نهيلة “باب الشمس”: عاشقة وفدائية

اعداد بواسطة:

لم يستدع يسرى نصر الله في فيلمه باب الشمسنساء الأساطير، بل استدعى تلك القوة الكامنة في المرأة من خلال شخصيات نسوية تحمل نبض العشق وقوة التمرد من أجل الحياة، نساء ولدن من رحم المأساة وتخطين سنوات المحن ولم يفقدن القدرة على الصمود والاستمرار، ولعل المرأة الرمز الأكثر حضورًا في هذا الفيلم شديدة الخصوصية والتفرد نهيلة لم تكن حالة خاصة بل يمكن أن تتبع خطاها على مدى التاريخ، حتى وأن وارى البعض دورها أو حصروه في دوائر محددة سلفًا إلا أن الأزمة تضع علاماتها على المرأة على وجه الخصوص فتحفر بدورها ما يمكنه أن يغير وجه التاريخ الذكوري المزعوم.. وحين تتبع نصر الله ملامح شعب ما زال يعيش المأساة ولكنه (يحيا ) بكل ما في الكلمة من معنى كانت، المرأة شريكًا أساسيًا وحاضرًا عبر عناصر سيناريو شاركه فيه صاحب العمل الأدبي إلياس خوري، ويبدأ من تساؤل يفرض نفسه حول كنه البطولة هذا الجدل حول مكمن البطولة في شخصية يونس، هل كان بطلاً لكونه فدائيًا أم عاشقًا.. هذا السؤال ستحمل إجابته حين تغادر قاعة المشاهدة.

 

حين ذهب الشيخ الضرير لخطبة إحدى بنات الأرملة الفقيرة لابنه الصبي يونس أعربت الأرملة عن عدم إمكانية ذلك دون (البك) لكنها وافقت على خطبة ابنتها الصغيرة لأنها ما زالت طفلة لا يعلم البك عن أمرها شيئًا، كانت فقيرة ومستلمة لقدرها وقدر بناتها في ظل استغلال البك لعجزها وقرارها الرحيل بصحبة ابنتيها لنعلم فيما بعد باغتصاب إحداهما من قبل اليهود ومقتل الأخرى، اعترضت أم يونس على زواج ابنها من إحدى بنات الأرملة لفقرها وسمعة بيت تقطنه نساء بلا رجل، ولكنها ترضخ أمام عنف رغبة زوجها في أحفاد يعوضون غيبة الابن عن قريته مع الفدائيين ضد الإنجليز ولهفة الابن الصغير على الزواج، ومن قلب كل هذا ظهرت نهيلة الطفلة في حفل زفافها لتنقذ يونس الصبي من طقس ليلة الزفاف المعتاد، تغمس منديله في دماء تنزف من ركبتها إثر سقوطها أثناء أداء طقس السير على العنب وتعطيه إياه ليظهره لأهالي القرية المنتظرين في الخارج دليل رجولته، هكذا أنقذته نهيلة بجرحها من المأزق الأول، وحافظت على صورة الرجل المتخيلة وهي طفلة، واسم تمنعها صورتها المتخيلة كامرأة شريفة من أن تنقذه مرة أخرى وهي أم ناضجة حين اتهمت نفسها بالعهر أمام الجنود الإسرائيليين، من أجل إخفاء سر لقائهما في مغارة باب الشمس بعيدًا عن الأعين كلما استطاع العبور من لبنان إلى فلسطين سرًا، اعترفت بعدم معرفة من والد طفلها من كثرة من يترددون عليهافهل يمكن الجزم بمن قبلت هذا الاتهام هل هي العاشقة أم الفدائية؟

تساءلت نهيلة الطفلة ليلة زفافها عما يفعله الفدائيون، وتمنت أن تكون فدائية لكن الصبي يونس أكد أنه لا يمكن للمرأة أن تكون فدائية، وحين يرحل ويتركها ناعسة في سلام تستيقظ على حقيقة لم يدركها يونسأن عليها كامرأة أن تناضل من أجل الحياة داخل القرية في انتظار الفدائي، تعلمت الطفلة هذه الحقيقة على أرض الواقع وهي تعمل بجد في البيت والحقل بين عشرات النساء الذين يكدون من أجل الاستمرار بينما الرجال في خارج القرية يناضلون ضد الاحتلال، لم تكن الطفلة تعلم أنها ستكون المسئولة والمعيلة الوحيدة لهذه السر فيما بعد حين تضيع الأرض ويصبح التعامل مع المحتل الإسرائيلي هو الوسيلة الوحيدة لكسب الرزق وإطعام الصغار، وتصبح صاحبة الدار كما أعلنت في وجه المحتل وهي تعترف زورًا بالعهر لتحمي زوجها.

يقوى ساعد نهيلة الممسك بالفأس وتصبح صبية بينما مستوطنة إسرائيلية تنمو بجوار مزارع القرية فترقب الفتيات الإسرائيليات الصغار يلعبن ويتعلمن فتنشغل عن عملها محاولة تقليدهن فتنتهرها أم يونس خاصة حين تلم فستانها أعلى ساقيها وتدخل إلى الكتاب حيث يتعلم الأولاد وتخبر الشيخ برغبتها في أن تكون صبيًا لتتعلم القراءة، فيضطر الشيخ أن يجلب لها المعلم إلى البيت ليعلمها بمفردها القراءة التي لا تجد أم يونس أن الفتاة في حاجة إليها لكن نهيلة تستمد من تمردها القوة للحصول على حقوقها في الحياة، نفس القوة التي منحتها لكل نساء القرية بعد الاجتياح الإسرائيلي ورحلة الهروب وإصرارها على العودة إلى القرية قبيل معرفتهم بهزيمة الجيوش العربية وإحراق إسرائيل للقرى الفلسطينية، مخالفة لرأي الفدائيين قادت النساء والشيوخ والأطفال للعودة، مما اضطر الفدائيين لإصطحابهن تقودهم نهيلة والنساء.. نفس القوة الكامنة التي دفعتها إلى العودة إلى صحبة الشيخ الضرير وأم يونس وابنها إلى فلسطين بينما يهرب الجميع من الموت وقوى الاحتلال تطاردهم إلى لبنان.

يعود يونس بعد سنوات غياب إلى قريته رجلاً ليجد الصغيرة التي عقد قرانها يومًا صارت شابة جميلة ينال منها رغبتة فتمنحه طفلها الأول، ويتحول عيد الحصاد بكل ما فيه من جمال إلى نهاية لهذه المرحلة من حياة نهيلة ويونس بالاجتياح الإسرائيلي الشامل والدمار والقتل والهروب من النيران، تبدأ مرحلة جديدة بمشاركة يونس في العمليات الفدائية المنطلقة من الأراضي اللبنانية وعودة نهيلة إلى فلسطين، وكان اللقاء في باب الشمس هذه المغارة التي اختارتها نهيلة لم يطأها أحد قبلهما لما يسرى بين أهالي القرى من أن الجن يسكنها، لكن نهيلة لم تخف رغم تردد يونس في دخوله أول مرة وهيأته قبل أن يدخله یونس ليكون مكانًا للقاء، وأقاموا طقوس زفافهم من جديد في باب الشمس، هذا المكان الذي تحملت الكثير ولم تعلن عنه لأحد إلا في وصيتها لأحفادها بإغلاقه باعتباره الأرض الوحيدة التي لم يطأها المحتل من أرض فلسطين.. لقد حررت نهيلة أرضًا فاعتبر يونس ليلته الأولى في هذا المكان ليلة زفاف حقيقي.. وفي تلك الأرض كانت نهيلة عاشقة وفدائية.. فهل قصد نصر الله أن يؤكد بذلك على انتصار تمرد نهيلة من أجل الحياة على حساب تمرد شمس الذي قادها للموت. وهل تعلق الطبيب بسيرة يونس ونهيلة والتأكيد على كونها قصة عشق اشتياقًا لهذا النوع من النضال الذي لم تشهده قصته مع شمس؟

 

تمنت نهيلة طفلة أن تكون فدائية لكن يونس واجهها بواقعها كأنثى، فتمنت نهيلة الصبية أن تكون رجلاً ولكن هذه المرة لتتعلم القراءة، لم تصبح نهيلة رجلاً، لكنها استطاعت تحریر باب الشمس لتصبح الأرض الوحيدة التي لم يطأها قدم إسرائيلي في أرض فلسطين فكانت نهيلة باب الشمس واقع العشق والفداءوإن كانت الإجابة عن السؤال لن تخرج عن طي السطور السابقة لكني أفصح عما دار في ذهني بعد مغادرة قاعة المشاهدة.. كان يونس عاشقًا وفدائيًا لأن نهيلة عاشت لتكون عاشقة وفدائية.

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي