طرفي بُرهانٌ للمحبة

الشركاء: اختيار

كتابة:

طرفي بُرهانٌ للمحبة

مترجمة وباحثة فنية بمركز الصورة المعاصرة. نُشرت أعمالها بالعديد من الإصدارات الورقية والإلكترونية، كما في كتب مستقلة. من ترجماتها: كتاب موسيقى التمردلهشام عايدي، رواية الناقوس الزجاجيلسيلفيا بلاث كتاب عن الحشيشلفالتر بنيامين، ورواية عيونهم كانت تراقب الربلزورا نیل هرستون. كما تترجم سماح بانتظام وتنشر ترجماتها لقصائد أو رسائل أو أعمال بالانجليزية على مدونتها الحركات“.

إنني أعلن الفرد العظيم، المتدفق كما الطبيعة، العفيف, الحنون, العطوف، المسلح بشكل كامل. إنني أعلن عن الحياة التي يجب أن تكون زاخرة، عنيفة، روحية، وجريئة، وأعلن عن الشيخوخة التي يجب أن تُقابل بخفة وبفرح ترجمتها“. والت ویتمان

لم أتردد قط في الموافقة عندما طلبت مني صديقتي أن أكتب في هذا العدد من الإصدارة عندما سألتني بمحبة إذا وددت الكتابة عن ترجمتي للرسائل في مدونتي [الحركات] 16، تلك الرسائل الحبيبة بمباشرتها وتخفيها وقربها وبعدها, الرسائل التي قضيت وقتًا طويلاً أقرأ عنها ، أقرأها ، أتسلح لترجمتها، وأحاول سبرها لمرةكل مرة. لكنني تساءلت عما سأكتب, عما لو أن ما سيُكتب منصف لهذه الرسائل! منصف لشعوري نحوها حتى! منصف لعميق المحبة التي تغمرها! أي لوعة وأي جحيم يعترينا حين نجد أنفسنا محاصرين برغبتنا في إنصاف محبتنا لأمر ما!

فكرت أيضًا أن الكتابة عما نحب تسمح للعالم بمشاركتنا تلك المحبة. أعرف أن ترجمة تلك الرسائل ونشرها من البداية هي دعوة للعالم لمشاركتنا المحبة، لكن أن نكتب عن محبتنا في أصلها خطوة أبعد في الكشف والائتلاف.

لقد عرفت في جزء من تلك الرسائل أخواتي في البراعة، اللاتي تقاسمن معي المزالق المرئية والمحتجبة لسلطة المجتمعات الأبوية المستعرة، وتقاسمن أيضًا تلك الحيوات المبتسرة التي يقدمها لنا العالم في طبق من العجرفة التي تشكك في ذكائنا، فقط لأننا ولدنا وبين ساقينا اسم الوردة (لأننا نهذب كل شيء فينا ليلاءم الخيالات الورعة لمتعاطين أفلام البورنو الشرفاء).

كتب هنري ميللر 17 في رسالته لأناييس نن 18: “أقول إنه حلمٌ وحشي لكنه حلم أود أن أدركه. الحياة والأدب متحدان, أحب هذا الدينامو، أنت بروحك الحربائية تهبينني ألف محبة، وتبقينني راسيًا دائمًا بغض النظر عن العاصفة، والمنزل هو أينما كنا معًا. في الصباح، نستمر من حيث توقفنا. قيامة بعد قيامة. تستمرين في تأكيد نفسك، وتحصلين على الحياة المتنوعة الغنية التي تريدينها. وكلما أكدت نفسك أكثر أردتني أكثر, احتجت إلى أكثر. صوتك يصبح أغلظ وأعمق ، عيناك أكثر سوادًا، دمك أكثر سُمكًا، وجسدك أكثر امتلاءً. خنوع حسي وضرورة طاغية. أكثر قسوة الآن من قبل قسوة واعية ومتعمدة. الفرحة النهمة للخبرة، أعتقد أن الفن هو ذاك الحلم الوحشي، لذلك كل ما ينتج عنه يصيب روحي بتلك الوحشية البذلة، يضعني في مواجهة مع مخاوفي ومخاوف الآخرين، لكنه بذات الوقت يحررني من تلك المخاوف ويجبر عقلي على التفكير. أرى في كل شكل من أشكاله حياتنا بهيئتها المجردة، حياة المحب والمحبوب، التقاء النقيض والمتشابه، المقبول والمرفوض, السائد وما تمت تنحيته.

يجعلني الأمر أفكر في رحلتي كلها. البداية. بدأ الأمر بالموسيقى التي أحبها والداي, برؤيتي للفنان البهيج, الجوهر الفرد خضر بشير 19 وهو يقول في لقاء متلفز يعود إلى السبعينات: “أنا لما تعجبني نفسي بمثل بلبل .. وماله؟! مش منظر وجيه؟أحسست حينها أن الفن يشبه ذلك الشعور, الإعجاب بالنفس, إطلاق العنان للمخيلة، ربما قالت إيميلي ديكنسون 20 لنفسها (سأكون بلبلاً، وستُعجبني هيئتي وسأهبك المنظر الوجيه, الكتابة المتفردة، الانعتاق التام، وخلال كل هذا ستخشى وتزدري هويتي وستُجرد شعوري من مسبباته لتمنحه لقارئ تظنه جديرًا بأن تمحو لأجله حياتي كما عرفتها، وستقوم بكل هذا بعد قبري!)

لقد عرفت منذ وقت طويل أن عين الفن هي التي سأرى بها العالم، ولو تحقق ذلك بلوحة تبصق في وجهنا العذاب الحلو لحاييم سوتين 21، أو بكتاب مؤرق يلفظني في المتاهة الأبدية لغلوريا آنزالدوا 22، بقصة خالية من الدافع المنافق العنيف للصوابية السياسية، بفيلم يحمل الموت كرسالة ترحيب ووداع وألفة كما في حرب الجزائر 23، أو بطقس الليلة 24 وعيشة قنديشة 25 ولالة ميرا 26 وسيدي موسى 27 روح البحر الذي ألهم البلوز والجاز لعالم معد بحرفة تخلو من محبة الرفاقمحبة الرفاق الأبدية، لكنه لن يخلو أبدًا من والت ويتمان 28.

أحببت كل الفنون بأشكالها ومُروضيها، لكن من بينها جميعًا اخترت الترجمة لتكون مهنتي. ترجمت كل ما أحببت, من الشعر إلى الرواية إلى الهيب هوب إلى القصائد إلى الملاكمة إلى الكتب الفلسفية والأكاديمية إلى التصوف إلى الفوتوغرافيا والسينماتوغرافيا، وصولاً إلى الرسائل العظيمة المتبادلة بين الأحبة، جاء اهتمامي بتلك الرسائل البديعة على مستويات مختلفة. تستهويني الرسائل وأحسبها أكثر شكل حميم للكتابة، بين ثناياها نجد المعادل الأكثر نقاءً للشعور الإنساني، كما هو الحال في رسالة الروائي الأمريكي رايموند تشاندلر 29 ردًا على رسالة تعزية وصلته بعد وفاة زوجته, “رسالتك فريدة من نوعها لأنها تتحدث عن الجمال الذين فقدناه بدلاً من تعزيتي بحياة عقيمة لا زالت مستمرة. لقد كانت كل ما قلته عنها وأكثر كانت دقات قلبي لمدة ثلاثين عامًا. كانت الموسيقى التي تسمع بخفة على حافة الصوت“. أو في رسالة باتي سميت 30 لحبيبها الراحل روبرت مابلثورب 31 التي قالت فيها, “خلال تلك الظهيرة، عندما نمت على كتفي، شَرَدَتُ قليلاً . لكن قبل أن أفعل، خطر لي وأنا أنظر إلى أشياءك وأعمالك، وتمر سنوات من فنك في ذهني، أنه من بين جميع أعمالك الفنية، تظلين أنتِ الأجمل. تظلين أنتِ الأجمل بينها جميعًا، استطعتُ أن أرى في الرسالتين المشاعر الإنسانية حين لا نضطر لدفعها دفعًا لتصل حيث نريدها؛ فقد أحدهم حبيبه وعبر عن ذلك بأقصى بساطة وبؤس وتقدير ممكن, لا شيء أكثر! أحتج منهم لشيء أكثر.

أحب الرسائل الكويرية التي تبادلها الفنانات/ نون عبر العصور، ودائمًا ما شعرت بوجوب ترجمتي لها. ربما لأنني أدركت أن العالم لم يكن منصفًا قط لمشاعر لم يفهمها وهوية لم يستطع دحضها أو قتلها. لكنه كثيرًا ما استطاع تهميشها وإزدرائها، لأن العالم لم يكن رحيمًا بأي منهن قط، لم يفهمهم قط. وربما أيضًا لأنني أنتمي لفئات مهمشة، وأحسب ولو لم يكن ذلك دقيقًا بشكل تام أنني أفهم الصراع أفهمه لأنني امرأة سوداء من العالم الثالث كثيرًا ما تعرضت للتهميش والازدراء بأشكال مختلفة.

في مقتطف من رسالتها لحبيبتها سوزي 32 كتبت إيميلي ديكنسون: “أحتاجك أكثر وأكثر، في حين يتعاظمُ العالم الضخم أكثر، ويصبح الأحباء أقل وأقل. في كل يوم تكونين بعيدة أفتقد قلبي الأكبر، وتهيمُ روحي لتُنادي سوزي. الأصدقاء عزيزون جدًا على أن يفصلوا ، آه وكم هم قليلون, وعما قريب سيذهبون ولن نجدهم حتى لو بحثنا، لا تدعينا ننسى هذه الأشياء، لأن تذكرها الآن سيوفر علينا الكثير من الألم عندما يفوت الأوان على حبها! سامحيني يا حبيبتي سوزي على كل كلمة أقولها، لأن قلبي مليءٌ بكِ، لا شيء سواك في أفكاري، لكن حين أسعى لأن أقول لك شيئًا ليس للعالم، فإن الكلمات تخذلُني“. في هذه الرسالة أنصفت إيميلي الكتابة، وأنصفت المحبة، وأنصفت مشاعرنا باختلافها, اختلافنا بمُثابرته، ومثابرتنا بصدقها، أنصفت نسويتنا بتلك السطور. أدرك أننا خارج تلك السطور نعاني بشكل يومي وعلى عدة مستويات، لكنني علمت نفسي ضمن حيل كثيرة للنجاة أن أنغلق داخل شعوري بشيء ما في برهنه ، وألا أسلم ذاتي لشيء سواه حتى يرغمني الواقع على العكس. يمكن أن أقول الشيء ذاته عن رسالة فيوليت ترفيوسس33 لفيتا ساكفيل ويست 34، كوني شريرة، كوني شجاعة، كوني سكرانة، كوني متهورة، كوني ماجنة، كوني استبدادية، كوني فوضوية، كوني متعصبة دينيًا، كوني سوفرجت, كوني أي شيء تريدينه. لكن، ولو كان ذلك حتى بدافع الشفقة, كوني ما تريدين بأقصى عزمك. عيشي .. عيشي بشكل كامل, عيشي بحماس، عيشي على نحو كارثي إذا لزم الأمر. عيشي سلسلة من التجارب الإنسانية. ابن, دمري، ابن من جديد ! عيشي، دعينا نعيش، أنت وأنا. دعينا نعيش كما لم يعش شيء من قبل، لنستكشف ونفحص، دعينا نخطو دون خوف حيث المكان الذي حتى البواسل يتعثرون فيه ويتقهقروُن!”. أليست المحبة في أقصاها لا معيارية؟ أليست محمسة؟ ألا تدفعنا دفعاً لتحدي الحياة كما نعرفها العالم كما يريدنا؟ ألا تعرفنا على أجسادنا وانخراطها في تكوين شعورنا نحو كل شيء أكثر؟ ألا تُشبع ذلك الجوع في أرواحنا؟ مع كل رسالة أقرأها يُفتح داخلي باب جديد في المحبة ورغبة أكبر لفهم تأثير ذلك على كل شذرة من جسدي. مع كل رسالة أقرأها أنزع عني مساءلة أخلاقية, قالبًا اجتماعيًا، تسلسلاً، هرميًا تعريفًا مشوهًا حولي وحول الآخرين، مع كل رسالة أتعافى.

تحميني الترجمة من المصاعب التي تسببها الكتابة، من الشعور بهول اللحظة, من المخاوف التي تعتريني حين أفكر فيها حتي. وجدت في الكتابات التي أقرأها سلواي. لكل شعور تملكني كانت هناك قصيدة, رسالة، قصة قصيرة، رواية أو أغنية نصف ذاك الشعور. وقد كانت ترجمتي لتلك الأعمال هي طريقتي للتعبير عن امتناني بجزل المحبة. لكن رغم كل هذا، وفي كثير من الأوقات، نحتاج أن نشرع في الكتابة بطريقة أو بأخرى علينا أن نكتب، وأن نقرأ، وأن نشارك سريرتنا ، لعل الكتابة هي ما نحتاجه لفهم ما يحدث بأرواحنا. كانت قراءة ما كُتب هي وسيلتي لمعرفة ما يحدث داخلي. كانت ترجمة ما قرأت هي وسيلتي لتذكر ما توجب علي تذكره؛ أنه رغم ما واجهنا كنساء ، ورغم الأسفار التي وضعها العالم على أكتافنا، ورغم تهميشه لهوياتنا ومشاعرنا واختلافنا، ورغم كل الرفض الذي تلقيناه وسنتلقاهُ خلال حياتنا، لا زال بمقدرونا أن نكتب ونقرأ ونعبر ونرفض ونقبل ونفهم، ونخطو فوق الجراح بقلوب مدماة ومحاربة.

 

1  مدونة تُعنى بنشر أعمال مترجمة عن الإنجليزية http://alharakat.blogspot.com/

2 روائي ورسام أمريكي.

 

3  مؤلفة أمريكية من أصل كوبي.

 

4 خضر بشير مغني سوداني يعتبر من من رواد الغناء على الرق وله مدرسة مميزة في الأسلوب والتلحين وطريقة الأداء.

 

5 شاعرة كويرية أمريكية

6 رسام تعبيري روسي

7 باحثة وكاتبة نسوية كويرية أمريكية من أصل تشيكان

8 معركة الجزائر هو فيلم جزائري تاريخي حربي أنتج عام 1966، شارك في تأليفه وإخراجه جيلو بونتيكورفو، وبطولة إبراهيم حجاج في دور علي لابوانت، وجان مارتن وياسف سعدي.

طقس روحي يماثل طقس الزار في مصر والسودان ودول أخرى. من أبرز طقوس “الليلة الكناوية” البدء بـ”العادة”. وهي إعلان عام عن الشروع في إقامة “الليلة”. وفيه يطوف الكناوة على مختلف الأزقة والشوارع والساحات مرتدين “طاقيات” و”فوقيات” مختلفة الألوان مزدانة بالأصداف، مغتنمين الفرصة للرقص على إيقاعات دقات الطبول و”القراقب” حتى تحل فترة “الكويو” (أولاد بامبارا) وهي تعني في العرف الكناوي البدء في الحفل الرسمي لليلة الكناوية. ويستغنى فيها عن آلة الطبل لتعوض بـ “الكنبري أو الهجهوج”، فيشرع “المعلم” – الذي يكون ملمًا بجميع مراحل الليلة – بالعزف عليه. فيقوم الكناوة برقصات انفرادية باستثناء “وجبتين” يقوم فيها أربعة منهم برقص جماعي

 9 عيشة قنديشة (تحريف محتمل للقب السيدة النبيلة عائشة الكونتيسة، عيشة مولات المرجة (سيدة المستنقعات) لالة عيشة، عيشة السودانية أو عيشة الكناوية، جنية في الفلكلور الشعبي المغربي. تعتبر عيشة قنديشة من أكثر شخصيات الجن شعبية في التراث الشعبي المغربي إذ تتناولها الأغنية الشعبية ويزعم أنه حتى مجرد النطق بلقبها الغريب والمخيف “قنديشة” يجر اللعنة على ناطقها. وهي أحد الأرواح التي يتم استدعائها خلال طقس الليلة

10 لالة ميرة هي أحد الأرواح (الجن) التي يتم استدعائها خلال الليلة الكناوية، وهي روح مغناج تحب النشاط والضحك والعطور.

11 شاعر أمريكي.

12 كاتب أمريكي

13 رائدة في مجال موسيقى البانك.

14  مصور أمريكي

15  سوزان هنتنغتون غيلبرت شاعرة كويرية

16 كتابة كويرية بريطانية

17 كاتبة ومصممة حدائق كويرية بريطانية

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي