« الفضاء المنزلي» للنساء.. أما الرجال فلهم العالم العام

تاريخ النشر:

2004

تأليف:

« الفضاء المنزلي» للنساء.. أما الرجال فلهم العالم العام:

جوانب القوة والحدود التي تفرضها ثنائية أنثروبولوجية(*)

منذ عام 1974 تنامي الاهتمام بالدراسات المتعلقة بالنساء. والأدوار الجنسية والنوع الاجتماعي في حقل الأنثروبولوجيا (علم الأجناس). ومن قبل ذلك بسنين طويلة شهد هذا الحقل جهود نساء عديدات من أشهرهن إلسي كلوز بارسونز، وروث بنيدكت، ومارجريت ميد. من جانب آخر اهتم عديد من علماء الأنثروبولوجيا أيضًا بدراسة النساء، وعلى سبيل المثال كابری 1939، 1952، لاندس 1938، 1947، ليث روس 1939، وأندرهيل 1930، بالوم 1963.

على أي حال، تؤرخ سنوات منتصف السبعينياتحيث نشر كتابيّ «المرأة والثقافة والمجتمع» لروزالدو ولامفير 1974، و «نحو أنثروبولوجيا للنساء» لريتر 1975– لبداية الموقف النقـدي للأكاديميات النسويات تجاه الانحياز المتمركز حول الرجال في علم الأنثروبولوجيا، واستكشاف وضع النساء في العديد من المجتمعات، وتقديم نماذج ساعدت على تفهم وضع النساء عبر الثقافات المختلفة.

وفي مقالتها الافتتاحية في كتاب «المرأة والثقافة والمجتمع» عام 1974، طرحت ميشيل روزالدو نموذجًا قويًا ومؤثرًا يؤكد أطروحتها بأنه رغـم التنوع في أدوار النساءوالرجال عبر الثقافات. فإن هناك عدم تماثل قوى وعالمى بين الجنسين: «إن أكثر ما يثير الدهشة ويسترعى الانتباه، حقيقة أن أنشطة الذكور– بالمقابل مع أنشطة الإناث– دائمًا ما تحظى بالاعتراف بها كأنشطة هامة من الأساس، كما تمنح النسق الثقافية قيمة، وسلطة للأدوار التي يقوم بها الرجال».

ويوجز أحد الاقتباسات التي اخترنا وضعها في مقدمة الكتاب،، وهو من كتاب مارجريت ميـد «الذكر والأنثى»، ما رأيناه في عام 1974 في كافة الدراسات الأنثروبولوجية التي راجعناها. «في كل المجتمعات المعروفة، يتم الاعتراف بحاجة الذكور لتحقيق إنجازات. قد يطبخ الرجال، أو ينسجون، ويصنعون الدمى، أو يصطادون الطير، لكن عندما تكون هذه المهن مناسبة للرجال، فإن المجتمع بأسره– رجالاً ونساء– يعتبرها مهمة. ولكن عندما تؤدى النساء المهن / الأنشطة نفسها، يتم النظر لها باعتبارها أقل أهمية» (Mead 1949: 125)، والأمر لا يقتصر فقط على المعايير المزدوجة في تقييم الأنشطة التي يقوم بها النساء والرجال: إذ توضح روزالدو «في كل مكان كان للرجال سلطة على النساء. بمعنى أنهم يتمتعون بمباركة ثقافية لحقهم في إخضاع النساء وفرض الطاعة عليهن» (Rosaldo 1974: 21).

وقد قدمت روزالدو حججها بخصوص هيمنة عدم التماثل الجنسي بين النساء والرجال عبر الثقافات، ليس فقط في مجال القيمة الثقافية، ولكن أيضًا من زاوية السلطة والصلاحيات، والتي تجسدها الثنائيات(1). فالنساء يرتبطن «بالتوجه المنزلي»، بينما يرتبط الرجال من حيث الأساس بمجالات الأنشطة خارج المنزل، والسياسية والعسكرية. و تقصد روزالدو «بالمنزل» تلك المؤسسات وأنماط الأنشطة المحدودة التي يتم تنظيمها بشكل فورى حول إحـدى أو بعض الأمهات وأطفالهن». وفي المقابل فإن «العام» يشير إلى «الأنشطة والمؤسسات. وأشكال التجمع التي تنظم، وتربط، وتنشىء تراتبية، أو تصنف مجموعات بعينها من الأمهات– الأطفال. وببساطة فإن الرجال ليس عليهم أى التزام يتماثل– من حيث استمراريته، أو الوقت الذي يستغرقه، أو استحواذه العاطفيمع العلاقة بين الأم والطفل والتي تبدو ضرورية وطبيعية في الآن نفسه، وهكذا فإن الرجال متحررون من تلك الارتباطات الأوسع التي نسميها «المجتمع»، أو الأنساق والنظم العالمية التي تربط بين مجموعات محددة من النساء– الأطفال).

وقد شددت روزالـدو أيضًا– متبنية موقفًا مماثلاً لموقف عدد من الكاتبات اللاتي أسهمـن بمقالاتهن في كتاب «المرأة والثقافة والمجتمع» مثل شريى أورتنر، ونانسى تشودورو– على أن الصلة بين دور النساء الإنجابي (حقيقة أن النساء في كل مكان يلدن ويرضعـن الأطفال)، وتوجهاتهن المنزلية، ليست أمرًا ضروريًا، أو بمعنى آخر أن البيولوجيا ليست قدراً محتومًا. إن التوجه المنزلي للنساء قد تمت صياغته وتشكيله ثقافيًا: “وحيث أنه حتى الآن يتم تعريف المرأة عالميًا بدرجة كبيرة بناء على دورها الإنجابي والمنزلي، فإن بإمكاننا الحديث أيضًا عن أن خضوع النساء يشكل ظاهرة عالمية“. وتضيف روزالدو موضحة: «رغم أنني سأكون آخر من يقول بأن ذلك ترتيب ضروری، أو أنكر أن مثل هذا العرض شديد التبسيط في كل حالة أمبريقية، فإن اقتراحي هو أن التعارض بين التوجه المنزلي والتوجه العـام (وهو تعارض يقوم جزئيًا على قدرات النساء التربوية) يوفر لنـا الإطار الضروري لفحص أدوار الذكور والإناث في أي مجتمع» (Rosaldo 1974).

عندما طرحت روزالدو رؤيتهـا في مقدمة الكتاب– والتي اشتركنا في كتابتها– واجهنا معضلة وضع إطار في زمن لم تكن هناك أي أطر على الساحة. ورغم وجود العديد من الدراسات حول النساء، فإن أكثر تلك الدراسات التي نعرف بوجودها– بل وربما الوحيدة– والتي بالمبادرة ولم تكن مجرد ردود أفعال، كانت أعمال مارجريت ميد وسيمون دي بوفوار (1953)(2). لقد نبعت مقولة أن عدم التماثل بين الجنسين مسألة عالمية، من تقاليد طويلة في علم الأنثروبولوجيا، حيث كان الباحثون يبحثون عن ما هو إنساني“– بالمعنى الواسع للكلمة– في كل الثقافات. وبالإضافة إلى اللغة، فقد ناقش علماء الأنثروبولوجيا الطابع العالمي للزواج، والأسرة، والتحريمات (التابوهات) المتعلقة بسفاح المحارم. وهكذا بدا الحديث عن فكرة عالمية خضوع النساء للرجال أمراً منطقيًا كمحاولة أولى في مجال بناء تصور نظري في هذا الحقل «الفرعي» داخل الأنثروبولوجيا.

ورغم مجادلات روزالـدو بشأن عالمية إخضاع النساء، إلا أنها كانت حريصة على توضيح أن النساء لسـن ضعيفات، فهن يمارسن التأثير والسلطة بشكل غير رسمى (مستتر)، وعادة ما يقلصن، بل وحتى يهمشن، سلطة الرجال ( Rosaldo 1974: 21). وفضلاً عن ذلك، فإن هناك تنوع هام في أدوار النساء في الثقافات المختلفة، وهو الأمر الذي ناقشته معظم المقالات في ذلك الكتـاب. على سبيل المثال قارنت ساندی وساكس وضعية النساء في عدد من المجتمعات، بينما فحصت ليـز الأسباب البنيوية وراء قوة الجمعيات النسائية في قرية إيجاو في نيجيريا، وغيابها في مجتمعات أخرى. وأخيراً، فقد فحصت في مقالى الاختلافات بين استراتيجيات النساء في المجموعات الموجودة في المجال الخاص في عدد من المجتمعات، والتي كان لها صلة بمدى الدمج بين المجالين الخاص والسياسي.

ومنذ 1974 قامت عديد من الأنثروبولوجيات النسويات بتمحيص وانتقاد فرضية عالمية إخضاع النساء، وثنائية العلاقة بين النساء في الفضاء الخاص والرجال في الفضاء العام. وبقدر ما كانت تلك الثنائية تبدو مغرية في المطلق، فقد اتضحت صعوبة تطبيقها في التعامل مع نماذج واقعية من أنشطة النساء في الثقافات المختلفة. على سبيل المثال، فإن راينا رايتر (حاليًا راينا راب) في مقال هام كتبته تقريبًا في الوقت نفسه الذي كتبت فيه روزالدو مقدمتها، تصف حياة النساء والرجال في إحدى القرى الصغيرة في جنوب فرنسا: «أنهم يعيشون في عالمين مختلفين أحدهما خاص والآخر عام. فبينمـا يتآخي الرجال مع من يصادفونه ويتحدثون إليه في الأماكن العامة، وقعت النساء في أسر عائلاتهن، وشبكات القرابة التي ينتمين إليها» (Rieter 1975 b: 253). على أية حال، فإن هناك فئتين من المجال العام تقعان فـي مجـال النساء ألا وهما الكنيسة، وثلاث من أنواع المحلات منها المخبز المحلى. وعادة ما ينحو الرجـال إلى تجنب أماكن النساء، فهم لا يدخلون إلى المخبز مثلاً إلا في مجموعات، وعادة ما ينكتون «فلنهاجم الآن» (Rieter 1975b: 257).

وترى رايتر أن النساء والرجال يستخدمون الأماكن العامة بطرق مختلفة، وفي أوقات مختلفة. «يذهب الرجال مبكرًا إلى الحقول، ويتجمعون في الميادين أو المقاهي بعد العمل لمدة ساعة، كما أنهم أحيانًا يتجمعون في الأمسيات. وهذه هي الأوقات التي تكون فيها النساء في البيت يطبخن، مختفيات عن التواجد العام. ولكن عندما يترك الرجال القرية إلى الحقول، تخرج النساء لإنجاز تسوقهن باسترخاء، وتصبح القرية في تلك الأوقات بيد النساء. وفي فترة بعد الظهيرة عندما يعود الرجال إلى العمل، تشكل النساء مجموعات النميمة على النواصي، وعلى المقاعد العامة (المصاطب) أو في داخل البيوت وفقًا للجو» (Rieter 1975 b: 258). وبالرغم من هذه الصورة القوية– حيث النساء يرتبطن بالمنزل والمجال الخاص، بينما الرجال في المجال العـام– فإن الوصف يوضح أن تلك الثنائية ليست محكمة، فالنساء متواجدات في الفضاء العام بمعنى ما، في الكنيسة والمتاجر بل وحتى في الميدان العام في منتصف اليوم.

وتؤكد مارجرى وولف في وصفها للنساء في إحدى القرى التايوانيةوفقا للمادة التي جمعتها في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين– إن الباحثين فشلوا في رؤية النساء لأنهم ركزوا على سيادة نمط التسلسل الذكوري داخل الأسرة. «لقد غاب عنا ليس فقط جزءاً من تعقيد النظام، ولكن أيضًا نقاط ضعفه المميتة» ( Wolf 1972: 37). النساء لهن مصالح مختلفة عن الرجال، ويبنين أسرًا رحمية عبر علاقات قوية مع بناتهن، والأهم مع أبنائهن اللذين يمنحون أمهاتهن إخلاصًا ومكانًا في الأسرة الممتدة وفقًا للعصب الذكوري. وخارج الأسرة، في المجتمع، كونت النساء مجموعات الجيرة، حول المتجر، وفي الأماكن التي يغسلن فيها الملابس على القناة، أو تحت شجرة ضخمة، حيث لا توجد، في القرية التي تقع بين النهر والقناة، ساحة عامة مركزية تسيطر عليها النساء كما هو الحال في جنوب فرنسا.

في بايهوتيين لم تصف وولف ثقافة جغرافية، تقبع فيها النساء في الفضاء الخاص وينطلق الرجال في الفضاء العام، بل وصفت بالأحرى حالة من الفصل الوظيفي حيث النساء والرجال لهم أنشطة ومصالح واهتمامات مختلفة، إنهم يتواجدون في الأمكنة نفسها ولكن عبر علاقات مختلفة مع الأسرة ذات الانحدار الذكوري، ومع المجتمع الذي يسوده الرجال. وقد دفع افتقاد النساء للسلطة إلى تبنيهن استراتيجيات وتكتيكات مختلفة عمدت دائمًا إلى تقويض سيطرة الرجال على المنزل وحتى على المجتمع. وكما تقول سيلفيا ياناجيساكو فإن فكرة ثنائية الخاص / العام تتضمن داخلها مجازًا مكانيًا (عن أمكنة منفصلة جغرافيا بل ومحمية)، ومجازًا وظيفيًا (عن أنشطة وأدوار اجتماعية مختلفة وظيفيًا). وعادة ما «يخلط» التحليل بين هذين المجازين المختلفين، حيث يستخدم التعبير مرة بالمعنى المكاني، وأخرى بالمعنى الوظيفي (Yanagisako 1987: 111).

وحتى في الشرق الأوسط فإن ربط النساء بالمجال الخاص (وافتقاد السلطة)، والرجال بالمجال العام (ومركز السياسات) كان أمراً شديد التبسيط، كما أوضحت سينثيا نلسن في مقالها، «الأبعاد السياسية للعام والخاص: النساء في عالم الشرق الأوسط» (1974، وأعيدت طباعته في هذا الكتاب). ولأنهن ولدن في مجموعة تنتمي إلى عصب ذكورى معين، ويتزوجن من مجموعة تنتمي إلى عصب ذكورى آخر، تمثل النساء روابط بنيوية أكثر أهمية بين المجموعات الاجتماعية، ويعملن عادة كوسطاء. ولأن هناك عزلاً بين العوالم الاجتماعية، فإن كل المؤسسات النسائية هامة في تكريس الأعراف الاجتماعية: تقوم النساء بأدوار طقسية مؤثرة من خلال عملهن كساحرات ومعالجات، ووسيطات، كما أن النساء مصادر هامة للمعلومات لأقربائهن من الذكور، فالنساء يعملن كسماسرة للمعلومات، ويصلن العلاقات الاجتماعية سواء داخل الأسرة أو داخل المجتمع على نطاق أوسع.

ومن وجهة نظر روزالدو، فإن هذه الأبعاد المتعلقة بسلطة النساء هي من حيث الأساس غير رسمية، وتختلف اختلافًا شديدًا عن الأدوار العامة، والشرعية للرجال، على أية حال، ورغم تأكيد نلسن على الفصل بين عالمي النساء والرجال (سواء مكانيًا أو وظيفيًا)، فإن ما هو خاص / منزلى له تداعيات عامة (تدبير الزيجات، نقل المعلومات ذات الطابع السياسي الساخن)، كما أن ظل الأسرة والمجموعة العصبية (الخاص / المنزلي) موجود حتى في أكثر المواقف «عمومية». وما لاح لنا في البداية كثنائية بسيطة وواضحة، يظهر في ضوء الحالات المادية في الواقع أنه شديد التعقيد، ويصعب الإمساك به.

وعلاوة على ذلك، في عديد من الثقافات– خاصة تلك التي لها تركيبة عشائرية أو روابط أصلية– يكون الفصل بين المجالين «المنزلي / الخاص»، والعام ليس منطقيًا حيث أن الإنتاج المنزلي هو في الآن نفسه عام، واقتصادي، وسياسي. وقد أوضحت ليكوكبعد أن راجعت الأدبيات حول الأيروكويين أثناء القرنين السابع والثامن عشرما يلى:

«الأمهات الإيروكويات قمن بحفظ وتخزين، وتوزيع الذرة واللحم، والسمك، والثمار والطحين والدهون التي كانت تدفن في حفر خاصة، أو تحفظ في مخزن الغلال long house. وتلاحظ براون (1970: 162) أن سيطرة النساء على الطعام الذي يقمن بإنتاجه، وكذا على اللحوم. منحتهن سلطة فعلية للاعتراض على شن الحرب، وللتدخل لإحلال السلامكما قامت النساء بحماية «الكنوز العامة للقبيلـة» التي تحفظ في مخزن الغلال؛ منتجـات الريش، والفراء،…. إن النقطة التي يجب التأكيد عليها أن تلك كانت إدارة منزلية، لكنها من درجة مختلفة تمامًا عن إدارة المنزل في الأسرة النووية أو الممتدة في مجتمعات بعينها. ففي الأخيرة، قد تلجأ النساء للمداهنة، والتلاعب، أو التنكيد على الرجال-(العبوس والصياح في وجوههم) ولكن كل ذلك يتم في الخفاء بعيدًا عن الواجهة العامة، لكن في الجماعات الأولى مثل الإيروكو فإن إدارة المنزل هي في الوقت نفسه إدارة «الاقتصاد العام» (Leacock 1978: 253).

وقد أثارت سوداركاسا النقطة نفسها عن النساء في المجتمعات في غرب أفريقيا مثل اليوريا: فهى ترى أن العديد من الأنشطة الاقتصادية والسياسية التي يناقشه الأنثروبولوجيون باعتبارها أنشطة عامة، هي في واقع الأم متجذرة فـي المنزل ( Sudarkasa 1976، كما وردت في Rapp: ۱۹۷۹ 509)، وعلاوة على ذلك «فإن الفضاء العام» في غرب أفريقيا، لم تتم صياغته مفاهيميًا باعتباره «عالم الرجال»، ولكن بالأحرى كان عالمًا يعترف بوجود الجنسين، حيث يقوم كلاهما بأدوار هامة» (Sudrkasa 1986: 99).

لذا فإن مفهومًا أكثر دقة وملاءمة يعني الاعتراف بمجالين، «أحدهما يحتله الرجال والآخر النساء، وينتظـم كليهما داخليًا بشكل تراتبي، كما أن كل منهما يوفر «الأفراد» اللازمين للأنشطة المنزلية والأنشطة التي تتم خارج إطار المنزل (أو الأنشطة العامة)» (Sudrkasa 1986:94).

وعلاوة على ذلك، فإن فحصًا مدققًا للـ «مجال الخاص / المنزلى» يشير إلى تداخل وتقاطع فئتي «المرأة» و «الأم» في المجتمعات الغربية، لكن معنى الأمومة قد يختلف بشكل واسع في مجتمع آخر. فالنساء قد لا يعرفن بشكل حصري باعتبارهن أمهات، ومنجبات الأطفال من زاوية منزلتهن وقيمتهـن الثقافية (لمزيد من النقاش حول هذه النقطة رجاء مراجعة Moore 1988: 30-28).

وبالإضافة إلى مسألة ما إذا كانت ثنائية العام الخاص تقدم «وصفًا» مناسبًا للعلاقات المكانية والوظيفية للنساء والرجال في مجتمعاتنا والمجتمعات الأخرى، فإن هذا النموذج له مشاكله فيما يتعلق بشرح وضعية النساء. إحدى هذه المشاكل هي طابع التعميم المتأصل في هذا النموذج. فرغم أن شرح طبيعة هذين المجالين تمثل نقطة مركزية، إلا أن هناك افتراضًا مسبقًا بأنهما موجودان على نطاق واسع، ويعاملان كفئات لتصنيف ما ينظر إليه باعتباره أنشطة النساء، مثل إعداد الطعام، الطبخ، الرعاية، الغسيل بالتعارض مع أنشطة الرجـال (الصيد، أمـور الحرب، المجالس السياسية). ووفقًا لكوماروف فإن هذا النموذج «يمكنه فقط تأكيد ما تم افتراضه بالفعل، أي أن التمييز بين المنزلي / الخاص وبين السياسي / التشريعي هو حقيقة جوهرية، ولو متنوعة للوجود الاجتماعي». (Comaroff 1987: 59) وعندما يستخدم لشرح موقع النساء في المجتمعات المختلفة في علاقته بهذين التوجهين، فإن الحجج تقع في التعميم بالقدر نفسه. وبكلمات ياناجيساكو وكوليبر: «إن الادعاء بأن النساء سينغمسن في الأنشطة المنزلية بسبب دورهن كأمهات هو أمر يتسم بالجمود حيث تعريف المنزلي / الخاص هو «تلك المؤسسات وأنماط الأنشطة الأدنى التي تنتظم مباشرة حول واحدة أو أكثر من الأمهات وأطفالهن» (Yanagisako and Collier 198:19).

وأخيرا، فإننا قد أدركنا أن المفاهيم حول العام والخاص كانت موجودة في تاريخنا الخاص وفي طريقتنا في التصنيف والمتجذرة بشكل خاص في الميراث الفيكتوري. ولقد تصدت روزالدو عبر تأمل ومراجعة عميقين، للنموذج الذي طرحته هي نفسها من قبل:

«لقد مالت النظريات التي كانت موجودة في مطلع القرنوالتي تمثل كتاباتها الأسس لمعظم التفكير الاجتماعي الحديث– بدون استثناء لافتراض أن مكان النساء هو البيت. وفي الحقيقة، فإن التعاليم الفيكتورية. حيث الانفصال بين فضـاء الإناث وفضاء الذكور، كان لها في تقديرى دوراً محوريًا في ما يتعلق بعلم الاجتماع. لقد أدرك بعض هؤلاء المفكرين أن النساء العصريات قد عانين من الربط بينهن وبين الحياة المنزلية / الخاصة، لكن أيًا منهم لم يتساءل عن مدى شيوع (أو ضرورة) الفصل بين الأسرة والمجتمع» ( Rosaldo 1980: 401-402).

لقد تتبعت روزالدو الجذور التاريخية لثنائية المنزلي– العام بداية من التطوريين في القرن التاسع عشر، والبنيويين والوظيفيين في القرن العشرين وصولاً إلى أعمالها الخاصة. وبدلاً من عالمين متعارضين (مختلفين ومنفصلين) تدعو روزالدو إلى تحليل علاقات النوع الاجتماعي، لفحص عدم المساواة التراتبية كما تخلقت خاصة من خلال الزواج (Rosaldo 1980: 412-413).

وقد استخدمت تلك الثنائية بشكل مفيد بطرق متعددة منذ عام 1974:

أولاً: أوضح عديد من الكتاب كيف تعمل هذه الثائية في المجتمعات الغربية (فرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية حيث نشأت تاريخيًا ومازالت لها وظيفة أيديولوجية هامة) (Reitr 1975, Collier, Rosaldo and Yanagisako 1982). وبطريقة مشابهـة استكشف المحللون المعاني المحيطة بالأنشطة المنزلية / الخاصـة للنسـاء، راسمـين بذلك صـورة أكثر تعقيدًا لعلاقة النساء بالرجال في هذا المجال (الخاص)، ومنها تحليلات مركوت 1983: کای 1987، وكلا المقالين نعيد نشرهما في هـذا الكتاب، (Murcott 1983; Chai 1987).

ثانيا: ساعدنا التحليل الأنثروبولوجي على فهم التطور التاريخي بين المجالين المنزلي / الخاص والعام في المجتمعات المستعمرة (بفتح الميم). فتحليل جون كوماروف لمجتمع التنشيدي في جنوب أفريقيا في بدايات القرن العشرين يعتبر مثالاً رائعًا لهذا التوجه (85-53: 1987).

ثالثًا: استخدم بعض المحللون المفاهيم الثقافية للمجتمعات الأخرى لنقد نموذجنا نحن عن الوجهات بخصوص الخاص– العام. فمقال سيلفيا يناجيساكو عن الفصل الواضح بين المجالات «الداخلية– الخارجية» (مجاز مكاني) والأنشطة المتعلقة «بالعمل– الأسرة» (ثنائية وظيفية) في الثقافة اليابانية– الأمريكية يظهر كيف أن النموذج الأنثروبولوجي الخاص– العام يخلط بين هذين المجالين، وهو ما أدى إلى تشوش وصعوبة التحليل (Yanagisako 1987).

ورغم هـذه المحاولات المفيدة لفحص حياة النساء من خلال عدسة التعارض بين الخاص– العام. سيوافق كثيرون منا على تلخيص راينا راب (1979) للمشكلات النابعة من هذه الثنائية.

«لا يمكننا كتابة تاريخ الغرب في علاقته بالآخرين بشكل صحيح حتى نتوقف عن افتراض أن تجربتنا تشمل تجارب الآخرين أيضًا. أن تجربتنا في الصراع بين الخاص– العام ليست بالضرورة مماثلة لتجارب آخرين من أزمنة أو أمكنة أخرى. ولا يمكن توثيق القهر المحدد الذي تتعرض له النساء إذا كانت فئات التصنيف التي نستخدمها متسعـة بدرجة تنفى السياقات التي يتشكل فيها معنى الهوية النسائية ونحن نجاهد لتغيير ذلك التعريف. فالمجال الخاص يتباين بين فلاحة في تنزانيا، وامرأة من قيادات المابوتشي، وزوجة من الطبقة العاملة الأمريكية، وكذا تتباين الحركات الاجتماعية اللازمة لحصول كل منهن على السلطة اللازمة للسيطرة على حياتهن. علينا في نفس الآن أن نفهم الاختلافات والجوانب المشتركة، لكن ليس من خلال اختزالها إلى مجرد نمط واحد بسيط» (Rapp 1979: 511).

وهكذا، فقد تعب الكثير منا من ثنائية الخاصالعام. إننا نشعر بأنها تحدنا، تشعر بأنها «شرك»، بينما هناك في الوقت نفسه مقاربات أخرى تحاول أن تفلت من التفكير الثنائي. وتتميز تلك المقاربات بعدد من السمات: فهي عادة تتعامل مع التاريخ بجدية متفحصة تطور وضع النساء– غالبًا في سياق استعماري– كما أنها تتعامل مع النساء باعتبارهن قوى فاعلة، ووفقًا لكوليير (1974)، باعتبار أن مصالحهن مختلفة عن مصالح الرجال، وأنهن قادرات على العمل لتحقيق تلك المصالح. وعلاوة على ذلك، تركز تلك المقاربات عادة على علاقات النوع الاجتماعي بدلاً من التركيز على النساء فقط، كما أنها لا تتعامل مع النساء كجزء من فئة واحدة عالمية «المرأة»؛ بل تتعامل مع النساء من خلال تحليل موقعهن الاجتماعي. فعديد من العوامل تقسم النساء كالسن، والطبقة، والعرق، والعنصر، وعلاقات القرابة، لذا فإن التحليلات الجديدة تدرس استراتيجيات النساء وهوياتهن التي تتشكل بطرق مختلفة. وستوضح العديد من الأمثلة بعض المقاربات المختلفة التي تم تبنيها في السنين الأخيرة.

دراسة كوليير لعلاقات النوع الاجتماعي عند الوكانشي والتشيني والكيوا (1988)، توضح التركيز الحديث على النوع الاجتماعي، وعلى المواقع المتعددة التي يشغلها النساء والرجال في مجتمعات لا تبدو ثنائية الخـاص– العام ملائمة لها؛ حيث تتداخل تلك المجالات ولا يوجد خط محدد يفصل بين الفضاء الخاص والعام (لامفير 1974، ليكوك أعلاه).

فالكومانشي مثال لمجتمع خدمـة العروس– ومثله مثل كثير من مجتمعات الصيد والجمع– حيث يتمتع النساء والرجال بدرجة نسبية من الاستقلال الذاتي، ومفهوم الأنوثة ليس متطوراً، والاختلاف الأهم فيما يتعلق بالوضعية هو بين الرجال المتزوجين وغير المتزوجين. فالزواج يجعل الرجال يسعون لتحقيق شيء ما (زوجة)، ويترك النساء بدون هذا الهدف الثقافي. فالشباب من خلال توفيرهـم اللحم لمن يودون مصاهرتهم (خدمة العروس) يصبحون بالغين، والرجال الأكبر عبر العلاقات الحرة والكرم يصبحون مصدرًا (منبعًا) للحكمة والمعرفة. وتركز السياسات على الأمور الجنسية وعلى العلاقات بين الذكور، والتي عادة ما تنفجر في شكل صراعات وعنف. بينما تحتفي النساء بصحتهن وأمورهن الجنسية، وهكذا فإن دور النساء في جمع الثمار أو دورهن كأمهات لم تبرز كموضوعات ثقافية.

في القرن التاسع عشر، كانت علاقات الزواج في مجتمعي التنشيني والكيووالأول مجتمع تسود فيه المساواة بخصوص ثروة العروس، والثاني مجتمع لا يعترف بالتساوي في ثروة العروس– تتشكل بطريقة مختلفة تمامًا، ولذا كانت علاقات النوع الاجتماعي ذات محتوى مختلف كثيراً، وكانت السياسات أكثر تراتبية، ولعبت الأيديولوجية دوراً مختلفًا. لم يكن اهتمام كولييـر منصبًا على فهم النساء في هذه المجتمعات الثلاث، لأن في الثلاثة كانت هناك أنواع متعددة من عدم المساواة: بين النساء والرجال، بين الفتيات والنساء الأكبر سنًا، بين الرجال المتزوجين والرجال غير المتزوجين، وبين الأقارب وبين السلالة. واستبدل الاهتمام بالفضاءات والمجالات،بالتأكيد على العلاقات، وبتحليل يركز على الطرق التي يتم عبرها إعادة إنتاج عدم المساواة من خلال التعاملات في الزواج، والادعاء بحقوق في عمل الآخرين، وإعطاء وتقبل الهدايا. ومن خلال ذلك يصبح القهر والسيادة ظاهرة متعددة المستويات وتجرى في سياقات محددة، وأكثر إثارة للاهتمام من التأكيد البسيط بأن قهر النساء مسألة عالمية. وبدلاً من التأكيد المسطح على عدم المساواة، يتم تعرية العملية التي يجرى عبرها تشكيل/ صياغة التمييز ضد النساء (وكذلك الشباب من الرجال).

وتستكشف دراسة مارى موران (Moran 1990) عن النساء المتحضرات، البدايات التاريخية والتشكيل المعاصر لفئة «التحضر»، والتي تحصر النساء المتعلمات من الجليبو في جنوب شرق ليبريا في «المجال الخاص». إن ثنائية «المتحضر» و «البدائي» (أو حتى القبيلة والبلد) هي نتاج حملات التبشير، وقد ساهمت في خلق تراتبية وضعية طبقت بطريقة متباينة على النساء والرجال. فالرجال بمجرد حصولهم على التعليم، مع تاريخ من العمل المأجور لا يفقدون أبدًا منزلتهم باعتبارهم «متحضرين»، بينما النساء، حتى لو تزوجن من رجال «متحضرين». قد يفقدن منزلتهن إذا لم يرتدين اللباس المناسب. أو يحافظن على بيوتهن بطريقة معينة، ويمتنعن عن ممارسة الفلاحة أو التسويق. فالنساء البدائيات (الأصلـيات) اللاتي ينزلن للسوق أو لديهن مزارع يتمتعن باستقلال اقتصادي أكبر ولكنهن يحتللن مواقع أقل مقامًا. هنا نرى ليس فقط أهمية المعلومات التاريخية في فحص كيفية تتطور الفئات الثقافية، ولكن أيضًا الطرق التي تدير بها النساء المتحضرات والبدائيات / الأصليات مواقعهن ووضعيتهن. فالنساء المتحضرات، عبر ممارسة التبني يوظفن نساء أصغر في منازلهن ليمكنهن القيام بالأعمال المنزلية الأكثر تعقيدًا، ولتدريب هؤلاء البنات المتبنيات ليصبحن هن أنفسهن متحضرات.

إن ثنائية المتحضر– البدائي تمثل موقعًا مزدوجًا لنظامين؛ الأول نظام جنسی متوازی يتم فيه تمثيل الرجال والنساء البدائيين من خلال قادتهم في نمطين– مترابطين ولكن مستقلين نسبيًا– من التراتبية المهيبة (كما تقترح سوداركاسا 1986)، والثاني نظام أحادي الجنس (مبني على نمط أوروبي)، حيث الرجال في المواقع السياسية يمثلون كلا الجنسين، وحيث فرص النساء محدودة للوصول إلى منزلة اجتماعية مرتفعة إلا من خلال أزواجهن. وهكذا نرى نظامًا أكثر تعقيدًا من النظام المبنى على ثنائية الخاص– العام. هناك فئات مبنية على ثنائيات مثل الذكور– الإناث، التحضر– البدائية، لكنها لا تتلاءم مع بعضها بشكل منسجم. وتتحدث موران عن فئات ذات حساسية للنوع الاجتماعي، وترى أن «الجلبو استطاعوا إدراج النوع الاجتماعي في ثنائية التحضرالبدائية، للدرجة التي تجعل وضعية النساء ليس فقط أكثر هشاشة وضعفًا بالمقارنة بالرجال، بل أيضًا مـن بالغ الصعوبة الحفاظ عليها دون دعم الذكور»(3). وفي بعض الأحوال تقوم النساء المتحضرات بعملية مقايضة يقبلن فيها بالتبعية للحصول على المنزلة والهيبة، لكن الموران يقدمون صورة أكثر تعاطفًا حول كيف تدير كل من النساء المتحضرات والبدائيات حيواتهن.

وتعطينا دراسة ليلى أبو لغد (1986) عن الشعر الطقسي عند نساء البدو بصيرة أكبر بخصوص تعقيد وضع النساء، اللاتي كنا نعتقد حتى عام 1974 أنهن محصورات في فضاء منزلي / خاص. «بين البدو يتم ترتيب زيجات النساء، ترتدى النساء المتزوجات حجابًا أسود، مع حزام أحمر (يرمز إلى خصوبتهن)؛ وعلى النساء الإلتزام في سلوكهن بقواعد السلوك التي تؤكد على شرف الأسرة، واحتشام النساء، وخجلهـن. وعندما يواجهن بخسارة، أو معاملة سيئة أو إهمال، يكون الخطاب العام معاديًا، حافلاً بالمرارة والغضب. في حالة فقدان المحبوب، يكون الخطاب العام متشددًا في لا مبالاته، وإنكار الاهتمـام. وعلى العكس من ذلك، يعبر الشعر البدوي– وهو فن يحظى بالتقدير الكـبـيـر– عن أحاسيس الحزن المدمر، والشفقة على النفس والمشاعر العـميقة ( Abu-lughod 1986: 187) ورغم أن كلا من الرجال والنساء ينشدون أشعارهم، فإن إنشاد الشعر بالنسبة للنساء يمكن أن يعبر عن مشاعر متصارعة متعلقة بزيجة مرتبكة، أو مشاعر الفقد الطلاق، أو الإحساس بالخيانة عندما يرتبط الزوج بزوجة جديدة. إن الأشعار تستخدم هنا لاستنفار التعاطف، أو لطلب المساعدة، لكنها أيضاً تمثل خطابًا يعبر عن التمرد، والاحتجاج. وترى أبو لغد الشعر الطبقي كتصحيح لهوس أخلاقي، وتحمس مبالغ فيه للالـتـزم بأيديولوجية الشريف…. الشعر يذكر الناس بطريقة أخرى للوجـود، ويشجع عبر التأمل، جانب آخر من التجربة…. ويمكن لتلك الرؤية (التي يقدمها الشعـر) أن تحظى بتقدير الناس لأنها تجعلهم يرون التكلفة الباهظة لهذا الـنـظـام، بما يضعه من قيود على التجارب الإنسانية“. ( Abou-Lughod 1980: 259) النساء البدويات في هذه الصورة لسن ببساطة ضحايا للنظام الأبوى، محبوسات في المجال الخاص / المنزلي؛ إنهن أفراد فاعلات يستخدمن شكلاً ثقافيًا ذا قيمة مهمة للتعبير عن أعمق أحاسيسهن، وللاعتراف بمجموعة بديلة من القيم، ولفتح الطريق أمام إمكانية تغيير النظام الذي تمتد جذورهن فيه.

لقد تم إجراء عدد كبير من الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية، تركز بشكل محدود على ما كان يسمى الفضاء المنزلي، والعالم العام للعمل. وكما في الحالات التي تمت الإشارة إليها أعلاه في أفريقيا، والشرق الأوسط، وبين الأمريكيين الأصليين، فإن المرء عندما يبدأ بدراسة الموضوع بالتفصيل، تبدو الأفكار العالمية مثل المنزلي– العام أكثر تبسيطًا من أن يمكنها التعامل مع تعقيدات حياة النساء. من الجلى أن العمل والمنزل يمثلان مجالين منفصلين بشكل واضح في الولايات المتحدة. لقد خبرت النساء اللاتي تم توظيفهـن في قوة العمل المأجور الانفصال بين إنفاق ثمان ساعات أو أكثر كل يوم في مكان عملهن، حيث يكن «إناث عاملات»، وبين بقية وقتهن في البيت حيث يكن بنات، وزوجات، و/ أو أمهات، والذي تترافق معه المسئولية عن الطبخ، والتنظيف، والتنشئة، والرعاية، والمودة والحميمية التي يحتاجها أفراد الأسرة الآخرون. لقد تناولت عديد من الدراسات الحديثة التناقضات التي تواجهها النساء عنـدما يجمعن بين العمل والأسرة، بمعنى تأثير العمل مدفوع الأجر على الأدوار المتعلقة بالأسرة، والعكس صحيح، وسأشير فقط إلى ثلاثة أمثلة من هذه الأدبيات المتنامية.

في دراستها عن عمال الشيكانا في مصانع التعليب، تفحصت باتريشيا زافيلا شبكات النساء التي تربط مكان العمل بالأسرة ( Zevella 1987). وتصف زافيلا ما تسميه بـ «الشبكات المتصلة بالعمل»، بأنها مجموعات من الصديقات اللاتي يتقابلن خارج العمل، واللاتي كن عضوات في شبكات من الأقارب الذين يعملون في نفس المصنع. لقد استخدمت النساء الشبكات المتصلة بالعمل كمصدر لتبادل المعلومات، لرعاية الأطفال في غياب أمهاتهم، وللدعم العاطفي. وقد عملت تلك الشبكات بطرق أكثر سياسية عندما نظمت العاملات أنفسهن في شكل لجان نسائية، وقدمن شكوى للجنة الممارسات الوظيفية غير العادلة. كان عمل النساء في مصانع التعليب موسميًا، ولم يكن له تأثير قوى نسبيًا على علاقات القوى في الأسرة أو تقسيم العمل داخل المنزل. على الجانب الآخر، فإن الشبكات المتصلة بالعمل من الأصدقاء أو الأقارب كانت آلية مهمة لرأب الصدع ومساعدة النساء على التعامل مع التناقضات والمطالب التي تأتي من المجالين المختلفين.

أما دراسة كارين ساكس عن عاملات المستشفيات في مركز ديوك الطبي فتتفحص الطرق التي جلبت بها النساء البيـض والسود إلى العمـل مفاهيم الأسرة، والنضج، والمسئولية، وكيف استخدمن هذه القيم لتنظيم مسيرة، تلتها حركة اتحادية (1998). تركز ساكس على أنشطة القيادات النسائية المركزية في الحركة الاتحادية، فعلى عكس الرجال الذين دائمًا ما يتولون الحديث في الأحداث والتجمعات العامة، نظمت القيادات النسائية الدعم على أسس تقوم على العلاقات الشخصية وعبر التفاهم المباشر مع الأفراد (وجهًا لوجه)، وبدلاً من التأكيد على البعد المتعلق بالربط بين الأفراد الذي تقوم به الشبكــات النسائية، توضح ساكس كيف تم جلب الأسرة إلى العمل، أو باستخدام التعبيرات القديمة، كيف يؤثر «المنزلي / الخاص» على «العام».

وفي البحث الذي قمت بإجرائه، تتبعت التغيرات على العلاقات بين النساء والعمل والأسرة بشكل تاريخي من خلال دراسة النساء المهاجرات في مجتمع صناعي صغير، في سنترال فولز في رود أيلاندز (Lamphere 1987). لقد تفحصت– مستخدمة المفهومين التوأمين العمل الإنتاجي والعمل الإنجابي– صعود صناعة النسيج في رود أيلاندز وتوظيف البنات، ثم الأمهات، كعاملات صناعة النسيج، وكذا في الصناعات الخفيفة الأخرى التي حلت محلها منذ الحرب العالمية الثانية. وبدلاً من رؤية الإنتاج والإنجاب كثنائي جامد (كالعام والخاص)، فقد استخدمت تلك الفئات لدراسة العلاقات وأنواع الاستراتيجيات التي خلقتها النساء المهاجرات وأسرهن في مواجهة النظام الصناعي حيث العمل المأجور ضرورة، وحيث لا تتحكـم أسر الطبقة العاملة في أدوات الإنتاج. مثل هذه المقاربة كشفت عن درجة كبيرة من التنوع بين– وداخل– المجموعات الإثنية:

الأسر الأيرلندية، والإنجليزية، والكندية– الفرنسية، والبولندية، التي جاءت إلى سنترال فولز بين أعوام 1984-1915، وبين المهاجرين الأحدث من كولومبيا والبرتغال. لقد قادتني دراسة المسيرات والإضرابات في العشرينيات والخمسينيات، وخبرتى الشخصية كحائكة في أحد مصانع الملابس عام 1977، إلى التأكيد على استراتيجيات المقاومة التي استخدمتها النساء العاملات في عملهن، وكذا تأثير العمل المدفوع الأجر على الأسرة نفسها. عندما تم توظيف البنات كعاملات في مصانع النسيج، لم يتغير تقسيم العمل داخل المنزل بشكل ملموس، ذلك أن الأمهات والزوجات تابعن أغلب العمل الإنجابي الضروى للحفاظ على المنزل. عمل الآباء والمراهقين من البنات والأبناء مقابل أجر. وفي المقابل عندما تزايد عدد الزوجات اللاتي يعملن كل الوقت مقابل أجر، بدأ الرجال المهاجرون في القيام ببعض المهام المتعلقة بالعمل الإنجابي، وخاصة تلك المرتبطة برعاية الأطفال. وعادة ما كان الزوجان من المهاجرين يعملان ورديات مختلفة ويفضلان العناية بأطفالهما بأنفسهما بدلاً من الركون إلى جليسة أطفال من مجموعتهما الإثنية. وفي دراستي أجادل بأن «النظام الإنتاجي المتمثل في أماكن العمل قد أثر على الأسرة أكثر مما أثرت الأمور الإنجابية على العمل» (لامفير 1987: 43).

وحديثًا، توصلنا (باتريشيا رافيلا، وفليب جونزاليس، وأنا) إلى أن الأمهات العاملات صغيرات السن في مصانع سنبلت تخطين في حركتهن النساء العاملات في مصانع التعليب، أو النساء العاملات المهاجرات في نيوإنجلند، من زاوية تغيير طبيعة العلاقات المتعلقة بتقسم العمل في المنزل (Lamphere, Gonzales & Zavella). إن هؤلاء النساء العاملات الملتزمات توظفن بعد تخرجهن من المدارس، ولا ينقطعن عن قوة العمل لفترات طويلة بسبب الإنجاب. وهكذا فإنهن يكون مع أزواجهن أسرًا يعتمد فيها المنزل على وظيفتي الطرفين. ورغم أن بعض الأزواج مازالوا يعتمدون تقسيم العمل «التقليدي» (تقوم النساء بالطبخ وغالبية أعمال التنظيف، ويقوم الأزواج بالتخلص من القمامة، وعمل الإصلاحات الصغيرة في المنزل أو السيارة)، فإن العديد من الأزواج يشاركون فيما يسمى «بالمهام الأنثوية»، ويتولون قسمًا هامًا من رعاية الأطفال (غالبًا رعاية الأطفال عندما تكون الزوجات في العـمل). هنا نرى تأثير ما اعتدنا تسميته «الفضاء العام» على الفضاء الخاص، ولكننا ركزنا في تحليلنا على التنوع في الأساليب التي اتبعها كل من الأوروبيين (Anglos) واللاتينيين (Hispanics) (بما في ذلك الأمهات العزباوات)، للتفاوض حول ترتيبات رعاية الأطفال والعمل المنزلي، ورؤاهم لكل من والزوجات، وكيفية حل النقاشات. لقد أظهر ذلك التحليل العديد من السمات المشتركة والاختلافات– وإن بشكل غير بارزبين نساء الطبقة العاملة من أصول أوروبية، وبين اللاتينيات، موضحاً أن تأثير العمل في الفضاء العام ليس كتلة صماء، بل عملية متعددة الألوان.

تلخيصًا، فإن ثنائية العالم العام للرجال، والعالم الخاص / المنـزلي للنساء كانت في 1974 نقطة انطلاق هامة ومفيدة للتفكير حول أدوار النساء من منظور عابر للثقافات.. لقد نقلتنا الدراسات الأنثروبولوجية المتنامية، وتناولها التفاصيل الدقيقة لحيوات النساء في تنوع واسع من الثقافات الأخرى وفي مجتمعنا نحن أيضًا، لتجاوز استخدام الثنائيات، لننتج تحليلات حول تعقيد وتعدد مستويات بنية حياة النساء. إننا الآن نتعامل مع النساء بشكل أكثر تاريخية، ننظر إليهن كفاعلين اجتماعيين، ونفحص تنوع ظروف النساء في داخل الثقافة الواحدة، وعلاقتهن بالرجال.

 

آمال عبد الهـادي: باحثة وناشطة حقوق المرأة وعضو مجلس أمناء المرأة الجديدة.

(*) من كتاب

Gerder in Cross– Cultural Perspective, (1997), Edited by Caroline B. Brettell and Carolyn F. Sargent. New Jersey: Prentice-Hall, Inc.

(1) تقول روزالدو «التعـارض لا يحدد التنميط الثقافي أو عدم التماثل في تقييم التحيز الجنسى Sexisms، لكنه بالأحرى يبررها لتدعيم الربط– بطريقة شديدة العمومية– بين النساء والحياة الخاصة / المنزلية، والرجال والحياة العامة» (روزالدو 22-1974: 21 )، لم تحاول روزالدو أن تشرح إخضاع النساء من خلال تلك الثنائية، لكنها تعاملت معها باعتبارها الإطار البنيوي الأساسي في أي مجتمع ساند هذا الإخضاع، والذي ينبغي أن يعاد تنظيمه لتغيير وضع النساء.

(2) تقول روزالدو «إن المعارضة لا تحدد الأنماط الثقافية أو عدم الإتساق في التقييمات المتحيزة لجنس معين، ولكنها بالأحرى تؤكدها وتدعم ارتباط النساء بالحياة المنزلية والرجال بالحياة العامة» (Rosaldo 1974 21-22) وهكذا، فإنني أشير إلى أن روزالدو لم تحاول أن تشرح تبعية النساء من خلال الثنائية، وإنما رأتها على أنها إطار هيكلي كامن في أي مجتمع وهو يدعم التبعية ويجب أن يعاد تنظيمه لتغيير وضعية النساء.

(3) من المثير للاهتمام أننا لم نعلم بالكتابات الواسعة لإلسي كلوز بارسونز 1916- 1910، والتي يذكرنا كثير منها بموقفنا في «النساء والثقافة والمجتمع». ولقد أشرت إلى التشابهات بين مواقف شیللی وبارسونز. (يراجع لامفير 1989 وبارسونز 1515, 1914, 1913).

Abu-Lughod, Lila. 1986. Veiled Sentiments; Honor and Poetry in a Bedouin Society. Berkeley and Los Angeles: University of California Press.

Brown, Judith. 1970. Economic organization and the Position of Women among the Iroqrois. Ethnohistory 17 (¾): 131-1676.

Chai, Alice Yun. 1987. Freed rrom the elders but locked into labor: Korean immigrant women in Hawaii, Women’s Strdies 13:223-234.

Collier, Jane. 1974. Women in Politics. In Michelle C. Rosaldo and Sociel. Stanford: Stanford University Press.

——, 1988, Marriage and Inequality in Classless Societies. Stanford: Stanford University Press.

Collier, Jane, Michelle Rosaldo, and Sylvia Yanagisako. 1982. Is there a family? Anthropological views. In Barrie Thorpe and Marilyn Yalom (eds.) Rethinking the Family L Some Feminist Questions. New: York and London: Longman.

Comaroff, John L. 1987. Sui genderis: Feminism, Kinship theory, and structural “domains”. In Jane Fishburne Collier and Sylvia Junko Yanagisako (eds.). Gender and Kinship: Essays Taward a Unified Analysis. Stanford: University Press.

de Beauvoir, Simone. 1953. The Secound sex. New York: Alfred A. Knopf. Originally Published in French in 1949.

Kaberry, Phyllis M. 1939. Aboriginal Women. Sacred and profane. London: G. Routledge.

——, 1952. Women of the Grassfields. London: H. M. Stationery Office.

Lamphere., Louise. 1974. Strategies, cooperation, and conflict among women in domestic groups. In Michelle Z. Rosaldo and Louise Lamphere (ed.). Women, Culture, and Society. Stanford: Stanford University Press.

——-, 1987, Form Working Daughters to Working Mothers: Immigrant. Women in a New England industrial Community. Ithaca, NY: Cornell University Press.

—–, 1989, Feminist anthropology: The legacy of Elsie Clews Parsons. American Ethnologist 16(3): 518-533.

Lamphere, Louise, Felipe Gonzales, and Patricia Zavella. (ed.). Working Mothers and Sunbelt Industrialization: New Patterns of Work and Family. Submitted to Cornell University Press.

Landes, Ruth. 1938, The Ojibaw Woman, Part I: Youth. New York: Columbia University. Contributions to Anthropology, Vol. 31.

—–, 1947. The City of Women: Negro Women Cult Leaders of Bahia,Brazil. New York: Macmillan. Leacock, Eleanor. 1978. Women’s status in egalitarian society: Implications for social evolution. Current Anthropology 19 (2): 2470275.

Leith-Ross, Sylvia. 1939, African Women: Study of the Ibo of Nigeria. London: Faber and Faber. Mead, Margaret. 1949. Male and Female. New York: William Morrow and Co. Moran, Mary H. 1990. Civilized Women: Gender and

Prestige in Southrastern Liberin. Ithaca. NY: Cornell University Press.

Moore, Henrietta L. 1988. Feminism and Anthropology. Minneapolis: University of Minnesota Press.

Murcott, Anne. 1983. “It’s a Pleasure to cook for him”: Food, mealtmes and gender in some South Wales households. In Eva Gamarnikow. D> H. J. Morgan, June Purvis, and Daphne Taylorson (eds.). The public and the private. London: Heinemann Educational Books.

Nelson, Cynthia. 1974. Public and private politics: Women in the Middle East. American Ethnologist 1:551-563.

parsons, Elsie Clews,. 1913. The Old Fashioned Woman. New York: G. P. Putnam’s Sons.

——, 1914, Fear and Conventionality. New York: G. p. Putnam’s. Sons.

—-, 1915. Social Freedom: A Study of the Conflicts Between Social Classifications and Personality. New York: G. P. Putnam’s Sons.

Ong, Aihwa. 1987. Spirits of Resistance and Capitalist Discipline. Albany, NU: State University of New York Press.

Paulme, Denise (ed.). 1963. Women of Tropical Africa, Berkiliy: University of California press.

Rapp. Rayna. 1979. Anthropology. Signs 4 (3): 497-513.

Reiter, Rayna (ed.). 1975a. Taward an Anthropology of Women. New York: Monthly Review Press.

—–, 1975b. Men ans Women in the South of France: Public and private domains. In Rayna Reiter (ed.). Taward on Anthropology of Women. New York: Monthly Review Press.

Rosaldo, Michelle, 1974. Woman. Culture and society: A theoretical overview. In Michelle Z. Rosalde and Louise Lamphere (ed.). Woman. Culture, and society, Stanford: Stanford University Press.

—-, 1980. The uses and abuses of authropology, Digns 5 (3): 389-417.

Sacks, Karen. 1988, Caring by the Hour: Women, Work, and Organizing at the Duke Madical Center. Urbana and Chicago: University of Illinois press.

Sudarkasa, Niara. 1976. Female employment and family organization in West Africa. In Dorotht McGuigan (ed.). New Research in Women and Sex Roles. Ann Arbor: Center of Education of Women.

——, 1986. The status of women in indigenous African Societies. Feminist Studies 12;91-101.

Underhill, Ruth. 1936. Autobiography of a Papago Woman. Supplement to American Anthropologist 38 (3), Part II. Millwood, NY: American Anthropological Association.

Wolf, Margery. 1972. women and the Family in Rusal Taiman. Stanford: Stanford University Press.

Yanagisalo, Sylvia Jonko. 1987. Mixed Metaphors: Native and Anthropological models of gender and kinship domains. In Jane Fishburne Collier and Sylvia Jonko Yanagisako (eds.). Gender and Kinship: Essays Tawrada Unified Analysis. Stanford: Stanford University Press.

Yanagisako, Sylvia Junko and Jane Fisburne Gollier. 1987. Toward a unified analysis of gender and kinship. In Jane Fishburne Collier and Sylvia Junko Yanagisako (eds.). Gender and Kinship: Essay Taward a Unified Analysis. Stanford: Stanford University press.

Zavvella, Patricia. 1987. Women’s Work and Chicann Families” Cannery Workers of the Santa Clan Vallry. Ithaca. NY: Cornell University press

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي