محور برنامج للحركة النسائية

التصنيفات: الحركات

تاريخ النشر:

2006

إعادة نظر في العلمانية والأصالة

التحديات التي تواجهها الناشطات المصريات (1)

من الصعب صرف ذهني وتركيزي هذه الأيام عن مركز اهتمامي الأكاديمي والسياسي والعاطفي، وهو النساء العراقيات، ورعب الاحتلال، وتضاؤل حقوق النساء في العراق. وقد ترددت في المشاركة في مؤتمر لا يمكنني الإسهام فيه بما يزيد على بحث عفى عليه الزمن، كما أنه سيبعدني عن اهتمامي الأساسي هذه الأيام. إلا أنه بالإضافة إلى مشاعر الامتنان والشكر العميقة الخاصة التي أكنها لآمال عبد الهادي وكل عضوات المرأة الجديدة وسائر الناشطات المصريات اللائي أجريت مقابلات معهن وكن في غاية الكرم بما أتحنه لى من وقتهن وما قدمنه لى من مساعدة، فقد شعرت عندما راجعت نفسي أن كل أشكال الكفاح متصلة ببعضها بصورة أو بأخرى. ومع أن الناشطات العراقيات يعملن في سياق مختلف كل الاختلاف، فهن كذلك يكافحن من أجل بعض القضايا المتشابهة وإن كان ذلك في ظروف شديدة الاختلاف على الأرض. وأدركت كذلك أن إعادة النظر في العلمانية والأصالة ليست أمرًا عفى عليه الزمن، حتى وإن كان من المحتمل أن هذا هو حال جزء من الأساس الإمبريقي لمناقشتي.

سوف أعرض في هذه الورقة، التي تعتمد على عملي الأكثر اتساعًا بعنوانالعلمانية والنوع والدولة في الشرق الأوسط:الحركة النسائية المصرية” Secularism, Gender and

the State in the Middle East: the Egyptian Women’s Movement (CUP, 2000), خطين فكريين كانا محوريين بالنسبة لتفكيري وعملي الخاص بحركة المرأة المصرية، وإلى حد ما بالنسبة للنساء في العراق كذلك؛ فأحدهما يدور حول مفهوم العلمانية والآخر حول تأويلاتالأصالةوالمناقشات التي تدور حولها.

لماذا العلمانية؟

لم يثر أي مفهوم آخر مثل ذلك القدر من الخلاف أو الاعتراض والتشوش الذي أثاره مصطلحالعلمانية؛ فخلال العقد المنصرم دخل المفكرون والشخصيات السياسية والسلطات الدينية داخل مصر في مناقشات اتسمت بالحدة في كثير من الأحيان حول أصل العلمانية ومعناها وقيمتها. وغالبًا ما أسهم الباحثون والصحفيون الذين كانوا يعلقون على هذا الأمر من خارج مصر في مستوى التشويش والغموض المحيط بالمفهوم. والأمر المثير للدهشة أن كُتَّابًا كثيرين لم يستطيعوا تحديد ما الذي يعنونه بالفعل حين يتناولون فكرة العلمانية. وكثيرًا ما يصاحب عدم التحديد هذا تقديم العلمانيون باعتبارهم مجموعة متجانسة بدون أي اختلافات أو تباينات داخلها ولا يأخذ الاهتمام المتزايد بالحركات الإسلامية وتجلياتها واتجاهاتها المختلفة في الاعتبار أن الاتجاهات العلمانية التي تمثل مجموعة من المواقف والانتماءات السياسية والمواقف من الدين.

وبالمثل، فقد جرى توجيه القليل جدًا من الاهتمام لأثر من آثار العلمانية الأساسية على المواطَنة الحديثة في مصر، وأعنى بذلك أن العلمانية تُعَرَّف جماعات المواطنين المختلفة على أنها متساوية أمام الدولة والقوانين. وهذا هو الحال في شكله المثالي. فالمقصود بالعلمانية أن يكون لها دور إيجابي في الحكم على الدول متعددة الأعراق ومتعددة الأديان مثل مصر (حيث يوجد فيها مسلمون وأقباط). ومما يؤسف له أن العلمانيات ما بعد الكولونيالية لم تمنح مواطنة متكافئة للأقليات الدينية، واقتصرت في الغالب على تعزيز مشروعية دين الأغلبية وإن كان ذلك على نحو خفى. وكما تقول أمريتا تشاتشي عن الهند، فقد كانت النزعة القومية في بعض الحالات طائفية أكثر منها علمانية بكثير (1991: 155). إلا أن معظم مؤيدي العلمانية في مصر يركزون على الصلة بين العلمانية والوحدة الوطنيةبين الأقباط والمسلمين. وكما قلت في موضع آخر (العلى، 1997)، فإن أزمة العلمانية في مصر تتزامن مع أزمات مرتبطة بالهوية القومية المهددة منالداخل والخارج“(2).

والواقع أن ما أثار اهتمامي بالناشطات العلمانيات كان إلى حد ما إدراكي أن التأكيد الحالي على الدوائر الإسلاموية غالبًا ما كان يتم على حساب التعمق في رؤية التباينات بين الفاعلين السياسيين العلمانيين والخطابات السياسية العلمانية في مصر. ولم تكشف لي مشاركتي في نشاط النساء أن هناك فروقًا كبيرة بين الجماعات والناشطين فيما يتعلق بوجهات نظرهم السياسية ومقاربتهم لإخضاع النساء ونشاطاتهن فحسب، بل شككت كذلك في أن هناك اختلافات فيما يخص تفسير العلمانية وتجلياتها في سياستهم وأسلوب حياتهم. ولم يمنعنى هذا الإدراك من الشعور بالدهشة أثناء عملي الميداني حين واجهت مجموعة كبيرة من طرق فهم العلمانية وتجلياتها.

قبل الشروع في بحثى وصفت النزعةذات التوجه العلمانيبأنها قبول الفصل بين الدين والسياسة، وأكدت أنها لا تدل بالضرورة على مواقف معادية للدين أو معادية للإسلام، بل أشرت إلى أن النساء ذوات التوجه العلماني لا يؤيدن الشريعة باعتبارها المصدر الوحيد للتشريع؛ ذلك أن مرجعهن هو القانون المدني وقرارات اتفاقيات حقوق الإنسان، كما تبنتها الأمم المتحدة، باعتبارها أطر المرجعية الخاصة بكفاحهن. ومن المؤكد أن هذا التعريف وجد صدى بين النساء اللائي أجريت مقابلات معهن. ومع ذلك تشير نتائج بحثى إلى أن هذا التعريف يغفل تغاير طرق فهم العلمانية وتجلياتها بين الناشطات المصريات، كما أنه يفشل في تحليل الطيف الواسع والمتصل بين المعتقدات والممارسات الدينية والعلمانية في حياة النساء اليومية.

وآمل فيما يلى أن أتمكن من توضيح بعض هذه الرؤى المختلفة بشأن طرق فهم العلمانية فيما بين الناشطات المصريات. وسوف أبحث كذلك كيفية ترجمة صياغة المفاهيم تلك إلى ممارسة سياسية وأسلوب حياة شخصي.

تعريفات واستراتيجيات سياسية:

تفاوتت طرق فهم العلمانية الخاصة تفاوتًا كبيرًا خلال المقابلات التي أجريتها، بل إنني وضعت يدى على اختلافات فيما يتعلق بفهم العلمانية وكذلك الالتزام والانتماء الديني الشخصي في المجموعة الواحدة. وبينما لم يتضح ذلك باستمرار في إجابات النساء اللائي أجريت معهن اللقاءات، فمن المهم التمييز من الناحية المفاهيمية بين الالتزام الديني الشخصي والمجال السياسي الخاص بالدين كمؤسسة.

وتنشأ مشكلة التصنيف في السياق الذي تبدو فيه الحدود غير واضحة إلى حد ما. وتستخدم عزة كرم في دراستها التي تتسم بنفاذ البصيرة عن نشاط النساء والنزعة الإسلاموية في مصر (1998) ثلاثة تصنيفات مختلفة لتمييز عضوات الحركة النسوية المصريات، وهي الإسلاموية والإسلامية والعلمانية. وهي تصف المجموعة الأخيرة كما يلي:

تؤمن عضوات الحركة النسوية إيمانًا راسخًا بإقامة خطابهن على أسس خارج نطاق أي دین، سواء كن مسلمات أم مسيحيات، ووضعه بدلاً من ذلك داخل إطار خطاب حقوق الإنسان الدولي. وهنلا يضيعن وقتهنفي محاولة التوفيق بين الخطاب الديني ومفهوم حقوق الإنسان وإعلاناته. كما أنهن يرين أن الدين يحظى بالاحترام باعتباره أمراً شخصيًا خاصًا بكل فرد، غير أنه مرفوض تمامًا باعتباره أساسًا يمكن من خلاله وضع أية أجندة خاصة بتحرير المرأة. وهن بذلك يتحاشين الوقوع في جدل لا ينتهى حول وضع المرأة في الدين. (كرم، 1998: 13).

من ناحية أخرى تقول عزة كرم إن عضوات الحركة النسويةيحاولن اتخاذ موقف وسط بين تفسيرات الواقع الاجتماعي السياسي والثقافي بناء على الإسلام من جهة وخطاب حقوق الإنسان من جهة أخرى” (المرجع السابق:2). وبما أن دراستي معنية على نحو خاص بالناشطات ذوات التوجه العلماني، فإنني لا أختلف مع تعريف عزة كرم وتحليلها لعضوات الحركة النسوية الإسلامويات. إلا أنه فيما يتعلق بتصنيفىعلمانيةومسلمة، فإن نتائج بحثى تشير إلى أن الحدود بينهما قد لا تكون واضحة وضوحًا لا لبس فيه. وكما سأحاول أن أبين فيما يلي، فإن الرؤى والآراء الخاصة بالعلمانية والدين شديدة التعقيد ومتغيرة حتى فيما بين أفراد الجماعة الواحدة. وعلاوة على ذلك تمثل اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية مرجعية واحدة فقط من بين مرجعيات كثيرة، على عكس افتراضاتي المبدئية.

إذا تركنا الاختلافات جانبًا لوجدنا أن النساء كافة اللائي أجريت معهن مقابلات أجمعن على معارضة إقامة دولة إسلامية، وتطبيق الشريعة، وقانون الأحوال الشخصية القائم، وفرض قواعد لارتداء الملابس، أي الحجاب الإجباري. كما اشتركن في الشعور بضرورة عدم إدخال الدين في السياسة. وقالت لي سهام ك (3) عضو رابطة المرأة العربية:

أنا واحدة ممن يؤمنَّ بضرورة فصل الإسلام عن الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والاقتصادية. إنه حق الاختيار في أن تكون مصر بلدًا مسلمًا. وينبغي أن يظل هذا أمراً شخصيًا. فحرية الاعتقاد أمر متكامل. ولابد ألا يتدخل الإسلام في حقوق المرأة. ولا يمكن أن يكون جزءًا من الرؤية السياسية والمستقبل السياسي. فهذه مسألة أخرى تمامًا. وأنا أرغب في فصل الدين عن السياسة الفعلية“.

أكدت ناشطات كثيرات في إجاباتهن عن أسئلتي بشأن العلمانية أن النساء كن سيدفعن ثمنًا غاليًا جدًا لو نجح الإسلامويون في تحقيق مطالبهم. وقليلات فقط هن من يرين الدين في حد ذاته، سواء أكان الإسلام أم المسيحية، على أنه متناقض مع الحركة النسوية. وفرَّق معظمهن بين الإسلام والنزعة الإسلاموية، التي كثيرًا ما وصفنها بأنها نزعة تطرفية، كما يؤكدن أن الإسلامويين، وخاصة الرجال منهم، يشوهون التعاليم الدينية كوسيلة لاكتساب القوة والسلطة.

هدى ل كاتبة وناشطة في أواخر الثلاثينيات من عمرها توضح هذا الأمر فيما يلي:

أنا مسلمة وعربية ومصرية. وحين أقول مسلمة أعنى العقيدة الشخصية ولا شيء غير ذلك! وهؤلاء الذين يطالبون بالدولة الإسلامية يستخدمون مفهومًا خاطئًا وتفسيرات مغلوطة للإسلام تقوم على آيات مرتبطة بفترة تاريخية بعينها. وهناك الكثير من أنماط الإسلام والاتجاهات داخل الإسلام، فأي منها هو الذي نتحدث عنه؟ كيف سنقرر ما نقرره بشأن حقوق النساء؟ إن الإسلام يتميز من الناحيتين الجغرافية والتاريخية ببعض الاتجاهات التي تسم بالتقدم وبالبعض الآخر المحافظ“.

عبرت بعض الناشطات عن اقتناعهن بأن أي تفسير للإسلام يمثل عقبة في سبيل مساواة النساء، ويشرن إلى آيات وأقوال بعينها تؤيد مقولتهن، وهو ما تفعله هؤلاء النساء اللائي يقلن عكس ذلك. وقليل من النساء من وسعن دائرة نقدهن للإسلام لتشمل الدين بصورة عامة ويؤكدن أن التعاليم الدينية مرتبطة ارتباطًا لا انفصام له بالقيم الأبوية. وتقول ليلى م الناشطة الشابة المشاركة في قضايا صحة المرأة:

الأمر سواء بالنسبة للإسلام والمسيحية واليهودية! فالنساء يُنظر إليهن بصورة أو بأخرى على أنهن أدنى مكانةً، ومن المفترض أن الممارسات الدينية تعمل على أن يظل الحال كذلك. لقد كانت الأديان أداة قوية في أيدي الرجال في أنحاء العالم كافة. وأظن أنه لابد لك من التوسع کثیرًا کی تقرئي أي شيء إيجابي في الدين فيما يتعلق بالمرأة. (ليلى م).

يدخل الانتماء الديني الصراع السياسي والحياة اليومية لهؤلاء النساء اللائي أسميهنالناشطات العلمانياتبطرق شتى. فأول كل شيء أن بينهن مسلمات ومسيحيات. وقد نشأن في بيئات ذات درجات متفاوتة من الالتزام الديني. إذ تؤدى بعض الناشطات الصلاة، والبعض يصوم ويحتفل بالأعياد الدينية. كما أن البعض الآخر لا يفعل شيئًا من هذا. ويؤمن البعض بأهمية إعادة تفسير النصوص الدينية كوسيلة لاجتذاب المزيد من المصريات إلى كفاحهن وكذلك لكشف تشوهات التفسيرات الذكورية. ويرفض البعض الآخر فكرة العمل داخل الأطر الدينية؛ إذ سيكون لها أثر عكسي في نهاية الأمر. وما يبرر إطلاق صفةعلمانيةعلى مجموعة متغايرة من النساء اللائي يستخدمن استراتيجيات مختلفة جدًا هو عدم النظر إلى الدين على أنه الإطار الوحيد للتحليل؛ سواء في كفاحهن أو فيما بين النساء المصريات بصورة عامة.

أصل القيم: مذاهب أم تجارب؟

نقطة الانطلاق بالنسبة للكثير من الناشطات العلمانيات هو أن الدين لا يمثل المصدر الوحيد للقيم ولا يشكل محور التوجيه في حياة الناس. وعن ذلك تقول عايدة سيف الدولة:

تتحدث النساء من كلتا الطائفتين الدينيتين في مصر، سواء أكن مسلمات أم مسيحيات، ومن نفس الطبقة الاجتماعية والتعليمية، لغة متشابهة، ولديهن قيم متشابهة، ويلتزمن بمعايير اجتماعية متشابهة، ويؤدين أو يفهمن انتهاك الحقوق من خلال أحداث متشابهة. وحين نقول نساء من كلا الدينين، فنحن نعني بذلك المرأة المتدينة العادية المؤمنة التي قد ترتدى الحجاب، وقد تؤدي الصلاة دون أن تدافع عن الدين باعتباره منظم العالم. ولا يعنى هذا النساء اللائي يستخدمن الدين كمرجع في كل قرار يتخذنه في حياتهن. فهو في هذه الحالة يشكل جزءًا من الأيديولوجيا إلى جانب أمور أخرى بعضها تجاربهن والبعض الآخر معايير اجتماعية وتجارب متشابهة مرت بها الصديقات والأسرة. وتتأثر بالثقافة التي هي مجموعة من الثقافات والأيديولوجيات الكثيرة إلى الحد الذي يصعب معه القول مني ينتهى تأثر ما وأين يبدأ آخر (عايدة سيف الدولة، 1996:25).

تتناول عايدة سيف الدولة الالتزام الدينى باعتباره ملمحًا من ملامح الحياة اليومية لا يمثل في رأيها سوى جانب واحد من خلفية حياة النساء وقيمهن. وبسبب التسييس المتزايد للإسلام داخل مصر وفي الخطاب الأكاديمي، باتت عناصر الالتزام الديني، وأبرزها ارتداء الحجاب، تمثل مجموعة كاملة من الدلائل التي قد تبالغ في تقييم وزن الدين في الحياة اليومية للنساء. وتتذكر نيفين بـ الناشطة الشابة من جماعة بنت الأرض. الدور الذي قام به الدين في تنشئتها:

كنا متدينين تدينًا عاديًا في البيت. وكان للإسلام دور محايد. وكانت أمي، على سبيل لمثال، تقول إنه من المهم أن نصلى، وكنت أصلى حتى سن الخامسة عشرة. وبعد ذلك لم تعد لدي رغبة في الصلاة، حاولت أمي مرة ومرتين وثلاث مرات، ثم استسلمت. لبست الحجاب لمدة ستة أشهر وأنا في الخامسة عشرة. لبسته لأنني شعرت أنني فعلت شيئًا خطأ؛ فقد قبلني صديق على خدى، وأنا الآن أرى ذلك أمرًا تافهًا، بينما كنت أشعر حينذاك أنه خطأ كبير. وبعد ذلك أدركت أننى أخدع نفسي، وبعد خمسة أو ستة أشهر لم أستطع الاستمرار وأخبرت أمي أنني أريد خلع الحجاب. وقد خلعته وذهبت إلى الإسكندرية وسبحت في البحر مرتدية المايوه. وارتدت أختى الحجاب بعد سن الخامسة عشرة. وكانت هي الأخرى تلبس المايوه من قبل. وهي مستنيرة مقارنة بالأخريات. كما أنها عقلانية أكثر منها متدينة. ولم تكن تنشئتنا دينية على نحو كبير، غير أن الدين في الخلفية باستمرار. ومع كان ذلك فهو لم يكن في يوم من الأيام المحرك الأساسي. إذ كنا نستخدم الأخلاق أكثر من المفاهيم الدينية. ولم يكن لمفهومالحراموالعيبوجود. وأنا لم أستخدم قط كلمةحراممعابنتی“.

من بين الناشطات اللائي أجريت مقابلات معهن، ذكرت كثيرات أن الالتزام الديني يرتبط بالعادات والتقاليد الثقافية أكثر بكثير من ارتباطه بالدين. وقد رأت الكثيرات أن صيام رمضان على وجه الخصوص طريقة للمشاركة في نشاط جماعي ووصفن رمضان، وبشكل خاص أسلوب الحياة الذي يفرضه، بأنه حدث ثقافي. وفي بعض الأحيان يختلط التدين بالممارسات الثقافية، كما قالت سامية ع إحدى العضوات الصغيرات في مركز دراسات المرأة الجديدة:

أنا أومن بالإسلام.. وأؤمن بالله. وأصلي. وأصوم. وأقرأ القرآن. وأشرب، ولكني لا أشعر بالذنب لذلك. ولا آكل لحم الخنزير. وهذا مهم جدًا. فالقرآن حرَّم لحم الخنزير لأنه من المفترض أنه حيوان قذر. وأعرف أن الخنازير في الغرب نظيفة، ولكنه مُحرَّم في ثقافتي. والثقافة أقوى من الدين. وعلى سبيل المثال فإن عمى ملحد، ولكنه محافظ جدًا. فتلك قواعد ثقافية وليست مسألة دين. صحيح أن المصريين متدينون بمعيارهم المزدوج ؛ فنحن قد نشرب ثم نصوم في رمضان، فالدين موجود في الخلفية. أنا علمانية لأن هذا سلوك عقلاني. إنه إحساسي السليم. ولا ينبغي أن يكون الدين نقطة الانطلاق في أي لقاء سياسي أو أكاديمي. إن هناك بالفعل قيمًا في ثقافتنا ينبغي أن نؤمن بها؛ ليس بسبب دين بعينه. فالمساواة والاحترام وتقديم المساعدة للآخرين وعدم الاعتداء على الآخرين والطيبة وعمل الخير والأمانة والصراحة جميعها قيم إنسانية يمكن أن يؤمن بها كل إنسان بغض النظر عن دينه. كما أنني أؤمن بعدم فضح الآخرين ووصمهم بالعار كما يفعل الإسلاميون“.

طبقًا لما قالته سامية ع، يشكل الدين والعادة شبكة معقدة ليس من السهل فك خيوطها. وهي ترفض الخضوع لمن يربطونالمسلمة الصالحةبقاعدة بعينها في ارتداء الملابس أو طريقة للسلوك. وتشكو سامية ع، غير المحجبة وغالبًا ما ترتدى مینی جیب، قائلة:”أنا مسلمة طوال حياتي. لم يريدونني أن أكون مختلفة عما كنت عليه؟وهي ترى أن التعليم والأخلاق لا ينبغي لهما أن يقوما على أساس من الدين، بل على أساس من القيم الإنسانية الكلية. وبالنسبة للسياسة، فإن سامية ع بصورة عامة صريحة جدًا ولا تتراجع عن انتقاد محاولات وضع القضايا السياسية داخل الأطر الدينية، فيما يتعلق بنشاط النساء أو مشاركتهن في القضايا والحملات السياسية الأخرى. وخلال ورشة عمل استمرت يومين لمناقشة إطلاقمراقبة إعلام المرأة” ,،تحدثت سامية ع بانفعال حين دار النقاش حول مسألة ما إذا كانت النساء القبطيات يعانين من أشكال إضافية من التفرقة غير تلك التي تعاني منها النساء المسلمات، بسبب وضعهن كأقلية دينية، أم لا. وقد أنكرت متحدثات كثيرات وجود أية تفرقة ضد القبطيات وأكدن المساواة بين النساء القبطيات والمسلمات فيما يتعلق بالحقوق والواجبات والمشاكل. وأخذت سامية ع الميكروفون وتساءلت:”لم تتحدثون باستمرار عن المسلمات والمسيحيات؟ لنفترض أنني أريد أن أكون طرفًا ثالثًا. ماذا ستفعلون حينذاك؟“.

لابد أن تكون لنا معرفة بالمناقشات الدائرة حاليًا كي ندرك مدى جرأة ذلك التعليق، وخاصة في سياق به أناس من خلفيات سياسية ودينية مختلفة، ولا يجمعهم سوى اهتمامهم بالإعلام. فهل كانت سامية ع تشير إلى إمكانية أن تكون غير مؤمنة أو أن يكون لها انتماء ديني آخر غير الإسلام والمسيحية؟ إنها لم توضح ذلك، ولكن غيرها من المشاركات بدت عليهن حيرة شديدة. وفي وقت لاحق حكت لي سامية ع عن تلك الواقعة قائلة:”كنت غاضبة. إنهن يصرفن قضايا التفرقة ضد الأقباط عن وجهتها، كما أنهن يتظاهرن بأن المجتمع متجانس. لم يتحدثون باستمرار عن المسلمين والمسيحيين؛ فلنفترض أننى يهودية. ماذا ستفعلون معي؟وكثيرًا ما تثور قضية التفرقة ضد الأقباط بمناسبة مناقشة سامية ع للعلمانية. وكما هو حال المفكرين الذكور مثل المرحوم فرج فودة، تشعر سامية ع بالرعب من النزعات الطائفية وتزعجها معاملة الأقباط داخل الجماعة الوطنية.

ولذا فليس من المستغرب أن يكون للناشطات القبطيات نصيب خاص في النقاش الدائر حول العلمانية. نادية م واحدة من أكبر من أجريت معهن مقابلات سنًا تصف نفسها وتقول إنها مؤمنة، وهي تُعَرِّف علمانيتها من ناحية الاختلاف عن العقيدة الدينية التي تبرزها الكنيسة. وهى ترى أن إيمانها جزء لا يتجزأ من حياتها، ولكنها ترفض فكرة أن يكون الإيمان مساويًا للمذاهب الرسمية أو الأحكام الصادرة عن السلطات الدينية:”يحاول الدين كمؤسسات إغلاق الباب في وجه الآخرين. وأنا أنظر إلى ما وراء حدود الدين المحلي، متقبلةً النزعة الإنسانية، ومتقبلةً التعددية، حيث أبنى قراري على أساس أن يكون الخير للجميع“. وتتحاشى نادية م موضوع التفرقة ضد الأقباط في علمانيتها، وتلمِّح فقط إلى قضية الوحدة الوطنية فيما يتعلق بقيمة التعددية الخاصة بها. ناحية أخرى نجد أن رجاء ن أشد عنفًا فيما يتصل بالعلاقة بين العلمانية وانتمائها الديني القبطى:

تناقش الشخصيات العامة في المجتمع القبطى الأمر انطلاقًا من سياق دیني سياسي. وليس هذا هو ما أريد تأكيده باعتباري قبطية. ولكن إذا كان المجتمع بأسره لا يراك إلا في هذا الإطار، فإن أمامك خيارين؛ فإما أن تنكره، أو أن تقولنعم، وماذا في ذلك“. ولكني لا أقول أبدًاإني قبطية أولاً، بل أقولأنا مصرية“. وحين حلت الهوية الدينية فجأة محل الهوية القومية في السبعينيات، كنت لا أزال أختار كونى مصرية أولاً ثم قبطية بعد ذلك. ومع ذلك فهذا عكس ما هو سائد. وما زلت أشعر أن الخلاص الوحيد لهذا البلد هو العودة إلى شعار ثورة 1919″الدين لله والوطن للجميع“. إنى أؤمن بالدولة العلمانية التي يعني فيها كونك مصرية أنك مواطنة. أما في الدولة الإسلامية فتقوم المواطنة على طائفة دينية بعينها. وفي ذلك تفرقة آلية ضد غير المسلمين“.

ترى رجاء ن نفسها على أنها جزء من أقليتين؛ هما النساء والأقباط. وهي تشعر أن المواطنة من الدرجة الثانية من نصيب الجماعتين. كما أنها تكره الطابع الإقصائي وادعاء امتلاك الحقيقة لأي دين، وهو الجانب الذي تشبهه بالفاشية:”إننى حتى لا أحب كلمة (التسامح) لأنها تعنى أنك تصبر على شيء ما. وهي تعنى في السياق الديني الصبر على عقيدة الآخر. كما تعنى أن هؤلاء الناس على خطأ في الواقع، ولكن عليك أن تتحملهم. إنه موقف يقوم على التعطف والتكرم. وأنا لا أريد التسامح، بل أريد الاحترام!” وبالإضافة إلى اقتناعها بأن الدولة العلمانية وحدها هي التي يمكن أن توفر المساواة والعدل والاحترام، فهي تؤكد أن توجهها العلمي ناتج عن مزيج من الأنساق القيمية. فقد ارتبطت تنشئتها الدينية بالتعرض للقيم الإنسانية، وبشكل أساسي نتيجة لقراءاتها ومناقشاتها مع أبيها. وفيما بعد تكوَّن لديها توجه أوحت به، كما تتذكر هي، قراءات بعينها، إلا مصدره الأصلي هو إحساسها العميق بالعدل. وتؤكد رجاء ن، مثلها مثل نادية م وسامية ع، ضرورة الاعتراف بالطابع الفسيفسائي للخلفية التي تتشكل عليها القيم وتُتخذ القرارات. وهي ترى أنه قد يكون للدين أهم الأدوار في حياة الآخرين، إلا أنه بالنسبة لرجاء ن هناك أطر مهمة أخرى.

كما كان الحال في افتراضاتي قبل أن أبدأ العمل في بحثى، غالبًا ما يفترض البعض أن الأطر الأخرى تنبع من الرؤى والمذاهب العالمية الشاملة، كالاشتراكية، أو الوثائق المحددة، كالاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان. وأوضحت لي الكثيرات من النشاطات اليساريات القوميات أنهن ما زلن يتبعن المنهج الماركسي في تحليلاتهن. ومع ذلك فقد أكد معظمهن أنهن تخلين عما كانت حقائق لا ريب فيها فيما يتعلق بالعلاقة المباشرة بين الاستغلال الاقتصادي وتحرير المرأة. فقد غيرت تجاربهن داخل الأحزاب السياسية ومع أزواجهنالتقدميينفي البيت نظرتهن على نحو جعلهن يؤيدن الآن ضرورة وجود كفاح النساء المستقل. وتؤكد نساء أخريات أن مرجعيتهن الأساسية هي الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وحقوق. المرأة أنهن لا يؤمنَّ بالخصوصية الثقافية فيما يتعلق بحقوق الإنسان الأساسية بصورة عامة وحقوق المرأة على نحو خاص. ومع ذلك أكد عدد من النساء اللائي أجريت مقابلات معهن على أن قيمهن ومفاهيمهن لا تقوم على مذهب بعينه أو على إعلان دولي لحقوق الإنسان في حد ذاته، بل تصدر عن تجارب عديدة للكفاح الفردي والجماعي. وقالت لي هانية ك :

الإسلاميون يلجأون فقط للنص، وهذا هو إطارهم. ويأتى حكمهم الخاص بالنسق القِيَمي من خلال النص. أما إطاري المرجعي فيقوم على بعض المفاهيم المجردة، كالمساواة والنزعة الإنسانية وحقوق الإنسان والتعددية بعض والتسامح وغير ذلك، وهي تنبع من تجاربي اليومية. وبطبيعة الحال لا تأتى هذه المفاهيم من فراغ، بل جاءت من مدارس فكرية مختلفة. ومع ذلك فأنا لا أؤيد أيديولوجيا بعينها، لأن ذلك سوف يختزل أشكال القمع وتعقيدات الواقع. إن قيمي ومفاهيمي جزء من تطوري الشخصي مثلما هي نابعة من الكفاح الجماعي“.

في هذا السياق اشتكت هانية ك وبعض الناشطات الأخريات من ميل الباحثين الغربيين الذين يجرون أبحاثًا في مصر إلى استبعاد التجارب اليومية والقدرة على التركيب على نحو خلاَّق بالاقتباس من الأنساق القيمية المختلفة. فالفاعلية الإنسانية تؤطر في المقام الأول وفقًا لـ الأيديولوجيات الجماعية – علمانية كانت أم دينية – وتُعْطَى مساحة قليلة جدًا للارتجال والمقاومة الفرديين. وقد ذُكر المستوى الفردي فيما يتعلق بأطر النساء المرجعية وعلاقتهن بالدين، إلا أنه يتصل كذلك بمفاهيمهن وقيمهن. وتقول هانية ك إن على المرء أن يبدأ ببناء الإطار الخاص به القائم على واقع محدد:”الواقع الذي أراه اليوم يتميز بوجود جماعات مضطهدة مختلفة من الناس؛ فهناك النساء والمسيحيون والطبقات ذات الدخل المنخفض. وواقعی زاخر بكل أنواع الظلم. ولابد من إيجاد حلول تأخذ في اعتبارها هذه الأشكال من الظلم“.

بناًء على ما تقوله هانية، لا تقدم العلمانية في حد ذاتها علاجًا لأشكال الظلم هذه. وهي تتذكر تجربتها مع الاشتراكية التي كانت،كما تظن هي الآن، بطرق شتى بمثابة غمامة تحد من قدرتها على رؤية وجهات النظر الأخرى وتمنعها من بحث سائر المفاهيم. والآن تنكر هانية أشكال المذهب الجامد والأطر الشمولية كافة والتي تصفها بأنها جزء من المشروع الحداثي:

سئمت الكثير من العلمانيين الذين أعرفهم. فهم يعيشون على الصور والتجارب القديمة ولا يبدعون مفاهيم جديدة. بل إنهم لا يعطون لأنفسهم الفرصة، لأنهم يعزلون أنفسهم عن التجارب، فيصبحون نتيجة لذلك جامدين ومزعزعين.. وهم يسعون بشكل محموم إلى التعلق بشيء. وهؤلاء الناس في حقيقة الأمر شديدو القرب من طريقة التفكير الإسلاموية. أما عكس ذلك فهو التسامح وتفتح الذهن وسعة الصدر“.

لا توفر العلمانية في رأى هانية ك سوى مظلة واسعة قد تضم تحتها مجموعة مختلفة من الخطابات والممارسات والمفاهيم التي تؤكد بعضُها حقائق قديمة بينما انفصل البعض الآخر عن النماذج الجامدة. ويشبه فهمها تحليلي في كل موضع من مواضع هذا الكتاب حيث أشير مرارًا إلى التركيبة المتغايرة لنشاط النساء ذوات التوجه العلماني.

المتصل العلماني:

بدلاً من تخيل تصنيفات ذات حدود واضحة، قد يكون من الأجدى تصور المواقف والتوجهات العلمانية والدينية كطيف متصل. وتبدو ثنائية الديني مقابل العلماني نفسها معوقة إلى حد ما، حيث إنها تغذي فحسب التصور الإسلاموي للعلمانيين على أنهممعادون للدين“. ذلك لابد من التأكيد على أنه لا يمكن الجمع بين درجة الالتزام الديني عند الناس ودرجات الدين المؤسسي. كما أن التدين الشخصى ليس مؤشراً على المواقف السياسية، والعكس صحيح. وقد أبدت مبحوثاتي مجموعة من المواقف تجاه التدين والالتزام الشخصي أكثر بكثير من مواقفهن السياسية. وتؤيد كل النساء اللائي أجريت مقابلات معهن الدولة العلمانية ويعارضن تطبيق الشريعة.

كما حاولت أن أبين، فليس من الممكن رسم صور للخلفية الدينية ومستويات الالتزام والموقف من الدين فيما يتعلق بنشاط النساء والتفسير المحدد والواضح للعلمانية. فالعامل الذي قد يبرر وجود اختلاف في المواقف والممارسات بين النساء اللائي أجريت مقابلات معهن هو العمر والجيل الذي تنتسب إليه كل منهن. وتؤثر المداخل المختلفة إلى حركة النساء على المعتقدات السياسية ونوع النشاط الذي تشارك فيه المرأة. وبالمثل قد يمكن تبين الفروق بين الأجيال فيما يتعلق بالرؤية المحدَّدة للعلمانية.

كان ذلك واضحًا طوال بحثي، إلا أنه أصبح ملحوظًا على نحو خاص فيما يتعلق بمركز دراسات المرأة الجديدة، حيث كانت عضويته عند إجراء بحثي في أواخر التسعينيات تتكون من جيلين من الناشطات؛ هؤلاء اللائى كن جزءًا من الحركة الطلابية في السبعينات وهم الآن في الأربعينيات أو الخمسينيات من أعمارهن، والناشطات الأصغر سنًا اللائي في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات ممن انضممن إلى الجماعة في السنوات الأخيرة. وعمومًا فقد بدا أن العضوات الأصغر سنًا كن أكثر التزامًا بتعاليم دينهن من نظيراتهن الأكبر سنًا. وفي حالة سامية ع، على سبيل المثال، أصبح واضحاً على نحو خاص أن الالتزام الديني الشخصي لم يكن في حد ذاته دليلاً على التوجه السياسي. وحتى فيما بين النساء الأكبر سنًا داخل الجماعة، فقد اكتشفت أن هناك فرقًا يتعلق بمقاربتهن للدين وكانت مواقفهن بعيدة عن الإجماع. إذ كان البعض من العضوات الأكبر سنًا يرفضن فكرة المشاركة في إعادة تفسير الدين لمواجهة التفسيرات الذكورية المحافظة، بينما كان البعض الآخر يدعو إلى هذه المقاربة.

لا شك أن هناك اختلافات لا سبيل إلى التغلب عليها بين الناشطات الإسلامويات والناشطات العلمانيات. ومع ذلك فمن الممكن كذلك تبين نقاط الاتفاق. وتدور تلك التشابهات في المقام الأول حول معارضة الإمبريالية وخطر الغزو الثقافي العربي الملاحَظ. بل يمكن العثور على النماذج الحداثية المرتبطة بالفروق الواضحة بين المجالين العام والخاص.

لحياة النساء في أي منالمعسكرين، وهو ما يخلق من نواح كثيرة عالمًا منطقيًا مشتركًا. وما لا يمكن المبالغة في توكيده هو أنه في الوقت ذاته الذي كان فيه مفهوم العلمانية عرضة للتفسيرات المختلفة المتطورة باستمرار، ظهرت خطابات ومفاهيم جديدة داخل هذا الإطار المتغير لا يمكن تمييزها بناءً على معارضتها للدين والنزعة الإسلاموية فحسب.

أود الاستعانة بفكرة هومى بابا عنالعلمانية التابعة“. فهومي بابا يحذر من فصل العلمانية عنالارتباط في التفوق العرقي ethnocentric والتفوق الأوروبي Eurocentric فيما تسمى بقيم التحديث” (1995: 6). فإذا لم يكن هناك ما هو علماني بالفطرة فيما يتعلق بأي منالغربأو المسيحية، فليس هناك ما هو تقدمي أو ديمقراطي بالفطرة فيما يتعلق بالعلمانية. ذلك أن أي ارتباط ذي معنى لابد أن يتم من خلال السياق التاريخي والسياسي فحسب. وكان العلمانيون المصريون في ثلاثينيات القرن العشرين يتطلعون إلى الأنظمة الفاشية الأوروبية كي يستلهموا ما كانوا يرونها نماذج للتقدم. وعلاوة على ذلك لا تأخذ الأفكار السائدة عن العلمانية – القائمة على الأفكار الليبرالية بشأن النزعة الفردية والاختيار والمساواة في اعتبارها اهتمامات الجماعات المهمَّشة ومحنتها. والناشطات المصريات لسن ضحايا سلبيات، بل منخرطات في المهمة الصعبة المتعلقة بمنازلة الخطابات المحافظة المهيمنة التي تتبناها الدولة والإسلامويون والمفكرون الذكور.

تأويل الأصالة:

عند مناقشة قضايا العلمانية بين المفكرين والساسة العرب، وحتى بين الجمهور العربي العام، كثيرًا ما يكون مجال الثقافة والقيم هو أكثر ما يُستشهد به. ففي مصر، على سبيل المثال، تشير باستمرار عناصر داخل الحكومة وكل من الإسلامويين المحافظين وقوى المعارضة اليسارية إلىثقافتنافي مقابلالثقافة الأجنبية/ الغربية / الفاسدةمما يقوض بالتالي أساس أي جدل جاد أو مناقشة جادة. وفي السنوات الأخيرة اتُهمت الناشطات على وجه التحديد من الإسلامويين والمحافظين، وكذلك من أصوات قومية يسارية – بالتواطؤ معالإمبريالية الغربيةباستيرادهن أفكارًا وممارسات غربية والترويج لها في المجتمع. وفي ضوء هذه الاتهامات المرعبة جدًا، ليس مستغربًا أن تبنت ناشطات كثيرات تلك الاتهامات، واعتبرن الحركة النسائية بمثابة مفهوم غربی، دخيل على سياقهن الاجتماعي والسياسي والثقافي ومغرِّب له (العلى، 2000: 47).

رغم شيوع اللجوء إلىالثقافة المحلية في الخطاب السياسي المصري، فلابد من الارتياب في فائدة هذا المفهوم وصلاحيته. وكما أظهرت ليلي أبو لغد في السياق المصرى (1991، 1998)، والكثير من الباحثين في أماكن أخرى في سياق ما بعد الكلونيالية،فإن الثقافات والتقاليد، ليست كيانات ثابتة ومغلقة، بل هي عرضة للتغيير وتتأثر باستمرار بالمواجهات والمقايضات الثقافية، بغض النظر عما قد يكون عليه شكل تلك المواجهات والمقايضات. وحتى في غياب المواجهة مع ثقافة مختلفة، فإن التوترات وصراعات القوة بين القوى الاجتماعية المختلفة وشتى الفاعلين السياسيين تؤدى إلى التحولَ والتغيرَ على مدى فترة من الزمن. وليست التقاليد في أنحاء العالم عرضة للإصلاح والتغيير والتعديل فحسب، بل إنه كذلك يُعاد اختراعها بفاعلية كي تتلاءم مع من بيدهم القوة في الوقت الراهن:”ما يبدو في الشرق متخفيًا في هيئة النزعة التقليدية هو في العادة خطاب اعتذارى أو إصلاحي على نحو جذري، وهو في صياغته وفي معايير إضفاء الشرعية الخاصة به ليس تقليديًا بحال من الأحوال؛ فالتقاليد لا تضفى الشرعية على نفسها، حيث إنها أساليب تعبير“. (العظمة، 1993: 40). وتفترض لغةالأصالةوجود هوية ثقافية يقول عنها عزيز العظمة إنهافريدة، بشكل أساسي في استمرارها على مر الزمن، وجعل نفسها مميزة في المقام الأول عن الموضوعات التاريخية الأخرى” (المرجع السابق:42).

السبب الآخر لانتقاد الصورة الجامدة لـالثقافة الأصيلةوقيمها التي لا تتغير في مقابلالثقافة الغربيةهو أنه من المفارقة أن المستعمرين وضعوا هذه الثنائية في بادئ الأمر لتأكيد الاختلافات الأساسية بين أنفسهم والمستعمَرين، ولم يكن يُنظر إلى هذاالفرق الجوهريعلى أنه إثراء أو مصدر معرفة بالنسبة للمستعمرِين، بل كان يجرى إبرازه من بابتفوق الثقافة الغربيةوهمجية الثقافة المحلية“. بعبارة أخرى، كان يمثل صورة لـالآخرباعتباره أدنى مكانةً ومختلفًا اختلافًا جذريًا، وكما تقول بارثا تشاتر چی فإنه يكونمن ثم أدنى مكانةً على نحو لا يمكن إصلاحه” (1993:33).

لم ينطوِ البناء الاستعماري للاختلاف على التشويه الأورومركزي المتسم بالتعالى على كل ما يتعلق بـ ثقافات المستعمرين فحسب، بل كان مفرطًا في تعظيمه الفج للذات. وكان البناء المثالي للثقافة الغربية الملتزمة بقيم المساواة والحرية والنزعة الإنسانية يتناقض تناقضًا شديدًا مع الممارسات الفعلية لـالحضارة الغربية” (العلي، 2000: 224). وتقول عضوة الحركة النسوية الهندية أوما نارايان على نحو مقنع إنهذا الإدراك للذات لم تزعجه حقيقة أن القوى الغربية كانت متورطة في العبودية والاستعمار، أو أنها كانت تقاوم منح الحقوق السياسية والمدنية حتى لعدد كبير من الرعايا الغربيين، بمن فيهم النساء” (1997: 15).

كانت تصورات النوع، وخاصة القيم والممارسة المتصلة بالنساء، مهمة لتأكيد الفروق الجوهرية وتفوق المستعمِرين. وأثناء الكفاح من أجل الاستقلال في أعقاب النزعة الكولونيالية، ظلت السياسات الوطنية والخطاب الوطني تبرز الاختلافات فيما يتعلق بالقيم والمعايير، وخاصة تلك القيم والمعايير المتصلة بالنساء. ومقولة بارثا تشاترجي (1993) إن النزعة القومية الهندية ميزت بين المجالالخارجيأو المادى للدولة والمجالالروحيلها صداها في السياق المصري. وتقول تشاترجی:

[.. .] كان الجانبالروحيأوالداخليللثقافة، كاللغة أو الدين أو عناصر الحياة الشخصية والعائلية، يقومان بطبيعة الحال على فرضية وجود اختلاف بين ثقافتي المستعمِر والمستعمَر. وكلما ازداد انشغال النزعة القومية بنضالها ضد القوة الاستعمارية في المجال الخارجي للسياسة كان إصرار تلك القوة على إظهار أمارات الاختلاف الثقافيالجوهريأشد لإبعاد المستعمِر عن ذلك المجال الداخلي للحياة الوطنية ولإظهار سيادتها عليه. أما في المجال الخارجي للدولة، وهو مجال القانون والإدارة والاقتصاد وفن الحكم المفترض أنهمادی، فكانت النزعة القومية تحارب بلا هوادة من أجل محو أمارات الاختلاف الاستعماري. ذلك أن الاختلاف لم يكن له ما يبرره في ذلك المجال. فهو يبدو في هذه الحالة إعادة تأكيد لدعاوى عالمية نظام القوة الحديث على وجه الدقة (1993:26).

في مصر ما بعد الكولونيالية، تمسكت النخب القومية والإصلاحيون بأفكار الغرب الحديثة في سياق الاهتمامات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المرتبطة جميعها بالمجالالخارجي“. وكان حق النساء في التصويت والحصول على التعليم وفرص العمل من بين شروط الإصلاحيين والمحدِّثين المصرين. وداخل ما يسمى المجالالداخليللمجتمع،مثل الأعراف والقيم المتصلة بالأدوار والسلوكياتالملائمةللنساء، وواجباتهن وحقوقهن في البيت والأسرة، وعلاقتهن بالرجال، كان ولا يزال هناك التمسك بوجود اختلاف جوهری عن الثقافة الغربية (العلى، 2000:225).

لهذا السبب، لا يبدو مستغربًا أنه حتى الناشطات المصريات تشاركن في التأكيد على الاختلاف الثقافي الجوهري، ذلك أن وطأة الاتهام بالخيانة يكون ثقيلاً على أي شخص يبدو متواطئًا مع القوى الاستعمارية السابقة أو الإمبريالية الحالية. ومع ذلك يرفض عدد متزايد من النساء أن يوضع في موضع دفاعي، وإحدى الاستراتيجيات هي فصل الكفاح ضد قمع المرأة عن ارتباطه بـالغرب“. وتقول ليلى ك، وهي في الثلاثينيات من عمرها، بانفعال:

لماذا يتهموننا بتقليد الغرب حين نتحدث عن البعد الأبوى؟ فكأن التمرد والحرية والكرامة والوعي مزايا لا يمكن للنساء العربيات الحصول عليها، وإن حصلن عليها فحينئذ يكن مقلدات للغرب. إن لدى مخ يزن أمخاخ 500 امرأة غربية. ويمكن أن أصل إلى نتائج أفضل من الغرب. لماذا تلك العقد؟ إن العلاقات الطبقية تقمعنى كل يوم مثلما يقمعنى النظام الأبوى. فنحن هنا نشعر بالبعد الأبوى على نحو أشد كثافة، لأنهم في الغرب فصلوا الدولة عن الدين. وهو في مجتمعاتنا أكثر وضوحًا ديننا وتقاليدنا وعاداتنا“.

تؤكد ناشطات أخريات أن الحركة النسوية لها أوجه مختلفة وتسمح بمقاربات متباينة. وكثيرًا ما تتجاور المقاربات المصرية معالمقاربات الغربية“:

أظن أن هناك تناقضات كثيرة هنا في بلدنا. ونحن نعيش تلك التناقضات كل يوم. فمن ناحية هناك ثقافة شديدة المحافظة – كما تعلمين – وهناك عادات وأعراف ما زال معمولاً بها منذ سنين وسنين؛ ومن ناحية أخرى هناك المقاربة الغربية للأمور. وربما لا ندرك الأمور بالطريقة نفسها التي يدركها بها الغربيون، ولكن من المؤكد أننا نرى متى تؤثر علينا العادات والتقاليد تأثيرًا سلبيًا. وغالبًا ما يؤدى هذا إلى مواجهة مع ثقفاتنا, وخاصة فيما يتعلق بالقضايا الحساسة. وختان الإناث واحد من تلك القضايا. والوضع القانوني للنساء قضية أخرى.. . والإجهاض قضية من تلك القضايا كذلك. وهذه كلها مواجهات. وهناك بعض الحقائق التي تفرضها ثقافتنا علينا، غير أننا نرى أنها امور خاطئة لابد لنا من لنا من تصحيحها. ومع ذلك فليست كل النساء اللائي يحاولن تصحيح المقاربات الخاطئة يفعلن ذلك من منظور غربي” (دينا م طبيبة في الثالثة والأربعين وإحدى ناشطات حقوق المرأة).

أصبح تفسير العالم على أساسالمحليفي مقابلالغربيحقيقة لا خلاف عليها بحيث لا يوجد في واقع الأمر سوى عدد قليل جدًا من المفكرين والأكاديميين المصريين يشكك فيها أو يتحداها ومع ذلك ترفض بعض الناشطات اللائي يحاولن الإفلات من أطر الخطاب السائدة هذا التصنيف بالكامل وفقًا لتلك الأسس. وتوضح ذلك ناشطة شابة في الأربعينيات من عمرها كما يلي:

يعود كفاحنا إلى ما قبل هدى شعراوى. وأنا لن أضعه في إطار زمني محدد، ولا إطار غربي أو غير غربي. فقد كان الناس جميعًا في أنحاء العالم يحاربون الظلم. وتأطيره داخل هذا النوع من الثنائية أمر ضار. فهو يعكس الطريقة التي ينظر بها كل من الإسلامويين والغرب إلى القضايا ويخلقون بها هوياتهم. ويصوَّر التفكير الليبرالي العلماني على أنه مِلك للغرب. ولابد أن نخترق هذا (العلى، 2000:60).

يؤكد من يتحدون تلك الثنائية الشائعة على أن الناشطات يواجهن اتهامات مشابهة منذ بداية القرن حتى الآن؛ وكل ما حدث هو أن الاتهامات باتت أشد قوة والسياق العام أصبح أكثر تهديدًا:

اتهام المرء بأنه غربي أكثر من اللازم أشد قوة الآن مما كان عليه من قبل. ففي بداية القرن أصبح التحديث مشروع الأمة. أما الآن فنحن عكس تلك العملية، وهو ما يجعل تلك المزاعم والاتهامات أكثر ضررًا. والمشروع الوحيد القائم الآن هو مشروع الإسلامويين الخاص بادعاء الأصالة. وهو أشد صعوبة علينا الآن، إلا أنه في الوقت ذاته هناك تحدٍ أقوى بكثير لتطوير لغتنا وجوهر مشروعنا. ويجبرنا هذا على النظر بشكل أعمق والعثور على جوهر ما نحاول القيام به” (المرجع السابق:61).

لا شك في أن المشاعر الحالية الخاصة بتهديدالثقافة الغربيةورفضها تقوم على أسس قوية في ضوء حقيقة أن التلاعب السياسي لا يزال يشكل مصر ما بعد الكولونيالية. ومع ذلك فقد يكون الأمر بنَّاءً أكثر وأشد فاعلية على المدى الطويل بالنسبة للناشطات المصريات إذا ما قلت إن ما يجعلهن مختلفات عن الأخريات، داخل النسيج الوطني وخارجه، ليس درجةالأصالة الثقافيةالخاصة بهن، بل تحليلاتهن ومقارباتهن السياسية المحددة، وقيمهن الأخلاقية ورؤاهن المستقبلية.

نحو نزعة كوزموبوليتانية متأصلة:

قاسم عبء التجارب الاستعمارية وأشكال الكفاح الحالية ضد الإمبريالية الكثير من عضوات الحركة النسوية في أنحاء العالم اللائي كثيرًا ما يتحدين رغم ذلك فكرة الجوهر الثابت للثقافة التي تتغاضى عن تعقيدات السياقات الثقافية وديناميكياتها. وتعبر عضوة الحركة النسوية الهندية أوما نارايان عن ذلك بطلاقة على هذا النحو:

لابد لنا من الابتعاد عن صورة السياقات القومية والثقافية باعتبارها غرفًا أُحكِم غلقها، ولا تتقبل التغيير، حيث يوجدداخلهافضاء متجانس، ويسكنهامطلعون أصلاء على بواطن الأموريشتركون جميعًا في قدر موحَّد ومتساوق من مؤسساتهم وقيمهم. ويعم سياقات العالم الثالث القومية والثقافية التعدد والخلاف والتغيير كما يعم نظيراتهاالغربية“. فكل منها متخم في الغالب بالآراء السطحية المعتزة بنفسها عنالثقافةوالقيمالخاصة بها وتهمَش مصالح وهموم الكثير من أعضاء المجتمع الوطني، بما في ذلك النساء (1997: 33)”.

وهي ترى أنه لا يمكن تصنيف النسويات في العالم الثالث على أنهنغرباءعن الأمة والثقافة، لكونهن يألفن الممارسات والمؤسسات والسياسات التي ينتقدنها ويتأثرن بها. غير أنهن كذلك مواطنات فاعلات غالبًا ما كانت أشكال كفاحهن وحملاتهن مهمة لزيادة الوعى والاهتمام بما يتعلق بالقضايا التي تؤثر على النساء (المرجع السابق). وأرى أن أوما ناريان تبرز سبيلاً ممكنًا ومعقولاً للخروج من المعضلة التي تواجه الناشطات في الدول ما بعد الكولونيالية:

أحاول إثبات أنه من الضروري مقاومة محاولات رفض الآراء والسياسات النسوية في العالم الثالث باعتبارهاتغريبًا، عن لفت الانتباه إلى الاستخدام الانتقائي والمصلحي للمصطلح من ناحية، وعن طريق الإصرار على أن خلافاتنا ليست أقل تأصيلاً في تجاربنا داخلثقافتنا، أو أقلتمثيلاًلواقعنا المعقد والمتغير من آراء أبناء بلدنا الذين لا يشاركوننا رؤانا، من ناحية أخرى. ولابد لعضوات الحركة النسوية في العالم الثالث علي نحو مُلِّح من لفت الانتباه إلى حقائق التغيير داخل سياقاتهن، لكي لا تنقضالتقاليد الثابتةمشروعية أجنداتنا (1997:30- 31)”.

قد تنطوي هذه المقاربة التي اقترحتها أوما نارايان على زعزعة كل من الخطاب القومي والخطاب الإسلاموي المصريين وكذلك الادعاءات الغربية الحالية الخاصة بالتفوق الأخلاقي والثقافي. وكما أن خطاب المستعمرين بشأن قيمهم الثقافية لم يكن ينسجم مع ممارساتهم السياسية، فإن الحكومات الأوروبية والأمريكية في الوقت الراهن لا يمكن وصفها بأنها ملتزمة التزامًا تامًا بالمساواة النوعية. فالواقع أن النشاط النسوي في كثير من السياقات الغربية مهمش ويعتبرونه معاديًا للمجتمع (4).

كان المفكرون المصريون من الناحية التاريخية انتقائيين في انتحالهم الأفكار الأوروبية بشأن الدولة القومية ورفضهم لتلك الأفكار. وقد بات واضحًا لي أن عملية الانتقاء هذه ما زالت تشكل الخطابات السياسية المصرية حتى الآن. والتحليل المتسم بنفاذ البصيرة الذي يلقي الضوء على هذه النقطة قامت به ليلي أبو لغد (1998) التي تكشف النقاب عن التشابهات بين الحداثيين العلمانيين والإسلامويين فيما يتعلق بمفاهيم الزواج والأسرة، وتقدم بالتالي أدلة على ذلك الانتحال الانتقائي وإدانة الإسلامويين للحضارة الغربية. وهذه العملية ليست واضحة بين القوى الإسلاموية والقومية المحافظة في مصر حاليًا فحسب، بل إنها ملحوظة كذلك – وإن بشكل أقلبين بعض الناشطات اللائي يبدين قدرًا كبيرًا من الانتقائية فيما يتعلق بمسألة ما هو مشروع ثقافيًا بشأن كفاح النساء من أجل المساواة والتحرر.

ونتيجة لذلك يؤدى تبنى وتطبيع المرجعية التي لا تزال قائمة منذ المواجهات الاستعمارية المبكرة، ولكنها تفاقمت نتيجة لعمليات العولمة الأحدث عهدًا، إلى تقييد فضاء ومنبر العمل المنطقي بالنسبة للناشطات. وقد بدأ عدد صغير، ولكنه في ازدياد، من النساء بشجاعة وإصرار زعزعة الثنائية التي أقامهاالاختلاف الاستعماريمن خلال إدماج قضايا النساء في مجالات المجتمعالداخليةوالخاصة” (مثل العنف ضد النساء) وكذلك عن طريق الإشارة إلى الآليات نفسها التي يجرى من خلالها انتحال أجزاء من الحداثة الغربية والعولمة ويُرفض غيرها ويُستنكر (العلى، 2000:227).

في رأيي أنه لابد من التمييز بين الطريقة التي جاءت بها في الأصل بعض الأفكار والقيم إلى الوجود كتلك المرتبطة بالتنوير، وبين الأسلوب الذي تطورت به تلك الأفكار وكشفت عن نفسها. وهنا أود تأکید موقف سامي زبيدة القائل بأن التنوير أو أفكار الليبرالية والعقلانية والديمقراطية أو حقوق الإنسان وحقوق المرأة ليست أفكارًا غربية في جوهرها (1994). ويعني هذا أنه حتى إذا جرى إبراز تلك الأفكار باعتبارها أسسًا ومبادئ للثقافة الغربية، فقد تطورت في واقع الأمر خلال صراعات مريرة ودموية على امتداد فترة طويلة من الزمن. وعلاوة على ذلك، فإن المُثل المرتبطة بالتنوير والحداثة بصورة عامة لم تكن متساوقة مع ممارسات الحضارات الغربية وسياستها الفعلية.

في الماضي كانت القوى الغربية تمتلك القدرات الاقتصادية والعسكرية والسياسية لفرض رؤاها وممارساتها التي كانت تمثل نقطة الأفضلية الوحيدة. وكان كل شيء وكل شخص آخر يجرى تمييزه حسب البعد أو القرب من هذهالثقافة المثالية والنموذجية“. وتجعل سيطرة الولايات المتحدة على القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية بعد انتهاء الحرب الباردة العالم يبدو أحادي القطب أكثر مما كان من قبل. ولكن بغض النظر عما قد يمثله هذا الوجود من تهديد، نجد أن الغرب قد فقد حقه في المطالبة بالملكية الفردية للحداثة (العلى، 2000: 228 -229). وكان انتقال رأس المال والناس واسع الانتشار والممتد عبر القوميات توازيه انتقادات داخلية للحداثة الغربية والمركزية الأوروبية. ولابد من وضع أعمال التهجير ومجتمعات الشتات والتعددية الثقافية على الخرائط المعاصرة التي تتسم الحدود فيها بقدر كبير من عدم الوضوح(5).

في الختام أود العودة مرة أخرى إلى تأملاتي الأولى ومحاولة إثبات أن خلافات العلمانية والأصالة مهمة كذلك لفهم كفاح ناشطات الدفاع عن حقوق المرأة العراقية في الوقت الراهن. وفي سياق تُفهم فيه العلمانية على أنها ميراث النظام السابق وكذلك قوى الاحتلال، تُهاجم الفضاءات والممارسات والقوانين العلمانية وتُبنى باعتبارهاغير أصيلةبالنسبة للأمة العراقية. وفي وضع الصراع والاحتلال الحاليين، تحاصر النساء العراقيات على نحو كبير ومتزايد بين توظيف قضايا المرأة من جانب القوى الغربية (وخاصة بوش وبلير) وبين خطابالأصالةالخاص بالمتمردين الإسلامويين الذين يتسمون بقدر كبير من المحافظة والتطرف. وأثناء عملية مقاومة الاحتلال المادي والسياسي والاقتصادي والثقافي

وغزو الولايات المتحدة للمجتمع العراقي، يجرى استغلال النساء مرة أخرى ليكن رمزاً لـالأصالة الثقافية“.

الهوامش

(1) تعتمد هذه الورقة على

Nadje Al-Ali (2000) Secularism, Gender and the State in the Middle East: The Egyptian Women’s Movement, Cambridge University Press.

(2) مؤتمر عام 1994 عن الأقليات، الذي نظمه مركز ابن خلدون لدراسات التنمية في مصر، حالة وثيقة الصلة بالموضوع. فقد تضمن المؤتمر الذي كان مخصصًا لمناقشة الأقليات العرقية والدينية في الشرق الأوسط جلسة عن الأقباط المصريين. وهوجم منظم المؤتمر هجومًا شديدًا لتقويضه الوحدة الوطنية وتملقه المصالح الأجنبية. وعلى سبيل المثال استهل المحلل السياسي الشهير محمد حسنين هيكل النقاش بقوله إن القوى الدولية الكبرى قد تستغلوهمالأقلية القبطية لتوجيه ضربة إلى سيادة مصر، ربما تكون ضربة عسكرية، تحت ستار حماية حقوق الأقلية (زکی، 1994 :29).

(3) جرى تغيير الأسماء كلها للحفاظ على عقلية (عدم كشف شخصية) المجيبات عن أسئلتي.

(4) انظر Gisela Kaplan (1992) Contemporary European Feminism للاطلاع على نماذج للادعاءات ضد عضوات الحركة النسوية الأوروبية داخل مجتمعاتهن.

(5) يقدم لنا کتاب أفتار براه Cartographies of diaspora (1996) مقاربة مبتكرة وكاشفة لفكرةالاختلافومفاهيم الثقافة والهوية والأمة في سياق حركات السكان ومجتمعات الشتات المتزايدة.

المراجع

* Al-Ali, Nadhe (2000) Secularism, Gender and th eState in the Middle East: The Egyptian Women’s Movement. Cambridge: Cambridge University press.

* Abu-Lughod, Lila (ed.) (1998) Remaking Women: Feminism and Moder-nity in the Middle East. Princeton University Press.

* Al-Azmeh, Aziz (1993) Islams and Modernities. London and New York: Verso.

* Bhaba, Homi K. (1995) ‘On subaltern secularism’ , in WAV – Women Against Fundamentalism 6:5 -7.

* Brah, Avtar (1996) cartographies of diaspora: contesting identities. Lon-don and New York: Routledge.

* Chatterjee, Partha (1986) Nationalist Thought and th ejColonial World: A Derivative Discourse London: Zed/UNUniversity.

* Chatterjee, Partha (1989) ‘The Nationalist Resolution in the Women’s Question’, in K. Sangari and S. Vaid Recasting Women: Essays in Indian Coloinal History. New Brunswick, NJ: Rutgers Press.

* Chatterjee, Partha (1993) The Nation and Its Fragments: Colonial and Postcolonial Histories. Princeton, New Jersey: Princeton University Press.

* Chhachhi, Amrita (1991) ‘Forcd Identites: The State, Communalism, Fundamentalism and Women in India’, in Deniz Kandiyoti (ed) Women, Islam & the State. Philadelphia: Temple University Press.

* Mohanty, Chandra Talpade (1988) ‘Under Western Eyes: Feminist Schol-arship and Colonial Discoureses’, in Feminist Review, 30 Autumn: 65-88.

* Mohanty, Chandra Talpade; Russo, Ann and Torres, Lourdes (1991) Third World Women And The Politics of Feminism. Bloomington& In-Dianapolis: Indiana University Press.

* Narayan, Uman (1997) dislocating cultures: Identities, Traditions And Third World Feminism. New York and London: Routledge.

* Spivak, Gayatri (1987) In Other Worlds: Essays in Cultural Politics. New York: Methuen.

* Spivak, Gayatri Chakravory (1988) ‘Can the Subalterrn Speak?’, in C. Nel-son and L. Grossberg (eds.) Marxism and the Interpretation of Culture. Urbana: University of Illinois Press.

* Young, Iris Marion (1990) Justice and the Politics of Difference. Prince-ton: Princeton University Press.

* Zubaida, Sami (1994) ‘Human Rights and Cultural Difference: Middle Eastern Prespective’, in New Perspectives On Turkey. Spring 10: 1-12.

تعقيب

تعقيب هالة كمال

المنظمات النسائية والحركة النسائية الفلسطينية

د. إصلاح جاد (قسم نشر الورقة في العدد السابق من طيبة).

التحديات التي تواجه الناشطات المصريات: العلمانية والأصالة

د. نادية العلى

سأركز في هذا التعقيب على الورقتين من جانبين:

1 – نقاط التلاقي بين الورقتين (العلمانية والثقافة).

2 – علاقة الورقتين بموضوع الجلسة وبدعوة مؤسسة المرأة الجديدة إلى فتح النقاش حول برنامج للحركة النسائية.

العلمانية:

تشير إصلاح جاد في ورقتها إلى وعيها بنقاط التقاء النزعات الاستعمارية والقومية والإسلاموية مع الحركة النسائية في فلسطين المعاصرة. وتبدأ بالإشارة إلى النزعة القومية الفلسطينية التي اتضحت معالمها في أعقاب هزيمة 1967، مبينة أن تلك النزعة القومية العلمانية سادها اتجاهان أحدهما قمعى والآخر تحرري، ولكنها ظلت تتعامل مع المرأة باعتبارها عنصرًا مساعدًا وهامشيًا رغم إتاحة فرص نشاطها في المجال العام والكفاح الوطني. وبالتالي تؤكد إصلاح جاد على أن الحركة النسائية الفلسطينية المعاصرة تشكلت داخل الحركة القومية.

إلا أنه مع مرور الوقت وتمركز السلطة في يد السلطة الوطنية الفلسطينية مع فشلها في بناء الدولة (بعد أوسلو 1993) تفكك البناء السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية والأحزاب السياسية مما أدى إلى تزايد نفوذ القوى الإسلامية وتأثيرها على مكونات الحركة القومية بشكلها ومضمونها العلماني. وكان من الآثار المترتبة على سيطرة السلطة على زمام الأمور تداعياتها على حركات النساء لما شهدته من تفكيك للمنظمات الجماهيرية لمصلحة المنظمات غير الحكومية.

أما بالنسبة للموقف الإسلاموي المتصاعد، فترى إصلاح جاد أنه يفتقد إلى رؤية نوعية كما أنه مبنى في هذا الصدد أيديولوجيا لا على أساس النصوص الدينية بقدر كونه أقرب إلى رد الفعل للمواقف العلمانية، ويتم في إطار استغلال الشريعة بطرق متناقضة لرفض مشروعية التجمعات النسائية غير الإسلامية وللتشكيك في فكرة السيادة الشعبية.

وتعود فتؤكد أن مكاسب الإسلامويين إنما هي نتيجة لفشل المؤسسات السياسية الفلسطينية، كما أن القمع الذي تعرضوا لهم أفادهم لأنه صادر من فئة ترفضها غالبية الشعب. وترى تبعات قيام القوميين العلمانيين بترك أمور السلطات الاجتماعية والثقافية للإسلامويين واقتصار دورهم على انتقاد الأوضاع السياسية والعسكرية.

لا تنطلق نادية العلى في جهدها البحثي حول الناشطات العلمانيات في مصر من تعريف ثابت للعلمانية بل تكشف عن تصورات هؤلاء النساء عن العلمانية في ظل مفهوم عام للعلمانية باعتبارها تعبيرا عن الوحدة الوطنية لا المرجعية الدينية. وتخرج بمجموعة تعريفات مبدئية منها فصل الدين عن الدولة وعدم تأييد العلمانيات أن يكون الدين مصدرا للتشريع، بل يتمثل مرجعهن في القانون المدني والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.

وتشير نادية العلى إلى غياب الحدود الفاصلة بين الهوية العلمانية والدينية لدى بعض النساء مع اتفاقهن في أن الهوية الدينية يجب أن تظل مسألة شخصية، وأن يتم فصل الدين (الإسلامي باعتباره دين الأغلبية في مصر) عن الحقوق المدنية السياسية والاقتصادية وغيرها.

وتؤكد نادية العلي على اعتراض الناشطات النسويات العلمانيات في مصر على نظام الدولة الإسلامية، وخاصة في ظل مجتمع يتصف بتركيبة اجتماعية تضم المسلمين والأقباط وربما غيرهم. وتتساءل بالنسبة للمجتمع المصرى عن أي دين نتحدث؟ عن تبنى هوية دينية؟ وبالتالي تؤكد أن الهوية القومية أو الوطنية هي الشاملة بينما الهوية الدينية تقسم المجتمع إلى مجتمع الأغلبية والأقلية الدينية.

وتوضح نادية العلى أن بعض الناشطات يؤيدن العمل في الإطار الديني من أجل إعادة تفسير النصوص الدينية وكشف ما بها من مرونة وارتباط بسياق تاريخي وثقافي واجتماعی وسیاسی محدد.

وتؤكد على أن الدين ليس هو المصدر الوحيد للقيم، حيث يشتمل الالتزام الديني على جانبين هما الأيديولوجيا بما تحمله من مرجعية وقوة محركة والثقافة التي يتمثل الدين من خلالها في الممارسة الثقافية والاجتماعية.

وتؤكد نادية العلي هي الأخرى على أن ثنائية الديني مقابل العلماني ساهمت في تغذية التصور الإسلامي للعلمانيين كمعادين للدين، بينما ترى هي أنه لا تناقض بين الدين والعلمانية، أي الالتزام الديني والتوجه السياسي، لأن العلمانية تعترف بالدين كمسألة شخصية لا علاقة لها بنظام الدولة، وهو ما تؤكده نقاط الالتقاء بين النساء الإسلاميات والعلمانيات من حيث معارضة الإمبريالية وقضايا المجال العام والمجال الخاص بالنسبة لنساء الفريقين. وتحذر منالعلمانية التابعةالتي تتطلع إلى نماذج غربية مهيمنة لا يختلف الخضوع لها عن الخضوع لنماذج محلية محافظة.

الثقافة:

تتناول إصلاح جاد مسألة الأصالة والمعاصرة، وتشير إلى مسألة الفروق الثقافية بين الشرق والغرب التي يستعين بها القوميون والجماعات الدينية على حد سواء وخاصة فيما يتعلق بالقوانين الدولية المنظمة لحقوق الإنسان وحقوق النساء، وتؤكد في هذا الصدد على أنالتراثالذي يسعى الإسلامويون إلى إحيائه هو نتائج بيئة وظروف تاريخية معينة وليس ثابتا وأزليا.

وتدعو إصلاح جاد إلى تآزر الأجندتين النسائية والقومية في صالح تمكين النساء.

وتنتقل نادية العلى إلى تأويلات الأصالة، مشيرة إلى ثنائية أخرى هي ثنائية الثقافة المحلية والثقافة الغربية، مؤكدة على أن الأصالة الثقافية هي عرضة للتغيير والتعديل وليست ثابتة ومحتجزة، بل تتم صياغتها وترسيخ بعض معالمها تبعا للحظة الراهنة وبأيدي أصحاب المصلحة.

كما تشير إلى المفارقة في كون تلك الثنائية هي صنيعة الاستعمار الذي رسخها في الشعوب الخاضعة للاستعمار، حيث كان التأكيد على الثقافة المحلية والأصالة الثقافية يستخدم للتدليل على دونية تلك الشعوب ولتبرير الوجود الاستعماري.

وأخيرًا تشير إلى أن التزام الناشطات العلمانيات بحقوق النساء كثيرًا، يستخدمه المحافظون على اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية لاتهامهن بالتواطؤ مع الإمبريالية الغربية بدعوى تبنى النساء مفاهيم المساواة بين الجنسين ومطالبتهن بالمزيد من الحقوق المتساوية.

الهوامش

هالة كمال: مدرسة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عضوة مؤسسة بمؤسسة المرأة والذاكرة، وباحثة مهتمة بدراسات الجندر.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي