قواميس السير والتراجم الإسلامية من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر

التصنيفات: غير مصنف

المنهجيات والمنظومات والمصادر

لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع

قواميس السير والتراجم الإسلامية

من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر

تعد قواميس السير والتراجم وعاء قيما للمعلومات التاريخية والثقافية المتعلقة بمجموعات متنوعة من الأفراد في المناطق المختلفة، حيث تحتوي على إشارات إلى أولئك الأفراد الذين تميزوا بطريقة ما أو بأخرى، بناء على إنجازاتهم وقدراتهم الشخصية، وبناء أو تبعا لانتسابهم لطبقات اجتماعية محددة أو لفئات مهنية. ومن حسن حظنا أن كثيرا من هذه الأعمال يتضمن قسما خاصا مكرسا للنساء المتميزات سواء ممن ينتمين إلى عصور سابقة أو من المعاصرات لمرحلة إصدار القاموس. ويعيننا التدقيق النقدي لتلك التقارير في التعرف على الخصائص والإنجازات الفردية التي أدت إلى الاعتراف بهذه الشخصيات النسائية. كما تساعدنا المقارنة المتأنية بين المداخلات الواردة عن النساء في قواميس السير والتراجم المنتمية إلى عصور مختلفة في تحديد أثر الظروف الاجتماعية والتاريخية المتنوعة، والمتأثرة بالتحولات التي طرأت على المواقف والتوجهات الخاصة بأدوار النساء على المستوى العام، وكيفية انعكاسها في سير حياة هؤلاء النساء المتميزات.

وهنالك عدد كبير من السير والتراجم الخاصة بالفترة التي تتناولها هذه المداخلة، ومن أشهرها كتاب تاريخ مدينة دمشق:

تراجم النساء لعلي بن الحسن بن عساكر (المتوفى عام ٥٧١هـ. – ١١٧٦م)، وكتاب صفة الصفوة لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي (المتوفى عام ٥٩٧هـ ١٢٠١م)، وكتاب تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار (المتوفى عام ٦٢٨هـ.- ١٢٣٠م)، وكتاب وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأحمد بن محمد بن خليكان (المتوفى عام ٦٨١هـ. – ۱۲۸۲م)، وكتاب سير أعلام النبلاء لمحمود شمس الدين الذهبي (المتوفى عام ٧٤٨هـ. – ١٣٤٧م)، وكتاب الوافي بالوفيات لخليل بن أيبك الصفدي (المتوفى عام ٧٦٤هـ.- ١٣٦٢م). وعلى الرغم من أن القاموس التالي ذكره يوسع المدى هذا إلا أنني أضيفه نظرًا لأهميته آنذاك والتي ستتضح لنا لاحقا، والمقصود هنا هو كتاب الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني (المتوفى عام ٨٥٢هـ. – ١٤٤٩م).

يحتوي كل كتاب من هذه الأعمال قسما خاصا بالنساء، ومن ضمنهن نسبة مرتفعة من الصحابيات، كثيرا ما تكون هذه المداخلات منقولة حرفيا عن مداخلات وردت مسبقا في قواميس شهيرة للسير والتراجم من القرنين الثالث والرابع الهجري أي التاسع والعاشر الميلادي، مثل كتاب الطبقات الكبير لمحمد بن سعد (المتوفى عام ٢٣٠هـ./ ٨٤٥م)، وتضم أحيانًا مداخلات من أعمال سابقة تم تعديلها قليلا. كما تتضمن أهم كتب السير والتراجم من تلك الفترة أقساما خاصة بشهيرات النساء ممن ينتمين إلى أجيال متتالية، تصل أحيانا إلى المرحلة المعاصرة لمؤلف العمل، كما هو الحال بالنسبة لقاموس الوافي بالوفيات للصفدي.

تنتمي أغلبية النساء المدرجات في هذه الكتب إلى أربع فئات أساسية، وهي قريبات ومعاصرات الرسول (ص)، والمحدثات، والمتصوفات، والعالمات بصفة عامة، ونساء صاحبات الإنجازات الأدبية والثقافية. وتهيمن الصحابيات على الفئات الثلاثة الأولى، فعلى سبيل المثال تمثل الصحابيات تصف المداخلات الخاصة بالنساء في كتاب سير أعلام النبلاء للذهبي، والذي يتناول القرون السبعة الأولى من الإسلام، وينطبق الأمر بالمثل على كتاب الوافي بالوفيات للصفدي.

ولقد تم تضمين الصحابيات في الفئة الأولى، بسبب قرابتهن و/أو معاصرتهن للرسول (ص)، بطريقة شبه آلية، غير أنهن يخضعن على غرار الذكور للتصنيف حيث تتحدد مكانتهنوفقا للأسبقية، وهو تعبير يشير إلى ترتيب أولوية الدخول في الدين الإسلامي وخدمته. حيث تم بصفة عامة جمع أولئك اللاتي اعتنقن الإسلام مبكرا، وقدمن خدمات بارزة له، في مجموعة واحدة تشكل الحلقة الأولى من الصحابيات. ومن البديهي أن يتكون هذا القسم في غالبيته العظمى من زوجات وقريبات الرسول (ص)، ممن كن في وضع جعلهن من أوائل من سمع دعوته إلى الإسلام. وتتمثل الخاصية المميزة الأخرى لهؤلاء النساء البارزات في دورهن كمحدثات، ونظرا لأن الحديث يعد ثاني أهم مصدر للقانون بعد القرآن، فإن أوائل المحدثين والمحدثات يحظون بمنزلة رفيعة. ومع انتشار الأحاديث المشكوك فيها والمنسوبة للرسول (ص) أصبحت الحاجة ملحة لقيام رجال الدين لاحقا بالتدقيق في حياة المحدثين والمحدثات للتأكد من نزاهتهم، حيث يستند صدق الحديث إلى حد كبير إلى مصداقية والصفات الأخلاقية لكل راو وراوية على حدة. تمثل الصحابيات أكبر نسبة من المحدثات، كما يوجد عدد من المحدثات في الجيل اللاحق، وهو الجبل المعروف باسم التابعين“. وفي المجلد الخاص بالنساء من كتاب تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر، يولي الكاتب قدرا من الاهتمام بالجيل الثاني من النساء، إلى جانب الصحابيات، حيث يتناول عمله العصر الأموي الذي عاش فيه التابعون“. إلا أن مقدار تناول التابعاتيتناقص بشدة في غالبية السير والتراجم، وتظل أعداد النساء اللاتي يرد ذكرهن في السير والتراجم للتراجع في الأجيال اللاحقة.

أما الفئة الأساسية التالية من النساء فتتضمن المتصوفات التقيات اللاتي أصبحن مشهورات بفضل التقوى والعلم. ونجد في كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي، والذي يضم مجموعة من سير المتصوفة رجالا ونساء، أن الصحابيات يمثلن 14% من مجموع النساء والبالغ عددهن ٢٤٠ امرأة ممن ورد ذكرهن في هذا الكتاب، أما بقية النساء فينتمين إلى القرون التالية المتعاقبة وصولا إلى نهايات القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي. وتتمثل أهمية كتاب ابن الجوزي لما يتضمنه من عدد كبير نسبيا من النساء، خاصة إذا ما قارناه بكتاب سبقه لعبد الكريم القشيري (المتوفى عام ٤٦٥هـ. / ۱۰۷۲م) والذي لم يشر إلى امرأة واحدة، وكذلك مقارنة بمعاصره الفارسي وهو فريد الدين العطار (المتوفى عام ٦٢٨هـ./ ۱۲۳۰م) الذي أشار إلى امرأة واحدة فقط، هي الشهيرة رابعة العدوية (المتوفاة عام ١٨٥هـ. / ٨٠١م).

أما الفئة الرابعة من النساء، أي أولئك اللاتي عرفن بإنجازاتهن الأدبية وشخصياتهن المتوهجة أكثر من اشتهارهن بالتقوى والتدين في شكله التقليدي، فنجدهن في أعمال مؤلفي السير والتراجم، مثل ابن عساكر والصفدي. وتعد سكينة بنت الحسين (المتوفاة عام ١١٧هـ./ ٧٣٥م) من ضمن الشخصيات التي وردت لدي كل منهما، وهي سيدة تزوجت عدة مرات، وكانت ترأس صالونات أدبية يشارك فيها الرجال والنساء، ونالت مزيجا من مشاعر الإعجاب والخوف بسبب سخريتها اللاذعة. كما يرد في هذه الأعمال ذكر شاعرات ومغنيات، غالبيتهن من الجواري، وتمثل نشاطهن في بلاط الخليفة، مثل سلامة القصمن بدايات القرن الله الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، والتي كانت تعتبر من أكثر المغنيات موهبة في زمانها، وكانت من المفضلات لدى الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك (المتوفى عام ١٠٥هـ. / ٧٢٤م).

وقد تمت صياغة نظريات متنوعة لتفسير تضاؤل المداخلات الخاصة بسير النساء اللاتي عشن في الفترة ما بعد القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، آخذة في الاعتبار بعض العوامل مثل التحولات الاجتماعية والبيئية الناتجة عن نشأة المجتمعات الحضرية والزراعية التي حلت محل المجتمعات البدوية السابقة، والتغيرات في البنية الأساسية الناتجة عن نمومعدلات ملكية الأرض، وظهور التعليم النظامي الذي أدى إلى تأسيس الفصول الرسمية وتنظيم الطوائف المهنية التي مالت بطبيعها إلى إقصاء لنساء.

ويجب علينا أن نضيف إلى هذه العوامل تغلغل بعض القيم غير الإسلامية – العربية والتي أثرت سلبيًا على حياة النساء. ففي الفترة من عام ۱۱۰۰ إلى ۱٤۰۰ توالى عصر السلاجقة ثم المماليك بكل ما يحمله كل منهما من قيم اجتماعية مشتقة من القيم والمفاهيم الفارسية – التوركية التي تختلف في أحيان كثيرة عن القيم الإسلامية التقليدية. وبطبيعة الحال، كان قد سبق تطبع الأوساط الإسلاماتية (Islamicate) الراقية بالقيم الفارسية، بدءا من العصر العباسي، وهي تطورات كانت لها تداعياتها المهمة. حيث بدأت القيم الإسلامية التقليدية والقيم الإسلامية – العربية، والتي ظلت في تصاعد على امتداد القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، تتحول خلال القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي بطريقة عميقة وغير مباشرة أحيانا، وبصورة مباشرة وواضحة أحيانًا أخرى، وبالتالي يمكننا القول أنه مع حلول القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي كانت بعض القيم الأساسية قد طرأ عليها تغير وتراجع كبير (Marlow 1997). وتتضمن هذه القيم الإسلامية قيمة المساواة وخاصة المساواة الدينية الذي تتعلق بمساواة البشر على أساس التقوى والعلم. وتشير أدبيات السير والتراجم تحديدا إلى أن النساء قد استفدن خلال القرنين الأول والثاني الهجريين من الموقف العام تجاه التقوى والتدين، مما ساهم إلى حد كبير في تقليص معايير التمييز بين الجنسين عند تقييم الأفراد أخلاقيا. غير أن تغلغل المفاهيم الفارسية والهيلينية بشأن التراتبية الاجتماعية مع نهايات القرن الثاني الهجري/ التاسع الميلادي أدت إلى تقييم وتقدير الفرد، أي الذكر، أساسا من منطلق النسب والانتماء الطبقي والمقام المهني، في حين كانت النساء يستقين وضعهن الاجتماعي تبعا لأقربائهن الذكور.

كما أن وجود توجهات اجتماعية وتاريخية أخرى كان له تداعياته البالغة على حياة النساء، فبعد القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، تقلصت الأدوار العامة للنساء بطريقة كبيرة، إلا أنها لم تختف تماما بأي حال من الأحوال وتشير الدراسات والبحوث الحديثة إلى أن التحول المتزايد الذي طرأ على العلوم الدينية فأكثر بعد القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي لتصبح مجالا خاصا بالرجال، هو تحول أدى إلى التهميش المتزايد للنساء بعيدا عن المشاركة في إنتاج وتلقي التعليم الديني بكافة أنواعه. وكنتيجة طبيعية للسلوك العام القائم على الأدب والتحفظ الذي يفرضه القرآن على الرجال والنساء على حد السواء، بدأ التأكيد على مبدأ عزل النساء خلال العصر العباسي، وربما يرجع ذلك إلى تأثير ممارسة الفارسيين لهذا العزل الذي كان يشير إلى انتماء المرأة إلى الطبقات العليا. كذلك مع استقرار المسلمين خلال القرنين الأول والثاني للإسلام في الأراضي التابعة سابقا للفرس والبيزنطيين، تبنى هؤلاء المسلمون العادات التي كانت تمارسها تلك الشعوب ممثلة في عزل وتحجيب نساء النخبة، وهي ممارسات كانت مؤشرا لرغبتهم في الرفعة والارتقاء الاجتماعي (Ahmed 1992, 64 ff). ويعد هذا التطور متباينا تماما مع الروايات المتعلقة بحياة الجيل الأول من النساء المسلمات، اللاتي يقدمن في صورة الفاعلات في المجال العام، وخاصة في نشر المعرفة الدينية والخدمة في ميدان المعركة كمحاربات وغير محاربات وكمواطنات في نظام الحكم الإسلامي الجديد.

وقد أثرت تلك الأوضاع على كيفية تسجيل السير والتراجم في الفترات المختلفة، خاصة بالنظر إلى جيل المسلمات الأوليات حينما كن ينعمن، جنبا إلى جنب معاصريهن من الذكور، بهيئة كونهن من السلفأي الأسلاف الأتقياء للمسلمين في كل مكان. وكان ينظر إلى الأسلاف من الذكور والإناث باعتبارهم يمثلون السلف المعنوي والروحي للأجيال اللاحقة من المسلمين، والذين كان يزعم الأتقياء الاحتذاء الشديد بهم، حيث أن الابتعاد في السلوك عما ورد عن سلوك الصحابة في حياتهم كانت له تداعياته الأخلاقية البالغة بالنسبة للمسلمين الملتزمين.

ومن غير المستغرب أن يمثل سلوك نساء السلف، كما تم تسجيله في مجموعات السير والتراجم المبكرة، إشكالية بالنسبة لبعض كتاب السير والتراجم اللاحقين. ففي عصر السلاجقة والمماليك على وجه الخصوص كان كل من رجال الدين والمحافظون على السلوك الأخلاقي القويم يتوقعون من المرأة المسلمة المثالية العفيفة أن تظل منعزلة في المنزل. وهو ما يتضح في الكتب التي ألفها في هذه الفترة عدد من رجال الدين والقانون حول أحكام النساء، والتي حددت أشكال السلوك الأنثوي والمرغوب اجتماعيا.ولا ينبغي اعتبار تلك الكتابات انعكاسا للواقع وللممارسات الاجتماعية الفعلية آنذاك، بل يجب النظر إليها بالأحرى باعتبارها قائمة بالأمانيالذكورية المتعلقة بالصفات اللائقة والمرغوبة لدى المرأة المسلمة الفاضلة في نهايات العصور الوسطى. كما كانت هذه الكتابات في المقام الأول خلاصة وافية للتوجيهات الإرشادية الموجهة إلى النساء، والتي كانت تستهدف إقناعهن بالرغبة وضرورة البقاء في المنزل من أجل تلبية متطلبات الواجبات الدينية والالتزامات الأسرية وفقا لتعريفهم لها.

ومن الجدير بالاهتمام أن هذه الأعمال لا تشير إلى الصحابيات باعتبارهن نموذجا يحتذى للمسلمات اللاحقات، وهو أمر مفهوم نظرا لأن مسلمات الجيل الأول لم يعشن في عزلة على الإطلاق ولم يتمتعن بترف الحياة خلف أسوار بيوتهن. فوفقا للأوصاف التي وصلتنا عن العديد منهن نجد أن منهن المقاتلات الباسلات في المعارك، كما شارك البعض الآخر منهن في الخدمات الإنسانية وأعمال الإغاثة سواء في ميدان الحرب أو في مسجد الرسول (ص)، كما تولت نساء أخريات أدوارا قيادية في مجال العبادة الدينية. فما هو موقف كتاب السير والتراجم المماليك من هذه الظاهرة؟ إن التعرف على سير نساء السلف، كما هي، وبما تتضمنه من حجم الأنشطة الاجتماعية والدينية، قد يؤدي إلى توليد انطباعات تحريضية ومثيرة للفتنةفي صفوف النساء المملوكيات، بما يدفعهن إلى المطالبة بالمثل.

وهكذا نجد أن ابن حجر، على سبيل المثال، يقوم بكل جرأة بإعادة صياغة بعض الوقائع التاريخية السابقة لتتناسب أكثر مع توجهات نهايات العصور الوسطى حول الهوية الأنثوية العفيفة. وسوف نتناول بقدر من العمق مداخلة معينة متعلقة بامرأة تمثل إشكاليةخاصة، وهي أم عمارة التي قدمها مؤلف السير والتراجم الأقدم ابن سعد بوصفها امرأة شديدة الاستقلالية، وتمارس أنشطة عامة ذات طابع ذكوري، في حين تناول ابن حجر نفس الشخصيات بمعالجة تتناسب مع المفاهيم المملوكية السائدة. وقد قام بذلك من خلال تصدير سيرة صحابية أخرى هي أم كبشة، تتضمن تفاصيل تتناقض مع الاستنتاجات التي قد يصل إليها المرء من قراءة سيرة أم عمارة.

إن أم عمارة، المعروفة أيضًا باسم نسيبة بنت كعب، كانت تعد شخصية شهيرة من بني نجار. وقد أفرد ابن سعد مساحة مهمة لسيرتها مشيدا بمآثرها، حيث يعرض علينا أربع قصص واردة في مصادر مختلفة حول دفاعها المجيد عن الرسول (ص) أثناء غزوة أحد، ووفقا لابن سعد، بايعت أم عمارة الرسول (ص) في بيعة العقبة (٦٢٢م)، كما يبدو أنها شهدت عديدا من الأحداث المحورية في بدايات الإسلام حيث شهدت غزوة أحد، ومعركة الحديبية وغزوة خيبر، وغزوة حنين، ومعركة اليمامة، ويقول لنا ابن سعد بن أم عمارة قد توجهت ببسالة إلى أحد بنية أن تروي ظمأ المقاتلين إلا أنها سريعا ما وجدت نفسها تقاتل في صفوف المعركة ضد العدو. وعندما بدأت المعركة تنقلب ضد المسلمين، ظلت أم عمارة تحارب إلى جانب النبي وتذود عنه (ص) ضاربة بالسيف والقوس والسهم إلى أن أصيبت إصابات بالغة. ويقال أن جسدها أصيب باثنتي عشرة ضربة من رمح وسيف. وقد علق النبي على قيمة أم عمارة قائلا إن مقام نسيبة بنت كعب اليوم أعلى من مقام فلان وفلان. كما يقال إنها فقدت يدا في معركة اليمامة أثناء القتال عند مدعي النبوة مسيلمة من بني حنيقة بعد فتح مكة في عام 3هـ./ 360م، ويشير ابن سعد إلى أنها من سمعت ونقلت عديدا من الأحاديث النبوية.

أما المرأة الثانية، وهي أم كبشة، فيصفها ابن سعد ببساطة على أنها امرأة من قبيلة قضاعة، كما يقال أنها اعتنقت الإسلام ونقلت حديثا عن الرسول (ص). والمداخلة الخاصة بها لافتة للنظر حيث يرد فيها أنها طلبت من الرسول مصاحبته إلى المعركة، إلا أن طلبها هذا قد رفض، فتوسلت إليه بالموافقة على قيامها بمداواة الجرحى وسقاية العطشى في ميدان المعركة. فأمرها الرسول بأن تبقى في الخلف كي لا يقال أنه يقاتل جنبا إلى جنب النساء (ابن سعد ۱۹۹۷، ۸: ۲۳۷ – ۲۳۸). ولكن ابن سعد لا يذكر المعركة المحددة التي تقع خلفية هذه الرواية.

يقدم ابن حجر العديد من التفاصيل الأساسية الموجودة في رواية ابن سعد حول أم عمارة، ولكنه بركز علی تفاصیل مختلفة. إن مداخلته يبلغ طولها ربع مداخلة ابن سعد (ابن حجر بدون تاريخ، ۸ :٢٦۲). ونظرا للاهتمام الخاص الذي أولاه ابن حجر إلى الأحاديث وناقليها، فليس من المستغرب أن يلقي بالضوء على قيام أم عمارة بنقل الأحاديث عن محمد (ص). ثم يقوم، وعلى غرار ابن سعد، بتوثيق مشاركة أم عمارة في أولى المعارك الكبرى. وإذا ما قارنا رواية ابن حجر بالروايات الأربعة المثيرة الواردة عند ابن سعد حول إنجازات أم عمارة في ميدان الحرب، وخاصة دفاعها الشجاع عن الرسول، نجد أن ابن حجر قد اكتفى بسرد رواية ضعيفة حول الموضوع نفسه، كما تجاهل ابن حجر الإشارة إلى إشادة النبي (ص) بأم عمارة، ومفادها طبقا لما ورد عن ابن سعد أن محمدا (ص) أعلن أنها هي صاحبة المكانة الأعلى بين كل المسلمين في يوم أحد. والواقع أن التقرير المائع لابن حجر يوحي بالتباس موقف ابن حجر فيما يتعلق بمشاركة النساء في ميدان المعركة، وهو المجال التقليدي للبطولة الرجولية.

إن مداخلة ابن حجر عن أم كبشة تقدم لنا أخيرا الإجابة في كتاباته عن السير والتراجم بشأن موضوع اكتسب بوضوح قدرا بالغا من الحساسية (ابن حجر، ۸ :۲۷۰)، حيث يروي ابن حجر أن أم كبشة قد طلبت إذنا من الرسول (ص) لمصاحبة الجيوش. ومرة أخرى، يمكننا ملاحظة أنه لا توجد إشارة إلى معركة محددة في هذه الرواية. ويورد ابن حجر أن رد الرسول كان على هيئة رفض قاطع، ثم تقوم أم كبشة بالدفاع عن وجهة نظرها معبرة بوضوح أنها لا تسعى إلى القتال بل إلى رعاية الجرحى وسقاية العطشى. أما في رواية ابن سعد، فلا توجد إشارة إلى أنها صرحت بعدم مشاركتها في القتال، ثم يجيب الرسول (ص) أنه كان يمكنه أن يمنحها هذا الإذن، لولا إن الأمر كان سيتحول إلى سنة، وبالتالي يقال أن فلانة أو فلانة قد خرجت (إلى المعركة)، ومن هنا طالبها بالبقاء (ابن حجر، ۸: ۲۷۰).

ثم يشير ابن حجر إلى أن مضمون هذه الرواية يتناقض مع رواية أخرى خاصة بصحابية أخرى، هي أم سنان الأسلمي، التي سمح لها بالذهاب إلى أرض المعركة. ووفقا لابن حجر، تتمثل الطريقة الوحيدة في التوفيق بين هاتين الروايتين اللتين تحتويان على مضامين متناقضة، في الإصرار على أن الحديث المتعلق بأم كبشة هو حديث ناسخللحديث الخاص بأم سنان، حيث يرى أن الرواية التي تتناول أم كبشة هي رواية لاحقة وتتعلق بحدث وقع بعد فتح مكة في عام ٩هـ. /٦٣٠م. وحيث إن الرواية المتعلقة بأم سنان تقع على خلفيتها غزوة خيبر، بينما نجد غزوة أحد في خلفية الرواية الأخرى، وكلا الغزوتين سابقتان، فإن ابن حجر يرى أنه ينبغي اعتبار أن الرواية اللاحقة قد أبطلت الروايتين السابقتين، ولا يوجد توضيح لكيفية توصل ابن حجر إلى معرفة الإطار التاريخي لرواية أم كبشة، فكما سبق القول، لم يقدم لنا ابن سعد جدولا زمنيا محددا بالنسبة لهذه الرواية. ولعل اختيار فترة ما بعد فتح مكة باعتبارها هي الموقع التاريخي لهذه الرواية قد يوحي بعدم وجود اعتراضات على مشاركة النساء في المعارك قبل الفتح، حيث كان يقع على جميع المسلمين – رجالا ونساء – واجب الدفاع عن الإسلام في ظل الظروف الصعبة التي وجد ذلك المجتمع الإسلامي الصغير نفسه فيها آنذاك. أما بعد فتح مكة، أصبح من الممكن الاستغناء عن تلك المشاركة، حيث أصبح الإسلام هو الديانة السائدة في شبه الجزيرة العربية، ثم تحول إلى حضارة عالمية ومن خلال اختياره فترة ما بعد الفتح كإطار لرواية أم كبشة، يؤكد ابن حجر وجود مقتضيات تاريخية معينة في البدايات جعلت من مشاركة النساء في بعض المعارك أمرا ضروريا، بل ربما أمرًا مرغوباً فيه. وحينما اختفت تلك المقتضيات، لم تعد هذه المشاركة مرغوبة بل وأصبحت مثارا للاعتراض، كما أن كون رواية ابن حجر تشير إلى أم كيشة باعتبارها تتنصل تماما من فكرة القتال، وتتمثل رغبتها الوحيدة في مساعدة الجرحى والعطشي، هو أمر ذو مغزی، فروايته لا تترك أدنى شك في ذهن القارئ والقارئة بأن الأمر المرفوض لا يتعلق بدور أم كيشة كمقاتلة، بل يشير بالأحرى إلى رفض حضورها في ميدان المعركة، حتى وإن كان ذلك لأغراض ذات طابع إنساني خالص.

ونجد أن ابن حجر لا يذكر هنا، أو لعله يتناسى حالة أم عمارة التي يقال إنها فقدت إحدى يديها في معركة اليمامة، وهي معركة وقعت في عام ١٢هـ./ ٦٣٣ ٦٣٤م، أي بعد فتح مكة (على الرغم أن كلا من ابن سعد وابن حجر يشيران إلى تلك التفصيلة التاريخية الخاصة بأم عمارة). ويمكن القول أن سلوك صحابية شهيرة قاتلت في معركة محددة بعد فتح مكة من شأنه التأثير على تناول ابن حجر لهذا الموضوع الحساس، مقارنة بحالة أم كبشة، وخاصة مع ما تتسم به التفاصيل التاريخية المحيطة بأم كبشة من حالة يشوبها الغموض في أفضل الأحوال. وبالتالي لا يمكن أن تقدم رواية أم كبشة أساسا متينا يعتمد عليه للوصول إلى استنتاجات نهائية بشأن الترتيب الزمني للأحداث، مما يؤثر بدوره على مدى كونها رواية ناسخة لما قبلها. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن ابن حجر قد حسم أمره بوضوح فيما يتعلق بالوجود النسائي في ساحة المعركة في الفترات اللاحقة على بدايات الإسلام، وبالتبعية فيما يتعلق بالوجود النسائي في المجال العام بصفة عامة. ومن هنا يقدم ابن حجر حكاية أم كبشة فقط باعتبارها دليلا نصيا يدافع به عن موقفه الشخصي.

يعكس التوتر الموجود في بعض السير والتراجم اللاحقة حول سلوك النساء في المجال العام تخوفات تتعلق بالسياق التاريخي والسياق السياسي الأوسع. فقد كان عصر السلاجقة وعصر المماليك من العصور التي شهدت اضطرابات اجتماعية وسياسية في العالم الإسلامي. وقد تسببت عمليات السلب والنهب والتخريب التي مارسها الصليبيون ومن بعدهم المغول في إحداث حالة من الدمار المادي والمعنوي. ومن الملاحظ، بصفة عامة، وفي مثل تلك الأزمنة المتسمة بالغليان، وجود اتجاه إلى وضع قواعد منظمة للمجال المنزلي وتقييد سلوكيات النساء في المجال العام، كوسيلة لدرء حدوث مزيد من التغييرات في الحياة العامة للرجال ولتأمين الاستقرار الاجتماعي. وما من شك في أن التهديدات السياسية الخارجية كان لها المزيد من الآثار الضارة على الأنشطة العامة للنساء. ويبدو أن العلماء من الذكور المتخصصين في مختلف المجالات، والذين ينتمون إلى تلك الفترات قد شاركوا في جهد جماعي لصياغة تأصيل في القرن الأول يتناول ممارسات عزل النساء ولتشجيع تخلي النساء عن محاولة الاندماج في الأنشطة الاجتماعية المسئولة.

وكما هو الحال غالبا بالنسبة للسجلات التاريخية، نجد أحيانا أن الكلمات المكتوبة لا تكشف وتعبر عن الواقع التاريخي لفترة ما بقدر ما تكشفه وتحدثنا عنه النصوص الثانوية غير المدونة. إن المقارنة بين السير والتراجم التي تعود إلى فترات مبكرة ولاحقة تساعدنا على رسم التقلبات الطارئة على حياة ووضع النساء عبر الأجيال، كما تعيننا على فهم الأسس الفكرية المنظمة لعملية إعادة كتابة بعض الروايات والأحداث فيما بعد. ولذا تظل هذه النصوص الثانوية جزءا لا يمكن الاستغناء عنه ضمن المصادر المتاحة لنا لتحقيق مصداقية في إعادة بناء حياة النساء، وخاصة المنتميات إلى الفترة التاريخية المبكرة.

 

مصادر أولية

أحمد بن حنبل، أحكام النساء، تحقيق عبد القادر أحمد عطا، القاهرة ۱۹۸۰.

أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، بيروت بدون تاریخ.

أحمد بن محمد بن خليكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، بیروت ۱۹68 – ۱۹۷۲.

خليل بن أيبك الصفدي، الوافي بالوفيات، تحقيق هيلموت ريتر وآخرين، إسطنبول ۱۹۳۱ – ۱۹۸۳.

عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، أحكام النساء، تحقيق أحمد شوحان، دير الزور سوريا ١٤١١هـ./ ۱۹۹۱م.

علي بن الحسن بن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، تراجم النساء، تحقيق سكينة الشهابي، دمشق ۱۹۸۲.

فريد الدين عطار، تذكرة الأولياء، تحرير نيكولسون لندن 1905.

محمد بن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر، بيروت ١٤١٨هـ. /۱۹۹۷م.

محمد شمس الدين بن أحمد الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين، بيروت ۱۹۸۱ – ۱۹۸۸.

 

مصادر ثانوية

A. Abd al-Raziq, La femme au temps des Mamlouks en Egypte, Cairo 1973.

A. Afsaruddin, Reconstituting women’s lives. Gender and the poetics of narrative in medieval biographical collections, in
Muslim World (2002), 461–80.

L. Ahmed, Women and gender in Islam. Historical roots of a modern debate, New Haven, Conn. 1992.

M. Chapoutot-Remadi, Femmes dans la ville mamluke, in Journal of the Economic and Social History of the Orient 38
(1995), 145–64.

L. Marlow, Hierarchy and egalitarianism in Islamic thought, Cambridge 1997.

R. Roded, Women in Islamic biographical collections. From Ibn Sa‘d to Who’s Who, London 1994.

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي