مقاومة الإحباط

الشركاء: اختيار

كتابة: ن. ن

نبذة عن الكاتبة :

نسوية وعاملة بالمجتمع المدني. حصلت على بكالوريوس علوم وحاليًا تدرس الحقوق، تهوى المشي والسباحة وتربية الحيوانات.

أعترف بأنني أتمتع بامتيازات غير متاحة للكثيرات من بنات جيلي، ولدت لأسرة ميسورة الحال في مدينة هادئة. كنت الصغرى بين أخوتي مما أتاح لي قدرًا من الحرية، واللعب، والإفلات من العقاب أحيانًا بحماية أخوتي نفسهم. أتحدث أكثر من لغة, درست في مكانٍ مرموق إلى حد ما، لم أتعرض للعنف البشع الذي رأيته يحدث في ما بعد لأصدقائي ومعارفي. فلم أختن ولم أحبس في المنزل، وأعمل في مكان أحبه, مكان نسوي, يعمل على دعم فريقه ودعم فئة مهمشة من نساء ورجال يسكنون مناطق عشوائية أو فقيرة لا يهتم بها أحد تقريبًا, وأتاح لي السفر والتعرف على العالم.

لكنني غاضبة

غاضبة لأن ولادتي أنثى جعلت البعض يعتقد أن بإمكانهم التحكم بي وباختياراتي من خلال المجتمع، والعادات, والتقاليد, والدين, والقوانين, وعم محمد حارس العقار، ومساعدتنا المنزلية, وصاحب السوبر ماركت اللصيق بالبيت, والجيران، وغيرهم.

غاضبة لأنني أرى على مساحات التواصل الاجتماعي بشرًا جعلوني أراجع إيماني بحقوق الإنسان أكثر من مرة، وأحارب رغبةً جارفة في تحويل هذا الغضب لفعلٍ جسدي عنيف إن استطعت, والتشهير بهم. ذلك اليوم, قرر شخص ما إتحافنا برأيه حول حق الإنفاق على ابنه من مطلقته. يرى هذا الشخص أن ذلك الابن لا يستحق أن يُنفق عليه كأخوته من أم أخرى عقابًا لأمه التي قررت الطلاق والخلع. تأتي التعليقات من أشباه بشر مؤيدين لرأيه ومهددين النساء المطلقات أو طالبات الطلاق بأن القوانين ستتغير بحيث لا تحصل المطلقة أو أبناؤها على قرش واحد من أبيهم بعد الطلاق. لكم أنا غاضبة وحانقة على هؤلاء الأشخاص, لا أذكر كمية الأفكار الرهيبة التي راودتني عنهم. هؤلاء البشر تذكروا فقط أن الزواج هو لشهوتهم ورغبتهم للجنس في الحلالكما يقولون، لكنهم نسوا أنه أيضًا مسؤولية ملقاة على عاتقهم تجاه أولادهم وزوجاتهم, لم يكفِ مثل هذا الشخص دفعه لمطلقته لرفع قضايا للحصول على حقوق أبنائهما، بل تقبل بصدر رحب أن يدفع أموالاً طائلة للمحامي على حساب أطفاله انتقامًا من أمهم. هو يعلم تمام العلم أن المحكمة في جميع الأحوال سترمي للأم جنيهات قليلة، لكن إمعانًا في ذلها وتحكمًا في حياتها يرفض الإنفاق.

أنا غاضبة، لأن شرائي لسيارة يا للسخرية لم يكن بمحض إرادة أو رغبة حرة، اشتريتها اتقاءً للتحرش الذي ينهكني نفسيًا بصفة يومية، كنت أتمنى طاقية للإخفاء أيامًا كثيرة، اضطررت لدفع أموال طائلة لأن الدولة قررت بمنتهى البساطة ألا تؤدي وظيفتها لحمايتي, هذا الامتياز كان متاحاً لي لكنه غير متوفر لكثير من صديقات يعانين بشكل شبه يومي من التحرش والمشاجرات والمشاحنات لأنهن قررن الرد وعدم الصمت.

الدرس الأول الذي تعلمته في عملي ألا أثق بالبشر ثقة عمياء، فمن نراهم يدافعون عن حقوق الإنسان ينكشفون ببساطة حين يكون الأمر متعلقًا بحق الفتيات والنساء، لكنني تعلمت هذا الدرس بالطريق الصعب. ذلك الصحفي الذي ما زلت أكن له الاحترام يتفاخر على حسابه الشخصي بأن النسويات خرابات بيوتوأن أفكارهن المغلوطةحول طاعة الزوج هي السبب في ما نحن فيه الآن من دمار أخلاقي واجتماعي. هل يجب علي طاعة زوجي فقط لأنه رجل وأنا امرأة؟ فقط لكونه يتبول واقفا في حين أفعلها وأنا جالسة ؟! كيف تمخض كل هذا الإحساس بانعدام الأمن الداخلي لدى معظم الرجال؟

أنا غاضبة، لأن حربي ضد الاضطهاد وعدم المساواة والتمييز تُترجم دائمًا حربًا ضد الرجل وكأنه مقياس الكمال أو الهدف الأسمى، لكنني غاضبة من نفسي بشكل أكبر. أحارب أفكاري الشخصية التي تربيت عليها يوميًا، أغلبها مرة وتغلبني مرارًا. ما زلت أواجه نفسي بأفكار من عينة يجب أن ينفق هو لأنه رجل“. غاضبة من كل مرة تتعرض فيها فتاة للظلم, وأحملها المسؤولية عن هذا الظلم لأنها غبية لتصديق تلك الأكاذيب البراقة التي صدقتها عن سذاجة أو أنانية محضة, ترجح فيها مصلحتها على محاربتها للعنف. ثم أعود فأشعر بالغضب أنني أرفع عنها المسئولية وكأنها كائن أضعف, لا حيلة له.

أضع نفسي مكان كل امرأة وطفل من المترددين على المكتب، أعيش قصتها فأغضب منها وأغضب لها حتى قررت الاعتزال عن الناس تمامًا والتركيز فقط على عملي النظري. أغلق عيني وأذني عما أرى وأسمع خوفًا من أن يتحول غضبي الداخلي إلى واقع عملي ضد زوج هذه أو أب تلك. ما زالت بعض القصص عالقة بذهني ولا أنفك أقارن بين حالي ذي الامتيازات وبين حالهن فأغضب أكتر لقصر ذات اليد. ما زلت أذكرها, تلك الفتاة الناجية من اغتصاب عمها. أذكر أنني حبست نفسي في مكتبي كي لا أرى أحدًا من أهلها وإلا أفرغت غضبي فيهم. يلومون فتاة عمرها 14 عامًا على مأساة تعيشها هي يوميًا، بينما يمرح عمها عالمًا بأنهم لن يحبسوه يبلغوا عنه.

أيضًا تلك المرأة التي تعدت الستين من عمرها ومصيرها كان الشارع، فزوجها الكامل ذو العقل النابه قرر الزواج من فتاة أصغر منها تعيد شبابه المتحلل وطلقها، ولأن قانوننا العزيز صاحب المئة عام لا يعطيها أي حقوق للسكنى أو لتقسيم العوائد المشتركة؛ وجدت نفسها في الشارع بلا أموال أو مصدر دخل أو مكان سكن. قانون عاق يحكمنا وياريت عاجب!

الأسطورة تقول إن قانون الأحوال الشخصية مناصر للمرأة ويُخضِع الرجل لها سالبًا كل حقوقه. “كلحقوقه هذه تتمثل في حق الحضانة الذي يذهب للأم مباشرة دون الرجل، وإن الملاليم التي يدفعها نفقةً شهرية تعتبر عائقًا ماديًا كبيرًا له. يا حرام, هو يرى أن ألف جنيه في الشهر كثير عليه ويجب التخفيض, وأن مؤخر الصداق لا يجب عليه دفعه. نسي أو تناسى أنها من ينفق أغلب الوقت على الأطفال بشكل كامل، وأن حياتها كامرأة انتهت فلا تستطيع الزواج مرة أخرى حتى لا تسقط الحضانة. “أنا حياتي خلاص انتهت ومش عايزة غير ابنيقالتها لي باكية حين هاتفتني معترضة على قانون الاستضافة.

أقف عاجزة في أحيانٍ كثيرة عن التصرف, ما بين فتيات يعانين عنفًا بشعًا ولا سبيل للتدخل، وبين الصراع الدائم مع أفراد قريبين مني حول حقوق النساء المفترياتالذي يضيع الطاقة القليلة التي أملكها. بالرغم من ذلك ما زلت مؤمنة بأن الأفضل قادم وأن مكاسبنا كنساء لن تتزحزح.

تعلمت من عملي أن البشر أكثر تعقيدًا مما تخيلت, وأن الشر المحض يتولد نتيجة البيئة والتهميش واختلال موازين القوى. أصبحت أرى الناس بمنظار مختلف، أبحث عن الحقائق والأسباب وأحاول ألا أنجرف مع التيارات المساندة لروايةٍ واحدة. الحقيقة الواحدة هي أسطورة؛ لكل قصة أكثر من جانب وأكثر من حقيقة ووظيفتنا هي البحث عنهم لتقديم الدعم بأفضل السبل. تعلمت أن أقدر المساندين لي وأقدر الأفعال الصغيرة التي نتبادلها معًا. القصص المستحيلة التي رأيتها في المكتب سواء من زملائي أو من المترددين علينا ظهر لها حلول متعددة، لذا صرت لا أؤمن بالمستحيل, أؤمن بأن التغيير للأفضل قادم وأننا النسويات لن نستسلم.

شارك:

اصدارات متعلقة

أسئلة وأجوبة بشأن الوقاية من كوفيد 19 ومكافحتها للعاملين /ات في مجال الرعاية الصحية
الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي