية، أولاً: إن كتابة السير تلعب دوراً قد يكون مباشرًا أو غير مباشر في تعريف معالم الذات، وتحديد علاقاتها بالعالم الخارجي، ووفقاً لهذا المعنى، تصبح كتابة السير في مراحل تاريخية معينة، مؤشرًا دالاً لاتجاهات اجتماعية سائدة في هذا الوقت، تسعى إلى تشكيل الهويات، وتوجيه التطلعات، ورسم أسلوب الحياة المرغوب فيه.

ثانياً: إن السير بصفة عامة تعتبر من العناصر الأساسية في التأريخ لحقبة زمنية.

ثالثاً: أنه قد تم تهميش دور النساء، في السجلات التاريخية في معظم مناطق العالم، ومن بينها المنطقة العربية.

رابعاً: ونتيجة لما تقدم، أصبح هدف إعادة كتابة التاريخ من منظور يأخذ في الاعتبار مساهمة النساء هدفاً للباحثين والباحثات المهتمين بوضع المرأة في المجتمع، وتحولت كتابة واستعادة سير النساء، من أهم السبل المطروقة، لاكتشاف إسهامات النساء والتعريف بها، وإعادة صياغتها، في سياق الإطار العام. وفي سياق دراسة عن نوعية الأبحاث الأمريكية، التي أجريت عن تاريخ النساء الأمريكيات، وجدت جيردا ليرنر اهتماماً شديداً بسير النساء؛ كوسيلة لسماع صوت النساء المغيب في الوثائق التاريخية الرسمية (٦). ومن المعروف أن المؤرخين الغربيين بصفة خاصة لم يعتبروا السير مصدراً موثوقاً فيه للمعلومات التاريخية الموضوعية، واستمر هذا الموقف حتى منتصف القرن العشرين، عندما ظهرت نظريات حديثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، تشكك في مفهوم الموضوعية، وتعيد تقييم منطلقات المؤرخين الموضوعيين، لتسلط الضوء على انحيازاتهم وتوجهاتهم. وفي هذه المرحلة، اتجه المؤرخون الجدد إلى البحث عن مصادر ليست تقليدية، للحصول على معلومات تاريخية، وكانت السير من أهم تلك المصادر.

خامساً: إن عملية تشكيل الصور التاريخية، من خلال كتابة السير هي بمثابة فعل مقصود يحاول تشكيل الذاكرة الاجتماعية(٧). بالإضافة إلى ذلك، فإن جميع العمليات الاحتفالية التذكيرية، أو التي من شأنها التذكير بشخصية ما، أو فترة ما، أو حدث ما، تنطوي على منظومة من القيم أو التقديرات، التي تؤسس لما يجب أن تحتويه المخيلة الاجتماعية(۸). ومن ثم، فإن السير التي تذكر بشخصية ما، أو بمجموعة معينة في المجتمع، تصبح مؤشراً هاماً لما يراه هذا المجتمع جديراً بالحفظ، أو بعبارة أدق، لما تراه النخبة المسيطرة في هذا المجتمع جديراً بالحفظ. وبالتالي، فإن كتابة سير شخصيات بعينها، من شأنه أن يثير تساؤلات حول اختيار الموضوع. وأيضاً حول هدف كاتبة السيرة. على سبيل المثال، وبالتحديد في السياق المصري في سنة ۱۹۹۰، نجد أن هناك دلالات مختلفة، لاختيار شخصية نسائية من التاريخ الإسلامي، أو اختيار نموذج لامرأة عاملة معاصرة، موضوعًا للسيرة. إن كتابة سيرة شخصية تاريخية إسلامية، قد يعنى منازعة الخطاب السائد الذي يقرر المغزى المنشود من هذه السيرة. أما كتابة سيرة امرأة عاملة، فقد يؤخذ على أنه محاولة للتصدى للنماذج النمطية السائدة عن نساء الطبقات المتوسطة القاعدات عن العمل.

سادساً: إن في فترات الأزمات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العارمة تصبح السير منطقة منازعات، أو محلاً للصراعات، حول تحديد القيم والمعاني الاجتماعية المتغيرة. ففي سنة ۱۹۹٥، في مصر، بدأت الدولة مشروعاً ضخماً لتكريم رواد التنوير بواسطة إعادة نشر أعمالهم، وتسليط الضوء على حياتهم وإنجازاتهم، من خلال المؤتمرات والندوات والمطبوعات الرخيصة الثمن. وأثار هذا المشروع جدالاً ساخناً في الأوساط الثقافية المصرية، لأسباب لا محل لذكرها هنا. المهم أن هذا المشروع التذكيري، أي الذي يقوم بإحياء جانب من ذاكرة التاريخ المصري، تم تفسيره من جانب الاتجاه الديني المحافظ، على أنه محاولة من قبل الدولة لتقويض الفكر الديني، بالاحتفاء بالتنويريين الذين يراهم الاتجاه الديني المحافظ دعاة للعلمانية المصرية.

سابعاً: ومع اعتبار أن مقولة السير محل للصراع في فترات التغيير الاجتماعي، تنطبق بوجه عام على سير النساء والرجال، فإنه من المتوقع في الوقت الراهن، أن تكون سير النساء محلاً للتنازع والجدل أكثر من سير الرجال. ولتفسير وفهم هذا الطرح، وجبت الإشارة إلى العلاقة المعقدة والمتأزمة، بين قضايا القومية وهوية النساء. وأبدأ بسؤال صاغته الناقدة الهندية، رادها كريشنان Radhakrishnan : “ما السبب وراء ما نلحظه، من أن المضي في قضايا القومية، يترتب عليه خضوع أو ضمور قضايا المرأة؟ (٩). يرى بارثا تشاترجی، Partha Chatterjee أن السبب وراء هذه الملحوظة، يتعلق بخصوصية القوميات المناهضة للاستعمار، مقارنة بنماذج القوميات الأوروبية على وجه التحديد. ويذهب تشارتجي، إلى أن القوميات المناهضة للاستعمار قسمت العالم إلى مجالين: “المجال المادى والمجال الروحاني“. أما المجال المادي، فيشمل كل ما يتعلق بالفضاء الخارجى من اقتصاد وشئون الدولة والعلم والتكنولوجيا، وهو مجال أثبت الغرب تفوقه فيه، وانهزم الشرقأما المجال الروحاني، فهو مرتبط بالفضاء الداخلى، ويحتوى على المعالم الجوهرية للهوية الثقافية (١٠)، ويقع مركز هذا المجال، في البيت وتجسده المرأة. ويرى تشاترتجى أن هذه المعادلة المبنية على أساس انتقائي إيديولوجي(11)، هي سمة من سمات الحركات القومية المناهضة للاستعمار، وتعبير حي عن علاقاتها بالحداثة، ووفقًا لهذه المعادلة تصبح المرأة رمزاً للهوية القومية، وينتهى أى حديث عن مشاكل المرأة وقضاياها، إلى صراع حول مفهوم الهوية ودلالاته.

تصورات عن حياة عائشة بنت أبي بكر

بداية، لماذا عائشة؟. إن اختياري سيرة عائشة نموذجاً في سياق دراسة معنية بتحليل خطابات ثقافية، تسعى إلى تشكيل الهوية الثقافية لمجتمع ما، بواسطة تعريف ماهية الأنوثة ومغزاها في تحديد علاقة المرأة بالمجتمع، من خلال كتابة سيرة امرأة، ليس اختياراً عشوائياً. أولاً: تنتمى عائشة إلى الماضى الإسلامي. وبالنسبة للهوية الثقافية العربية، يمكننا القول بأن العنصر الإسلامي هو العنصر السائد.

ثانياً: يوجد تراث ثرى جداً من سير وأخبار النساء في التاريخ العربي الإسلامي، هذه الملاحظة صحيحة من الناحية الكمية، خاصة فيما يتعلق بالسنين الأولى لظهور الإسلام. فكما اهتم الفقهاء والمؤرخون العرب بتدوين أدق الدقائق في حياة الرسول للاحتفاظ بها للاسترشاد وتوجيه النصائح للأجيال المقبلة، ولتكملة أو إلقاء الضوء على أحكام القرآن، اهتموا أيضًا بالحفاظ على سير وأعمال المحيطين بالرسول، من الصحابة والصحابيات. ويتزايد هذا الاهتمام بسير الصحابي عند المذهب السنى مقارنة بالمذاهب الأخرى. ومن ثم نجد أن اهتمام العرب بالتراجم والسير، مرتبط إلى حد كبير بهدف ديني، وهو الحفاظ على الأحاديث النبوية، والتأكد من تتبع السند، مما استدعى وجود اهتمام شديد بالتدقيق في سير رواة الأحاديث. ومن هنا يصبح الاهتمام بحياة المحيطين بالرسول، جزءاً هاماً من البحث الفقهي (۱۲). ولقد حظيت زوجات الرسول بقدر كبير من الاهتمام بحكم قربهن من الرسول، ودرايتهن بأدق تفاصيل حياته، مما جعل بعضهن حججا، في رواية الأحاديث وفي تصحيح المعلومات.

ثالثاً: تنتمى عائشة أيضًا – إلى الزمن المثالى في المخيلة العربية، زمن الرسول والصحابة، زمن التضحيات والمثل العليا. وأصبح المسلمون يتطلعون إلى هذه الفترة للاسترشاد، واعتبروها مرجعاً هاماً في توجيه حياة المسلمين على مر العصور. ومع تدهور المجتمعات الإسلامية، وانحسار المد العربي الإسلامي، أصبحت هذه الفترة بمثابة العصر الذهبي، في التاريخ الإسلامي. والآن، في القرن العشرين، مازال يمثل هذا العصر بالنسبة إلى المخيلة الجماعية، رمزاً للزمن الجميل الذى يتطلع إليه الكثيرون بحنين، باعتباره الملاذ من الزمن الردىء. ومن ثم، نستطيع فهم الاهتمام بسير نساء هذا العصر. وبالرجوع إلى دراسة كمية عن أعداد النساء، اللاتى يرد ذكرهن في التراجم العربية في عصور مختلفة، نكتشف أن العدد الأكبر من النساء يرد ذكره في التراجم الأولى، أو التراجم التي كتبت في القرون الأولى في الإسلام، ثم ينخفض عدد النساء المذكورات في التراجم بالتدريج إلى أن نصل إلى أواخر القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى ذلك، تحتوى التراجم المكتوبة في القرن العشرين، على نسبة عالية من النساء اللاتى ينتمين إلى العصور الإسلامية الأولى (۱۳).

عائشة هي الزوجة الثانية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهي أيضًا – ابنة أبي بكر الصديق، أول رجل يدخل في الإسلام، وهو الصديق الوفي وأول الخلفاء الراشدين. تزوجت عائشة، وهى في التاسعة من عمرها، في السنة الأولى الهجرية، وتمتعت بمكانة خاصة عند الرسول. في السنة الخامسة من الهجرة، تعرضت لمحنة عصيبة؛ حين اتهمت في شرفها، ثم برأتها السماء، وعرفت هذه الواقعة بمحنة الإفك. توفي الرسول، وهى في الثامنة عشرة من عمرها، في السنة الحادية عشرة هجرية، وعاشت هي حتى سن السادسة والستين، أي ثمانية وأربعين عاماً بعد وفاة الرسول. قادت الجيوش ضد على بن أبي طالب، سنة ٣٦ هجرية في موقعة الجمل. وبعد هزيمتها انسحبت من الحياة السياسية، وأصبحت المرجع الأول في الحديث والسنة.

عاشت عائشة في الزمن المثالى، في المخيلة العربية، وارتبطت حياتها بالرسول، مما قد يجعلنا نتوقع تراثا من التعظيم والتبجيل. إلا أننا نكتشف أن سيرة عائشة كانت مصدر جدال واختلاف حاميين. ينقسم تراث السير المكتوبة عن عائشة، إلى قسمين أساسيين. القسم الأول: مكتوب من وجهة نظر المذهب السني، والقسم الثاني: من وجهة نظر المذهب الشيعي. في السياق الشيعي، تتحمل عائشة، مثلها مثل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وزر اغتصاب الخلافة، من على بن أبي طالب، بل يزيد عليها ذنب محاربتها علياً في معركة الجمل، وتورطها في الحرب الأهلية الأولى للمسلمين. ومن هذا المنطلق، لا تعتبر عائشة قدوة لنساء المسلمين، ويرد ذكرها فقط من باب التأكيد على اختلافها عن فاطمة مثلاً؛ باعتبارها رمز المرأة المسلمة الفاضلة، وهذا أمر يصعب على من تربوا على المنهج السنى، فهمه أو استيعابه؛ لما تعودوا عليه من تبجيل وتكريم لكل زوجات الرسول والصحابة. أما في سياق المذهب السني، فتشكل سيرة عائشة مشكلة. فبالرغم من مكانتها وخصوصية علاقتها بالرسول الذي قال: “خذوا نصف دينكم من تلك الحميراء، فإن دورها في معركة الجمل، وانخراطها في الحياة السياسية لم يتفق مع بعض أفكار الفقهاء، عن دور المرأة وعن علاقتها بالحياة العامة، كان على فقهاء السنة أيضًا – التعامل مع الهجوم الشيعي على عائشة؛ مما أدى إلى محاولات مستميتة لنفي التهم الموجهة إليها. وبصفة عامة، كان موقف الكثيرين من فقهاء السنة من عائشة إيجابياً. أما البعض منهم، فقد أبدوا بعض التحفظات، واعتبروها مثالاً يحتذى به، طالما هي التزمت بالمهام المتوقعة من المرأة. أما عندما تخطت حدود المفروض، وانشغلت بما لا شاغل لها به، فقد وقعت في أخطاء كثيرة (١٤).

هناك علاقة وثيقة بين الفقه والسيرة في التراث الإسلامي، بين التعاليم الدينية وحياة الصحابة والصحابيات. والسير عموماً – تشكل جزءاً هاماً من الذاكرة الجماعية، وتقدم نماذج وتجارب مختلفة من البشر، للعبرة والاستدلال. وكما ذكرنا، تختلف سير صحابة كبار، من أمثال أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، في كتابات السنة والشيعة؛ أي أن السير ومدلولها التاريخي والقيمي، يختلف باختلاف التيار الفكري أو السياسي أو المذهبي.

ولكن في حين أن سيرة الرجل تقدم تجربة بشرية متميزة في سياق الإطار القيمي والسياسي لحضارة ما، فإن سيرة المرأة (وسيرة عائشة تعتبر نموذجاً حياً) تستخدم لإصدار الأحكام على جنس النساء، وعلى شكل مساهمتهم في الحياة.

فكل كاتبي سيرة عائشة، لهم رأى وموقف محدد من النساء، ومن دورهن في الحياة. وحياة عائشة غنية وممتلئة بالقدر الذي يسمح بوجود أحداث ومواقف مختلفة؛ للتدليل على وجهات نظر متباينة. فإذا كان موقف كاتب السيرة، أن على النساء أن يقبعن في منازلهن، فسوف يرى أن دور عائشة في الحرب ضد على بن أبي طالب، هو أبلغ مثال على عدم قدرة المرأة على خوض الحياة السياسية. أما إذا رأى أن على النساء المشاركة في الحياة السياسية، فسوف يجد أمثلة كثيرة تعزز من موقفها، وتعلى من شأن ذكائها وحنكتها السياسية.

سأرکز اهتمامي على كتابات من القرن العشرين، تمثل تنوعات من خطابات الحداثة: “الصديقة بنت الصديقلعباس محمود العقاد (۱۹٤۳)، نساء النبيلعائشة عبد الرحمن (۱۹۷۹)، الحريم السياسيلفاطمة المرنيسي (۱۹۸۷، وصدرت الترجمة باللغة العربية 1993)

Nabia Abbott، Aishah: The Beloved of Mohammed (1942); “The. Mothers of the Believers: Stereotypes of the Prophet’s Muhammed’s (15) Wives” (1995) by Ghassan Ascha.

وعلى الرغم من أن هذه الاختيارات تقع ضمن تراث طويل ومعتد من الكتابة عن عائشة، فإنها تشترك جميعها، في أنها كتبت في القرن العشرين ضمن خطاب حداثي متنام وفي ظل الآثار المترتبة على سيطرة الاستعمار، وفي سياق ثقافي واجتماعی وسیاسی مهموم بمسألة المرأة (أو بدور المرأة في المجتمع)، وبعلاقة مسألة المرأة بالهوية الثقافية للمجتمعات العربية.

كتبت نبية أبوت أول سيرة كاملة عن عائشة باللغة الإنجليزية. وتقول الكاتبة في المقدمة، إنها تعتبر عملها هذا، بمثابة هدية تقدير للنساء المسلمات في القرن العشرين، المهتمات بالبحث عن أمثلة، لنساء عظيمات في تاريخهن. وتتعامل أبوت مع عائشة، على أنها شخصية سياسية من الدرجة الأولى. فهي تعتبر كل التفسيرات المقدمة، عن علاقات زوجات الرسول بعضهن ببعض، وعن تفاصيل حياتهن مع الرسول التي ترد في كتب السيرة امتداداً أو تعبيراً مبكراً عن الصراعات السياسية التي حدثت بعد موت الرسول. فمثلاً، تقول أبوت: إن بيت الرسول كان منقسمًا إلى حزبين متصارعين (١٦). الحزب الأول، كانت تقوده عائشة، وكان يضم حفصة ابنة عمر، وفي مواجهتهن، وقفت فاطمة بنت الرسول وأخريات. المهم أن هذه التقسيمات توازي الانقسامات التي حدثت لاحقاً بين المسلمين؛ بحيث اتحد أبو بكر وعمر، في مواجهة على وفاطمة. وبالنسبة إلى أبوت، فكل الأحداث في بيت الرسول، مرتبطة بصراعات القوى بين أطراف متناحرة. وتستكمل سيرة عائشة، وتركز على دورها السياسي والفقهي، بعد وفاة الرسول. كما تركز أيضًا – على فكرة أن عائشة، مثلها مثل بقية رواة الحديث، استخدمت الأحاديث سلاحاً سياسياً؛ لإضفاء الشرعية على اتجاهات دون الأخرى.

وبصفة عامة، فإن تصور نبية أبوت لسيرة عائشة، يبين أن لا علاقة بينها، وبين النموذج النمطي الحديث، للنساء المسلمات القابعات في منازلهن، ويبرز دور عائشة في الحياة العامة. أما بالنسبة إلى إصرارها على إيجاد تفسيرات سياسية، لكل التفاصيل اليومية في حياة عائشة، وأغراض وتطلعات سياسية، وراء الأفعال بل والنيات، يؤدى إلى التقاء خطاب أبوت، مع الخطاب الاستشراقي، الذي يتعامل مع الإسلام على أنه حركة سياسية، وليس رسالة سماوية.

في كتابها نساء النبي، تصف بنت الشاطئ عائشة، بأنها حبيبة المصطفي، وتصبح هذه الصفة الثيمة الأساسية لتفسير الأحداث، ولفهم التصرفات. والإعلاء من شأن علاقة الحب والمودة بين الرسول وعائشة، يأتي في سياق كتاب يهدف إلى التأكيد على فكرة أن الرسول بشر، وأنه يتمتع بالفطرة السليمة. وتقول الكاتبة في المقدمة، إن اهتمامها بحياة زوجات الرسول، ومن ثم، حياة الرسول العائلية يجيء رد فعل لاتجاهين في تناول هذا الموضوع. الأول ينزه الرسول عن بشريته التي قررها كتاب الإسلام، أصلاً من أصول العقيدة“. والثاني: “من أضله التعصب، فجعل من هذا الجانب في حياة نبينا العظيم ما يشفي غله(۱۷)، والمقصود في هذه الإشارة الأخيرة هى الكتابات التي اتهمت الرسول باتباع نزواته. فعلى العكس من نبية أبوت، التي رأت أن جميع الاضطرابات والصراعات، التي طرأت على بيت النبي يمكن تفسيرها، على أنها نزاعات سياسية، حول الاستئثار بالسلطة. تفسر بنت الشاطئ تلك الاضطرابات، على أنها من دواعى الحب والغيرة. وتستخدم بنت الشاطئ أسلوباً شاعرياً في الحديث عن علاقتهن: “وما غيرتها الجامحةإلا مظهر حب عميق لزوجها الغالي، ودليل تعلق بالمصطفي عليه الصلاة والسلام، ورغبة لا تقاوم في الاستئثار بالحظوة لديه(۱۸)، وأكبر دليل على أنه بالنسبة إلى بنت الشاطئ، تتلخص سيرة عائشة، في كونها حبيبة الرسول، أنها تنهى سيرتها بعد وفاته. ففي صفحتين موجزتين، تشير الكاتبة إلى أن عائشة عاشت لتكون المرجع الأول في الحديث والسنة، وأنها شاركت في حياة الإسلام، وخاضت معركة الفتنة الكبرى، وقادت الجيوش لمحاربة أمير المؤمنين على بن أبي طالب(۱۹). وتتجنب بنت الشاطئ الخوض في دور عائشة السياسي، وتقدم تعليقاً قصيراً على صراع عائشة مع على، فتقول إنها ما غفرت له قط موقفه من فرية الإفك، ولعلها ما نسيت له كذلك أنه زوج الزهراء، بنت ضرتها السيدة خديجة أم المؤمنين الأولى(۲۰).

وكما نرى، فالكاتبة ما زالت تحصر تفسيراتها في نطاق الحب والغيرة، وتبتعد – تماماً عن التعامل مع دور عائشة السياسي. لكنها، أيضاً، تتجاهل دور عائشة الفقهي، وتترك فرصة تعريف القارئ، بجانب هام من جوانب شخصية عائشة. وهي بهذا الاختيار، التزمت بمعطيات الخطاب الحداثي السائد، الذي يحبذ وجود النساء في المحيط الخاص، أو محيط العائلة، ويقلل من شأن تواجدها أو مساهمتها في المحيط العام.

لماذا؟. أن يكون من الممكن الوصول إلى فهم صحيح، لقراءة بنت الشاطئ لسيرة عائشة، بمعزل عن بقية أعمالها وإسهاماتها الفكرية، خاصة قراءاتها لقضايا شائكة في التراث، وهو موضوع يقع خارج نطاق هذه الورقة. إلا أنه في سياق مشروع يتصدى لاتجاه في الفقه السني، يغالى في تجريد الرسول من صفاته البشرية، واتجاه آخر استشراقي يغالي في تجريده من صفات الأنبياء، أثرت بنت الشاطئ، الابتعاد عن مناطق الجدل التي تحيط بسيرة عائشة، وفضلت تقديم نموذج مثالي، لامرأة أحبت الرسول حباً جماً، وهو أمر لا يمكن أن تؤاخذ عليه، كما أن هذا النموذج يتفق تماماً – مع التوقعات الحديثة السائدة من النساء، وبالتالي فهو أمن وليس له مخاطر، إلا أنها في اختيارها هذا، أغفلت أشياء كثيرة وغنية في حياة صاحبة السيرة، منها دور عائشة في الفقه، وفي إصدار الفتاوى.

أما الكتاب الثالث، فهو لعباس العقاد وعنوانه الصديقة بنت الصديق“. والكاتب هو صاحب العبقريات الشهيرة، التي تربت عليها أجيال من طلبة المدارس. وله كتابان عن سير النساء: هذا الكتاب، وكتاب آخر عن فاطمة الزهراء والفاطميين (۲۱). وعلى عكس العبقريات التي تعرض لبروز نموذج خاص يحتذى به، نجد أن كتابي العقاد عن النساء، ليسا إلا وسيلة للتعليق على قضية ما. فسيرة فاطمة، تستغرق أقل من نصف الكتاب، والنصف الآخر، يتتبع أصول الدولة الفاطمية؛ حيث تمثل سيرة فاطمة تقديمًا لسيرة الفاطميين. أما سيرة عائشة، فتستخدم بشكل أوضح وصريح، للتعليق على قضية المرأة، وعلاقتها بالحياة العامة. ولا يخفي علينا أن كتاب العقاد المنشور عام ١٩٤٣، يتزامن مع ظهور وتنامى الحركة النسائية المصرية، خاصة مطالبة النساء بالحقوق السياسية. وفي هذا السياق، تصبح سيرة عائشة، بمثابة مساهمة من العقاد، في الجدل حول هذا الموضوع.

يحتوى الكتاب على تسعة فصول: “المرأة العربية، المرأة المسلمة، المرأة الخالدة، عائشة، زوج النبي، حديث الإفك، بعد النبى، في السياسة العامة، حقوق المرأة“. وكما هو واضح، يستهل العقاد كتابه، برصد إيجابي لأحوال المرأة العربية، ثم ينتقل إلى الحقوق التي اكتسبتها المرأة في الإسلام، ثم يشرع في الحديث عن عائشة؛ باعتبارها مثلاً أعلى للأنثى الخالدة“: “والسيدة عائشة رضي الله عنها مثل من أمثلة الأنوثة الخالدة في جميع أقوامها، وجميع عصورها(۲۲). والأنثى الخالدة في رأى العقاد هي التي تتمادي في دلالها، وحب الزينة، وحب التدليل والتصغير، وحب التطلع، وحب المكايدة والمناوشة، ومكاتمة الشعور، والتعريض بالقول، وهي قادرة على التصريح(۲۳). ويقول أيضاًإن الأنثى الغيريماثلة في سيرة عائشةما من فارق بينها، وبين سائر النساء إلا الأدب الذي ينبغي لها، والحق النبوي الذى هى جاهدة جهدها، أن توقره وترعاه(٢٤)، وفي حين ركزت بنت الشاطئ، على عاطفة الحب، اختار العقاد أن يركز على الغيرة والمكايدة. وهو اختيار ينم عن موقف متحفز من النساء، كما أنه يمهد للاستنتاجات التي سيصل إليها في نهاية السيرة.

ویسرد العقاد تفاصيل عن حياة عائشة، ويدافع عنها، كما يفعل فقهاء السنة. وعندما يصل إلى دورها في الحياة السياسية، يحاول أن يجد من المبررات ما يعفيها من بعض المسئولية في حربها ضد على، فيلوم طلحة والزبير، ويلقى على عاتقهما وزر استدراج عائشة إلى المعركة، ويجد أن تدخلها كان اضطراراً، وكان أكرم لهم ولها، لو أنهم جنبوها هذه الخصومة، ويستنتج أن حملة الجمل كانت حملة اندفاع، ولم تكن حملة تدبير وتقدير (٢٥). ويختتم هذا الفصل عن دور عائشة، في السياسة العامة، بأن لهذا الدور عبرة، وان عبرته لأحق عبر التاريخ الإسلامي بالتسجيل(٢٦).

تتعلق هذه العبرة بحقوق المرأة، يقول: “في حياة السيدة عائشة ميزان صادق لحقوق المرأة في عصرها، وقد يقاس عليه الميزان الصادق لحقوق المرأة في جميع العصور(27). فمكان المرأة في الحياة البيتية، وعليها اجتناب الحياة السياسية. وأكبر دليل على ذلك، أن عائشة كانت مثلاً وقدوة طالما ظلت داخل بيتها، ولكنها عندما خرجت وتدخلت في الأمور العامة لم تكن مثلاً يحتذى به. ويستطرد ويطيل الحديث عن الاختلاف بين الرجل والمرأة، لا سيما في القدرات، فإذا تزاحموا في عمل شيء تكون النتيجة دائماًأن يتفوق الرجل، فالطاهي يفوق الطاهية، ومبدع الأزياء يفوق مبدعتها(۲۸).

وكما نرى، فالعقاد مثله مثل بعض فقهاء السنة، لا يوافق على اشتراك عائشة في الحياة السياسية. ولكن نظراً إلى مكانتها ولقربها من الرسول، يحاول إلقاء اللوم على المقربين إليها. ويتخيل أنه بهذه الطريقة ينصفها وهو في الواقع لا ينصفها، وإنما يعاملها على أنها غير قادرة على معرفة مصلحتها. وهذا ما يفعله تراث طويل عن عائشة. إلا أن العقاد يختلف قليلاً، فهو ينتمى إلى عصر الاستعمار، وعصر الهجوم على الثقافة الإسلامية. فعلى سبيل المثال، يقول العقاد إن عائشة كانت في الرابعة عشرة من عمرها، عندما تزوجها الرسول؛ مما يخالف ما اتفق عليه في التاريخ الإسلامي. وأنا وإن كنت لا أدعى الخبرة، في تقصي التواريخ المتعلقة بهذا الموضوع، إلا أن ما يقدمه العقاد في سبيل التدليل على مقولته، لا يفسح المجال لأخذ رأيه مأخذ الجد؛ لأنه يلقى برأيه دون الاستناد إلى أى مرجع أو مصدر تاريخي. المهم في هذا المقام، ليس تحديد سن عائشة، ولكن فهم دوافع العقاد، في رفع سنها عند الزواج. فسن عائشة عند زواجها من النبى، لم يكن مشكلة بالنسبة إلى الأغلبية العظمى من المؤرخين الذين لم يجدوا أية غضاضة من ذكره، مما يؤكد رأى بنت الشاطئ، في هذا الخصوص، من أن زواج عائشة في سن مبكرة كان أمراً عادياً في هذا العصر، وفي هذه البيئة، ولم يكن يحمل في دلالته المعاني السيئة التي أسقطت عليه من قبل نفر من المستشرقين يأتون بعد قرون…. فيهدرون العصر والبيئةويقيسون بعين الهوى، زواجًا عقد في مكة قبل الهجرة، بما يحدث اليوم في الغرب المتحضر(۲۹). والسبب الأرجح الذي جعل العقاد يتدخل في تحديد سن عائشة، هو استيعابه قيم العصر التي تستنكر الزواج في سن مبكرة، ورغبته في نفي أية شبهة عن الرسول.

إن تصرف العقاد في التعامل مع سن عائشة، له دلالات هامة في علاقته بالماضي الإسلامي. فالعقاد مثال جيد لبعض من رواد النهضة الذين تشربوا قيم وأفكار الحداثة، ودأبوا على قراءة التاريخ الثقافي العربي من خلال عدسة حداثية. ومن الأدلة الهامة على ذلك، مع سن عائشة، ومحاولته رفعه. أما في تناوله قضية وضع المرأة في المجتمع، فهو يتبنى تمامًا التضاد الثنائي الحداثي، بين العام والخاص، ويبحث في التاريخ عن أمثلة تزكى قبوع المرأة في المحيط الخاص. وهو بهذا يروج لأفكار وقيم حداثية، في المقام الأول.

لقد عاصر العقاد بدايات الحركة النسائية المصرية، ونشأة الاتحاد النسائي، وذيوع صيت كاتبات وصحفيات ومدافعات عن حقوق النساء، كما أنه عاصر – أيضًا – بداية الحملة التي قادتها منيرة ثابت، للمطالبة بالحقوق السياسية للمرأة. ومن الواضح أن من أهم الأسباب وراء كتابة العقاد سيرة عائشة، هو الإدلاء بدلوه في الجدل الدائر حول حق المرأة في الانتخاب، وفي المشاركة في الحياة السياسية. ومن ثم، يتخذ العقاد سيرة عائشة، ذريعة للتعليق على الأحداث المعاصرة، أى أنه يستخدم التراث الثقافي لسحب الثقة من المدافعات عن حقوق المرأة السياسية، والتشكيك في مشروعية مطالبهم. فعلى العكس من سير الرجال، أو العبقريات التي كتبها العقاد، والتي تبرز علامات التميز في الشخصية موضوع السيرة، نجد أن الهدف من كتابة سيرة عائشة ليس استكشاف معالم تميزها، وإنما إبراز غلطتها التاريخية في تخطى الحدود الفاصلة بين المحيط الخاص والعام. إن سيرتها تقدم لتكون عبرة لمن يعتبر، درسا في حدود الممكن والمسموح للنساء. إن التصور الذي يقدمه العقاد عن عائشة يجعلها مثالية، ونموذج قيمة يحتذى به ما دامت ملتزمة بدورها زوجة للرسول، وتصبح الرسالة الموجهة إلى المرأة العربية واضحة وصريحة، إن أرادت التمسك بهويتها، عليها أن تتعلم من دروس الماضي. أما إذا قررت المضى في محاولاتها تخطى الحدود المرسومة لها، فلها أن تتوقع مصيراً لا تحمد عواقبه، إن سيرة العقاد عن عائشة، هي بمثابة مثل رائع ومكثف للخطاب الحداثي المعادي للمرأة.

ومن المحاولات التي تحاول إعادة قراءة الدور الذي لعبته النساء في التاريخ العربي، محاولة فاطمة المرنيسي، في كتابها عن المرأة والإسلام. تشير فاطمة المرنيسي مراراً إلى شخصية عائشة، ودورها في التاريخ العربي، وتقدمها للقارئ نموذجًا لامرأة مسلمة، شاركت في الحياة السياسية والثقافية (٣٠). والهدف من كتاب فاطمة، هو تقديم حجج وبراهين تنفي ادعاء أن الاسلام ضد حقوق المرأة، وأن المرأة المسلمة لا تصلح أن تقود المسلمين، وأن عليها الابتعاد عن الحياة السياسية. ولتحقيق هدف الكتاب، ترجع فاطمة إلى أصول الكتب، وتعيد قراءة استنتاجات وتفسيرات الفقهاء والمؤرخين حول بعض الأمور التي تخص المرأة، لتصل إلى نتيجة مفادها، أن الإسلام لم يميز ضد المرأة، ولكن جاء التمييز من المسلمين أنفسهم، الذين تأثروا بثقافة وتقاليد لم تستطع استيعاب الرسالة الثورية التي جاء بها الإسلام، بالنسبة إلى المرأة. وتبرز فاطمة المرئيسى كتاب استدراكات عائشة على الصحابة، الذي كتبه الزركشي، في القرن السابع من الهجرة، والذي يتضمن ملامح من حياة عائشة، وخصوصاً اعتراضاتها على روايات بعض الأحاديث، وتصحيحها لما يروى (31). وكانت استدراكاتها تستند في مجملها إلى معرفتها بالسياق، وأيضاً إلى وجودها قرب الرسول وقت رواية الحديث. المهم هنا هو تركيز فاطمة المرنيسي، على جانب من شخصية عائشة، يتسم بالمبادرة والشجاعة والذكاء، وأيضاً الإصرار على القيام بدور فعال في الحياة العامة.

ومن الجدير بالذكر، أن كتاب فاطمة المرنيسي لا يمكن تصنيفه على أنه سيرة شخصية، مثل كتاب نبية أبوت، أو حتى مجموعة سير قصيرة، مثل كتاب بنت الشاطئ. فالكتاب يعتبر محاولة جريئة، للخوض في مناطق ممنوعة، وذلك لتقصى مصادر بعض الأفكار والممارسات المعادية للمرأة، في التاريخ العربي. وهو كتاب ثرى ومثير للجدل، ويستحق مناقشة مطولة، تقع خارج نطاق هذه الورقة. ولقد كانت الإشارة إليه، في سياق قراءة نقدية لتصورات حديثة، عن عائشة، هامة؛ باعتباره محاولة جادة، لإعادة صياغة دلالات الهوية الثقافية، أو التعريف ماهية الهوية الثقافية العربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن كتاب فاطمة يعد خطوة إلى الأمام، في سبيل صياغة منهج بحثى لقراءة التراث العربي، يأخذ في الاعتبار – وجهة نظر المرأة. ومن أجل تحقيق ذلك، تبحث فاطمة عن المصادر المفقودة أو المهملة، في التاريخ السائد، وتحاول إعادة بناء تصورات مغايرة، عن الأحداث والشخصيات التاريخية؛ وذلك بهدف التصدي للمقولات والتأويلات السائدة، التي تحد من طاقات النساء، وتعوق مسار تطورهن. ومحاولتها هذه، التي تسعى فيها إلى خلق تصورات مغايرة، وبدائل لما هو سائد، تنم عن وعى بالاستخدام السياسي والثقافي، لمفهوم الهوية الثقافية، وقرارها المشاركة في تعريف ماهية تلك الهوية، بالنسبة إلى المرأة العربية. إن كتابها يقدم قراءة تتعارض مع قراءة العقاد، لماهية الهوية الثقافية العربية.

المثل الأخير لتصورات حديثة عن عائشة هو مقالة بالإنجليزية لـ

Ghassan Ascha عنوانها: “The : Stereotypes of the Prophet Muhammad’s Wives” Mothers of the Believers”

الذي يتناول بالتحليل، النماذج النمطية لزوجات الرسول، وسبل توظيفها في الحياة الثقافية. ويرى كاتب المقالة، أن سير أمهات المؤمنين استخدمت من قبل مفكرين محافظين وتقدميين، على السواء؛ لإضفاء المشروعية الدينية أو الثقافية على مواقفهم إزاء وضع المرأة. ويرصد للتدليل على مقولته مواقف كتاب محافظين، هدفهم عدم إتاحة الفرصة للنساء للخروج إلى الحياة العامة، وكتاب آخرين ليبراليين، أو من أنصار قضية المرأة، يستشهدون بسير زوجات النبي؛ ليبرهنوا على شرعية مشاركة النساء في الحياة العامة.

ويشكك Ascha – بصراحة مباشرة في جدوى إعادة قراءة معنى الهوية الثقافية، أو إعادة تفسير علاقة المرأة، بالتاريخ العربي والإسلامي، على وجه التحديد. ففي حين أنه يقول إن التراث العربي يحمل أوجها متعددة، قابلة لتفسيرات متباينة، نجده يعادي بعنف محاولات مفكرى الإصلاح، ومحاولات المفكرات من النساء، التي تستشهد بالتراث؛ لتعزيز وضع المرأة في مجتمعاتهن. ففي تعليقه على استشهاد من كتاب للشواربى (32). عن الحقوق السياسية للمرأة في الإسلام، حيث يلجأ الشواربى، إلى تفاصيل من حياة عائشة، ومشاركتها في الحياة السياسية ليقرر حق النساء في المشاركة في الحياة السياسية، يعتبر Ascha أن هذه المحاولات تحتوي على مغالطات غير مقبولة، لأنه كما يرى من الواضح والمعروف، أن جميع الحجج التي يقدمها الاتجاه الإصلاحي، تتعارض مع أحاديث كثيرة (٣٣). ويتبنى الكاتب التفسيرات المتشددة لبعض الآيات الخاصة بوضع النساء، ويقدمها على أنها التفسيرات السائدة، أو الأكثر شيوعاً، ومن ثم، المعبرة عن وضع المرأة في الإسلام.

وينتمى الكاتب إلى عصر ما بعد الحداثة، ويستخدم منهجاً بحثياً يتعامل مع التاريخ، على أنه نص متعدد المعاني والدلالات، يسمح بقراءات كثيرة، ويمهد الطريق لظهور خطابات متباينة. ولقد كان من نتائج نظريات ما بعد الحداثة، التي أثارت الشكوك حول الموضوعية المفترضة في مناهج ونظريات العلوم الإنسانية والطبيعية، التي بينت أن قيم وعناصر الحداثة، إنما تعبر عن ثقافة الغرب، ومصالحه في مرحلة تاريخية محددة، والتي ركزت أيضًا على خصوصية الرؤية والمنظور، والمكان والزمان، قد فتحت الباب، بعد أن فعلت ما تقدم، لظهور أصوات وخطابات أخرى، على ساحة الثقافة العالمية. ومن أهم الخطابات التي ظهرت على الساحة، تلك الخطابات المعبرة عن قضايا ومصالح المرأة، أو الخطاب النسائي، المعبرة عن قضايا ومصالح الشعوب التي عانت من الاستعمار، أو خطاب ما بعد الاستعمار. وقد حدث هذا التطور عندما أدركت الشعوب المستعمرة، وأدركت النساء أهمية عدم قبول السائد، والمسلم به، وضرورة التدخل في تشكيل الحاضر والموروث.

وهجوم Ascha على المفكرين والمفكرات، من أمثال فاطمة المرنيسي، الذين يرفضون السائد؛ باعتباره محدوداً ومنحازاً لمراكز القوة الفكرية، ويحاولون إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر نسائية، ينطلق من اتجاه سائد، يرى أن الثقافة العربية تضع المرأة في مرتبة أدنى، وأنه لا فكاك من هذه الحقيقة“. ويستخدم الكاتب أدوات ما بعد الحداثة، لإحباط المحاولات التي يقوم بها المعنيون بقضايا المرأة، في مراجعة وإعادة كتابة التاريخ العربي، وذلك بالتشكيك في محتواها التاريخي. ومما لاشك فيه، أنه من الممكن استخدام مناهج ما بعد الحداثة؛ لتفكيك كل شيء؛ بحيث نصل إلى نقطة لا يستطيع المرء فيها، تبنى أية قضية، أو الانطلاق من أي افتراض أولى(٣٤).

الخلاصة، أن سير النساء استخدمت عبر التاريخ؛ بوصفها نصوصاً إرشادية لتوصيف وتحديد دور النساء في المجتمع. وفي التاريخ العربي، كانت السير – أيضًا – محلاً للصراع بين أطراف سياسية متنازعة. ومع حلول القرن العشرين، زادت وتكثفت حدة هذه الصراعات؛ بسبب الآثار المدمرة للوجود الاستعماري. وكما رأينا في السيرة التي كتبها العقاد، يمكن بناء السيرة بإتقان، حول موضوع الهوية الثقافية، والدور المتوقع للمرأة في مجتمع ما. وفي مثل آخر، يبدو فيه وكأن كاتبة السيرة ليست معنية بطريقة مباشرة، في توصيف الأدوار، استناداً إلى تعريف للهوية الثقافية (كما رأينا في كتاب بنت الشاطئ)، إلا أن المحيط السياسي والاجتماعي، يفرض على النص دلالات، ويجعلنا نستنتج معاني محددة، عن موقف الكاتبة من قضية الهوية، ودورها في توجيه تطلعات المرأة المعاصرة.

إن كل الكتاب والكاتبات الوارد ذكرهم أعلاه، كتبوا عن عائشة، من منطلق موقف محدد من الهوية الثقافية، كما تنعكس على مسألة المرأة، ويهدف التدخل في الجدل الدائر حول ماهية الهوية الثقافية. فكما يستدعى العقاد وقائع وشخصيات من التاريخ العربي؛ للتعليق على وضع المرأة في المجتمع، تستند فاطمة المرنيسي إلى وقائع وشخصيات من المصدر ذاته؛ كي تصل إلى نتيجة مختلفة جذريًا عما توصل إليه العقاد. العقاد يلح على مكانة عائشة المتميزة، مادامت ملتزمة بدورها زوجة وشريكة للرسول، ونبية أبوت تقرأ تفاصيل الحياة اليومية داخل بيت الرسول؛ باعتبارها انعكاسًا للصراعات السياسية الإسلامية. من الواضح أن هناك قراءات متباينة للأحداث التاريخية، وتفسيرات مختلفة لدلالات هذه الأحداث.

والنقطة التي أود التركيز عليها هنا، هي أنه من المستحيل في ظل الظروف الراهنة، أو في هذه اللحظة التاريخية، أن نتناول بالتحليل – موضوع تشكيل تصورات مغايرة عن المرأة العربية، دون التطرق إلى قضية الهوية الثقافية، والتعامل معها. المشكلة أن استخدام مصطلح الهوية الثقافية، أصبح محفوفًا بالمخاطر، ومحلاً لجدل واسع. وفي مجال العمل على تحسين وضع المرأة، ينقسم المعنيون والمعنيات بهذا الأمر، إلى فريقين. الفريق الأول، لا يرى جدوى من استحضار التاريخ في صراعات الحاضر، وفي هذا الاتجاه، تتحول محاولات إعادة صياغة تعريف الهوية الثقافية، إلى جرى وراء سراب لن يتحقق على أرض الواقع. أما الفريق الثاني، فيعي وظيفة التاريخ، في علاقته بالحاضر، ولا يجد بداً من التدخل في الاستخدام السياسي، للتاريخ ومحاولة توظيف التاريخ؛ لخدمة قضايا المرأة.

ولكن، هل من الممكن الفصل بين قضايا المرأة، وقضية الهوية؟. سوف أعطى مثالين لموقفين، يحاولان إجراء هذا الفصل. الموقف الأول: ممثل في مقالة Ascha، فهو يجد أن الواقع المادى لأى مجتمع، يفرض نفسه، وأن التطور الاقتصادي للمجتمعات، ينعكس على وضع المرأة، ويمكننا استنتاج أنه يرى، أن الأجدى التركيز على تغيير الواقع المعيش للنساء، وعدم إهدار الوقت في التشابك في صراعات إيديولوجية. ومن المتوقع، أن نجد هذا الموقف شائعاً للغاية في أوساط العمل، في التنمية، في الشرق الأوسط.

أما الموقف الثانى: الذى هو بمثابة رد فعل لما يحدث من سوء استخدام مفهوم الهوية الثقافية، يتمثل في كتاب حررته وكتبت مقدمته فالنتين مقدم Valentine Moghadam وعنوانه

Identity Politics and Women: Cultural Representations and Feminisms in an International Perspective (1994).

ويحتوى الكتاب على مجموعة من المقالات الجيدة، تتناول بالتحليل والنقد، أمثلة متعددة للتوظيف السياسي لمفهوم الهوية القومية والهوية الثقافية، الذي كان له أثر سلبي على حركات الدفاع عن حقوق المرأة في أنحاء مختلفة من العالم. في تقديمها للكتاب، تناقش المحررة القضايا المطروحة في المقالات المختلفة، وتضعها في إطار الجدل العلمي، حول استخدام مفهوم الخصوصية الثقافية، وأثره على الحركات النسائية. وتذهب إلى أن الهدف من الكتاب هو الاهتداء إلى السبيل الأمثل للتعامل مع هذا المأزق، مع الأخذ في الاعتبار وجود اتجاهات عالمية، تعلى من شأن قيمة الاختلاف، وتشجع على التأكيد على خصوصيات الهويات المختلفة (٣٦). وتتبنى المحررة موقفًا كونيا universalist، وترى أن على المدافعات عن حقوق النساء، العمل من خلال إطار الاتفاقية الدولية، للقضاء على أشكال التمييز كافة ضد المرأة، والابتعاد عن الارتباط بقضية الهوية، لتجنب التوهان في متاهات، سوف تضر بمصلحة النساء. وتؤكد المحررة أيضًا أن الاتفاقية الدولية محايدة ثقافيًا(۳۷)، على الرغم من كونها عالمية.

وكما نرى، مما تقدم أن غسان عشى وفالنتين مقدم، لا يريان أية فائدة من محاولات نسائية، لإنتاج تصورات مغايرة للذاكرة القومية، أو صياغة تعريفات جديدة، لماهية الهوية الثقافية. وهما بهذا الموقف يتركان الساحة خالية لاستئثار النخبة المتسلطة، بتعريف الهوية، وفرض خطاب رجعى معادٍ لمصلحة المرأة. أما بخصوص الحل المقدم، من قبل فالنتين مقدم، في كتابها الذي يزكي الالتفاف حول الاتفاقيات الدولية، للقضاء على أشكال التمييز كافة ضد المرأة، فسوف نجد أن الواقع السياسي والاقتصادى في معظم دول العالم الثالث، ينتقص من مصداقية تلك الاتفاقيات الدولية. في الواقع العربي على وجه الخصوص يدرك جميع المعنيين بالقضايا الاجتماعية والسياسية، أن الأغلبية العظمى من المبادئ والقيم الإنسانية، المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية عادة، لا تجد من يهتم بتطبيقها، أو التأكد من وصولها إلى إنسان العالم الثالث؛ فتتحول إلى حبر على ورق، بل في كثير من الأحيان إلى أداة قهر وتمييز؛ حيث ينحصر المستفيدون منها في مواطنى العالم الأول. ويتجاهل موقف فالنتين مقدم واقعًا يفرض نفسه، وهو أن ظهور وانتشار الاتجاهات السياسية، التي تتخذ من الهوية الثقافية أو الجنسية أو العرقية، منطلقًا تستمد منه القوة، يحدث ويستشري في ذات اللحظة، التي تكتشف فيها مجموعات من الناس، أو شعوب، أن أغلبية الحقوق الإنسانية، المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية، تعمل لمصلحة ثقافات مهيمنة، أو بلدان قوية، أو أجناس معينة، وبالتالي، فلن ينالوا هذه الحقوق، إلا إذا أصبحوا قوة ذات معالم واضحة، وهوية معروفة.

ظهر مصطلح سياسات الهوية identity politics، في السبعينيات من هذا القرن، في سياق أدبيات الحركات المناهضة لكل أشكال التمييز؛ بسبب الجنس أو العرق أو الدين، وأسهم في بلورة المصطلح وتطويره، وانتشار كتاب وكاتبات من مختلف أنحاء العالم. وسوف أناقش مفهوم سياسات الهوية، وتطبيقاته المختلفة؛ بهدف تقديم رؤية أخرى، للتعامل مع قضية الهوية الثقافية، في علاقتها بموضوع الورقة الأساسى، عن إمكان إنتاج تصورات بديلة (تختلف عن التصورات السائدة)، للنساء في الثقافة العربية، من خلال كتابة السير.

بداية، إن الحديث عن سياسات الهوية لابد أن يتطرق إلى مجموعة واسعة من القضايا والتساؤلات، حول مفهوم الاختلاف difference، والتصورات representation، وأيضاً حول دلالات القوة power، والهيراركية hierarchy، والفاعلية agency. وكما ذكرت من قبل، فلقد شاعت سياسات الهوية؛ إثر فقدان الثقة في مشروع النهضة الليبرالية التي وعدت بتوفير العدالة والحريات لكل الناس، كما ارتبط إنتشاره أيضًا – بانحلال أوصال فكرة الحقوق المتاحة للجميع، على قدم المساواة (۳۸). ويرتبط مصطلح سياسات الهوية بعدد كبير جدًا من الموضوعات والاهتمامات المثارة من قبل مجموعات متباينة من البشر، تجمع بينها هوية عرقية أو جنسية أو ثقافية. وفي أدبيات البحث النسوى، استخدم المفهوم لأول مرة، من قبل مجموعة نهر الكومباهي The Combahee River Collective، سنة ١٩٧٤ للتأكيد على الاختلاف، في وجهات النظر والأولويات بين النساء الأمريكيات السود، والحركة النسوية الأمريكية، التي تتكون أساساً من نساء من البيض، ينتمين إلى الطبقة المتوسطة. وقد جاءت المبادرة، رد فعل لعملية التهميش التي عانت منها النساء السود في ظل الحركة النسوية؛ مما ترتب عليه تجاهل اهتماماتهن وأولوياتهن، وخصوصية وضعهن الاقتصادي والسياسي، في المجتمع الأمريكي. ونبهت هذه المجموعة إلى أن الحركة النسوية الأمريكية، تعكس مصالح وتطلعات النساء، المنتميات إلى الجنس الأبيض، وبالتالي، فعلى المرأة السوداء، أن تعي أن هذه الحركة لن تنتبه إلى مصالحها، ولن تلبي طلباتها، إلا إذا أبرزت مواطن الاختلاف والتميز بين النساء البيض والسود، واتخذت هويتها نقطة انطلاق، للفت النظر إلى هذه الاختلافات. وتقول المجموعة في بيان مشهور، أسمته بيان الحركة النسائية السوداء، “A Black Feminist Statement”، إن أغلب الحركات السياسية التي تتسم بالعمق والثورية، تستمد قوتها من الهوية المشتركة لأصحابه (۳۹). وقد نجحت كتابات بيل هوكس Bell Hooks، باتريشيا هيل کولینز Patricia Hill Collins، وتوني موريسون Toni Morrison، في التنبيه إلى التحولات المتعددة، التي أدت إلى إعادة النظر في افتراض التجانس التام بين فئات مختلفة من النساء، وكيفية تمثيل مصلحة كل فئة من خلال الحركة النسوية. وبناء على الموقف الذي اتخذته النساء الأمريكيات السود، أصبح العرق race من أهم مؤشرات الخصوصية.

ومع مرور الوقت، التقت أصوات النساء السود، مع أصوات نساء أخريات، من بلدان العالم الثالث، أصررن على التأكيد على خصوصيتهن الثقافية في التعبير عن مطالبهن، وتحديد أولويات العمل فيما بينهن. وفي الثمانينيات، اندثرت، أو كادت، التعريفات الجوهرية essentialist المرأة، وشاع التركيز على الاختلافات الموجودة بين النساء، المحكومة بوضعهن الاقتصادي والاجتماعي والعالمى، والتعامل مع هذه الاختلافات؛ باعتبارها نقطة انطلاق، تتيح النساء الفرصة، لبلورة احتياجاتهن الخاصة بهن، ودون تبنى أفكار أو احتياجات الأغلبية السائدة.

وعلى صعيد آخر، فلقد ترتب على النظريات الحديثة في العلوم الاجتماعية، خاصة النظرية النسوية ونظرية ما بعد الاستعمار، تفكيك التعريف الجوهري essentialist، لمفهوم الهوية الثقافية، هذا التعريف الذي يتعامل مع الهوية، بإعتبارها كتلة جامدة وصماء تقبع في الذاكرة المشتركة، وما علينا إلا استعادتها. كما أدى سوء الاستخدام السياسي، لمفهوم الهوية الثقافية، وتحويله إلى خطاب مهيمن وسلطوي، الهدف منه هو إسكات الأصوات المعارضة، واستبعادها من الساحة الثقافية، أدى إلى تنامى شعور بالحذر والتخوف، لدى المناضلين السياسيين، عند أي استخدام عابر للمفهوم. والمشكلة التي نحن بصددها الآن هي أن هناك واقعًا عالميًا، يشهد ظهور اتجاهات فكرية، وحركات ثورية، تقاوم الخطابات السائدة المهيمنة، وهي حركات تستمد قوتها، من هوية مشتركة بين أصحاب تلك الحركات، وفي الوقت ذاته، يتزامن هذا مع تشكيك ما بعد حداثي، في خطابات الهوية؛ باعتبارها بداية للممارسات القمعية.

إن المشكلة الأساسية في الجدل الدائر حول الهوية، هى أن هذا الجدل، ينحصر تماماً في منظومة الاختلاف والتماثل، ويتجاهل قضايا أكثر أهمية، في سياق سياسات الهوية، وهي قضايا القوة، وإنتاج التصورات والفاعلية. إن العمل السياسي الذي يتخذ من هوية ما نقطة انطلاق، يدرك – تماماً أن بدايات الوعى بالهوية، والتمحور حولها، إنما يأتي نتيجة لأحداث محددة في لحظة تاريخية معينة، وأن هذا الوعى المكتسب ليس ثابتًا ولا يستمر إلى الأبد؛ لأن الحدود الخطابية تتغير بتغير الأحوال التاريخية(٤٠). وتذهب ليندا ألكوف Linda Alcoff، إلى أن تبنى مفهوم للهوية يعترف بموقع الفرد، ولا يعتبره جوهريًا non essentialized، وإنما نابعًا من التجربة التاريخية سوف يسمح بصياغة مفهوم جديد للهوية، ليس مبنياً على تركيبة معينة من الصفات، وإنما مبنى على موقع معينيجد الفرد نفسه فيه (٤١).

إن الموقع الذي يجعل الفرد يتمسك بهويته، جاعلاً منها نقطة بداية في فهمه العالم، وفي توصيف علاقته به، عادة ما يكون موقعاً ضعيفاً أو متدنياً، في سلم علاقات القوى. فعلى سبيل المثال، عندما تكتشف امرأة، أنها لم تحصل على وظيفة، على الرغم من مؤهلاتها العالية؛ بسبب كونها امرأة، تصبح هويتها كامرأة موقعاً دالاً في تشكيل المعاني(٤٢)، وفي إدراكها لعلاقتها بالعالم. أو، مثلاً، إذا احتجزت امرأة عربية في مطار أوروبي، أو رفض طلبها لاستخراج تأشيرة دخول لبلد ما؛ لكونها عربية، تكتسب هويتها الثقافية موقعاً خاصاً في وعيها، في تلك اللحظة التاريخية. وبالتالي، فإن مناقشة سياسات الهوية، لا يجب أن تلف وتدور حول موضوعات الاختلاف والتماثل، فنجد أنفسنا في حلقة مفرغة. إن المصدر الرئيس لظهور سياسات الهوية، الممثلة في حركة المقاومة، التي تتخذ من هويتها نقطة انطلاق، هو الاختلاف في توازن القوى. ومن ثم تصبح القضية الرئيسة في هذا الطرح، هي كيفية التعامل مع تلك التوازنات.

هي أيضًا – قضية تصورات representation. ففي عصر ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، ثبت أن توصيفات الهوية هى في واقع الأمر تصورات عن الهوية، وأن الهوية والهويات، هي صور من صنع الإنسان، تتغير بتغيير الظروف، وتتشكل وفقاً لاتجاهات معينة، ومصالح محددة. ولقد لفت فرانز فانون Franz Fanon، الأنظار إلى الفظائع التي ارتكبها الاستعمار؛ فهو لا يكتفي باستغلال حاضر الشعوب، وإنما يعمل أيضًا على تشويه تاريخها (٤٣). ويمكننا القول إنه الآن، في عصر ما بعد الاستعمار؛ حيث تتحكم نخب حاكمة في وسائل الإعلام، ومعظم قنوات المعرفة والمعلومات، أصبحت التصورات التي تشكل معالم الهوية، جزءاً لا يتجزأ، من عملية إنتاج خطابات مهيمنة. ومرة أخرى، ليست المسألة قضية تحديد معالم الهوية، أو توصيف خصائصها، وإنما المهم حقًا، هو إدراك من يتحكم في إنتاج تلك التصورات، ولماذا. وبالإشارة إلى حركة في السينما الكاريبية، لإنتاج تصورات مغايرة للسائد عن الهوية الكاريبية، يقول ستيورات هول: “إن عملية استعادة الهوية الثقافية، لا يمكن اعتبارها عملية اكتشاف، أو استخراج ما طمسته التجربة الاستعماريةوإنما هي عملية إنتاج للهوية (٤٤).

ومن العناصر المتجاهلة في الجدل، حول الهوية، عنصر الفاعلية أو المبادرة بالفعل Agency فافتراض أن الهوية تنتج، ولا تسترجع، أو تستخرج، لا يعني أن كل الهويات، هي ضرب من ضروب الخيال، وليست حقيقية، ولا يوجد لها سند تاريخي. ويوضح ستيوارت هول هذا الجانب ويقول: “إنه لا يمكن اعتبار الهوية وهمافأية فنية هوية لها تاريخها (الفكري والمادي)، ويجرى تشكيلها من خلال الذاكرة والخيال والسرد والأسطورة(٤٥). إن فكرة إنتاج الهوية، تركز على متغيرات الهوية، لا على جوهرها. ولكنها أيضًا تسلط الضوء على وجود وسيط فعال، في عملية الإنتاج. إن التصورات السائدة للهوية، تشكل دائماً داخل إطار خطابات سائدة، قد تكون استعمارية، أو وطنية، أو أبوية. وعلى هذا الأساس تعتبر سياسات الهوية استجابة للحاجة إلى إنتاج تصورات مضادة، للتصدى للاحتكارات المهيمنة على إنتاج المعرفة. إن الاهتمام بسياسات الهوية، دليل على تصميم مجموعات معينة، على المشاركة في أداء دور فعال في تشكيل التصورات.

ویری جيرو Giroux، أنه من الممكن التقريب بين وجهات النظر، في جدالات الهوية، بتناولها في إطار سياسات التصورات politics of representation (٤٦). ويمكن في هذا الإطار التركيز على مقاومة السائد، من خلال الاشتباك الواعي، مع الخطابات والتطورات المقننة السائدة، من أجل خلق مساحات نقدية، وثقافية مضادة(٤٧)، كما تقول شاندرا موهانتی Chandra Talade Mohanty. ومن أهم دعائم المقاومة في المحيط الثقافي، تقديم قرامات بديلة ومتعددة للنسق الثقافي؛ بحيث تزول أسس التعمية الثقافية، وينكشف زيف النسق الثقافي المهيمن، ويسلط الضوء على علاقات القوى والمصالح، المتحكمة في ترشيد التصورات أو تمثيل الهوية الثقافية. ويطلق كورنيل وست Corel West على هذه العملية demystification، أو إزالة التعمية، أو كشف اللغز، ويعتبرها المقاربة الأمثل في التعامل، مع قضايا الاختلاف والهوية في الحاضر. ويرى أن من خصائص هذه المقاربة أنها منحازة لوجهة نظر ما، مشتبكة في قضية حية، ولكنها تحافظ على موقف نقدى تحليلي لتجنب الجمود والتعنت في الرأي(٤٨). ويطلق سيمون روجر Simon Roger على ذات العملية denaturalization ؛ أى إلغاء فكرة أن النسق الثقافي السائد، إنما يعبر عن الوضع الطبيعي، أو الأوضاع كما كانت عبر التاريخ (٤٩).

والخلاصة كيف نكتب عن عائشة؛ بهدف المشاركة في صياغة تصورات للهوية الثقافية، لا تتعارض مصلحة النساء؟.

يميز والتر أدمسون ثلاثة مناهج لمقاربة التاريخ: الاستذكار memorizing، الذاكرة memory، والتذكر remembering (50). في أسلوب الاستذكار، يعتبر التاريخ مستودعًا للمعلومات والأحداث، التي يحاول القارئ حفظها، وإعادة إنتاجها. في أسلوب الذاكرة، يحاول القارئ اكتشاف مفتاح إيديولوجي أو منهجي لتفسير الأحداث، ولتقديم في نهاية الأمر الصورة المعتمدة لما حدث بالفعل. وفي هذين الأسلوبين، يفترض القارئ تفسيراً حقيقياً واحداً لما حدث. أما التذكر، فهو عبارة عن محاولة لفهم الماضى، لا بطريقة أفضل أو أصح، ولكن بطريقة مختلفة. ويعتمد التذكر على التحاور مع الماضى، فهو لا يهدف إلى اكتشاف اللحظات المظلمة في التاريخ، هدفًا في حد ذاته ولكنه يسعى إلى إنتاج خطاب حي، يتفاعل مع الحاضر. والتذكر، يأخذ في الاعتبار – آليات القوى التي تؤثر على مجرى الأحداث، ليس فقط على المستوى السياسي، ولكن على مستوى علاقات النوع والطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة.

كيف نتذكر عائشة؟. إن التذكر يسعى في مستوي من مستوياته، إلى خلق ذاكرة مضادة، تقاوم سلطة الخطاب السائد. إن تذكر سيرة عائشة، في سياق الحاضر التاريخي والاجتماعي والسياسي، يسعى إلى تخطى سطوة الواقع المحيط، لاكتشاف تجارب مختلفة. من المهم الكتابة عن عائشة، والتعامل مع فكرة الزمن الجميل، ومن المهم أيضًا – الكتابة عن نساء أخريات، لا ينتمين إلى هذا الزمن، نختارهن من التاريخ العربي والقبطى والتاريخ المصري القديم. نكتب عن عائشة، ونقرأ السير المكتوبة، من منظور نقدى؛ لنصل إلى المسكوت عنه، من خلال القراءة الدقيقة للنص. نبحث عن الأصوات المغايرة التي لا تتبع القاعدة، ونحاول فهم خلفيتها وأهدافها.

لا يمكن أن نضع جميع التصورات للتاريخ، في سلة واحدة، فتتساوى كل القراءات، مع قراءة العقاد مثلاً، ففي كتابه عن عائشة، يحاول العقاد ترسيخ وتثبيت قيم سائدة؛ وذلك بواسطة تقديم ما يود أن يعد التفسير الصحيح والأوحد لسيرة عائشة. وبالتالي، فهو يستخدم خطاباً أحادياً monologic سلطوياً، لا يعترف بوجود خطابات أخرى، ويستمد قوته من اتفاقه التام مع الخطاب السائد في المجتمع. أما التذكر الذى يهدف إلى مقاومة السائد والمتفق عليه، فهو يقدم خطاباً حوارياً dialogic لا يلغى وجود الخطاب الآخر، بل بالعكس، فهو يتفاعل معه؛ ليكشف عن ثغراته ومناطق ضعفه. إن التذكر الذى يخلق ذاكرة مضادة، هو وسيلة للارتقاء بالوعى، وهو أيضًا – سلاح ثقافي، لا يقل بأسًا عن أنواع الأسلحة الأخرى. إن التذكر يفسح المجال لتعدد الخطابات، وتعدد وجهات النظر، كما أنه يكشف أساليب التعمية والطمس، التي تمارسها النخب الثقافية السائدة. هذا التذكر، قد يقدم نقداً للتصورات الاستعمارية والقومية، أيضًا لعلاقة المرأة بالهوية. وعلى هذا الأساس، تصبح كتابة سير النساء العربيات، شكلاً من أشكال المشاركة السياسية، وذلك بواسطة إنتاج تصورات ثقافية للهوية، في مرحلة تاريخية، تتشابك فيها، وتختلط، قضايا حقوق النساء، مع مسألة الهوية الثقافية.

* – هدى الصدة: أستاذة مساعدة بقسم اللغة الإنجليزية، كلية الآداب، جامعة القاهرة. لها دراسات عن المرأة في الأدب والتاريخ العربي عضوة في ملتقى المرأة والذاكرة

1 – طه حسين، مستقبل الثقافة” (۱۹۳۸)، في المجموعة الكاملة لمؤلفاته، المجلد التاسع، علم التربية، (بيروت، دار الكتاب اللبناني، ۱۹۷۳) ص۱۷.

2 – زكي نجيب محمود، في تحديث الثقافة العربية” (القاهرة، دار الشروق، ١٩٨٧) ص ١٤٦.

3 – انظر ترجمة لتعريف Raymond Williams مصطلح culture في قاموس محمد عناني المصطلحات الأدبية الحديثة“. (القاهرة، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، ١٩٩٦) ص ١٤٦.

4 – يوجد عدد كبير جداً، من المراجع التي تناقش مفهوم الهوية القومية أو الهوية الوطنية national identity. فيركز Ernest Gellner في كتابه Nations and (Oxford، Blackwell، 1983) Nationalism على أن مفهوم nation يعد ظاهرة حديثة ليست لها جذور تاريخية. أما Anthony Smith فيرى أن القوميات لها أبعاد تاريخية راسخة (“Memory and Modemity: Reflections on Ernest Gellner’s Theory of Nationalism” in Nations and Nationalism 2: 3، 371- 388). ومن أهم المراجع في هذا الموضوع كتاب Benedict Anderson (1983) 1991. Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. Rev.ed. London.and New York: Verso وفيه يعرف أندرسون الوطن (القوم) nation بتعبير المجتمعات المتخيلة أو “imagined communities”.

5 – انظر نقدًا جيدًا لمحاولات التحدث بالنيابة، عن المرأة الهندية الحقيقية، أو عن جوهر المرأة الهندية في

Julie Stephens’ “Feminist fictions: A critique of the category ‘non- western woman’ in feminist writings on india،” In Subaltern Studies VI: Writings on South Asian History، ed. Ranajit Guha (Delhi، Oxford and New York: Oxford University Press، 1990) 92- 125

6 – Gerda Lerner. 1988. “Priorities and Challenges in Women’s History Research.” Perspectives: Newsletter of the American Historical Association (April) 17- 20.

7 – انظر ص ۱3۰ في

Roger Simon، “Forms of Insurgency in the Production of Popular Memories: The Colombus Quincentenary the and Pedagogy of Counter-Commemoration” in Between Borders: Pedagogy and the Politics of Cultural Studies، ed. Henry A. Giroux and Peter Mclaren، New York and London: Routledge، 1994.

8 – المرجع السابق، ص ۱۳۰.

9 – Radhakrishnan، R. 1992. “Nationalism، Gender and the Narrative of Identity.” In Nationalities and Sexualities، ed. Andrew Parker et al. New York and London: Routledge، p. 78.

10 – Chatterjee، Partha. 1993. The Nation and its Fragments: Colonial and Post-colonial Histories. Princeton and New Jersey: Princeton University Press. P. 6.

١١ المرجع السابق ص ۱۲۰.

۱۲ – انظر:

Ruth Roded، Women In Islamic Biographical Collections، Lynne Rienner Publishers: Boulder and London، 1994.

١٣ المرجع السابق، ص ١٣٥٠.

١٤ انظر كتاب سبلبرج للمقارنة بين الكتابات الشيعية والسنية، عن عائشة:

Denise Spellberg، Politics and Gender in the Islamic Past: The Legacy of Aisha bint Abi Bakr. (New York: Columbia Unversity، 1994).

15 – “الصديقة بنت الصديق، عباس محمود العقاد (مطبعة المعارف، ١٩٤٣)، نساء النبي، عائشة عبد الرحمن (دار المعارف، ۱۹۷۳). “الحريم السياسي“. لفاطمة المرنيسي، ترجمة عبد الهادي عباس (دمشق، دار الحصاد، ۱۹۹۳).

Nabia Abbott، Aishah: The Beloved of Mohammed (Chicago، Illinois: The University of Chicago Press، 1942); Ghassan Ascha، “The Mothers of the Believers: Stereotypes of the Prophet Muhammad’s Wives” In Female Stereotypes in Religious Traditions، ed. Ria Kloppenborg and Wouter J. Hanegraaff، Leiden، New York and Koln: E. J. Brill، 1955.

16 – Abbott، Aishah: The Beloved of Mohammed

۱۷ عائشة عبد الرحمن، ص ۱۰.

18 – المرجع السابق، ص ۱۱۲.

19 – المرجع السابق، ص ١١٦.

20 – المرجع السابق، ص ١١٦.

۲۱ عباس محمود العقاد، فاطمة الزهراء والفاطميون، الطبعة الثانية، (بيروت، دار الكتاب العربي، ١٩٦٧).

٢٢ العقاد، الصديقة بنت الصديق“. ص ٣٠.

23 – المرجع السابق، ص ۳۱.

٢٤ المرجع السابق، ص۳۲.

٢٥ المرجع السابق، ص ۱۳۰.

٢٦ المرجع السابق، ص ١٣٥.

27 – المرجع السابق، ص ۱۳۸.

28 – المرجع السابق، ص ١٤١.

٢٩ عائشة عبد الرحمن، ص ٧٦.

30 – انظر فاطمة المرنيسي، ص ١٥ – ٢٢.

31 – الإمام الزركشي، الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة” (القاهرة، مطبعة العاصمة، ١٩٦٥).

۳۲ انظر كتاب الشواربي، الحقوق السياسية للمرأة في الإسلام” (الإسكندرية، ۱۹۸۷).

33 – Ascha p. 103.

٣٤ انظر مجموعة المقالات التي تناقش كتابات تستخدم مقاربات ما بعد الحداثة، للتشكيك في شرعية التمسك بقضية المرأة في:

Linda J. Nicholson ed. Feminism and Postmodernism، New York and London: Routledge، 1990.

35 – Moghadam، Valentine، 1994. Identity Politics and Women: Cultural Representations and Feminisms in an International Perspective. Boulder and Oxford: West view Press.

٣٦ المرجع السابق، ص ۲۱.

37 – المرجع السابق، ص ٢٢.

38 – Gitlin، Todd. 1993. “The Rise of “Identity Politics’: An Examination and a Critique.” Dissent. 40 (Spring) 172- 177، p. 174.

39 – The Combahee River Collective. 1983. “A Black Feminist Statement،” in The Bridge Called My Back: Writing by Radical Women of Color، ed. Cherrie Moraga and Gloria Anzaldua، (New York: Kitchen Table، Women of Color Press) p. 212.

40 – De Lauretis، Tersesa، 1986. “Feminist studies/Critical Studies: Issues، Terms، Contexts.” In Feminist Studies/ Critical Studies، ed. De Lauretis. Bloomington: Indiana University Press p.8.

41 – Alcoff، Linda. 1989. “Cultural Feminism Versus Post-structuralism: The Identity Crisis in Feminist Theory.” In Feminist Theory In Practice and Process، ed. Micheline R. Malson et al. Chicago and London: The University of Chicago Press، p. 323.

٤٢ المرجع السابق، ص ٣٢٤.

43 – Fanon، Frantz. 1963. The Wretched of the Earth. London.

44 – Stuart Hall. 1990. “Cultural identity and Diaspora.” In Identity، Community، Culture، Difference، ed. Jonathan Rutherford. London: Lawrence and Wishart، p. 224.

٤٥ المرجع السابق، ص ٢٢٦.

46 – Giroux، Henry A. 1994. “Living Dangerously: Identity Politics and the New Cultural Racism،” in Between Borders: Pedagogy and the Politics of Cultural Studies، ed. Giroux and Peter Maclaren، New York and London: Routledge. P. 35.

47 – Chandra Talpade Mohanty، “On Race and Voice: Challenges for Liberal Education in 1990s” In Between Borders، ed. Giroux، p. 148.

48 – Cornel West، “The New Cultural Politics of Difference،” in Out There: Marginalization and Contemporary Cultures، ed. Russell Fergusson et al، New York: The New Museum of Contemporary Art، 1990، p. 31.

49 – انظر ص ۱۳۰ في Simon Roger.

50 – Walter Adamson 1985. Marx and the Disillusionment of Marxism. Berkeley، University of California Press، p. 233.

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي