مقدمة المترجمة

التصنيفات: النساء والأديان

تاريخ النشر:

2012

اعداد بواسطة:

قضايا في ترجمة الخطاب الديني النسوى

بعض الاعتبارات النظرية

ربما يشاركني كثير من المترجمين القول بأن بهجة الانتهاء من ترجمة عمل ما غالبًا ما تتساوى وتتوازي مع رهبة وقلق يراودان المترجم حيال جودة العمل الذي انتهي تواً من ترجمته، والذي سرعان ما سينفصل عن مترجمه ويكتسب وجودًا مستقلاً في أيدي القراء، فيصبح من غير الممكن تحسينه وتنقيحه، ناهيك عن إصلاح ما يظهر فيه لاحقًا من عيوب وأخطاء. وفيما يتعلق بترجمة هذا الكتاب، فقد أشعرني هذا الانفصال الوشيك كذلك بحزن ضمني، إذ وجدتني أودع عملاً رافقني زهاء ثلاثة أعوام. نعم، استغرق العمل على ترجمة المقالات الاثنتي عشرة التي يتضمنها هذا المجلد والتي تتناول قضايا دينية من منظور نسوى، ما يقرب من ثلاثة أعوام، وهي مدة لا أعدها بالطويلة، إذا أخذنا في الحسبان طبيعة المقالات الأصلية وكم البحث الذي يتحتم على المترجم القيام به لترجمة أعمال تمزج بين عدة فروع من العلم مثل اللاهوت والفقه، والنسوية، والنظريات الأدبية، والتاريخ، والسياسة، والاجتماع. كما أن طبيعة العمل ضمن مشروع أكبرألا وهو مشروع إصدار ستة كتب عن النسوية وأفرع مختلفة من العلم والمعرفةلهو أمر يتطلب الكثير من التدقيق وتنسيق العمل الجماعي، وهي أمور حتمية لكل من ينشد تقديم أعمال مترجمة تسهم إسهامًا حقيقيًا في المعرفة الإنسانية وتتميز بطابع بحثى جاد. كان هذا هو الحال في المشروع الذي تجدون أحد إصداراته بين أيديكم الآن. وأثق في أن مستوى الجد والتنسيق والمهنية الذي أدير به هذا المشروع والذي اتصف به كل من شارك في إنتاجه سوف ينعكس على كل من المجلدات الستة التي ستكون جميعها بين أيديكم قريبًا.

وقد أسهمت عدة عوامل أخرى في جعل ترجمتي لهذا الكتاب عملية زاخرة بالمزيد من التشويق والتحدي، وسوف أورد بعض هذه العوامل باختصار في بداية هذه المقدمة ثم أعود وأعرض لها، ولأخرى غيرها، بتفصيل أكبر في متن المقدمة. إن قيمة عملية الترجمة تكمن في أنها نشاط يعمل على إقامة جسور بين أناس مختلفين وبين حضارات مختلفة، عن طريق نقل المعرفة والخبرات من لغة إلى أخرى، أو من محيط فكرى إلى آخر. وقد كانت عملية الترجمة في مشروعنا هذا، تهدف بالإضافة إلى ما سبق – إلى الإسهام في خلق معرفة جديدة في الثقافة العربية، وبالتبعية خلق لغة جديدة تقدر على نقل تلك المعرفة. لقد بدأ البحث في موضوع الجندر (gender)،(1) وبصفة خاصة الجندر والدين، خارج الوطن العربي، ثم انتقل إلى القارئ العربي في البداية عن طريق الترجمة. ثم رأينا لاحقًا باحثات وباحثين عرب يكتبون بالعربية عن الموضوع نفسه، في حين ظلت كتاباتهم مرتبطة بالمصادر الغربية، وبخاصة تلك المكتوبة بالإنجليزية والفرنسية. ومع التوسع والانتشار الذي اتخذته الكتابات العربية عن الجندر في السنوات الأخيرة، أصبح من الواضح أن الكتابة عن الجندر أو الحديث عنه بالعربية يتطلب رسوخًا أقوى، سواء في التعبير عن المفاهيم أو في استخدام المصطلحات.

وقد حرصت أثناء عملية الترجمة على أخذ هذه النقطة في الحسبان: إن عملية الترجمة من الإنجليزية إلى العربية في هذه الحالةعملية من شأنها الإسهام في إنتاج ’معرفة جديدة‘. ولسوف أورد هنا على سبيل الإيضاح مثالاً جليًا. كانت كلمة جندرفي ذاتها محلاً لكثير من النقاش بين كل من شاركن في مشروع الترجمة الحالي. وقد تعددت الآراء حول ترجمة هذا المصطلح، وهو تعدد نجم في الأساس عن أن الاطار المفاهيمي لكلمة ’جندر‘ ذاته في الفكر النسوي العربي قد جاء من خارج العالم العربي واللغة العربية، ومن ثم لم يخرج مصطلح ثابت وواضح للإشارة إلى ذلك المفهوم في العربية. وعلى عكس الحالي في النصوص الأدبية، حيث تعد غيبة الثبات والوضوح في الدلالات من الفضائل التي تثرى العمل الأدبي، فإن الترجمة العلمية تحتم وضعًا يمكن أن يطلق عليه ’غلق مؤقت‘ للمعنى (temporary closure) حتى يتسنى التعامل مع موضوعات أكثر أهمية أو أكثر إلحاحًا تتمثل في المعرفة التي يجري إنتاجها مع عملية الترجمة. حتى ولو كان المفهوم في حد ذاته (مفهوم الجندر هنا) ما زال موضوع جدل ولم يُفْصَلْ في شأنه بشيء، فلا يزال بإمكاننا تثبيت الدال (اللفظ نفسه)، أو بالأحرى يجدر بنا ذلك. ولهذا، فقد كانت إحدى القضايا التي واجهناها في بداية العمل في هذا المشروع هي ترجمة كلمة “gender”، وهو ما كان يعني التوصل إلى مقابل ’دقيق‘ و’سهل الاستخدام والانتقال‘. وكما سيلاحظ القراء، لم نتمكن من تثبيت المصطلح في هذه المجلدات الستة، حيث قررنا سويًا أن تُتْرَك المسألة لتقدير المترجمات والمحررات في كل مجلد على حدة. وقد جاء قراري كمترجمة لهذا الكتاب، وبعد التشاور مع محررة الكتاب، أن نستخدم الكلمة معرَّبة: (“جندر“) وأن نتبعها بكلمة (النوع) في المرة الأولى التي ترد فيها في أية مقالة. وقد جاء القرار نتيجة رغبتنا المشتركة في ’تطبيع‘ الكلمة في العربية، بالإضافة إلى تسهيل تقريب استخدامها للقراء الذين قد لا يكونون معتادين على استخدامها في العربية.

ونظرًا لطبيعة الموضوعات التي تتناولها المقالات التي قمت بترجمتها هنا (وهي مكتوبة جميعها بالإنجليزية)، والتي تدور في المقام الأول حول النسوية والأديان (وبخاصة المسيحية والإسلام) فقد اشتملت معظم تلك المقالات على إحالات أو اقتباسات مباشرة من الكتب المقدسة. وقد استعانت كاتبات المقالات في معظم الأحيان بترجمات الكتب المقدسة إلى الإنجليزية. ولهذا، أصبح علىَّ أن أتعامل في ترجمتي للنص المكتوب بالإنجليزية مع ترجمات عدة للنصوص المقدسة من لغاتها الأصلية (العبرية والآرامية واليونانية التي تُرْجِمَ عنها الكتاب المقدس والنصوص الحُجِّيَّة المسيحية، والعربية التي تُرْجِمَ عنها القرآن والنصوص الحُجِّيَّة الإسلامية). وقد كنت فضلاً عن ذلك أتعامل مع تيارين نسويين مختلفين إلى حد كبير، ألا وهما النسوية المسيحية والنسوية الإسلامية. وفي حين تتشابه التعبيرات الاصطلاحية التي يستخدمها التياران النسويان (المسيحي والإسلامي) تشابهًا كبيرًا في الإنجليزية، يظهر الاختلاف في المصطلحات بينهما حين تترجم المقالات إلى العربية. وقد أملى ذلك علىَّ أن أحاول تحقيق التوازن بين الاتساق في ترجمة المصطلحات من ناحية، وسلاسة التعبير في اللغة العربية من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال نجد أن كلمة مثل “the Garden” في قصة خلق البشرية تشير إلى المفهوم نفسه حين تُستَخْدم في السياقين المسيحي والإسلامي، ولكننا حين نترجم نصًا إنجليزيًا إلى العربية علينا الأخذ في الحسبان أن كلمة الحديقةأقرب إلى السياق اللاهوتي المسيحي، في حين أن الجنةهي الأكثر تآلفًا مع السياق الإسلامي.

وقد سعيت في ترجمتي لهذا الكتاب كذلك إلى التوفيق بين متطلبات منهجي الخاص في الترجمة والإطار العام الذي اتفق عليه فريق العمل في المشروع ككل. وقد يسر من هذه المهمة تميز فريق العمل بشكل عام بكثير من المرونة الحميدة، وعده جنوحه إلى فرض وجهة نظر موحدة على فريق العمل، حيث اتفق منذ البداية على ترك الأمور الإشكالية التي لم نستطع الوصول فيها إلى إجماع لحكم المترجمات والمحررات.

وقد واجهني تحدٍّ أكبر تمثل في رغبتي في التوفيق بين منهجي الخاص في الترجمة وما تمليه طبيعة الخطاب النسوى. وأود الإشارة هنا إلى أنني أجنح في الترجمة إلى التغريب (foreignisation) أكثر من التقريب domestication,(2) إذ أجدني أنزع إلى تبني ممارسات تؤدي في النهاية إلى طبيعة النص الأصلي وخصوصيته، حتى ولو كان ذلك يعني اضطرار قارئ الترجمة إلى بذل جهد أكبر في فك شفرة إشارة مبهمة أو إحالة ثقافية غير مألوفة، وهو ما يعني كذلك أنني عادة ما أحاول البقاء ’مختفية‘ لأفسح المجال للنص ذاته ليظل في الصدارة. ولكن هذه العملية ليست باليسيرة تمامًا، حيث إنني أؤمن أيضًا بأن الترجمة عمل تواصلي في المقام الأول. ولهذا، أسعى دائمًا إلى الحفاظ على التغريب بقدر أراه مناسبًا للحفاظ على خصوصية النص الأصلي، ولكنه في ذات الوقت كافٍ لدفع عملية التبادل الثقافي التي يتعين فيها على القارئ البقاء منتبهًا للاختلافات الثقافية وبذل الجهد في محاولة فهمها، بدلاً من الاتكال التام على المترجم لتحقيق مثل هذه الغاية.

وبالرغم من صعوبة تحقيق ذلك التوافق، لا تنتهى التحديات هنا، إذ أضع في حسباني كذلك تحقيق التوافق بين التوازن الذي أشرت إليه لتوى وأحد أهم الاعتبارات التي تمليها طبيعة الخطاب النسوي في النصوص الأصلية. إن الخطاب النسوى خطاب مضاد (counter-discourse) بالضرورة، يسعى إلى الاشتباك مع خطابات أخرى سائدة، ومواجهتها ونقضها أو إيجاد مكان لخطاب بديل. ولهذا، نجد اللغة التي يستخدمها ذلك الخطاب مليئة بسمات أسلوبية مثل ابتكار وتركيب كلمات جديدة من كلمات قديمة، واستخدام تصاحبات غير تقليدية، وإعادة كتابة الخطابات التقليدية، والمحاكاة التي تهدف إلى التهكم. وتنم آليات التدخل هذه (intervention strategies) عن رسوخ صوت المؤلف القابع وراء النص، وهو ما قد يتعارض مع فكرة اختفاءالمترجم التي أشرت أعلاه إلى احتفائي بها بوصفي مترجمة. ولكن هذا لا يمثل مشكلة كبيرة على أرض الواقع، حيث إن ’اختفائي‘ النسبي بوصفی مترجمة هو ما يمكنني من إبراز السمات الأسلوبية والبلاغية للنص الأصلي وتقديمها. وقد سعيت كذلك إلى الحفاظ على الطابع التدخلي للنصوص، وحتى لو أدى ذلك في بعض الأحيان إلى المخاطرة بأن يصاب بعض القراء بالصدمة أو في أحسن حال بالاستغراب لبعض الوقت. من الصعب اعتبار أن مشاعر الصدمة والاستغراب هنا من خلق المترجم ’المختفي‘، ولكنها نتاج الطبيعة الأسلوبية للنص الأصلي.

إن محاولة خلق توازنات بين العديد من الاعتبارات، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الصفة التواصلية بين الترجمة والقارئ لهو تحدٍّ يواجه أي مترجم. ولهذا، سأنطلق من التوطئة السابقة، التي قدمت فيها عرضًا مختصرًا لخصوصية النصوص التي قمت بترجمتها وللمنهج العام الذي اتبعته في الترجمة، لأشرح في الجزء المتبقى من هذه المقدمة بعض التحديات التي واجهتني خلال عملية الترجمة، وأعرض بعض الآليات التي استخدمتها لمواجهة تلك الصعوبات والتحديات. لقد قمت بتصنيف هذه المشكلات تحت أربعة عناوين: 1) اللياقة الأدبية (political correctness) 2) ترجمة الترجمة، 3) ترجمة الأسلوب، 4) الكلمات والتعبيرات الإشكالية. وسوف أقدم فيما يلى عرضًا لكل من هذه النقاط الأربع تباعًا.

 

تُعَدُّ اللياقة الأدبية أحد مظاهر ’اللغة الجديدة‘ التي سعينا إلى إخراجها بوصفها جزءًا أساسيًا في تقديم ’المعرفة الجديدة‘ التي يقدمها الكتاب، وهو تعبير يُقصد به أن يأتي استخدام الكاتب أو المتحث للغة متوافقًا مع اعتبارات متفق عليها مثل المساواة بين الجنسين، أو الاحتفاء بالتعددية العرقية أو الدينية وما شابه ذلك. وتُعَدُّ فكرة ’اللغة الجامعة‘ (inclusive language) أحد أهم مظاهر تلك اللياقة الأدبية. والمقصود باللغة الجامعة هذا تنقية استخدام اللغة من الاتجاه اللاشعوري الجمعي إلى استخدام صيغ بعينها تقصي الآخر، مثل استخدام المذكر للإشارة إلى ما هو مذكر ومؤنث، كأن نقول مثلاً في كتاب للتعليمات في نادٍ أو جمعية ما:

Anyone applying for membership must submit his valid ID plus a copy, together with the application.

حيث يشير ضمير الملكية “his” هنا إلى الرجال والنساء، وهو استخدام إقصائي تسعى اللغة الجامعة إلى تصحيحه. ومع انتشار الدعوات خلال العقدين أو الثلاثة الماضية إلى أن تتخلص اللغة من نزوعها نحو تعميم المذكر واختزال المؤنث، أصبحنا نرى حتى في خارج سياق الكتابات النسوية – اتجاهًا نحو خلق لغة جامعة. فأصبح من اللائق أن نرى مثلاً بدلاً من العبارة السابقة العبارة الآتية:

Anyone applying for membership must submit his/her (their) valid ID plus a copy, together with the application.

وقد نرى في بعض الأحيان تقديم ضمير المؤنث ‘her’ على ضمير المذكر ‘his’، إمعانًا في تعويض المرأة عن اختزالها اللغوي لقرون عدة. ومع انتشار الفكر النسوي، أصبحنا نرى طرقًا للتعبير أكثر راديكالية في تمكين المرأة لغويًا، وهو ما يطلق عليه ’الكتابة المضادة‘ writing) back). يتمثل ذلك أحيانًا في استخدام تركيبات لغوية تمحور المرأة وتقصى الرجل، كأن نقول:

Anyone applying for membership must submit her valid ID plus a copy, Together with the application.

وبالرغم من أن هذا الجنوح نحو ترسيخ وجود المرأة لغويًا لم يحقق الانتشار الذي حققته فكرة His/her الجامعة، ربما لعدم ألفة القراء به أو لأنه ينطوي على آلية إقصائية تتعارض مع مبادئ المساواة بين البشر، فنحن نراه كثيرًا أيضًا.

وتمثل محاولة المترجمة إعادة إنتاج مثل هذه السمات الموجودة في النص الأصلى أثناء انتقاله من لغة إلى أخرى تحديًا كبيرًا. وفي حالة الترجمة من الإنجليزية إلى العربية تواجه المترجم مشكلة مصدرها أن اللغة العربية لغة بيرز فيها الفارق بين المذكر والمؤنث بشكل أوضح منه في الإنجليزية. فمثلاً نجد في الإنجليزية جملاً مثل الجملة الآتية لا تشير إلى مذكر أو مؤنث:

Researchers have explained that……

أو جملة شائعة في الهوامش والإحالات مثل

See my article entitled……

يصعب عند ترجمة أي من هاتين الجملتين الخاليتين من الانحياز النوعي في الإنجليزية إنتاج جملة ’بريئة‘ من الانحياز النوعي في العربية. وقد جرت العادة في العربية على الحديث عن المذكر واعتبار ذلك كافيًا للإشارة إلى المذكر والمؤنث معًا. بل إن معظم النحاة العرب يذهبون إلى أن صيغة المذكر في العربية تشير بشكل لغوي صحيح وليس مجازيًا أو عرفيًا – إلى المذكر والمؤنث، بينما يرون أن العكس ليس صحيحًا، كما جاء على سبيل المثال في الكتاب لسيبويه. لذلك نجد الجملتين السابقتين تُترجمان إلى جمل من قبيل:

وقد أوضح الباحثون……

انظر مقالتي بعنوان

وبغض النظر عن الرسالة غير المساواتية التي قد يحملها استخدام صيغة المذكر للإشارة إلى المذكر والمؤنث معًا، فإن استخدامًا كهذا قد يكون مضللاً للقارئ. فقد يكون ’الباحثون‘ الذين تشير إليهم الجملة الأولى في مقالة ما بعينها هم ’باحثون‘ من النساء، وبذلك تصبح الإشارة إليهم بالعربية بوصفهم ذكورًا إشارة مضللة.

وهنا، أيضًا نجد آلية الرد على الإقصاء بإقصاء. وهنا نجد الترجمة مثلاً تظهر على النحو الآتي:

وقد أوضحت الباحثات ….

انظري مقالتي بعنوان

وقد ارتأيت في ترجمتي أن استخدام الإشارة الحصرية إلى النساء كما في الجملتين السابقتين ربما يكون ذا تأثير مضلل على القراء الذين لم يألفوا هذا التيار من الكتابة المضادة، وأنه قد يفضى إلى إقصاء القراء الرجال. وبالرغم من أن هذا الإقصاء يمثل في حد ذاته آلية ’صادمة‘ تميز الخطاب النسوي كما تميز غيره من الخطابات المضادة (shock tactic) ، فعلينا في الوقت ذاته ملاحظة أن اللغة العربية بطبيعتها المؤكدة على النوع سوف تنتج ’صدمات‘ أكبر بكثير من تلك التي يمكن أن تكون كاتبات المقالات الأصلية في انتوين إنتاجها. إلا أنني قررت عند ترجمة جمل إشارية بسيطة مثل التي ذكرتها في المثال السابق أن ألتزم بما يجنِّب اللبس وأن أحتفظ بأدواتي ’الصادمة‘ لمواقع أخرى في الترجمة تصبح الصدمة فيها أهمية منتجة.

وقد قررت في هذه الحالة أن أحاول إنتاج لغة عربية جامعة يكون لها تأثير اللغة الجامعة نفسه في الإنجليزية، ولا تخلو في الوقت ذاته من بعض الآثار ’الصادمة‘. وبالطبع، أنا لم أبتكر هذه الحيل اللغوية بل فاضلت بينها لأختار ما يناسب المشكلة، كما أعترف أيضًا بأننى أضفت بعض ’ابتكاراتي‘ الشخصية إلى تلك الاختيارات. وقد جعلت ترجمتي في مثل تلك الحالات تتنوع بين الاختيارات الآتية:

1) استخدام المؤنث والمذكر معًا:

وقد أوضح /أوضحت الباحثون والباحثات

انظر/ی مقالتي بعنوان…..

وتظهر إحدى عيوب هذا الاختيار جلية في ارتباك السمات الشكلية للجملة، فنحن أمام جملة تبدو متقطعة نظرًا لوجود العلامة ’/‘ التي تصبح مؤذية للعين حين تتكرر كثيرًا في جمل أطول وقد تتسبب في تشتيت انتباه القارئ. فمثلاً قد نحتاج إلى أن تقول:

وقد أوضح/ أوضحت الباحثون والباحثات في مجمل كتاباتهم/ كتاباتهن حول هذا الموضوع أن ما يشغل بالهم/ بالهن في الأساس هو النقاط التي يرون/ ترين أنها تعزز الطروح التي كانوا/ كن قد ذهبوا/ ذهبن إليها في كتاباتهم/ كتاباتهن السابقة ….

وهنا نجد أمامنا الاختيار الثاني:

۲) تبادل الاستخدام العشوائي لصيغ المذكر والمؤنث:

هنا تستخدم المترجمة الصيغ الإقصائية التقليدية المذكرة بالتبادل العشوائي مع الصيغ المؤنثة. ويقدم هذا الاختيار مثالاً عمليًا على فكرة المساواة، وقد يَعُدُّ بعض القراء ذلك الخلط العشوائي بين المذكر والمؤنث خطأً لغويًا فادحًا من جانب المترجم، كما قد يمكن أن ينتج عنه لبس وضيق کبیران؟ لو استخدم دون إيضاح كافٍ من المترجم.

وقد انتهجت آلية هي مزيج معدَّل من الاختيارين السابقين. فبينما بدأت بعض جملي بما اعتقدت أنه أكثر الطرق التي يألفها القراء، ألا وهي استخدام العبارات الجامعة (مثال 1) لم التزم بهذا الاستخدام في الجملة الواحدة من بدايتها إلى نهايتها، إذ نوَّعت في بقية الجملة بين استخدام الإشارات الجامعة والإشارات المؤنثة الحصرية:

وقد أوضح/ أوضحت الباحثون والباحثات في مجمل كتاباتهن عن ذلك الموضوع أن ما يشغل بالهن في الأساس هو النقاط التي ترين أنها تعزز الطروح التي كن قد ذهبن إليها في كتابات سابقة….

كما تصرفت بحدود في الترجمة حين وجدت أنه من الممكن تحييد الإشارة النوعية دون الإخلال بالمعنى، كما يتضح في العبارة الأخيرة في الجملة السابقة التي جعلتها ’كتابات سابقة‘، بدلاً من ’كتاباتهم/ كتاباتهن السابقة‘.

ولأنني أعي أن صياغة لغوية كهذه ليست بالصياغة المألوفة في العربية، فقد أفردت لها هذا العرض في المقدمة.

وقد ارتأيت أنه بينما لا تشكل مثل تلك الآليات خروجًا على قواعد اللغة العربية، فإنها في الوقت ذاته تسهم في إنتاج ’لغة جديدة‘ تجعل من القراء الذين ألِفوا لغة تعتمد أسلوبًا إشاريًا إقصائيًا يتعرفون على أسلوب جديد أكثر جمعية. وراهنت على أنه بينما يواصل القراء مطالعة مقال ما من المقالات فسوف يجدونني أقلع عن استخدام العبارات الجامعة المرهقة وأتفرد باستخدام المؤنث فقط. وقد حسبت أن هذه الحيلة سوف تخفف وقع الصدمة اللغوية على القراء. ولكنني في الوقت ذاته حرصت على شرح اختیاراتي هذه في المقدمة. لكَمْ هي عالية تكلفة إنتاج إشارات جامعة مع استخدام لغة شديدة الحرص على التمييز بين المذكر والمؤنث مثل لغتنا العربية! وكم هي كثيرة المرات التي تخفق فيها اختيارات المترجم! فقد كانت هناك مناسبات كثيرة في النصوص الأصلية، وبخاصة تلك التي انشغلت فيها الباحثات بقراءة مدققة للنصوص المقدسة، اعتمد الطرح فيها اعتمادًا شبه كلي على الحياد النوعي في اللغة الإنجليزية، مما هدد بجعل الطرح نفسه بيدو غير منطقي، أو على الأقل ذا منطق ضعيف في الترجمة إلى العربية.

تطرح ميكا بال (Mieke Bal) في مقالتها عن التشخيص (characterization) في سفر التكوين ۱۳ فرضًا مفاده أن المخلوق الأول الذي يطلق عليه في العبرية اسم “ha adam” والذي جرى العرف على الإشارة إليه بصيغة المذكر في ترجمات العهد القديم من العبرية إلى لغات أخرى، هو في الحقيقة مخلوق لا جنساني (asexual)، وأن مترجمي العهد القديم قد خلعوا عليه لاحقًا سمات ذكورية. وقد سهلت اللغة الإنجليزية على ميكا بال تعزيز فرضها المبدئي، إذ تسمح باستخدام الضمير الحيادي ’it‘ حين الإشارة إلى ذلك المخلوق. ولكن الأمر ليس ممكنًا في حالة الترجمة إلى العربية التي لا تستخدم مثل هذا الضمير الحيادي، وتحتم استخدام ضمير إما مذكر أو مؤنث، مما يؤدي بالتبعية إلى الإشارة إلى ذلك المخلوق بوصفه إما ذكرًا أو أنثى. وكذلك في بقية مقالة ميكا بال، حيث نرى قدرة اللغة الإنجليزية على تحييد وسم الهوية الجنسية للمشار إليه. فمثلاً أتاحت الإنجليزية لميكا بال أن تأتي في معرض طرحها بجملة مثل ما هو آت(۳):

Similarly, in the previous phase of the creation, Yahweh made ha’adam by separating it from the rest of the earth […] which by the separation Changed radically.

ليس من اليسير صياغة الجملة في الترجمة العربية لتكون على القدر نفسه من الحياد الجنسي الإشاري، مما يضعف بالضرورة طرحًا قويًا محكمًا مثل الذي نقرأة بالإنجليزية في الأصل. هنا على سبيل المثال، وجدت أفضل اختياراتي في استخدام الآلية الأكثر تقليدية للتعبير عن الحيادية الجنسانية للمخلوق “ha adam”، وليس استخدام المؤنث فقط، والذي كان سيوحي بأنوثة ذلك المخلوق، وبالتالي يشوه الفرض الرئيس الذي تدفع به ميكا بال، ألا وهو لا جنسانية المخلوق الأول. فقد ترجمت الفقرة على النحو الآتي:

وهو ما حدث في مرحلة الخلق السابقة حينما صنع يهوه الآدم بأن فصله/ا عن بقية الأرض […]، التي تغيرت تغيرًا جوهريًا جَرَّاء ذلك الانفصال.”

هناك إشكالية أخرى واجهتني أثناء الترجمة، ألا وهي إشكالية مرتبطة بالنقطة السابقة. فمعظم الطروح والفروض التي تقدمها المقالات (سواء التي تتناول المسيحية أو الإسلام) فروض وطروح نابعة من قراءات مدققة لنصوص مقدسة. وكما أشرت سريعًا في التوطئة لهذه المقدمة، هذه القراءات المدققة هي في حقيقة الأمر قراءات لترجمات لا قراءات لنصوص بلغتها الأصلية. وبما أن المقالات (سواء التي تتناول المسيحية أو الإسلام) مكتوبة أصلاً بالإنجليزية، أخذت الكاتبات في الغالب اقتباساتهن من الكتب المقدسة من ترجمات إنجليزية معتمدة لكل من الكتاب المقدس والقرآن. وهكذا، غدت عملية ترجمتي للمقالات ذات بعد مزدوج.

وكما هو متعارف عليه في مهنة الترجمة، إذا ورد في المقالة اقتباس من نص مترجم من لغة أخرى يجدر بمترجمة النص الاستعانة بالنص الأصلي. ولهذا، عندما كانت ترد نصوص من القرآن مترجمة إلى الإنجليزية كنت أضمِّن النصوص الأصلية من القرآن بدلاً من أن أقوم بترجمة النصوص بنفسي إلى العربية. وذلك أمر بديهي. وكذلك عندما كانت ترد نصوص من الكتاب المقدس بالإنجليزية كنت أستخدم أكثر الترجمات العربية للكتاب المقدس شيوعًا وهي ترجمة فان دايك (Van Dyke)، لكي أضمن الألفة بين القراء والترجمة. ولأن المترجم (الشرير) لا يعرف الراحة أبدًا، فقد صادفتني أجزاء في بعض المقالات وجدت فيها أن المؤلفة لم تستخدم أيًا من الترجمات الإنجليزية المعتمدة أو حتى المنشورة للكتاب المقدس، بل قامت هي بنفسها بترجمة بعض الفقرات إلى لغة إنجليزية أقرب إلى لغة الحديث اليومي، كما فعلت میری روز دانجلو (Mary Rose D’ Angelo) في سياق تحليلها الرسالة إلى أهل كورنثوس. وقادني البحث في ترجمات الكتاب المقدس إلى الإنجليزية إلى الخلوص إلى أن الترجمة الإنجليزية التي أوردتها الكاتبة لتلك الفقرات في مقالتها هي نقل متصرف وأكثر عامية لترجمة طبعة الملك جيمز (King James Edition). وهنا جاء دوري في أن أجعل ترجمتي العربية للاقتباسات تعيد إنتاج الخصائص الأسلوبية لترجمة دانجلو: سائغة، تستخدم مفردات معاصرة، ولكن في الوقت ذاته قريبة من ترجمة الكتاب المقدس المعتمدة التي ألفها القراء.

ولكن التحديات لم تتوقف هنا. فعلى الرغم من أن الكثير من الكاتبات قد يكن قرأن النصوص المقدسة التي يقتبسنها بلغتها الأصلية (أيْ القرآن بالعربية، والعهد القديم بالعبرية والآرامية، والعهد الجديد باليونانية) فإنهن قد اخترن في معظم الحالات أن تنطلق طروحهن وفروضهن من ترجمات إنجليزية معتمدة لهذه النصوص. ولكنني واجهت أحيانًا إشكالية أن الترجمات العربية المعتمدة للكتاب المقدس، أو النص الأصلي للقرآن قد ينطويان على ظلال للمعاني تخالف، بل وتتعارض أحيانًا، مع تلك التي تقدمها الترجمات الإنجليزية التي تستعين بها كاتبات المقالات.

فعلى سبيل المثال، تقدم رفعت حسن Riffat Hassan)) في مقالتها تفسيرًا لمفهوم القوامة في الإسلام. وهي تورد الكلمة في أول ذكر لها في المقالة بالحروف اللاتينية ((quwama ثم تتبعها بتفسير مختصر بالإنجليزية (men’s headship over women). وتورد رفعت حسن في هذا السياق نص ترجمة المودودي الشارحة للآية 34 من سورة النساء التي ترد فيها كلمة القوامة. وهذا هو النص من ترجمة المودودي الإنجليزية للقرآن (4):

Men are the managers of the affairs of women because Allah has made The one superior to the other and because men spend of their wealth on women…”

وتبنى الباحثة رفعت حسن طرحها على الاقتباس السابق من ترجمة المودودي، التي زاد في نهايتها عبارة (because men spend of their wealth on women)، وهي كما يعرف العالِم بالآية في العربية غير موجودة بهذا الوضوح في النص الأصلي للآية بالعربية. وتقدم الباحثة هنا طرحًا يسلِّم بما جاء في ترجمة المودودي التي جعلت الآية تشير بشكل حصريإلى الرجال في التفضيل والإنفاق بفضل تلك الإضافة التي أضافها المودودي، في حين أن النص العربي الأصلي للآية بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوايسمح (لغويًا) بأن يكون التفضيل والإنفاق خاصتان لأيٍّ من النساء والرجال ومن ثمَّ لا يثبِّت المعنى كما فعل المودودي في ترجمته التفسيرية.

ولهذا، رأيت أن تضمين الآية بالعربية في ترجمتي سيكون عاملاً لإضعاف طرح رفعت حسن، التي سلمت بما ذهب إليه المودودي في ترجمته، بينما لا يبدو أنها تعرف نص الآية بالعربية. وعليه، فقد حرصت على الإبقاء على النص الإنجليزي لترجمة المودودي ثم اتباعه بالنص العربي آملة أن ينتبه القراء إلى الفروق الدقيقة بين النص الأصلي والترجمة، ومن ثمَّ يحاولون مقاومة طرح الكاتبة آخذين في الحسبان أنه مستقى من ترجمة المودودي لا من النص الأصلي.

وفي حادثة مشابهة في المقالات عن المسيحية والجندر، نری رون رودز (Ron Rhodes) في مقالته عن اللاهوت التحرري liberation theology)) يفند الطروح النسوية حول معنى كلمة “head” في الرسالة إلى أهل أفسس التي تذهب إلى أن الكلمة لا علاقة لها بممارسة السلطة وإنما تعنى المصدر“. ولأن الكلمة اليونانية المستخدمة في النص الأصلي للرسالة إلى أهل أفسس قد ترجمت إلى “head” في الإنجليزية (وبالتبعية إلى رأسفي العربية)، فقد أصبحت تشير إلى السلطة والقيادة. وعليه، تصبح سلطة الرجال على النساء في المسيحية نتاجًا لترجمة غير دقيقة! ويقدم رون رودز، مستعينًا بأفكار وين جرودم (Wayne Grudem) طرحه المضاد لهذا الطرح الذي يخلص فيه إلى أن الكلمة ترد في المعاجم اليونانية المنتمية إلى الفترة الزمنية نفسها التي إليها العهد الجديد بمعني ’رأس‘، وليس ’مصدر‘.(5) وهنا، كان علىَّ بوصفي مترجمة أن أتعامل مع نص يعتمد عمليات معقدة من الترجمة على مر الأزمان، وأن أحاول تقليب طبقات هذه العمليات بحرص، لكي أضمن بقاء الطرح الذي تقدمة الكاتبات منطقيًا.

تُمثِّل هذه المواقف شبكة معقدة من عمليات الترجمة (من وإلى)، وهي عمليات تفضى ببطء إلى إنتاج المعنى. كما أن عمليات إنتاج المعني هذه، تكشف بدورها عن آليات صنع المعنى وتطوره عبر الزمان والمكان مفضية إلى أزمات معاصرة. وأحسب أن عملية التكشف تلك تمثل في حد ذاتها عاملاً مهمًا في آلية انتقال المعرفة التي تنطوي عليها الترجمة.

تُعَدُّ ترجمة الأسلوب منطقة أخرى واجهتني فيها بعض التحديات التي لم تنبع من طبيعة النصوص فحسب، بل من تحيزي المنهجي للتغريب مقابل التقريب في الترجمة. وأود الإشارة هنا إلى أمر واضح، ألا وهو أنني أستخدم عبارة ترجمة الأسلوبهنا بشكل مجازي. فالأسلوب لا يترجم، ولكن يحاول المترجم محاكاته. ولأنني إلى حد كبير أنتهج التغريب في الترجمة، أجدني آخذ منحى إنتاج أسلوب شديد القرب من أسلوب النص الأصلي قدر استطاعتي، وهو ما يعني في بعض الأحيان إعادة إنتاج ما قد يَعُدُّه بعض القراء، بل وما قد أراه أنا نفسي، ’ضعفًا‘ في أسلوب النص الأصلي. ذلك أنني أؤمن بأنه من حق القراء التعرف على كل ما في إمكاني بوصفي مترجمة أن أنقله إليهم من خصائص النص الأصلي، ودون ’تجميل‘ من جانبي ما استطعت.

تنوعت المقالات الاثنتا عشرة التي قمت بترجمتها هنا في الأسلوب، كما في الموضوع والمنهج. وقد مثل لى التنوع الأسلوبي تحديًا أخرًا. وقد عَدَدْتُ محاكاة الأسلوب جهدًا يهدف إلى تعريف القراء بتنوع الأساليب في الكتابات النسوية، ومن ثمَّ نقل صورة أكثر واقعية للخطاب النسوي الناطق بالإنجليزية، الذي ينم بدوره عن التطور الكيفي الذي مرَّ به ذلك الخطاب.

يستخدم رون رودز أسلوبًا خطابيًا يسم مقالته في بعض المواضع بسمات الاصطناع والقدم. ورون رودز قس بروتستانتي، وهو أيضًا الرجل الوحيد في مقابل إحدى عشرة امرأة كتبن بقية المقالات. ويؤثر موقعه بوصفه قسَّا في كثير من الأحيان – في أسلوبه في الكتابة. وبالرغم من أن هذه المعلومة ليست ضرورية بالنسبة إلى قراء المقالة، فللأسلوب الذي يستخدمه تأثير في الأفكار التي يقدمها، كما أن للأفكار تأثير في الأسلوب. وتبدو آراء رودز في كثير من الأحيان – دفاعات دينية مبسطة، لا طروحًا بحثية عميقة. وفي المقابل، نجد ميكا بال المستخدم أسلوبًا أكاديمياً مكثفًا تطرح به طرحًا علميًا معقدًا ينتهج اللاهوت المسيحي والفكر النسوي والسميوطيقا الأدبية ونظريات القص. وقد يجد بعض القراء من مجيدي الإنجليزية وحتى الأكاديميين منهم – بعض الصعوبة في استيعاب جمل المقالة الطويلة المركبة في لغتها الأصلية. وقد عملتُ في كلتا الحالتين على إنتاج أسلوب يحاكي النص الأصلي. دفعني إلى ذلك حرصي على البقاء في كنف النص الأصلى قدر ما استطت، وإنتاج أسلوب في النص المترجم يعكس المعنى كما هو في النص الأصلي.

ومن البديهي أن تقييم أسلوب النص الأصلي ليس إحدى مهام المترجم، ولكن تحليل الأسلوب والتعرف على خصائصه العريضة هو من صميم عملية الترجمة. تتسم مقالة رفعت حسن عن الإسلام الأبوى والإسلام ما بعد الأبوي بالتكرار الكثير وغير الضروري. وقد أعدت إنتاج معظم حالات التكرار تلك في ترجمتي. فعلى سبيل المثال، تشير الباحثة في مقالتها إلى معاناة المسلمات اللاتي يعشن في مجتمعات إسلامية أبوية من مغبات ثلاثة: “inequities, inequalities, and injustices”.(6) ثمة فروق طفيفة تفصل بين معاني الكلمات الثلاث، وقد كانت تكفي إحداها أو اثنتين منها، إلا أن الكاتبة عمدت فيما يبدوإلى التكرار لكي تؤكد مدى الأذي الواقع على النساء في المجتمعات الإسلامية الأبوية. وعليه، فقد أعدت في ترجمتي إنتاج التكرار، إذ ترجمت العبارة إلى الجور والظلم والغبن“. وإذا ما سببت مثل هذه الحالة من التكرار ضيقًا لبعض القراء فعَدُّوها مثالاً على ضعف الأسلوب، فقد يظن البعض أن هذا من نواقص صنعة المترجم لا من مظاهر أسلوب المؤلف. وأحاول بوصفي مترجمة أن أتحلى بشجاعة تمكنني من مواجهة مخاطرة كهذه.

وتُعَدُّ إعادة إنتاج النغمة (tone) إحدى سمات محاكاة الأسلوب. تعكس النغمة موقف المؤلف من الموضوع المتناول ومن القارئ في آن واحد، وهي تسهم بذلك مساهمة خفية في خلق المعنى، فضلاً عن أنها تعكس علاقات القوى التي تبطن أيَّ خطاب. وهكذا، تكتسب النغمة ثقلاً خاصًا في كافة أنواع المداخلات النسوية. وتستخدم جون أوكونور (June O’Connor) أسلوبًا إخباريًا بسيطًا يتضمن في بعض الأحيان إشارات وأمثلة مرحة وخفيفة الظل. وبالرغم من أن هذا الأسلوب ليس جزءًا أساسيًا من ’المضمون‘ الذي تقدمه المقالة، وهو في مجمله مضمون إخباري لأن المقالة مقالة مرجعية تهدف في المقام الأول إلى عرض اتجاهات نسوية دون الجنوح إلى تقييم أو تقديم طروحات، فقد ارتأيت ألا أحجب عن القراء فرصة الاستمتاع بالسمات المرحة في أسلوب المقالة الأصلي، وهو أمر قد ييسر عليهم متابعة كم المعلومات الذي تقدمه المقالة.

تشير الكاتبة – على سبيل المثالفي معرض حديثها عن الأمريكيات من الطبقة المتوسطة إلى معاناتهن من القيود التي تفرضها عليهن تصورات الطبقة، إذ سرعان ما تصيبهن خيبة الأمل وتخذلهن الشعارات البراقة التي تروِّج بها هذه الطبقة لفكرة الزواج والعائلة. وهنا، يلطف استخدام الكاتبة للعبارة شبه الدارجة في الإشارة إلى هؤلاء النساء “who bought the ‘Myth of Happily Ever After’”(7) من نغمة الجد في المقالة، كما تنتج العبارة الساخرة تناصًا فكريًا مع نصوص أخرى وخطابات أخرى مثل الحكايات الخيالية (fairytales) التي اتسمت تاريخيًا بتنميط المرأة. وقد ارتأيت أن استخدام عبارة دارجة في الترجمة تعكس المعنى المتضمن في أسلوب النص الأصلى: “النساء اللاتي صدقن أسطورة الحياة في ’تبات ونبات‘.” تكمن المشكلة في استخدام مثل هذه العبارات الدارجة أو العامية في كونها مستخدمة على نطاق ضيق، وغالبًا ما تقتصر على الجماعة اللغوية التي تستخدم ضربًا معينًا من اللغة العامية. وهكذا، قد لا يتمكن الكثير من القراء في المغرب أو سوريا مثلاً من فهم عبارة مثل تبات ونبات، كما قد لا يستطيع بعض القراء في مصر أو اليمن فهم عبارات عامية لبنانية. وهنا، كان علىَّ أن أعتمد على السياق لتوضيح المعنى.

وقد صادفت مثالاً آخر جاء محملاً بتحديات أكبر، وذلك في مقالة عزيزة الحبري (Azizah al-Hibri ) التي أكثرَتْ فيها من استخدام المفردات المتعلقة بالحرب، في سياق استعراضها لتاريخ تطور الإسلام الأبوي. تشير عزيزة الحبري في مقالتها إلى ما تسميه “the patriarchal takeover” . وتحمل كلمة “takeover” في الإنجليزية أصداء الحرب كما تثير أصداء اقتصادية، وبخاصة تلك المتعلقة بالتنافس بين الشركات الكبرى. لم أنتبه إلى هذا الملمح عند أول قراءة لى للمقالة، ولكن القراءة الثانية أو الثالثة لفتت انتباهي لما قطعت فيما بعد بأنه استخدام متعمد لمصطلحات وتعبيرات مجازية مرتبطة بالحرب، ومن ثمَّ استدعاء أجواء الحرب في المقالة. وقد أتى ذلك مرتبطًا ومدعمًا للطرح الذي تقدمه الباحثة في المقالة. فهي تتتبع المسار الذي انتهجته الأبوية في تقدمها متسللة نحو السطو على بني عائلية واجتماعية أخرى كانت قائمة في مجتمعات ما قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية، والتي كانت في أغلبها مجتمعات أموية (matriarchal). وهكذا، جاء استخدام المصطلحات العسكرية والاقتصادية متوائمًا مع الطرح، وخالقًا في الوقت ذاته أسلوبًا طازجًا مشربًا بالسخرية يعكس موقف الباحثة حيال هذا الاستحواذ الأبوى“. وقد أسهمت النغمة كذلك بصورة غير مباشرة في تأكيد فكرة أن نجاح الأبوية في الإطاحة بالأموية (matriarchy) في صدر الإسلام جاء نتيجة تحالف الأبوية مع القوى العسكرية والاقتصادية في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وهي القوى التي كانت تشكل سدنة النظم الاجتماعية القائمة. وقد قدرت أن الصدمة قد تصيب بعض القراء إذا هم فوجئوا بمثل هذه العبارات المتعلقة بالحرب والاستحواذ الاقتصادي مُسْتَخْدَمَة في سياق الحديث عن انتشار الإسلام، كأن تقول الكاتبة مثلاً إن النبي محمد قد لجأ إلى “a variety of compromises and tactics to achieve his end”،(8) أيْ إلى العديد من المناورات والحلول الوسطية من أجل تحقيق غايته.” وبالرغم من أن تلك اللغة لا تحمل إساءة إلى النبي فإن عدم اعتياد القراء عليها قد يصيبهم بالصدمة إنْ لم يكن الرفض. ولكنني قررت إعادة إنتاج أسلوب الكاتبة مع كل المخاطر المحتملة من ردود أفعال، آملة أن يضع القراء العبارات في سياقها، ويتعاطون معها بجوانبها الإخبارية والنفسية. إن القراء هم أحد الأركان الثلاثة لعملية إنتاج المعنى التي تنطوي عليها الترجمة، وينبغي عدم الاستهانة بدور آليات القراءة التي يستخدمونها أو بحساسيتهم للغة.

أود قبل أن أبدأ في استعراض رابع الموضوعات وآخرها التي أتناولها في هذه المقدمة إعادة تأكيد نقطة كنت قد طرحتها في بداية مقدمتي، ألا وهي نقطة كان لها كما ذكرت تأثير قوي في تشكيل رؤيتي والنهج الذي اتبعته في ترجمة هذه المقالات. أن أحد أهم الغايات المرجوة من صدور هذا الكتاب بل ومن وراء صدور الكتب الستة في هذه السلسلة إنتاج ’معرفة جديدة‘، وتستلزم هذه المعرفة لغة جديدة لصياغتها. وإن لم يكن خلق المعرفة الجديدة جزءًا من مهام المترجمة إذ إنه يُعزي في المقام الأول إلى الكاتبات، فإن خلق هذه اللغة الجديدة يقع بالضرورة في صدارة مهامها. ولم يكن من الصعب علىَّ تخيل الصدمة التي سوف يصاب بها عدد غير قليل من القراء تجاه مطالعة بعض مظاهر هذه اللغة الجديدة للمرة الأولى كما رأينا في بعض الأمثلة السابقة. كما لم أشأ كذلك الخلط بين الرغبة في الاشتباك مع عقول القراء والشروع في إقامة حوار عقلى معهم، والحاجة إلى تحقيق ذلك بحرص كبير. فالدين في عالمنا الناطق بالعربية لا يزال يشكل موضوعًا مقدسًا محملاً بالمشاعر والحساسية والحماس، وما زال الكثيرون منا ينظرون إلى ما هو مستحدث في مجال الدين نظرة إدانة كاملة، أو نظرة شك وريبة على أحسن الأحوال.

تشير كل من ميكا بال وإليزابث شوسلر فیورنتسا (Elisabeth Schuessler Fiorenza) ورون رودز إلى محرری” (editors)(9) ومؤلفی” (authers)،(10) وکتَّاب” (writers)(11) الكتاب المقدس على الترتيب في مقالاتهما. ودون الولوج في نقاش حول مسائل لاهوتية عقائدية معقدة، لاحت لي هذه الإشارات قبل الشروع في الترجمة أطيافًا من تأثيرات مختلفة سوف تصيب أطيافًا مختلفة من القراء جراء استخدام كل كلمة من تلك الكلمات. ولم أشأ أن أختار لفظًا توفيقيًا يخفى الطبيعة الإشكالية لهذه الألفاظ ويحظى برضا معظم القراء، بل عمدت إلى إعادة إنتاج تأثير الصدمة المتضمن في كل من هذه الكلمات. فقد استخدمت كل باحثة كلمة من بين كلمات ممكنة، واستخدمتها بشكل ثابت ومتسق، وهو ما يشير إلى أن الاختيار لم يكن اعتباطيًا بل جاء ليعكس رؤية أبعد للنص المقدس.

تشير ميكا بال كذلك إلى بولس الرسول بكلمة “Paul” التي تأتي دائمًا بين علامتي تنصيص، وهو ما لا تفعله مع اسم أي شخص آخر يرد في المقالة. وعليه، فقد حاكيت أسلوبها ووضعت اسم بولسهكذا في الترجمة. وليس من الصعب استشفاف الغرض من وراء هذه السياسات الخطية المرئية. يشبه ذلك إشارة رفعت حسن إلى النبي محمد بكلمة (the Prophet) “النبيوليس (the Messenger) “الرسول“. وقد حرصت على الانتباه إلى مثل تلك الحالات من الخصوصية الأسلوبية ونقلها كما هي.

وقد وردت في مقالة آمنة ودود (Amina Wadud) واقعة تَجلَّى فيها عنصر الصدمةبشكل قوي حين أوردت الإشارة في مقالتها إلى “God.. in herself”. (12) وبالرغم من أن المقالة لا تبدو معنية بشكل خاص بالطبيعة الجنسانية الذات الإلهية، كما أن العبارة وردت مرة واحدة في المقالة مما يوحي بأن الباحثة لم تشأ أن تقدم طرحًا خاصًا لمثل هذه القضية، وبالرغم من هول الصدمة التي حسبتها ستصيب الكثير من القراء عند مطالعة العبارة مترجمة، فقد فضلت الحفاظ على الترجمة اللصيقة العبارة فأوردتها اللهفي ذاتها“. وأكاد أجزم بأن كافة المسلمين المؤمنين لا يعتقدون أن الله ذو جنس مذكر. كما أكاد أجزم أنهم لا يعتقدون أنه ذو جنس مؤنث. وينص القرآن على أن الله ليس كمثله شيء” (13) ولهذا فهو فوق التذكير والتأنيث من الناحية البيولوجية. ولكن التقاليد اللغوية في العربية قد جعلت الإشارة إلى الله دائمًا إشارة مذكرة، إذ كما ذكرتْ سابقًا لا تتيح اللغة العربية فرصة الإشارة إلى أي شيء بالصيغة الحيادية. كان قراري هنا استخدام عبارة الله في ذاتهابين علامتي تنصيص كما جاءت في النص الأصلي، وقد جاء مدفوعًا بفهمي أن استخدام آمنة ودود للعبارة غير المألوفة والصادمة قد جاء تذكيرًا لقراءها من المسلمين الذين يقرأونها بالإنجليزية أن الإشارة التقليدية المعتادة إلى الذات الإلهية بصيغة المذكر التي ركنوا إليها لقرون ما هي إلا ضرورة لغوية اعتباطية تعكس في آن واحد فكرة التفوق الذكوري والدونية الأنثوية وتشجع عليهما. ولهذا، فقد حرصت على أن تعكس الترجمة العربية المعاني المتضمنة نفسها في الإشارة التي أوردتها الكاتبة. وقد كنتُ في ذلك آملة أن يكون ضمن النتائج الحتمية لقراري هذا أن يعيد قرَّاءُ العربية التفكير لا في تصنيفات الجندر التي توارثوها على مر الزمن فحسب، بل في تصنيفات الجندر التي تنتجها اللغة التي يستخدمونها.

أود هنا العودة إلى إشكالية التقريب/ التغريب التي أشرت إليها في بداية مقالي. فكما يجنح المترجمون إلى أحد هذين الخيارين (مع الأخذ في الحسبان أن العلاقة بينهما ليست قطبية، وأن أحدهما لا ينفى الآخر)، يجنح الكتاب والباحثون بدورهم كذلك نحو أحد الخيارين. فعندما يتناول كاتب أو باحث ثقافة ما بعيدة عن ثقافته، يختار أحد الطريقين: إما أن يتحدث عن هذه الثقافة الأجنبية بصيغ يألفها في الحديث عن ثقافته هو، أو أن يواجه مهمة أصعب، ألا وهي تناول هذه الثقافة بصورة تعطيها استقلالية أكبر، بأن يستخدم مفاهيمها وألفاظها لا مفاهيم وألفاظ اللغة التي يُتَرْجَم إليها، وبذلك يكون قد خفف من وطء التدخل في طبيعة تلك الثقافة، مكسبًا إياها تبعية أقل لثقافته هو. وأحيانًا ما تكون اللغة بوصفها وسيطًا أحد أسباب الجنوح إلى التغريب أو التقريب. فالباحثات اللاتي كتبن المقالات الست في الجزء الخاص بالنسوية والإسلام في هذا الكتاب هن بصفة عامة ممن تلقين التعليم العالي وتعرفن على آليات البحث في مؤسسات غربية، كما أن معظمهن قد قرأن القرآن والحديث والكتب الأساسية في الفقه الإسلامي بلغة غير اللغة العربية. كما أن هؤلاء الباحثات يكتبن بالإنجليزية لا العربية. ومن الطبيعي أن تُمْلى اللغة بوصفها وسيط تعبير على الكاتبة أطرًا مفاهيمية، كما أن اللغة في هذه الحالة فيما يرى الكثير من مفكري حركات ما بعد الاستعمارتورط الكاتب في ثقافة بعينها.(14)

هنا يبرز تساؤل: ماذا يمكن أن تقدم مترجمة تغريبية لنص مبني في لغته الأصلية على مفاهيم التقريب؟ ترى هل تُبقى على طبيعته التقريبية الأصلية، وبذلك تصبح ’شريكة‘ في عملية التقريب؟ أم تراها تترجمه ’تقريبيًا‘ محاولة أن ترد إلى النص جزءًا من ثقافته التي خنقها تقريب الكاتبة، فتحيد هنا هذه المترجمة عن فلسفتها التغريبية؟ من الواضح أن كلا الخيارين يأتي ومعه الثمن. وقد جاء اختياري معضدًا لما ارتأيته من ضرورة إبراز ثقافة النص الأصلية. وهكذا، فعندما كنت أصادف في النصوص التي كتبتها الباحثاتُ المسلماتُ مصطلحات وتعبيرات تبدو غريبة في سياق الحديث عن الإسلام بسبب أنها مستعارة أساسًا من الخطاب الديني المسيحي، كنت أقوم بتقريب هذه المصطلحات والعبارات إلى عبارات متوافقة مع تلك المستخدمة في الخطاب الإسلامي. وعلى سبيل المثال، تستخدم رفعت حسن كلمة “theology” لتشير إلى الفقه الإسلامي(15) بدلاً من استخدام كلمة “fiqh” أو “jurisprudence”، كما تشير إلى قصة الخروج من الجنة في القرآن بكلمة “The Fall”.(16) ومن المعروف أن الأولى تترجم في العربية إلى لاهوت، وهو مفهوم خاص بالمسيحية ليس له مقابل في الإسلام. أما الثانية فتترجم إلى السقوط، وهو كذلك مفهوم غير موجود في الإسلام. وهكذا، فقد آثرت في ترجمتي أن أستخدم الكلمات المقاربة لطبيعة الخطاب الإسلامي بالعربية: “الفقهوليس اللاهوت، والخروج من الجنةوليس السقوط“. وكذلك فعندما تشير آمنة ودود إلى هؤلاء الذين خرجوا على علىٍّ ابن أبي طالب بكلمة “extremists” فهي تنقل الحديث عن الخوارج في القرن الأول للهجرة إلى سياق معاصر، مما قد يضفي على السياق الأصلي إيحاءات ليست منه في شيء. وقد وجدت من الأفضل أن أعيد النص إلى ثقافته الأصلية باستخدام الكلمة المألوفة الخوارجوأن أضع كلمة المتطرفينبين أقواس. وبالرغم من أن في آلية الترجمة هذه جنوحًا واضحًا نحو التقريب، وهو ما يبدو غير متسق مع منهجي التغريبي العام، فقد انتهجته معتبرة أن تلك الاستخدامات التقريبية من قبل الباحثات لا تتجاوز كونها أمثلة على التطبع التلقائي بجوانب خطاب ما، وليست استخدامات متعمدة الألفاظ بعينها، أيْ ليست تقريبًا مقصودًا.

وأخيرًا، فهناك موضوع يشكل تحديًا ممتعًا للمترجمين، ألا وهو موضوع الكلمات المبتكرة (coinage)، وهو في حالة ترجمة المقالات المتضمنة هنا يمثل كذلك أمرًا مرتبطًا بإنتاج اللغة الجديدة. فمثلاً تستخدم جيون أوكونور في سياق استعراضها للديانات غير التقليدية التي تتخذ إلاهات إناثًا كلمة “theology” للإشارة إلى البديل المستقل والمناهض للتحيز الذكوري الذي طورته النساء لللاهوت التقليدي (theology) الذي يسيطر عليه الرجال ويقصي المرأة. وقد ترجمت المصطلح إلى ’لاهوت الإلهة‘، وهو مصطلح جديد في العربية يشير إلى جانب فكرة الإلهة المؤنثة إلى فكرة تعدد الإلهات القائمة في تلك الديانات غير التقليدية. كما نرى عزيزة الحبري تستخدم كلمة “herstory”، وهي كلمة مستحدثة شاعت مؤخرًا في الخطاب النسوي. ولم أشأ هنا أن أترجم المصطلح غير المألوف بجملة قد تبدو معتادة مثل ’تاريخ النساء‘، ولكن قمت بترجمته إلى ’تاريخها‘، وهي ترجمة رأيتها أكثر قربًا لروح المصطلح بالإنجليزية حتى في غرابتها. كما أن ’تاريخها‘ تلمح إلى تفرد التجربة الشخصية لكل امرأة وتحول الإيحاء من ’تاريخ النساء‘ أي تاريخهن حتى ولو كتبه رجال إلى ’تاريخها‘ الذي ولابد قد كتبته ’هي‘.

تشكل النقاط الأربع التي أفردت لها عرضًا هنا بعض التحديات التي قابلتها في ترجمة المقالات المتضمنة في هذا الكتاب. وقد حاولت في تقديمي إيضاح المنهج الذي اتبعته في التعامل مع تلك التحديات، وهو منهج مدفوع بإيماني بأهمية هذه المجموعة من المقالات المختارة في إنتاج معرفة جديدة ولغة جديدة.

يبقى في النهاية تساؤل مشروع: هل يكفي إنتاج مثل هذه اللغة الجديدة، بما تتبناه من صفات التدخل والمساواتية والجمعية وما تشتمل عليه من استحداثات لفظية، على صفحات كتاب ما لأن تصبح بالفعل جزءًا من اللغة؟ بلى وهل ستستطيع هذه اللغة الجديدة التي يسعى هذا الكتاب، والكتب الخمسة الأخرى الصادرة في المجموعة نفسها، إلى خلقها أن تخرج من إطار الخطاب الضيق للكتب الستة لتصبح جزءًا من الخطاب النسوي العربي؟ لقد كان إيمان المجموعة العاملة في هذا المشروع بإمكان تحقيق هذه الغاية أحد العوامل التي دفعتنا إلى تبني مشروع ترجمة الكتب الستة، وبين يديكم إحدى ثماره وما سوف يليه من مشروعات. ولا يسعنا إلا أن ننتظر ما يسفر عنه المستقبل، قريبًا وبعيدًا.(17)

رندة أبوبكر (Randa Aboubakr): أستاذة الأدب الإنجليزي والمقارن بكلية الآداب، جامعة القاهرة. لها دراسات في الأدب المقارن والنقد الأدبي والدراسات الثقافية ودراسات الترجمة، منها كتاب: (Conflict of Voices in the Poetry of Dennis Brutus and Mahmud Darwish. Wiesbaden: Reichert Verlag, 2004). ولها عدة ترجمات منشورة في مجالات الترجمة الأدبية والعلوم الإنسانية منها نادي البهجة والحظ للكاتبة إيمي تان (عمّان: أزمنة للنشر والتوزيع 2006).

(1) أتطرق في الفقرة التالية إلى ترجمة كلمة “gender” كما استخدمتها في الكتاب.

(2) وهو ما يوضحه لورنس فينوتي في كتابه:

Laurence Venuti, The Translator’s Invisibility: A History of Translation (London: Routledge, 1995), ثم أضاف إليه وعدل فيه الكثيرون من منظري علم الترجمة.

(3) Mieke Bal, “Sexuality, Sin, and Sorrow: The Emergence of the Female Character,” in lethal Love: Feminist Literary Readings of Biblical Love Stories (indiana University Press, 1987), 160.

(4) Riffat Hassan, “Muslim Women in Post-Patriarchal Islam,” in After Patriarchy: Feminit Transformation of World Religions, eds. Paula Cooey, William Eakin, and Jay McDaniel (New York: Orbis Books, 1991), 54.

(5) Ron Rhodes, “The Debate Over Feminist Theology: Which View is Biblical? Part Three in a three-Part Series on Liberation Theology” (https://www.ronrhodes.org/Feminism.html), 7.

(6) Hassan, 61.

(7) June O’Connor, “Rereading, Reconceiving, and Restructuring Traditions: Feminist Research in Religion,” Women’s Studies 17 (1989): 106.

(8) Azizah al-Hibri, “A Study of Islamic Herstory: Or How did we Ever Get into this Mess?” Women’s Studies Int. Forum 2.5 (1982): 207-219.

(9) Bal. 162.

(10) Elisabeth Schuessler Fiorenza, “Toward a Feminist Biblical Hermeneutics: Biblical Interpretation and Liberation Theology,” in The Challenge of Liberation Theology: A First World Response, eds. Brian Mahan and L. Dale Richesin (New York: Orbis Books, 1981), 98.

(11) Rhodes, 3.

(12) Amina Wadud, Inside the Gender Jihad: Women’s Reform in Islam (Oxford: One World Publications, 2006), 198.

(۱3) سورة الشورى، الآية 11.

(14) Ngugi wa Thiong’o, Something Torn and New: An African Renaissance (New York: BasicCivitas) Books, (2009), 195..

(15) Hassan, 43.

(16) Hassan,44.

(17) أود في النهاية أن أسجل شكري العميق للأستاذة نرمين فوزي التي قدمت استشارات قيمة فيما يتعلق بالمصطلحات والمفاهيم اللاهوتية المسيحية. وتبقى أية أخطاء من مسئوليتي وحدي كمترجمة. كما أود أن أؤكد أن الآراء المتضمنة في المقالات هي آراء الكاتبات وليست آراء المحررة أو المترجمة أو الاستشارية أو أي من المشاركات في المشروع، وقد حاولت من خلال الترجمة أن أنقلها بأكبر قدر من الأمانة.

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي