أنا والشرق

رقم الايداع:

2016/22253

الترقيم الدولي:

9-34-5895-977-978

رقم الطبعة:

الطبعة الأولى

تاريخ النشر:

2016

الاشراف العام:

تصميم الغلاف:

التقديم:

   

يصدر هذا الكتاب عن مؤسسة المرأة والذاكرة، وهي مؤسسة بحثية معنية بالتنقيب عن التاريخ الثقافي للنساء العربيات والعمل على إنتاج معرفة بديلة تعزز وضع النساء. في المجتمع وتدعم مطالب حركة تحرير المرأة في العالم العربي. تقوم مؤسسة المـرأة والذاكرة بنـشـر كـتـب ومقالات متخصصة في مجال دراسـات المـرأة، كمـا تـولي اهتمامًا خاصًا بالكشـف عـن إسهامات النساء في المجال الثقافي والاجتماعي والسياسي. تعمل المؤسسة أيضًـا عـلى إنشاء أرشيف تاريخ شفهي للنساء المصريات يضـم سـير حيـاة نساء لهـن بـاع في مختلف المجالات.

تتشرف مؤسسـة المـرأة والذاكـرة بنـشر مذكرات حـواء إدريـس (۱۹۰۹۱۹۸۸) وإتاحتهـا لجمهـور واسـع مـن القـراء والمهتمين بتاريـخ مـصر بعامـة، وتاريخ الحركة النسوية المصرية بشكل خاص. انتهـت حـواء إدريس من كتابة مذكراتهـا في أوائل السبعينيات، وقامت بإهـداء نسخ منهـا لـعـدد مـحـدود جـدًا مـن الأصدقاء والأقارب، ثم أودعـت مذكراتها وأوراقها في مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة في الثمانينيات، وظلت المذكرات غير متاحـة لـرواد المكتبـة، عـدا بـعـض الاستثناءات، حتى ۲۰۱۱ حين شرعـت المكتبـة بفهرسة أوراق حـواء إدريس وإتاحتهـا للباحثين.

كان لنا في مؤسسة المرأة والذاكرة شرف أن أهدتنا السيدة سنية شعراوي، حفيدة هـدى شعراوي، نسخة من مذكرات حـواء إدريس وذلك لنشرها. ننشر الجزء الأول فقـط مـن النص الذي خطتـه وهـو الجـزء الخاص بمذكراتها، وتركنـا الجـزء الثاني الذي تسرد فيـه إنجازات هدى شعراوي؛ فيما عدا بعض التصويبات التحريرية. نشر النص كمـا هـو بأسلوبها وروحها.

نضع بين أيديكم مذكرات ممتعـة تلقي الضوء على مراحـل مهمة من تاريخ الوطـن مـن خلال عيـون ناشطة ومدافعة عن حقوق النساء.

مؤسسة المرأة والذاكرة

لقد جلست يوميًا بجوار حـواء إدريس على مائدة الغداء عبر طفولتي، وكنت وقتـئذ صبية خجولة بينمـا كانـت هـي سيدة جميلة ورزينـة مندمجة في نشاطها الاجتماعي والسياسي، وفضلًا عـن ذلـك كلـه كانت تقوم بالتزاماتها التربوية في حضانة الأمهات العاملات، ولكنهـا كانـت تحـاورني وتتحـدث مـعـي دائمًـا وتنصحني وتشير إلى مبـادئ وحقائـق ما زلت أذكرهـا وأتبعهـا حـتى الآن أحيانًا. ولكنـي لـن أتحـدث عـن قـصـص البسالة والفروسية التي حدثتني عنهـا مـرارًا، لكن سأترك القارئ يكتشفها بنفسه في كتابها (أنا والشرق)، هذه السيرة الذاتية التي ظهرت بفضل مجهـود الدكتورة هدى الصـدة ضمن منشورات مؤسسة المرأة والذاكرة. ولقـد اهتمـت حـواء دائمًا بالذاكرة، وطلبت منى أن أعتني بكتابها، وأن أسعى إلى نشره حتى يضاف إلى سجل تاريخ مصر الحديث حفاظًا على ذاكرتنا القومية؛ والحمد الله الـذي مكننـا مـن نـشره الآن.

كانـت حـواء إدريـس مـثـل الجندي المجهـول في محيط الحركة النسائية وجمعياتهـا الخيرية، فكانت تكافح وتعمل وتتفانى في خدمة التنمية والنهوض بالآخرين، كما تفعـل الراهبـة الـتي لا تكترث بنفسـهـا بـل تقـوم بعمـل صـارم؛ لأن هـذا مـا يربطها بخالقهـا فليـس لـهـا هـدف في الحياة ولا تطمـع في شيء إلا حبـه هـو الرحمـن الرحيـم، فتقـوم تلقائيًا بعملهـا صابرة عـلى صعوبات الحياة المليئة بتقلبات القـدر الـتي عانت منهـا منـذ طفولتهـا أثنـاء تقـدم قـوات جيش الاحتلال الروسي الشرسة الداهمة في جبال القوقاز، وبالرغم من ذلك كان لديها كمّ هائل من البراءة والتلقائية النادرة فلم تفكـر أبـدًا في تأمين مستقبلها، وكانت تكتفي بشيء من الأمان والراحـة حـتى تتمكن من القيام بخدمة الطبقات الشعبية والكفاح ضد الفقر والظلم. ثم إنهـا كانـت فـوق كل شيء تعتـى بأطفال حضانة جمعية الاتحاد النسائي المصري، ولم تبحـث عـن تـألـق أو مغامرات بالرغم من ذهابها إلى مناطق بهـا حـروب مثـل سـوريا آنذاك أو لبنان أو السودان، وأيضًا إلى بلاد بعيدة مثل الهنـد حيـث قابلت نهـرو وابنته أنديرا، وتعرفت على الزعيم غاندي العظيم، فأعجبت بفلسفته الشائعة في الهنـد والعالـم الـتي أنهـت عـصر الإمبريالية البريطانية دون عنف أو قتال، وازداد إيمانها برعونة اكتناز المال، وقادهـا هـذا الفكر إلى حياة يومية رفيعة رزينـة كريمة محفوفة بالعطاء والإحسان.

كانـت حـواء في وقت ما رئيسة لجنة شـابات الاتحاد النسائي المصري، ولقد تدربـت عـلى عمـل منتظم ومتناسق مع زميلاتهـا الشـابات المصريات مثـل: أختهـا حورية إدريس، ومنيرة عاصم ، ودريـة شفيق، وشريفة لطفي، وأمينة السعيد، وكريمة السعيد، وسهير القلماوي، وغيرهـن فعملـن جميعًا على النهوض بالأحياء الفقيرة في مجالات الصحة ورعايـة الـذات والأخلاق والمثـل العالية الرزينة. وذهبـت حـواء أيضًا إلى سوريا مرافقة للدكتور عباس الغريني لعلاج جرحى المظاهرات ومقاومة الاحتلال الفرنسي بدمشق، فتعلمت التمريض وزاد علمهـا بمخاطر الحياة، ولكنها اشتغلت أيضًا عقب عودتها إلى مصر بإخراج مشاهد مسرحية مع بنات المجتمع الراقي لإحياء المناسبات الخيرية في مقر الاتحاد النسائي. ثم للأسف بعد وفاة ابنة عمتهـا هـدى شعراوي، التي كانت تشجعها وتحميها وتعاملها بحنان الأم لابنتهـا، بـدأ التنافـر يـحـل محـل الصداقة، وبدأت أيـام المنافسات والانتهازية والحقد والكذب واللؤم يحيط بها، وكانت صاحبة طبع صريح يجهـل الانطباعات الملتوية والغرائز المدمرة الشقية، ولكنها تجلـدت وصـبـرت حـتى أصبحت رئيسة جمعية الاتحاد النسائي، التي أصبحت تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية في زمن لا يعترف بأهمية الكرم وعزة النفس والعطاء. ولكنها لم تهجر الجمعية لا سيما أطفال الحضانة المجانية، وقدمت لهـم مـا تمكنت منـه مـن علـم ومبادئ لآخر عمرها؛ بل قامت ببناء وحدة سكنية لنفسها فـوق مبنـي مقـر الجمعية، تاركة إياها للمقـر بعـد انتهاء حياتها، توفيـت حـواء إلى رحمة الله تعالى في يوم ٢٦ ديسمبر ١٩٨٨.

سنية شعراوي

حواء إدريس: لحظات دالة

في تاريخ الحركة النسائية المصرية

هـي حـواء إدريس (۱۹۰۹۱۹۸۸)، مـن رائـدات العمـل الأهـلي في مصر وعضوه بـارزة في الاتحاد النسائي المصري الذي أسسـته هـدى شعراوي سنة ١٩٢٣. هي أيضًا ابنة خالة هدى شعراوي وأقامت في بيتهـا تحـت رعايتها هي وأختها حورية بسبب ظروف عائلية صعبة ألمـت بـأسرة الفتاتين مـن غـربـة وسـفر وتشتيت. بدأت مشوارها في العمل الأهـلي النسوي في الاتحاد النسائي المصري، ثم كونت جمعية شقيقات الاتحاد النسائي وتولت رئاستها، وضمـت حينذاك: أختهـا حـوريـة، وأمينة وكريمـة السعيد، وسهير القلمـاوي ومنيرة عاصم وشهيرة محـرز وشابات أخريات متطوعـات للعمـل الخـيري. أشرفـت على أنشطة ثقافية واجتماعية متنوعة في الاتحاد النسائي، فمثلاً في عام 1935 أخرجـت مسرحية كتبها توفيق الحكيـم عـن لطفيـة النـادي. شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية والعربيـة ممثلـة عـن الاتحاد النسائي المصري، فكان لها دور مهم في توطيـد التعاون بين البلدان العربية والأسيوية، كما كان لهـا مواقـف مشهودة في الساحة العربية والدوليـة دفاعًا عن حقوق الشعوب في مواجهة الاستعمار والصهيونية العالمية. وفي أعقاب ثورة الضباط الأحرار سنة ١٩٥٢ كرسـت حـواء إدريس نفسها لإدارة دار الحضانة في جمعية هدى شعراوي.

تبنـت حـواء إدريس مشروع هدى شعراوي لدعم الحركات المطالبة بحقوق النسـاء على جميع المستويات، المحلي والإقليمي والدولي، كمـا اهتمت بشكل خاص بقضايا الاستقلال ومقاومة الاستعمار الغربي. تنير لنا مذكراتهـا فترات مضيئة في تاريخ الحركة النسوية العربية والمصرية حين تضافرت جهود النساء من مختلف الأعمار والتوجهات لتكوين مؤسسات أهلية خيرية تدير أنشطة ثقافية وأهلية وتنموية، ويكون لهـا صـوت مسموع ودور فعال في مجال التعاون بين الشعوب، بحيث يصبح لهـا رأي وتأثير على قضايا الوطن، أو على السياسة بالمعنى الواسع. شارك الاتحـاد وعضواته ورئيسـته في العديـد مـن المحافل الدولية، وقامـت هـدى شعراوي بالحديث نيابة عن الحركة النسائية العربية في المطالبة بالاستقلال وفي دعـم فلسطين. قام الاتحاد النسائي المصري بـدور أساسي في مـد جـذور التعـاون مـع الـدول الآسيوية، وبخاصـة الهنـد حيث تأثرت هدى شعراوي بشخصية غاندي وحركـة الـلا عنـف الـتي قادها في مواجهة الاستعمار الإنجليزي.

قـررت حـواء إدريس كتابة مذكراتهـا بعـد وفـاة هدى شعراوي لمـا لمسـته مـن خيـال يغلب على ما يكتب عن تاريخ الحركة النسائية في مصرولكي تضع النقـط فـوق الحـروفلتسرد تفاصيل ومعلومات غائبـة عـن مـآل الحركة النسوية في مصر وعـن دور الاتحاد النسائي وهـدى شعراوي بالتحديـد. مـن الجدير بالذكر أنهـا انتهـت مـن كتابة مذكراتهـا وقـررت إتاحتهـا في بداية السبعينيات، أي قبـل صـدور مذكرات هـدى شعراوي سنة ١٩٨١ عن دار الهلال. فكمـا هـو معـروف الآن، فلقـد أملـت هـدى شعراوي مذكراتها لسكرتيرها عبد الحميد فهمي مرسي، وظلت تلك المذكرات حبيسة الأدراج إلى أن اكتشفتها أمينة السعيد وقررت نشرهـا. ومـن ثـم ، نجد أن النـص الـذي خطتـه حـواء إدريـس هـو عبـارة عـن جزأين، الجـزء الأول عن حياتهـا وإسهاماتها في الحركة النسائية المصرية، والجزء الثاني عـن هـدى شعراوي ودورها الرائد. ولما أصبحت مذكرات هـدى شعراوي منشورة، ونظرًا لأن الكثير من المعلومات عن هـدى والاتحاد النسائي والحركة النسائية المصرية أصبحت متاحـة ، فلقد قررنـا نـشـر الجـزء الأول فقـط المـعـني بحيـاة حـواء إدريس. وتظـل النسخة الكاملة لمخطـوط حـواء إدريس متاحـة كاملة في مكتبـة المـرأة والذاكرة.

دونـت حـواء مذكراتهـا وطبعـت منهـا عـدد مـن النسخ المحـدودة وأعطتهـا لأصدقـاء ومعارف وأقارب لها، ودأبت على مراجعة المذكرات وإدخال معلومات جديدة أو حذف أجـزاء منهـا عـلى مـدار بضعة سنوات. أهـدت حـواء إدريس أوراقهـا والنسخة الأولى من مذكراتها بتاريخ ١٩٧١ إلى مكتبة الجامعة الأمريكية في القاهرة سنة ١٩٨٨ ، وظلت تلك الأوراق محفوظة في قسم الكتب النادرة وغير متاحة للباحثين إلا بإذن خاص، إلى أن قامت المكتبة بالعمل على فهرسة الأوراق وإتاحتها سنة 2011. تشمل مجموعة أوراق حـواء إدريس في مكتبة الجامعة الأمريكية نسخة ١٩٧١ من مذكراتها، وهي النسخة التي تحتوي على أصـول بعـض الصـور والخطابات المرفقة بالمذكرات، كما تشمل المجموعة صورًا ومراسلات وكراسـات مـدون فيهـا كلمـات ألقتهـا أو رسائل تسلمتها، أوراق كثيرة تدل على حرص شديد على توثيـق الأحداث وفي الحفاظ على ذاكرة الحركة وإنجازات الاتحاد النسائي وعضواتـه. بفحص تلـك الكراسات نجدهـا تـحـتـوي على المادة الخـام لمذكرات حـواء.

أما نسخة المذكرات التي يعاد نشرها الآن فلقـد أهدتها السيدة سنية شعراوي، حفيدة هدى شعراوي لمكتبـة المـرأة والذاكـرة. التاريخ المـدون عـلى هـذه النسخة هـو ۱۹۷۳، وبمقارنـة هـذه النسخة مـع النسخة الموجودة في الجامعة الأمريكيـة، نجـد أن حـواء إدريس أدخلـت بعـض التعديلات على النسخة الأخيرة فحذفت أجـزاء وأضافت أجـزاء أخـرى. وبما أن تاريخ هذه النسخة لاحـق للنسخة المودعة في مكتبة الجامعة الأمريكية، فلقد قررنا نشر نسخة ١٩٧٣ كمـا هـي، واستعنا بنسخة الجامعة الأمريكيـة فـقـط في الحصول على صور ضوئية عالية الجودة لبعض الصور المضمنة في المذكرات.

تقديم: هدى الصدة

تحتـوي مذكرات حـواء إدريـس عـلى عـدد كبير من اللحظات الدالة في تاريخ الحركة النسوية المصرية هـي بمثابة ومضـات تساعدنا عـلى فهـم المـاضي وتلقـي الضـوء على المستقبل. تحدثنـا حـواء عـن بدايات اهتمامها بالخدمـة العامـة فتشير إلى تأثير أسرتها وإقامتها في منزل هدى شعراوي؛ حيث انشغل الجميع بالقيام بأنشطة خيرية واجتماعية والقضايا السياسية. تحدثنـا عـن إنشائها جمعيـة شـقيقات الاتحاد النسائي، ومواجهتها الهجوم الساخر على عضوات الجمعية الشابات، وعن الدعم الذي تلقـوه من الاتحاد النسائي الـذي أفسح لهـن مجـال العمـل والمشاركة في المحافل الدوليـة. فبمساعدة الاتحاد النسائي المصري شاركت حـواء في المؤتمر النسائي الدولي في إستنابول في إبريل 1935 وألقت كلمة فيه. اهتمـت حـواء إدريس بشكل خاص بالبعثات الإنسانية الطبية لخدمة ضحايا الحروب فتطوعت في بعثة الهلال الأحمر المصري إلى سوريا سنة ١٩٤٥ إثر الاعتداء الفرنسي على دمشـق لـدحـر قـوى المقاومة. تلقي روايتها الضوء على الوضع في سوريا حينذاك، كما تلفت نظرنا إلى أهمية الدور الذي تقوم به الجمعيات النسوية المستقلة في تصحيح الرواية الرسمية عـن أعـداد الضحايا واحتياجاتهم. فبعـد أن قام رئيـس صحـة دمشـق بإبلاغ البعثة المصريـة عـن عـدم احتياجهـم لإقامـة مستشفى ميداني آخـر لـعـلاج ضحايا الاعتداء الفرنسي وزعم أن المستشفيات السورية قد استوعبت كل المرضى، الأمـر الـذي ترتب عليـه قـرار البعثة المصرية بالعودة إلى مصر، اكتشفت حـواء في لقائها مع عضوات الاتحاد النسائي السوري عدم صحة تلك الرواية، ونجحت عضوات الاتحاد السوري في تقديم أدلة تثبت خطأ الرواية الرسمية، ومـن ثـم تـم التراجـع عـن العـودة إلى مصر وبقيت البعثة في سوريا لاستكمال المهمـة التي جاءت من أجلها.

سارت حـواء على خطى هدى شعراوي وأولت قضية فلسطين اهتمامًا خاصًا، فسافرت في مهمـة استطلاعية إلى فلسطين في إبريل سنة ١٩٤٦ لجمع المعلومات والتحقـق مـن الأخبار عن وضع الثوار الفلسطينيين، وذلك لدعم مشاركة هدى شعراوي في المؤتمر النسائي الدولي المنعقد في مدينة إنترلاكن – سويسرا في يونيو من العام نفسه. الرحلة مليئة بالمعلومات والتفاصيل المهمة عن مسار قضية فلسطين ودور بريطانيا المساند للتغـول الصهيوني. تتعـرف عـلى الوضع في فلسطين مـن خـلال قصـة أمينة، الفدائيـة الفلسطينية الشابة، مشاركتها في حركة المقاومة، وتعاملها مع ممثلي الاحتلال البريطاني واضطرارهـا للهرب لتفادي الاعتقال. وكمـا تقـول حـواء، أمينـة هي فلسطين بآلامها وآمالها، بأحزانهـا ومآسيها“. تواصـل حـواء عملهـا لدعم القضية الفلسطينية مـن خـلال متابعـة قضية اللاجئين وأيضًـا مـن خـلال الحديـث عـن عـدالـة القضيـة وأهميتهـا في المحافل الدولية والإقليمية جميعهـا.

سافرت حـواء إلى الهنـد للمشاركة في أول مؤتمر للعلاقات الآسيوية الإفريقية في مارس ١٩٤٧. لـم تـكـن تلك الرحلة بالهّينة أو المألوفة في ذلك الوقت؛ حيث اعتبرها الكثيرون مغامرة كبيرة لبـلاد نعرفهـا ونسمع أخبارهـا مـن خـلال عيـون غربيـة تستعمرها كمـا تستعمرنا. بالإضافة إلى ذلك كثر اللغـط حـول أهـداف هـذا اللقـاء حيـث أشـاع البعـض أن مسلمي الهند أعلنـوا مقاطعة المؤتمر، كما شنت حملة على المؤتمـر مـن قبـل بعـض الدول الغربية خشية نشوء تكتل حيادي يعمل على القضاء على مصالحها الحيويةكمـا تقـول حـواء في سردهـا. ولكن كان لهـدى شعراوي بُعـد نـظـر وتبصر فقـدرت أهمية إنشاء جسور بين دول الجنوب وتشكيل كتلة غير منحازة لقطبي القوة في العالم ، ومن ثم أرسلت ممثلات عن الاتحاد النسائي المصري بعـد أن تأكـدت مـن أهمية المؤتمر وجديته. سافرت حـواء ممثلـة للاتحـاد وصاحبتهـا زميلـة أخـرى. تشاركنا حـواء تفاصيـل ممتعـة عـن الرحلـة وتصـف لنـا لحظـات ومشاهد استوقفتها، كلهـا مـن خـلال عيـون شغوفة للتعرف على أهـل الهند وطبائعهم وملبسهم. تحكي عـن حسـن ضيافة الأسرة التي أقامـت معهـا، عـن أطفالهـم وخفة دمهـم. تحـكي عـن وحـدة الهـدف والتجانس والمحبة بين المؤتمرين، على الرغم من اختلاف اللهجات وتنوع الأزياء. استرعي انتباه حـواء وجـود وزيـرات في الوفود الرسمية لعـدد كبير من البلدان الآسيوية المشاركة في المؤتمـر لأن النساء في هذه البلاد حصلـن عـلى حقوقهـن السياسية. تحـكي عـن الكلمـة التي ألقاهـا هـوج برجمان، رئيس وفد الجامعة العبرية في فلسطين الـذي سلط الضـوء على رواية المظلومية اليهودية لتبرير الاستيطان الصهيوني في فلسطين. تدخلـت حـواء وطلبت من جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهنـد آنـذاك، السماح لها بإلقاء كلمـة للـرد على مزاعم برجمـان بـحـق الوجـود الصهيوني في فلسطين، ولبى نهـرو طلبهـا ونجحت حـواء في دحض الأقاويل الصهيونية وكسبت تعاطف واحترام المؤتمرين. لكـن لـم يـلـق موقفها استحسان رئيس الوفد المصري لأن تعليمات الحكومة الهندية كانـت عـدم التعرض لسياسات الهنـد الداخلية، ومـن ثـم خـشي رئيس الوفـد أن يكـون نـهـرو قـد شـعر بـحـرج مـن كلمتهـا. من الجدير بالذكر أن رد حـواء إدريس في الدفاع عن موقفها انصـب حـول الفرق بين المواقف الرسمية التي تفرض على الممثلين الرسميين ومواقـف ممثلي المجتمع الأهـلي الـذي تـرى، حـواء، أن مـن واجـب ممثليـه قـول كلمـة الحـق في الوقت المناسب دون اعتبارات سياسية محـدودة. كانـت حـواء في الهنـد صوتًا قويًا يدافع عن قضية فلسطين، فإلى جانب كلمتها في المؤتمر، كتبت مقالاً نشر في جريدة واسعة الانتشار تشرح فيها عدالة القضية. لفتـت حـواء الأنظار بسبب مواقفها القوية وبلاغتهـا في الدفـاع عـن المبـادئ وحظيت بتقديـر نـهــرو الـذي دعاهـا إلى مأدبـة غـذاء على شرف الوفود الرسمية، وطلب منها الجلوس إلى جواره. كما حرصت على مقابلة غاندي وفرحـت فـرحـا كبيرًا بهـذا اللقـاء والتقدير من شخصية تقدرهـا وتجلهـا. تهتـم حـواء بالإبقاء على خيـوط التواصـل مـع مضيفيهـا ومعارفهـا في الهنـد، ويمضي الاتحـاد النسائي في مساعيه لدعم التعاون والمؤازرة بين الدول الإفريقية والأسيوية.

تستمر حـواء إدريس في المشاركة في المؤتمرات النسائية الدولية، فتمثل الاتحاد النسائي في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي في جينيـف سنة 1950. والملفت في سردهـا للأحـداث والمناقشات في المؤتمر التركيز على قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية، على رأسها، قضية فلسطين وحـق الفلسطينيين في أرضهم. فنلمس بشكل واضـح التداخـل بـين السياسي والاجتماعي، ونضع أيدينـا عـلى الـدور الحيـوي الـذي نهضـت بـه المدافعـات عن حقوق النساء. تشارك أيضًا في مؤتمر الاتحاد النسائي العربي العام في دمشق سنة 1951.

يستمر الاتحاد النسائي المصري في الاهتمام بكل القضايا المهمة والملحـة في مصر. في أكتوبر1951 ذهبـت حـواء إلى الإسماعلية لتفقد وضـع المقاومة ولتبين سبل دعـم الفدائيين في منطقة القناة، وقام الاتحاد بتقديم الدعم المادي والطبي لأهـل القناة. كمـا تستمر حـواء في زياراتهـا لأقطـار عربية ومساعيها لتوطيـد الصـلات بين البلدان العربيـة ودعـم حـركات تحرير النسـاء. وبالتدريج ينحسر عملهـا في مجال تقديـم الخدمات الاجتماعية للفقراء بسبب تغير البيئة السياسية بعد ثورة ١٩٥٢ والتحولات الـتي طرأت على مجالات العمـل الأهـلي بعامـة والنسـوي عـلى وجـه الخصـوص.

تنهي حـواء إدريس مذكراتهـا بنبرة حزينة ومريرة عمـا آل إليه حالهـا وظروف معيشتها بعـد عمـر مـن الكفاح والتفاني في العمل العام. في يونيو سنة 1963 صـدر قـرار جمهـوري بالاستيلاء على منزل هدى شعراوي وإقامة فندق مكانه. طلـب مـن حـواء وأسرة هـدى شعراوي إخـلاء البيـت في ظـرف أسبوعين فقط، واضطـر أحـفـاد هـدى إلى الإقامـة في استضافة أصدقاء العائلة، وأقامـت حـواء في غرفة متواضعة في بنسيون فيينواز لمـدة بضعة سنوات، وهـو المـكان الـذي كتبـت فيـه مذكراتها، ثم انتقلت للإقامة في شقة ملحقة بجمعيـة هـدى شعراوي، بنتها بمساعدة مادية من أختها حورية، وعاشت فيها حتى وفاتها.

في حيـاة حـواء إدريـس مـرادف موضوعي لمـآل الحركة النسائية المصرية والمسار الذي مضـت فيـه. جمعـت الحركـة منـذ بداياتهـا بـين العمـل الاجتماعي والثقافي والعمـل السياسي الوطني، وبتعبير اليوم، العمل الحقوقي، فطالبت النساء بالحق في التعليم والعمل كمـا طالبت بالاستقلال والحريات، وكرسـت هـدى شعراوي وحـواء إدريس وأخريات كثيرات أنفسهن لخدمة الفقراء وتقديم خدمات صحية وتعليميـة لهـم، وفي الوقت نفسه خاطبن البرلمان واعترضن على السياسات التي كانـت مـن وجهة نظرهـن خاطئة، وعبرن عن آرائهـن في مختلف الموضوعات الخاصة بحيـاة النساء ومصالح المصريين كلهم، بل وتحديد التقاليد البالية المقيدة تقدم المجتمع. كان هذا التآلف أو التلاقي، أو الجمع السلس بين السياسي والاجتماعي والثقافي مـن أهـم أسباب تنامي وازدهار الحركة النسائية في الجزء الأولى من القرن العشرين، وكان لتضحيات النسويات الأوائل الفضل في تهيئة التربة المناسبة لدخول النساء المجال العام في النصف الثاني من القرن العشرين.

في 1956 حصلـت النسـاء عـلى حقوقهـن السياسية، أي حقهـن في التصويت والترشـح للانتخابات، كمـا تـم التأكيـد عـلى حـق النساء في العمـل والتعليم، وبدأت مرحلـة جـديـدة مـن انخراط النساء في الحياة العامة. ولكـن، وللأسف الشديد، تزامنـت هـذه التطورات مع أمرين كان لهمـا آثـار غاية في السـوء ليـس فـقـط عـلى النساء ولكـن عـلى الوطـن كلـه. ففي الوقت الذي حصلت فيه النساء على حقوقهن في المجال العام تم الإبقاء على قوانين الأحوال الشخصية كمـا هـي، وظلت النساء أسيرات قوانين تعزز من خضوع النساء لسلطة الزوج أو السلطة الأبوية بشكل عام. بعبارة أخـرى حصلت النساء على حريتهن في المجال العام، وتقلدن أعلى الوظائف العامة، ولكن ظللن حبيسات المجال الخاص. ومن أشهر المواقف الدالة على هذه المفارقة موقف وزيرة في الحكومة المصرية في عـصـر مـا بعـد ثـورة الضباط الأحرار حـيـن منـعـت مـن مغادرة البلاد في مهمـة رسمية لأن زوجهـا وضـع اسـمـها عـلى قوائم الممنوعين مـن السفر، وكان، ومازال، المنـع مـن السـفـر مـن سلطات الـزوج على زوجته وفقًا لقوانين الأحوال الشخصية المصرية.

أما الأمر الثاني الذي شكل حـجـر عـثرة في طريق الحركة النسائية المصرية، وكل الحركات الاجتماعيـة الأخـرى، كان قـرار تأميـم العمـل الأهـلي والسياسي في أعقاب ثـورة الضبـاط الأحرار منتصف القرن العشرين. تم تنفيذ قرار التأميـم مـن خـلال تعديل القوانين المنظمة للأوقاف والعمل الأهـلي بشكل عام. فمن الجدير بالذكر أن نظام الأوقاف الخيرية كان من أهـم دعائم العمل الأهلي في مصر؛ حيث وفر البيئة المواتية للمواطنين للتبرع بأموالهم أو وقفهـا لدعم مؤسسات تعليمية وصحية وثقافية وحقوقية، وذلك تسبب الضمانات المستقرة في نظام الأوقاف التي شكلت حماية للممتلكات والأمـوال الموقوفة من سلطة الحكام ومحاولاتهم المستمرة بسط نفوذهم على ثروات البلاد. في يناير 1953 أصدر مجلس قيادة الثـورة قـرارًا بحـل الأحزاب السياسية تمهيدًا لعصر الحزب الواحـد. في ١٩٥٣ صـدر قانـون ٥٤٧ قصر نظارة الوقـف عـلى الدولة والواقـف ثـم جـاء قانـون 30 لسنة ١٩٥٧ ليسمح لوزير الأوقاف بتغيير شروط إدارة الوقـف دون التقيد بشرط الواقف3، ومـن ثـم تـم تقنين سلطة الدولة على الأوقاف. وفي 1956 أصـدر مجلس قيادة الثـورة قـرار ٣٨٤ ترتب عليه تعظيم دور الجهة الإدارية في التحكم في مؤسسات العمل الأهـلي، بالإضافة إلى النص على اعتبار مخالفات الجمعيات لأحكام القانون مخالفات جنائية يترتب عليها عقوبات سالبة للحريات. وفي ١٩٦٤ قامت الدولة بالاستيلاء على المؤسسات العلاجية والتعليمية التي أنشأتها الجمعيات الخيرية، وتم تأميم الأوقاف الخيرية ووضعها تحت وصاية وزارة الأوقاف، وصدر قانون رقم ۳۲ لسنة ١٩٦٤ لتنظيم عمل الجمعيات والمؤسسات الخاصة؛ حيث أحكم سيطرة الدولة تمامًـا عـلى مـقـدرات القطاع الأهـلي. ولما كانت الأوقاف ومبـدأ احـترام شروط الواقـف مـن أهـم السـبـل الـتـي لجـأ إليها المواطنون لحماية أموالهـم ومشروعاتهـم مـن سـلطة الحاكم، وبالنظر إلى ازدهار المؤسسات والجمعيات الأهلية في الفترة ما بين ۱۹۲۳ وحتى ١٩٥٢، ترتب على هذه القوانين انحسار فاعلية العمـل الأهـلي واستقلاله.

ولنـا في تاريخ الاتحاد النسائي المصري مثـال جـيـد لمسار العمـل الأهـلي النسوي في مصر. ثم تأسيس الاتحـاد سنة ١٩٢٣ قبل موعد انعقاد المؤتمر العالمي للنساء في رومـا، وذلـك بعـد أن غضبـت عضـوات لجنة الوفد المركزية للمـرأة مـن تجاهـل سـعد زغلول لمطالبهم في دستور ١٩٢٣ وعدم دعوتهم لحضور افتتاح البرلمان، أدركـت هـدي شعراوي حينئذ أهمية وجـود كيان نسوي مستقل يعبر عن قضايا النساء دون اعتبارات حزبية ضيقـة. وبالفعـل، كان للاتحـاد النسائي المصري دور غاية في الأهمية في مرحلة التحول الليبرالي في مصر حـتى ١٩٥٢.

وفي سنة 1966، وبقـرار مـن جمـال عبد الناصر، تم تغيير اسم الاتحاد النسائي المصري إلى جمعيـة هـدى شعراوي، وهـو اسـم دال على تغيير وظيفـة الاتحـاد ومهامه مـن كيـان يمارس العمـل الاجتماعي والخدمي والسياسي إلى كيان خدمـي ينحصر دوره في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية فحسب. لم يتحمل النظام الجديـد وجـود حركات اجتماعية مستقلة عن التنظيمات التي كانت ترعاها الدولة الناصرية في جميع المجالات، بمـا فيهـا مجـال حـقـوق النساء. بالتدريج، تـوارت أسماء شخصيات نسائية رائـدة عـن المشهد السياسي، فوضعـت درية شفيق تحت الحراسة الجبرية في منزلهـا ومنـع ذكـر اسـمها في وسائل الإعلام بسبب معارضتها لسياسات جمال عبد الناصر أرغمت سیزا نبرواي على الاستقالة من الاتحاد النسائي بعد خلافات كثيرة مع مجلس الإدارة الجديد واتهامها بالشيوعية. دخلـت إنجـي أفلاطـون السجن سنة 1959 حيـث بقيـت حـتى سنة 1963. كما سجنت زينب الغزالي أيضًـا سـنة ١96٤.

أمـا حـواء إدريس، فعانت هي أيضًا من التغيير الذي طرأ على العمل الأهلي في مصر بعـد ١٩٥٢. فبعد أن كرست حياتها للعمل الخيري الخدمي والعمل السياسي في تمثيل الاتحاد النسائي المصري في المحافل الدولية والعربية، انحسر دورها في الإشراف على حضانة الأطفال في جمعيـة هـدى شعراوي، وهي مهمة تفانت في أدائها. عاصرت حـواء إدريس التطورات التي حلت بالحركة النسائية المصرية بعـد ١٩٥٢ ولكنهـا لـم تشـارك فيهـا ولا تذكرهـا في مذكراتهـا، بـل مـن الملفـت والمثير للانتباه امتناعهـا عـن التعليـق أو الإشارة إلى أية تفاصيل تتعلـق بثـورة الضباط الأحرار ومـآل وضـع النساء في أعقابهـا. هـذا الصمت المدوي لا يتماشى مع شخصية الفتاة التي تتعرف عليها في دفـوف هـذا الكتاب، فتاة تتسم بالصراحة وتتمتع بالآراء القوية والصادمة في بعض الأحيان، فتاة لا تتورع عن التعبير عن رأيهـا بـدون خوف أو تـردد في أي مكان وأمام أي شخص. أنه صمت بليغ ومعبر.

وكمـا ذكـرت، تم تأميم العمل الأهلي في مصر في أعقاب ثورة الضباط الأحرار وتوارت عن الأنظار النسـويات المستقلات، وأفسح المجـال أمـام مـا تعـارف عـلى تسميته بنسوية الدولة، أو العمل النسوي الذي ترعاه الدولة وتتحكم في قواعده وفي حدود ما هو مسموح ومـا هـو غير مسموح. نجحت نسوية الدولة في تحقيق بعض المكاسب للنساء وبخاصة في مجالات التعليم والعمل وفتح المجال لمشاركة النساء في السياسة في 1956، وهي مكاسب مهمة ولا يجوز التقليـل مـن شـأنها، ولكـن يظـل واقـع أن تأميـم العمـل الأهـلي ودولـة الحـزب الواحـد وإسكات المعارضة، والتهميـش الـذي طـال الأصـوات المختلفة ترتب عليه انخفـاض سقف الطمـوح وإبطاء حركة المجتمع نحـو تحقيق العدالة والمساواة لكل المواطنين.

يتضح لنا من قراءتنا لمذكرات حـواء إدريس قوة شخصيتها وتمسكها بالمبادئ الإنسانية وتفانيهـا في عملهـا وفي الدفاع عن القضايا التي تتبناهـا، الأمـر الـذي أكسبها احـترام وتقدير كثير ممن تعاملوا معهـا أو التقوهـا. ففـي سـوريا أراد الرئيس شكري القوتلي إهداءها نيشان الاستحقاق من الدرجة الأولى، كمـا حـرص على استضافتها وتقديمها لعائلته. وفي الهند، لفتـت حـواء انتباه نهرو وأعجـب بشجاعتها فخصهـا بكرمه ويسر لـهـا لـقـاء غـانـدي. كانـت حـواء مقدامـة وشجاعة في قول الحق والتعبير عن آرائهـا دون هـوادة ودون حسابات، الأمر الذي استثار أو أزعج البعض، ولكنـه أثار إعجاب الكثيرين بسبب صدقهـا وعـدم تكلفهـا الواضح في هيئتها وسلوكها، وأيضًا لأنهـا، ومع صراحتها المتجاوزة بعض الشيء أحيانًا، كانت زاهـدة كل الزهد في مظاهر الاحتفاء فرفضت مثلاً نيشان الاستحقاق السوري تحسبًا للمشاكل التي قد تنجم عن قبوله، وفضلت التركيز على استكمال مهمتهـا بهـدوء ودون أضـواء

تزخـر مذكرات حـواء بروايات كثيرة تنير لنـا مناطق غير معروفة في الذاكرة الوطنية. نعتز بإسهاماتها ونحترم دورهـا ونتذكرهـا نموذجًا ملهمًا.

أنا والشرق

حواء إدريس

بسم الله الرحمن الرحيم

إهداء

إلى أمي

إليـك يـا أمي أهـدي هـذه الصفحات، وكم كنت أريد أن تقرئيهـا لـولا أن افتقدتـك وقـت أن كنت في حاجة إلى حنانك. إنهـا قصـة حيـاتي، أو بعضـًا مـن سـطور حيـاتي، إنهـا قصـة طريـق شـاق مـليء بالشـوك والعوائق. إنهـا خلاصة كفاح ونضال مـن أجـل أسـمى رسالة آمنت بها، هي خدمة وطـي وخدمة الإنسانية. اخترت السير في هذا الطريق ومضيت، وما زلت برغم الصعوبات والمتاعب.

كم افتقدت أمومتك، ترعاني وتحنو عليّ، وبخاصة في الفترات الصعبة الـتي مـرت مـن حياتي. ضـنَّ القـدر عـليَّ بذلك، فحرمني من نعمة رعايتـك وتوجيهاتك، وسلبني أنبـل عاطفة في الوجـود هـي حـب الأم.

كم هي قاسية تلك الأقـدار يـا أمي، وكم هو مؤلم شعور طفـل يشب محرومًـا مـن أمه، وكـم لـهـا مـن فـضـل، بـل أفضال، فيمنح هذه الحياة. وفي اعتقادي أن الأم صاحبة الرسالة التالية للنبوة.

أمي

كنت في الرابعـة مـن عمـري عندما فقدتك، فشببت حزينة دونك، وملأت فـراغ عمـري بالاندماج في محيط يعمـل أفـراده جميعهم في خدمة الوطن والمجتمع، وتطوعـت بـكل طاقتي في هذا الميدان، وشغلت به نفسي، إلى جانب تزودي بالعلم والدراسة والمعرفة. أتاحت لي الظروف، بحكم عملي هـذاء الاشتراك في العديد من المؤتمرات الدولية داخل أرض الوطن وخارجه، ممثلـة بنـات جنسي، مناضلة في سبيل إعلاء شأن وطني، مؤمنـة بإمكانياته في خدمة القضايا القومية والإنسانية الكبرى، مؤمنة برسالتي. ومن خلال تلك المجهودات التي قمت بها حصلت، لصالح وطني ورسالتي الإنسانية، على الكثير من التأييد والنصر. كما خصصت جـزءًا كبيرًا من نشاطي لرعاية الطفولة والأمومة.

تلك خلاصة جهودي المتواضعة. أقدمها إليك بكل خشوع يا أمي.

ابنتك

حواء إدريس

كثيرًا ما ألحّت عليّ صديقاتي وزميلاتي ومعارفي أن أكتب قصة حياتي، أو قصـة الحركة النسائية والوطنيـة في الشرق العـربي، ومـا بذلتـه المـرأة في سبيل ذلـك مـن جهـود وتضحيات، قائلات إن لـديّ مـواد ذات إثارة واهتمام، وإنه لا يجوز لي أن أمنـع هـذه المـواد عـن النـشر، مغلقة عليهـا مكتبـتي أو ذاكرتي. وكنت دائمًـا أتـردد في الإقدام على مثـل هـذا العمل الضخم، خوفًا ألا أكون في مستوى الموضوع الـذي أعالجه، أو خشية ألا أوفيـه حـقـه لـعـدة أسباب:

أولاً – يجب معالجة الموضوع بعيدًا عن الخيال كما يحدث في أغلب الأحيان.

ثانيًا – يجب أن التزم حدود الحقيقة والصراحة، وهما أمران قد لا يرضى الكثيرون عنهما.

ثالثًا – يجب أن أزن كل كلمة، وأتخير كل معنى، بمنتهى الدقة والحساسية لعلاقتهما الوثيقة بمسائل وطنية عامة.

رابعًا – يجب أن احتفظ بمجريات الأحداث كما وقعت.

كنت أعلم أن هـذا لـم يكـن بالسهل الميسور، فضلاً عن أنه كان يتعين علىّ أن أحـدد نقطة تتجمع حولهـا أهـم الأحداث بشكل طبيعي حـتى يكون الموضوع واضحـًا تمـام الوضـوح. وكنـت أتساءل، هـل أستطيع أن أتحـدث عـن نفـسي، وأروي تاريـخ حـيـاتي هكذا بكل بساطة؟ وكان يبدو لي أن الكلام عن شخصي، أنا الإنسانة التي ابتعدت عن زحمة الحياة وصخبها، وتعيش في مكان ما على مسرح هذه الدنيا الواسعة، بما تضمه من ملايين البشر، أمـرًا ليس بالسهل الميسور. كنت أعتقد أن كتابًا يبحث في وقائع نسائية لا يمكن أن يسترعي الانتباه أو يلفت الأنظار، ولكـن بوفاة زعيمة الحركة القومية والنهضة النسائية في الشرق العربي، السيدة هدى شعراوي، طويت صفحـة مـن أهـم صفحات تاريخها الحديث.

لذلك رأيـت أنـه مـن واجبي أن أبذل بعض الجهد واسترجع الماضي القريب، بوقائعه وأحداثه، وأتأمـل ذلـك الطريـق الـشـاق الـذي سلكت بعضًـا منـه مـع الـرائـدة الراحلة السيدة هـدى شعراوي، لعـلي أستطيع أن أضع النقـط فـوق الـحـروف، وأسـجـل قسـمًا مـن تلـك الجهـود الـتي قمنـا بـهـا في سبيل خدمة وطننـا وبنات جنسنا، قبل أن تطويهـا الأيام ويلفهـا النسيان فتصبح كالعـدم.

كما شجعني على الكتابة، ما لمسته من خيـال يغلب على ما يكتب عن تاريخ الحركة النسائية في مصر، فضلاً عن أن الفراغ الذي خلفتـه زعيمة النهضة النسائية والقومية في الشرق العربي مـا زال شاغرًا حـتى يومنا هذا.

وقد اخترت لكتابي عنوانًـا هـو «أنا والشرق»، بدلاً عن أي عنـوان يـدل على مشاركتي في النشاط النسائي في العالم العربي. وقـد يقـال إن ذلك العنـوان لا يخلـو مـن المبالغة ولكني أعتقد أن القارئ لـن يـجـد مبالغة أو مغالاة عنـد مطالعتـه سـطور هذا الكتاب.

ليصحبني إذن القارئ بقلب مطمئن ليكتشف معي كل الأحداث المهمة التي سقطت بين سطور كتاب التاريخ، وليسامحني بعـد ذلك إذ لـم يحـد مـا كان يأمله. ومهمـا يكـن مـن أمر، فإن الحوادث التي أسردهـا، والوقائع التي أتحدث عنها، عشت بعضها بنفسي والبعض الآخر استخلصته من كتابات وأوراق الزعيمة الراحلة السيدة هدى شعراوي. حقًا، في حيـاة النـاس مـثـل وأمثلـة، قـد ينتفع بهـا الآخـرون، ومـن أجـل ذلـك يهتـم المؤرخـون بتدويـن التاريـخ.

هذه قصة حياتي دون رتوش. إنسانة فتحت عينيهـا عـلى محيـط يعمـل كلـه مـن أجـل الوطـن والبيئة والمجتمع، فدخلـت مـع الجميـع زحمـة المـعـارك، وشاركت بفكرهـا وإيمانها، وكافحت مع البطلات المكافحات بكل إمكانياتهـا مـن طفولتهـا حـتى يومنا هذا.

الطباع والحظ همـا القـدر الـذي يقـود خطوات الإنسان عبر سِنيّ عمره، ويفرض عليه طريقه في الحياة. وبالتأكيد لا يستطيع أحـد منّـا أن يختار نصيبـه ودوره على مسرح هذه الدنيـا، بـل الأقـدار هي التي تسيرنا وترسم لنـا خطانا، منذ اللحظة التي تتفتح فيهـا أعيننا على هذه الدنيا إلى اللحظة التي تودع فيها الحياة. والأقـدار كعادتها تلعب دورًا كبيرًا في حياة كل فرد من أفراد أسرتي. نزحت تلك الأسرة ذات الأصل القوقـازي إلى مصر مـع مـن نـزح مـن الأسر القوقازية بعـد الحـروب الطويلة التي خاض فيها القوقازيـون معارك طاحنـة ضـد الـروس، تلك المعارك التي انتهت بمعركة القرم المشهورة (سنة ۱۸۷۷م)، استشهد فيهـا جـدي لأبي، وخسر القوقازيـون الحرب وانتصر الروس.

وليسمح لي القارئ أن أقـف هنـا لحظـات، أتـرك قـلـم ابنـة عمـتي المرحومة السيدة هدى شعراوي أن يحدثنـا عـن جدها لأمهـا وأسرته، وذلك نقلاً عن مذكراتهـا الـتي لـم تنشر بعـدْ، قالت: “لم أجرؤ يومًا من الأيام على سؤال والـدتي عـن سبب مجيئها إلى مصر، إذ كانت – رحمها اللهزاهـدة في الكلام عن نفسها، قليلة الشكوى والجهر بآلامها، تتحكم في عواطفهـا، وتخفي في قرارة نفسها كل مـا يؤلمهـا، ولمـا كنـت تواقـة لمعرفة المزيد عنهـا وعـن أسرتهـاء سألت يومًـا خـالي يوسف عن سبب هجـرة أسرته من القوقاز، وكيف تزوجـت والـدي مـن والـدي، فحكى لي خالي يوسـف أنه عندما شبت الحرب بين القوقاز وروسيا القيصرية، في أواخر القرن التاسع عشر دافع الشراكسة عن بلادهـم بكل شجاعة وبسالة. وكان والده، وهـو جـدي لأمي، قائدًا مشهورًا في قبيلة شابسغوشهرته حاجی مراد، وبحكم مركزه زعيمًا لقبيلتـه قـاد الجيش الذي كان يحارب الروس في جبهة القـرم. وأثناء المعارك الطاحنة، غير المتكافئة في العدد والعتاد، انهزم جيشه وأُسر مـع عـدد مـن رجـالـه، فاضطر الشيخ شـامل، القائد الداغستاني، إلى الاستسلام للـروس، وأثنـاء ذلـك تطوعـت جماعـة مـن أعـوان جـدي لتخليصـه مـن الأسر، فارتـدوا ملابس جنـود الـروس واندسوا بينهم، وكان ذلك ميسورًا لإتقانهم جميعًا اللغة الروسية. وقد اشتركت في هذه المعارك مـع مـن اشـترك، ابنـة أخـت جـدي اسمها حورية، كانت مع جمالهـا باسلة وفارسة معروفة. ولـم تتردد حورية في الاندماج مع الرجال الذين تطوعوا لتخليص خالهـا مـن الأسر، وبعـد مشقة وصعاب ومغامرات خطيرة تمكنـوا مـن تخليص جـدي بمـا عـدوه لذلـك مـن عـدة. ولكـن فـطـن الـروس في اللحظات الأخيرة إلى هروب جـدي وزملائه، فتعقبوهم وقاتلوهم. ولمـا كانـوا قليـلي العـدد والعـدة فـقـد مات وجـرح معظمهم، وظـل جـدي حاجـي مـراد، الـذي لقبـه الـروس بالشيطان الأبيض، يقاوم ويحارب متعقبيه، بالرغم من جروحه البالغة، مـع مـن بقـي مـن الرجـال محتمين خلـف الصخـور والتلال في انتظـار نجـدة الشراكسـة الـتي كانـت حـوريـة قـد أسرعت إلى استدعائها. ولما أقبلت النجـدة كان جـدي في الرمق الأخير، فحملـه منقذوه إلى مسقط رأسه، إلا أنـه قـضى نحبـه خـلال الطريق متأثرًا بجراحه، فدفن إلى جانب والده الـذي كان قائدًا قبله، وخسر القوقازيون المعركـة ضـد الـروس.

بعد هذه الحادثة المؤلمـة لـم تشـأ جـدتي البقاء في القوقاز خـوفـًا مـن بـطـش الـروس وانتقامهـم مـن أولادها. ولما كان شقيقها يوسف باشا صبري وعم أولادهـا مـوسى باشـا، قد استوطنا مـصـر منـذ الصغـر فـقـد هـاجـرت إليهمـا برفقـة أولادهـا مـع مـن هـاجـر لتكون بالقرب منهما هي وأولادها الصغار، وكانوا خمسة، ثلاثة ذكور وبنتين، وقال لي خالي يوسف إنه بلغ من العمر في ذلك الوقت ستة عشر عامًا، وكان مسؤولاً عن أمـه وأخوته الصغـار. وقصَّ عـليَّ مـا قـاسـوه جميعًـا طـوال هـذه الهجـرة مـن ألـم الحرمـان ومرارة العيش وقسـوة الطبيعة التي لا ترحـم في تلك المساحات الشاسعة التي كانـوا يعبرونهـا، وأثناء رحلـة النفـي هـذه تـوفي يعقـوب أصغـر الذكـور لإصابته بالتهاب رئوي حـاد مـن شـدة البرد، كما سرق الروس أخته الرضيع من مرضعتها، لذلك تقرر إرسال الأخـت الباقيـة – والـدتي – إلى مصر لتقيـم مـع خالهـا الضابط المصري يوسـف باشـا صبري وذلك في أسرع وقت ممكن وبرفقـة أحـد أصدقاء العائلة الذي كان قاصـدًا مـصر، وأعطوهـا بعـض الجواهـر وخطابًا لخالها خشية أن تسرق هي الأخرى فيكون مصيرهـا القتـل مثـل أختها الرضيع، وذهبـت جـدتي إلى الأستانة أولاً مع ابنيها، همـا خـالي يوسف وخالي أحمـد – والـد حـواء وحوريـة – نظرًا لأن الحكومة التركية كانت قـد قـررت البحث في أمـر المهاجريـن مـن الأسر القوقازية وتعويضهـم عـن بعـض أملاكهـم وأموالهـم، الأمـر الـذي نفـذ بعـد فترة طويلة مما استلزم بقاء الأسرة في الأستانة خلال تلك المدة حتى تحصل على حقوقها6. ولما وصل صديق العائلة بوالدتي إلى مصر، وجـد خالها يوسف باشا صبري في حملة حربية بالسودان، فتوجه إلى زوجته، وهـي إحـدى معتوقـات إسماعيل باشا، وكانت على جانب من الشذوذ، فرفضت قبولها قائلة إنـه ليـس لزوجها أقارب. وكان عمـر والـدتي في ذلك الوقت تسع سنوات، ولما كان صديـق عائلـة جـدي مـن أقـارب راغـب بـك، فقد أخدهـا إلى منزل قريبـه هـذا وتركهـا عنـده في رعايتـه حـتى يعـود خالهـا ويطلبهـا، لكن يبدو أن زوجتـه أخـفـت عنـه خـبر مـجـيء والـدتي فبقيت في رعايـة ابنـة راغـب بـك الـتي أحبتهـا كثيرًا واتخـذت منهـا ابنـة لـهـا واعتنـت بأمرهـا. ولمـا كان والـدي أحـد أصدقاء عائلة راغـب بـك قـد علـم بإقامـة والـدتي عندهـم، لذلك فقد تقدم بطلب يدها من ابنة راغـب بـك، بواسطة إحـدى الخاطبات المعروفات، وكانت والـدتي قـد أصبحـت شـابة على جانب عظيـم مـن الجمـال.

وذات يوم بينما كانت تساعد والـدي عـلى ارتداء ملابسه، وهـي تـقـف بـجـوار النافذة المطلة على الحديقة دمعت عيناهـا فـجـأة، فسألها والـدي عـن سبب بكائها، فقالت له إنها لمحـت بـين الزائرين الوافدين على السلاملك شـابًا يشبه أخيهـا يوسف، فـلـم تتمالك نفسها، فأرسـل والـدي على الفور إلى منزل عـلى بـك راغـب يستفسر عن أهلهـا، ومـن حسـن الصـدف كان قريبهـم الـذي جـاء بوالـدتي موجـودًا في مصر فدعاه لمقابلته وطلب منه إحضار عائلـة والـدتي من تركيا، فأحضرهـا.

كان لهذا اللقاء فرحـة عظيمة وتأثيرًا كبيرًا في حياة والدتي، بعد ذلك دعـوا خالهـا يوسف باشا صبري والـد منيرة هانم حرم المهندس المرحوم على باشا فهمي، وعمها موسى باشـا والـد الفريق محمد وفقي باشا، وإخوتـه عـلى بـك رضا، وأحمـد بـك فـخـر الدين، للتعارف، فاتسعت بذلك دائـرة أفراد أسرة والـدتي.

واستمرت تلك الصفحـات مـن مذكرات ابنـة عمـتي السيدة هدى شعراوي تحـكى تلـك القصة، فتقول: ومن الزائرين الذين كنا ننتظرهـم بلهفة وشـوق جـدتي وأخـوالي، الذين كانـوا يأتـون مـن تركيـا كل عـام أو عامين لزيارتنا، فيغمرونا بهداياهم الكثيرة المختلفة مثل: البسطرمة، والسجق، والجبنة الشركسية، والجـوز، والكستناء، والفواكه المجففة، وكانوا يحضرون لنـا كميات وفيرة مـن هـذه الأصناف الفاخرة النادرة، التي كانت تزيد عن حاجتنا، فنهـدى الكثير منها إلى جيراننا ومعارفنا، فكان قدومهم يملؤنا فرحًا وسرورًا. كانت جدتي بخـلاف والـدتي قصيرة القامة متوسطة القـد، لا هي بدينة ولا نحيفة، زرقاء العينين، ناصعة البياض، ترتدي الثياب البيضاء، وتضع على رأسها طرحة بيضاء تتخللها ضفيرتان من شعرها الأبيض، تكادان لفرط طولهما تعادلان جسمها طـولاً، وكانت تبـدو في هذا البياض الشامل كالقديسة، سيما والسماحة تشيع مـن محياهـا وتملؤهـا إشراقًا وطيبة. أحببـت جـدتي كثيرًا، وإن كنـت لـم أستطع التفاهم معهـا إلا بالإشارة لجهـل كلتينـا لغـة الأخـرى، ولكـن هـذا مـا كان يمنعنـا مـن تبادل العواطـف، إذ كانـت تدللـي ببعض الكلمات والأغـاني الشركسية، ما زلت أحفـظ الكثير منهـا حـتى الآن، وكان خـالي يوسف كثير الشبه بوالدتي في سماحة وجهـه ودماثة خلقه، ذكيًا نبيهًا ميالاً إلى المزاح، أمـا خـالي الصغير، والـد حـواء وحوريـة، فـكان كثير الشبه بوالدتي في رشاقته وجمـال قسمات وجهـه، طويل القامة، نحيف الجسم، رقيقًا في حركاته ومعاملاته، وكان يحبنـا حبـًا مفرطًـا، ويمضى معظم أوقاته في السمر معنـا، إذ كان لا يغادر المنزل إلا نادرًا.

كانـت جـدتي وأخـوالي يمضـون معنـا فـصـل الشـتاء، حتى إذا أقبـل الصيـف وبـدأ الحـر، كانـت جـدتي تتأثـر بـه، فتلتهـب أجفانهـا، وتدمـع عيناهـا وتحتقنـان، ويحمـر وجههـا فتطلب العـودة إلى تركيا. ولشدة ما كان يؤلمنـا هـذا الفـراق، وبعـد سفرهم، كان خالي أحمـد يمكث معنـا بعـض الوقت لحبـه الشـديد تعلم اللغة العربية والتبحر فيها وفي علـوم الدين، وكان يتتلمذ معنا على مدرسنا.

ولما توفيت جدتي، وكان خالي يوسـف قـد تـزوج، جـاء برفقة زوجتـه بـدلاً مـن أمـه، قلـت له يومًـا، لمـاذا لا تستقر هنـا مـعنـا، بـدلاً من بقائه في الأستانة، ولـم يبـق مـا يضطـره بعـد وفـاة جـدتي إلى البقاء فيهـا، فابتسـم خـالي الكبير وقال لي إن المرحـوم والـدي عرض عليـه هـذا العـرض عندمـا زرناه لأول مـرة فـرفـض، لأن في قبولـه هـدمًـا لبيتنـا في تركيا، ومحـوًا لاسم عائلتنا، فسألته إذا ما كانت الأستانة التي يقيم بها الآن هي بلاد آبائه وأجداده؟، فابتسم مرة ثانية وهز رأسه قائلاً إنهـم قـرروا البقاء في تركيا استبقاء لاسمهم ، كمـا رفـض استبقاء أخيـه أيضًا هنا.

وذات يوم ألحت والدتي على خالي أحمـد الـزواج من مصر ليبقى إلى جوارها، وخطبت له إحدى فتيات البيوت العريقة، وقدمت الشبكة فعلاً، وفرحنا جميعا بذلك، وعندما تحدد موعـد عـقـد القـران اشترط أهـل العـروس ألا تفارقهـم ابنتهم وتسافر مع خـالي فرفض خـالي قبـول هذا الشرط قائلاً إن الزوجة لابـد لهـا أن تتبع زوجها في تنقلاته، ولما أصر أهـل العـروس عـلى عـدم سـفرها معه فسخ الخطبة وسافر إلى تركيا، وتزوج هنـاك وأنجب ابنتيـه حـواء وحورية.

وفي يوم دعي خالي الاثنين إلى حـضـور فـرح في قرية مجـاورة لقريتهم ، حيث كانا يمضيان بعض الوقت للصيد، لأن خـالي أحمـد كان مـن هـواتـه. قـرر خـالي يوسف أن يسبق أخيه إلى الفـرح لأنه شاهد العروس وطلـب مـن أخيـه أن يبقـى حـتى ينصرف ضيوفه، مؤكـدًا عليه أن يلحـق بـه عـلى ظهـر جـواده السريع بعـد انصرافهم. ولما كان هذا الجـواد شرسًا بعض الشيء فقد جمح به عندما ضربه بالسياط ليسرع ويوصله في الوقت المناسب ولكـن بـدل أن يسرع الجـواد صـار يقفز قفـزًا، تارة بمقدمتـه وتـارة بمؤخرته، لكي يسقط خـالي مـن فـوق ظهـره، ولـم يطـل بـه الوقـت فسقط خـالي المسكين واصطدم بجسم صلـب وتـوفي في الحـال تـاركًا ابنتيه الصغيرتين حـواء وحورية، كبراهمـا لـم تبلغ الثالثة من عمرها والأخـرى مـا زالت رضيعة.

هذه صفحات من مذكرات المرحومة هدى شعراوي التي لم تنشر بعد.

وليسمح لي القارئ أن أعـود بـه إلى أسرتي لأقـدم إليـه نفـسي، لأنه لا يعرفـني إلا مـن خلال نشاطي الاجتماعي، وقـد يكـون سـمـع عـني شـيئًا حينمـا كنـت أكتب في الصحف، إذ شغلت الرأي العـام زمـًـا طـويـلاً بأحاديثي ومقالاتي في شتى المواضيـع، ابتداًء مـن السياسة والخدمات الاجتماعية إلى موضوعات الأزياء والموضة والايتيكيـت إلى آخـره، وكنـت أشعر في تلك الفترة أن هناك سؤالاً حائرًا يدور في أذهـان مـن يقرأون مقـالاتي وأحاديثي. مـن تـكـون حـواء إدريس؟ لذلك فإنني أنتهز هذه الفرصة لأرضي فضولهـم، إذ يعـز عـليَّ أن أتـرك هـذا التساؤل دون جـواب.

تنحدر أسرتي من بلاد القوقاز، تحديدًا من قبيلة (شابسغ)، وكان جـدي لأمي شارلوقة جو آتيـجالمعروف باسم حاجـي مـرادأمير تلك القبيلة وحاكمها. وبحكـم مـركـزه هذا قـاد عـدة معارك ضد الروس في الحروب الطويلة، التي خاضت غمارها الشراكسة في أواخر القرن التاسع عشر7، وقبيلة شابسغ التي أتحدث عنها هي من أقدم القبائل على مر العصور، ذلك إنها كانت موجودة في زمن الحيثيين، هؤلاء هم أجـدادي، أول مـن استوطن جهـات نهر كوبان وبحر آزوف، ثم توسعوا وانتشروا في باقي الجهات، وكان ملحوظًا في ذلك الوقـت أن نظام القبائل كان سائدًا في القوقاز، ومازال كذلـك حـتى يومنا هـذا، كـتـب عنـه المؤرخون كثيرًا.

وبلاد الشراكسة بعامـة تـديـن بقانـون واحـد، يستمد قواعـده مـن العـادات والتقاليـد القومية ذات المكانة والقدسية، تدين بالولاء لها الطبقات العليا والدنيا من الشعب، والجميع أمامهـا سـواء.

تتميز الحياة الاجتماعيـة عنـد هـؤلاء القـوم بسلسلة من المراسم، فالـزواج لـه قيود وشروط، والحياة الزوجية لها نظمها وقواعدها، والسيدات لهـن احترامهن واعتبارهـن في نظر الرجال، ولهـن مكانتهن العليا في المجتمع، لهـن تقاليد وعادات في تربية أطفالهـن. ومن أمثلة ذلك، إنه عندما يولد لأحـد الأمـراء أو الأعيـان مـولـود يعهـد بأمـر رضاعتـه ورعايته لإحدى المرضعات التي تكون من المقربات للأسرة، فتتولى تربيته والعناية به في بيتها الخاص حتى يبلغ الثامنة أو العاشرة مـن عمـره، وعقب ذلـك يـعـود إلى منزل أبيـه في حفلة عظيمة، وتكرم المربية وتقدم لها الهدايا والعطايا.

وشعب القوقاز شعب ممتاز من جميع الوجوه، وهـو مـن الشعوب العريقة في القدم، شرع لنفسه نظامًا جعلـه يتـلاق جميع العلل الأخلاقيـة الـتي نرى فتكهـا بـبعـض الأمـم والشعوب، والمعـروف عـن ذلـك الشـعـب أنـه مـن السلالة الآرية المسماة بالجنـس القوقازي، كـتـب عنـه الكتاب والمؤرخـون أمثـال هيرودوت، المـؤرخ اليوناني العظيم وكذلـك سـترابون، بـل إننـا إذا صعدنا لأكـثر مـن ذلـك لرأينـا في نقـوش الفراعنـة ذكـرا

لبلاد القوقاز مما يدلل على أن الجنس القوقازي كان معاصرًا لأقدم العصور والأمم الغابرة، ولقـد كـتـب ابـن جـريـر الطبري، المؤرخ العربي الشهير، وأمثاله الكثير عن الشراكسة وتاريخهم المجيد، كما كتب الروس والإنجليز والفرنسيون والألمان العديد من الدراسات والأبحاث عنهم، ومن الثابت أن هؤلاء القـوم قـد حافظوا على قوميتهم وجنسيتهم، فلـم تختلط دماؤهـم بدمـاء أخـرى بالرغـم مـن تعـدد المغيريـن وتقلب الفاتحين على بلادهم، كافحوا وحاربوا المردة، وصدوا عن أنفسهم وديارهـم الأهـوال في سبيل البقاء.

مما لا شك فيه أنهم استولوا قبل المسيح بقـرون على جنوب القوقاز وآسيا الصغرى ونصف مجرى نهر دجلة والفرات وسوريا وفلسطين حتى حدود مصر الشرقية، ونشروا مدنيتهم بين شعوب آسيا الصغرى وآسيا القديمة، ولهـم في تلك البلاد آثـار تـدل على ما كان عليـه هـؤلاء القوم من مدنيـة ورفاهية وعـز وجـاه ازدان بها جبين التاريخ، وما زال علماء الآثار يعثرون حتى الآن على العديد من تراثهم.

يلفت النظـر أن حـكام هـؤلاء القـوم نشـأوا مـن أسر شركسية أصيلة، ولـم يحكمهـم أجنبي قـط. كان نظام حكمهم جاريًا على نظام حكم الأشراف، وطبقًا للتقاليد القومية المرعيـة مـن قديم الزمان، وكان هؤلاء الحكام يلتزمون بالحفاظ على هذه التقاليد وتنفيذها بدقة وعناية، وإلا فالعزل والتجريـد مصير مـن يخـرج عن هذا السبيل، وهـذا لم يحدث إلا فيمـا نـدر جدًا، وكان نظام الحكم وراثيًا، تقضى عاداتهم القوميـة بـأن يتولى الحكم أمير من العائلات النبيلة في القبيلة يشترط فيه أن يكون متصفًـا بصفات الفروسية، شجاعًا باسلاً إلى أبعد الحدود، متمسكًا بعاداتهم وتقاليدهم القومية، عاملاً على احترامهـا وتنفيذهـا بمنتهى الدقة والأمانة دون أن يلزمـه قـانـون، بـل هـي ذاتهـا القانون الذي يحكم به البلاد، وكانت البلاد مقسمة إلى دوائر، وعلى رأس كل منهـا أحـد النبلاء يصرف شـؤونها دون أي تدخـل مـن الحاكم، إلا في حالة خطأ أحدهم أو إخلاله بشـؤون دائرته، وفي هذه الحالـة يرفـع أمـره إلى الأمير الحاكـم الـذي ينظـر الشكوى بمساعده مجلس الأعيان.

أما الشعب القوقازي فكان ينقسم إلى خمس طبقات: عائلات الأمراء، ثم الأمـراء مـن الطبقة الأولى، فالأمراء من الطبقة الثانية، ثم الجمهور، ورجال الأمير. وكانـت لـكل مـن الأسر الكبيرة علامة أو شـارة مميزة خاصـة بهـا، تضعهـا عـلى أسلحتها وعتادهـا وخيلهـا وكل ما يتعلق بها.

من صفات ذلـك الشـعب البـارزة شـدة احترامـه لنسائه وشيوخه، إذ كان للمـرأة في المجتمع القوقازي مكانة أولى وفي المقدمـة دائمًـا، لا يجلـس الرجـل في حضرتهـا إلا إذا أذنت لـه سيدة كانت أم آنسة. والرجل القوقازي لا يعرف تعدد الزوجات أو الطلاق، بالرغم من أنهـم مسلمون ومتعصـبون في دينهـم، لأنـه أنـزل المـرأة مكانة مقدسة في نفسه، ومن أمثلة ذلك أنه إذا صـادف فارس سيدة تسير في طريقه كان لزامًا عليـه مهمـا علـت درجته وكبر مقامـه أن يترجـل ويسير بجانبها ساحبًا جـواده حـتى تأذن له في استئناف الركوب، وإذا وقعت المصادفة خـارج المدينة أو القرية تعين عليه أن يترجـل ويرافق السيدة حتى يوصلها في أمان إلى مدخل منزلها، حتى لو كانت تلك المرأة مـن الفلاحـات الكادحـات، وإذا كانت تحمـل حمـلاً أو طفـلاً فالمروءة تحتم عليـه أن يحملـه عنها، ومن مفاخرهـم والمشهود لهم حفاظهم على الشرف والكرامة وصيانة العرض وبلغـوا في هذا المضمار شأنًا عظيمًـا لـم يضارعهم فيهـا أحـد مـن الأمـم ، ولهم في ذلك قول مأثور (الأرواح رخيصة في سبيل الشرف والكرامة). والمشهور عنهم أيضًا الصـدق في القول والصراحـة المتناهية إلى أبعـد الحـدود، والكـرم الحاتمي المتناهي، ويضرب بهم المثل في الوفاء وإكرام الضيف، ومن تقاليدهم الراسخة أن المضيف مسؤول عن حياة ضيفه وشرفه طالما كان في ضيافته.

والمرأة الشركسية سيدة بيت بمعنى الكلمة، وسيدة مجتمع ممتازة لا تجاريهـا في ذلك صنوف النساء. أما الفتاة الشركسية فلها مكانة عاليـة جـدًا، لأن تقاليد البيئة تفرض على الرجـل أن يكون في خدمتها دائمًا، باذلاً روحـه حفاظًا عليهـا معتبرًا ذلك شرفًا كبيرًا له ومـن عـادة الفتيات الشراكسة ألا يحتجبن عـن الـرجـال مـا دمـن غير متزوجات يختلطـن بهم في المجالس والحفلات الراقصة ويشاركنهم في كثير من الأمور، كل ذلك في نطاق الحشمة والوقار، ترفرف عليهم جميعًا العفـة والكمال، ولـم يسمع أبدًا أن قوقازيًا ضرب امرأته أو سبها أو حتى رفع صوته في مجلسها.

أمـا الشيوخ مـن القوقازيين فهـم موضع احترام الجميع، يلبـون طلباتهم ويحبذون أفكارهم ويلتزمـون آراءهـم ، وإذا مـا دخـل شـيـخ مُـسـن عـلى أحـد مـن العظمـاء، ولـو كان من الطبقة الدنيـا، وقـف لـه العظيم احترامًـا لـه ولا يجلـس إلا إذا أذن لـه الشـيخ بالجلوس، ومـن شـدة احترام القوقازيـون لكبرائهـم أنـه إذا ذكـر اسـم عظيـم أو رئيـس وكان غائبًا أو متوفيًـا وقـف الجميع إجـلالاً واحترامًـا لـه أو لذكـراه.

بفضل هذه العادات مجتمعة والتقاليد المشرفة ارتفعت منزلة القوقازيين بين الأمم، وكانـوا ولا يزالـون مـضرب الأمثال في بسالتهم وفروسيتهم وشرفهم، وكان لهذه الصفات أثر كبير في حفاظهـم عـلى استقلالهم أجيالاً متعاقبة، وشيدوا لهـم آثـارًا مـن الفـخـر والإعجـاب لـن تمحـه السـنون، وليس أدل على ذلك في تاريخنـا الحـديـث مـا شـاهده العالم أجمـع مـن مقاومتهم الباسلة في حربهـم مـع ألمانيا الهتلرية، إذ لولاهـم لما كسبت روسيا تلك الحرب ضد ألمانيا النازية.

هـذه نبذة مختصرة عـن الشـعب القوقازي الـذي يرجـع إليـه أصـل أسرتي، رأيـت أن أبدأ بها كتـابي لارتباط الإنسان دائمًا بأصلـه وأسلافه وعلاقة ذلك في تكوين شخصيته وانطباعاته وأخلاقه.

كنت أول مولود في أسرة انقرض معظم أفرادهـا نتيجـة الحـروب الطويلة التي خاضت معاركها، وكان والدي أحمـد إدريـس بـن شارلوقة جـو آتيجأصغـر إخوته الذين كتبت لهم الحياة بعد المحن والمصائب التي تعرضت لها الأسرة أثناء هجرتهـا مـن روسيا، وكانت شقيقتهم السيدة إقبال هانم قد تزوجت في مصر من الثري الكبير محمد باشا سلطان أحـد أعيان الصعيد، وأنجيـت منـه المرحومة السيدة هدى شعراوي، والمرحوم عمـر باشـا سـلطان، والشقيق الأكبر وهـو عمـي يوسف، كان متزوجًا أيضًا منذ سنين، ولكنـه لـم يـرزق بأطفال، الأمـر الـذي جعـل أهـلي يستقبلوني عنـد مـولـدي بحفاوة بالغة.

قصت علي خالتي شريفة زوجة عمي يوسف وهي تحدثني يومًـا عـن المتاعب والمآسي التي تعرضت لها أسرة جـدي أثنـاء فرارهـا مـن وجـه الـروس، قالت: “لقد كان مجيئـك إلى الدنيا حادثًا سعيدًا شمل الأسرة كلهـا، ومن مظاهـر سرورنـا أننا احتفلنـا يسـبوعك لمدة أسبوع كامل، وأقيمت الزينات والأفراح ووزعت الهدايا على الفقراء وأعددنا لك مهـدًا يكاد في جمالـه وروعتـه يعـادل مـهـد أولاد الملوك، زُيـن بأنـواع نادرة من الدانتيلا والنقوش الفنية، وجهـزت فـرشـه مـن التُــل والساتان الفاخـر وردي اللون، وكان الـزوار الذين يقبلون للتهنئة يدخلون غرفتـك لمشاهدة المهـد ومجموعـة جهـازك، وكان عمـك يوسـف مـن فرحتـه يحملـك فـوق وسادة ويذهـب بـك إلى السلاملك ليقدمك بنفسه إلى كبـار الـزوار، بعد أن تلبسـك مرضعتك أجمل الملابس، وهكذا أصبحت موضع اهتمام الجميـع مـن أهـل وأصدقـاء وأنـت في الأيام الأول مـن عمـرك“.

وتمضي زوجـة عمي تقـول: “وبعـد أحـد عـشر شهرًا جـاءت شقيقتك حورية، ولكنهـا لـم تحـظ بالحفاوة نفسها التي حظيـت أنـت بهـا، لأن الجميع كان يأمل أن يكون المولود الثـاني غلامًـا، أمـا عمـك يوسـف فـكان الأمـر عنـده سـيان، وتقبـل أختـك بـحـب وحنـان بالغين، إذ كان مـن رأيه أن البنات أفضل من البنين، لأنهـن زينة البيوت وبهجة الدنيا، وأنهـن الـلاتي يصنعـن الرجـال“.

انتهزت فرصة الحديث وسألت خالتي شريفـة عمـن تخـير لي اسمي، فضحكت وقالت: “يا ابنتي، إن اختيار اسمك كان مشكلة كبرى، إذ احتار كل مَّنا أمام الأسماء المقترحة وأيها يُختار ويكون موضع قبـول الجميع. قال البعض فلنطلق عليها اسم إقبال مثـل عمتها، أو إقبـال هـدى حيـث يجمع بين العمـة وابنـة العمـة، وتشـاوروا في العديـد مـن الأسماء الأخرى، ولكـن عمـك يوسـف لـم يـرتـض لـك أيًا منها، وقال إنه وجـد لـك اسـمًا نادرًا وهـو اسـم أول امرأة في البشرية، وهكـذا جـاء اسمي حـواء“.

وفي أحد الأيام كنت جالسة إلى جوار مربيتي في شرفة منزلنا المطلة على حديقة كبيرة في إحـدى ضواحي الأستانة، حيث كان يقضى أهـلي فـصـل الصيـف كعادتهم، وبينما كنـت ألهـو بعروستي شاهدت عـن بـعـد فارسًا يقبـل نـحـوي ممتطيًـا ظـهـر جـواد أبيـض بنقـط سـوداء، وكان الجـواد ضخمًا وثائـرًا، يحاول فارسـه تهدئته، ولكـن فـجـأة ألقـى الجـواد الفـارس أرضـًا، وكان مـن طبيعـة الأمـور ألا أدرك، وأنـا لـم أتجـاوز الثالثـة مـن عمري، أن نكبـة هـذا الفـارس قـد أفقدتني والـدي إلى الأبد. ومضت بي الأيام تلاحقها السنون وصـورة الفارس الممتطي ظهـر جـواده الجامح تتراءى دائمًا أمام عيني ودون أن أدري أو أتذكر أني رأيـت هـذا المشهد في حديقة دارنا. ولما كانت تلك الصورة تلازمني دومًـا أبلغـت زوجـة عمي يوسف بالأمر، وكنـت قـد أشرفـت عـلى التاسعة مـن عمـري وسألتها لمـن تـكـن هـذه الصورة، ولماذا يلازمني خيـال هـذا الفـارس عـلى ظهـر جـواده الأبيض يركض ويقفـز ثائرًا دون توقف، دُهشـت زوجـة عمـي مـن هـذه القصـة وبكيـت واحتضنتـني بقـوة وقالت أنهـا يـا ابـنـي صـورة الحادثة التي راح والـدك ضحيتهـا لأنـه حينمـا سـقـط مـن فـوق الجـواد ارتطمت رأسـه بجـدار صلـب وتدفـق الـدم مـن وجهـه وفمـه وأسـلـم الـروح في ثوان، وقـد أعـدم عمـك في الحـال ذلك الجـواد الـذي تسبب في فقده لأخيـه الشـاب، إلا أن والدتـك لحقت بوالـدك حزنًـا عليـه فـتـولى أمـرك وشقيقتك حوريـة عمـك يوسف“.

كان عمي يوسـف يخصنـا بـكل حنـان وتدليـل إلى أن توفاه الله بعـد عامـيـن مـن المـرض وهكذا أصبحـت أنـا وشقيقتي يتيمتين مـرة أخـرى بعد أن فقدنا عائلتنا ومنبـع الحـب لنـا، وأين؟ في بلد ليس لنـا فـيـه أهـل أو أقـارب سوى زوحـة عـم بلغت الثمانين من عمرها.

حقيقة إن الدنيا إذا أقبلت أسعدت وإذا دبرت أتعست، وكنـت، أنـا وأخـتي مـن هـؤلاء الأخريات، إذ بدأنا الحياة في هذه الدنيا منذ الطفولة بسلسلة من النكبات كمـا سـلف البيان، ولمـا علمـت ابنة عمتنـا المرحومة السيدة هدى شعراوي بوفاة خالهـا وعمنـا يوسف عز عليها أن نعيش في بلد غريبة دون رعاية إذا ما انتقلـت زوجـة العـم إلى رحمة الله، لذلك سعت إلى استقدامنا إلى مصر حيـث الأقارب، وتكللت مساعيها بالنجـاح، ولكـن بعـد أن صـادف مبعوثهـا عـددًا من الصعاب.

أرسلت السيدة هـدى اثنين من الأقـارب لاصطحابنـا مـع زوجـة العـم، وكتبـت إلى السلطات التركية تطلـب إليهـا تيسير خروجنـا مـن تركيـا، حيث إن الأحوال السياسية في تركيا كانت مضطربة بعض الشيء، عقب استيلاء الكماليـون على الحكم وقيامهم بتطهير البلاد من العناصر اليسارية، مما أدى إلى فرض رقابة مشددة على كل أجنـبي يغادر تركيا أو يصل إليها. وفي هذه الفترة بالذات وصل إلى الأستانة سعد الدين بك، وهـو أحـد الاثنين، إلا أن قدميـه زلتـا عـلى الجليد فكسرت ساقه ودخـل المستشفى، ولـم يكـن حـظ قريبنـا الثاني وهـو تـركي أحسن حظًـا مـن سعد الديـن بـك، بل كان أسـوأ منه، إذ وجد نفسـه وهـو في طريقه إلينـا يقـع في مأزق خطير كاد يفقـد فيـه حياته، حيث صدر الحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص.

وتفصيـل هـذا الحادث حسبما قصّـه هـو بنفسـه عـليّ فيما بعـد، أنه كان يحمل خطابًا مـن ابنـة عمتي السيدة هدى شعراوي إلى السلطات التركية تطلـب منـهـا مسـاعدة مبعوثها وتسهيل مهمته. وأثناء سفره تقابل مصادقة على ظهر الباخرة بأحـد أصدقائه القدامى، فجلسا يتجاذبان أطراف الحديث وخلال ذلـك قـال ماهـر بـك وهـو القريب التركي لصديقـه، ضمـن مـا قـالـه، إنه في طريقه إلى الأستانة لاصطحاب طفلتين والعـودة بهما إلى مصر، وهما ابنة خال السيدة هدى شعراوي، وإنه يحمل رسالة منها باللغة العربية موجهة إلى السلطات التركية الحاكمة لتيسير خروج الطفلتين مع زوجة عمهما. إلا أن صديقه المذكور نصحه بالتخلص من ذلك الخطاب بمقولة إنـه مـن الخطـر جـدًا حمل رسائل مكتوبة بلغـة لا يعرفهـا أهـل البلاد في هذا الوقت بالذات، إذ قد يفسر ذلك على غير حقيقته، وأضاف قائلاً لـه إن مما يزيد الأمـر خطـورة أن السيدة هدى شعراوي معروفة باشتغالها بالسياسة، وإنه لا يستبعد أن يتضمن ذلك الخطاب مسائل سياسية بالغة الخطورة.

خـاف ماهـر بـك بعـد أن استمع إلى نصائح ذلـك الصديـق فبادر إلى تمزيق الخطـاب وإلقائه في البحر. ولكـن سـوء حظه التعس أوقعـه تحـت رقابـة أحـد عمـلاء تركيـا وهـو يلقـى بقصاصات ذلك الخطاب في البحـر، وكانت النتيجة أن قبـض عليـه وسـلم إلى السلطات العسكرية التي تولت التحقيـق مـعـه في هـذا الأمر، وعبثًـا حـاول أن يوضح لهم الحقيقة كما حدثت، لكنهم اعتبروهـا نسـجًـا مـن الخيال وحكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص.

وقبـل تنفيذ الحكم عليـه سـألوه عـن آخـر رغباته، فطلب رؤية قريـب لـه أعطاهـم عنوانه، ولمـا علـم ذلك القريب، وكان محاميًـا، بمـا حـدث لماهـر بـك استأذن في منحه مهلـة قصيرة حتى يتمكـن مـن مراجعـة السلطات العليا في الأمـر. وفعـلاً تقـرر بعـد ذلك، بأمـر مـن وزير الحربية، إيفاد أحد الضباط مع المحامي لاستدعاء زوجة عمي يوسف إلى الميناء لمقابلة المتهم دون إبلاغهـا بمـا حـدث، وأفهمها المحامي القريب بناء على تعليمات الضابط أن ماهـر بـك يريد رؤيتهـا ورؤية الأطفال، وأنـه مـوجـود في الميناء وليس لديه الوقت الكافي للحضور والعـودة لاضطراره إلى اللحاق بالباخرة في عمل عاجـل. قامت زوجة عمي بتجهيز بعض الهدايا لأفراد أسرة ماهـر بـك وصحبـت المحامي والضابط إلى الميناء، وهنـاك رافقهـا ضابط آخـر إلى حيث يوجـد ماهـر بيك فدخلت عليه في غرفة واسعة جدًا يقف في أركانهـا مـن الداخل حـراس مدججون بالسلاح، وشاهدت ماهـر بـك جالسًا أمـام منضـدة كبيرة جدًا تتوسط الغرفة، بمفرده، مرتديًا ملابس ضابط في الجيش التركي، رغم أنـه لـم يكـن عسكريًا في حياته، وكان يقف خلفـه تمامًا أحـد الجنود شاهرًا سلاحه، فدهشـت زوجـة عمي يوسـف مـن هـذا الأمر، وسألت ماهـر بـك عما يفعله في مثل وضعه الغريب هذا، وفي ذلك الزّي العسكري، وعما إذا كان قد انتظم في صفوف الضباط دون أن يخبر أحـدًا مـن أسرته، كما سألته عن الخطاب الذي جـاء بـه مـن ابنـة عمـة الطفلتين، إلا أنـه لـم يـرد عليهـا إطلاقـًا بـل لـم يحـاول أن يرفع بصره إليها لأن التعليمات التي كانت قد صدرت إليه تقضى بعدم الإجابة على أي سؤال مهما كان، وعدم الحركة أو حتى مجرد النظر إلى السيدة مهما كان موقفها منه، حتى لا يضطر الجندي الواقف خلفه إلى استعمال سلاحه في الحال للقضاء عليه. جلست زوجة عمي خالتي شريفـة كمـا كنـا نسميها تعتب عليـه تصرفاته الصبيانية التي لا تليق برجـل في مثـل سـنه أو مركزه، وبرغم ذلـك لـم يتفوه بكلمـة، بـل لـم يحـاول مجرد النظر إليها، فغضبـت زوجـة عمـي وقالـت لـه بـحـدة: “أرى مـع الأسـف أنـك يـا ماهـر تتصرف بعقلية المراهقين، إن اللعبـة الـتي تقـوم بـهـا قـد جعلتـك ثقيـل الظـل وإنـك ازددت في ذلـك أكـثـر مـمـا يجـب، وإنـي عـلى أي حـال أسألك إذا كنـت أسـتطيع تسليمك الهدايا التي جئت بها أم إنك نسيت أيضًا أن لك أولادًا وزوجة وبيت؟ إلا أن ماهـر بـك لـم يـرد عليها أيضًا وظل ساكتًا قابعًا في مكانه دون حركـة، فما كان من خالتي شريفـة إلا أن وضعت هداياهـا إلى جـواره، وأدارت لـه ظهرهـا، وبارحـت المـكان غاضية مسرعة. كان هذا الحديث أو تلك التمثيلية سببًا لتبرئة ساحة ماهـر بـك وإخلاء سبيله في الحال. ولكـن قبـل أن يغادر معتقله نصح أن يكون أكثر حذرًا في المستقبل، إذ إنه نجـا هذه المرة بأعجوبة وقد لا يضمـن مصيره في المرة القادمة.

حال خروجـه توجـه إلى منزل زوجـة عمـي، واعتذر لهـا وقـص عليهـا مـا حـدث نتيجة خطاب السيدة هدى شعراوي. قالـت لـه إنه المخطىء ولا جناح على الخطاب المذكور لأنـه جـانـب الصـواب بمـا أتاه مـن تـصرف عندما كان عـلى ظهـر الباخـرة، إذ إنـه لـو احتفظ بذلك الخطاب لتمكن المسئولون مـن معرفـة مضمونـه وبالتـالي مـا كان يتعرض لخطـر الإعـدام رميًا بالرصاص.

عقب ذلك بيومين تولى إجراءات سفرنا إلى مصر، حيث استقبلتنا ابنة عمتنا المرحومة السيدة هدى شعراوي، فوجدنا فيهـا أمًـا ثانيـة عطوفة علينـا، خصتنـا رحمها الله ببالغ عنايتهـا ورعايتهـا، نعـم كانـت خـير أم لنـا ولـم تـدخـر وسـعًا في العمـل لمـا فيـه راحتنا وسعادتنا.

ويمكن أن يتضح بجلاء مدى حبها وشعورها نحونا من بين صورتي الخطابين المسطرين بعد، وهما بخطهـا وتوقيعها.

بعـد عـام مـن إقامتنـا في مصر، ألحقتنـا بالقسم الداخلي بالكلية الأمريكية للبنات حيث بدأنـا الدراسـة مـن أول المرحلة الابتدائيـة حـتى أتممنا الدراسة الإعدادية، ثـم انتقلنا إلى كلية البنات التابعة لوزارة المعارف لاستكمال مرحلة الثانوية، ولم يسعدني الحظ باستكمال تعليمي الجامعي برغـم شـوقي لذلك، نتيجـة مـا أصابني مـن ضـعـف في صحتي أثر الأمراض والعلل التي انتابتني أثناء دراستي، مما جعـل الدكتور عبد العزيز إسماعيل ينصحني بالانقطاع عن الدراسـة مـدة عامين حتى أسترد صحتنـي ثـم أعـود إلى الانتظام بها من جديد.

كان ذلـك هـو خـط المصير، إذ تطوعت في جمعية الاتحاد النسائي المصري واندمجـت في الخدمة الاجتماعية؛ حيث آمنـت بهـا باعتبارها عملاً إنسانيًا عظيمًـا يعـود بالنفع على الطبقات الكادحة، لذلك آثرت أن أستمر في هذا العمـل أشـغـل بـه نفسي، كما أحببت في أوقات فراغي الاستزادة من مختلف العلوم والفنـون عن طريق الاطلاع والقراءة. وأثنـاء عملي في الجمعية كونت جمعية صغيرة تحت اسم جمعية شقيقات الاتحاد النسائي المصري، وكان من بين عضواتها: أمينة حمزة، كريمة عبد القادر باشـا حمـزة صاحب جريدة البلاغ، وثريـا عـلى، كريمـة المستشار أحمـد باشـا عـلى، أمينة السعيد وعطيـة السعيد، كريمتا الدكتور أحمد السعيد، وسهير القلماوي – مستشارة – ومنيرة عاصم كريمة المهندس حسين بك عاصم، وشريفة لطفي، كريمة أحمـد بـك لطفي المحامي، وشقيقتي حوريـة إدريس. وأتفق الجميع على إسناد رئاسة هذه الجمعية الصغيرة إلىَّ.

لن أنسى أبـدًا مـا استقبلتنا به الصحافة في ذلك الوقت حين أعلنـا تلـك الجمعية، إذ انهمرت علينا سلاسل السخرية والتريقة، بل إن بعضهم كتب لي يقـول حرفيًا (ألا ترين صغيرتي أنـه مـن الأوفـق لـك في الوقت الحاضر أن تكتفيبالبرازة؟) ولا زلـت حـتى اليـوم أحتفظ ببعـض هـذه الخطابات للذكـرى.

كان مـن أهـم مبـادئ جمعيتنا هذه زيارة الأحياء الشعبية في مدينة القاهرة مرة كل أسبوع خلال أيام العطلة المدرسية لمساعدة الأسر الفقيرة، وكانت مجموعتنـا قـد قسمت إلى أربعة أقسام ، كل منها يختص بحي من الأحياء، وكنا في كل زيارة نحمل إلى الأسر التي نرعاها ملابس كاملة للأطفال وقطعًـا مـن صابون كبيرة الحجم، وكان الدكتور سليم بك صبري يعاوننا في إدخال المرضى منهم إلى المستشفى، وكنـا نـزور مرضانـا هـؤلاء ونحمـل إليهم الحلوى ومـا قـد يحتاجون إليه.

ممـا أعـتز بـه وأفخـر في نشاط هذه الجمعية الصغيرة أننا انتهزنا فرصـة وجـود ممثلات الاتحاد النسائي الدولي في مصر عام 1935م، وإقامة حفلـة تكريم لهـن حضرهـا كـبـار رجـال الدولة وبينهـم الدكتور محمـد بـاشـا شـاهين وكيـل مصلحـة الصحـة في ذلـك الوقت، وتقدمنا في خطاب الترحيب بطلب إنشاء حنفيات عامة في الأحياء الشعبية حتى يتمكـن أهـالي هذه الأحياء من شرب المياه النقية، ولحسن الحظ والتوفيـق لـم تمض أيام حتى طلب المرحوم الدكتور محمد شاهين باشا من مجلس الوزراء اعتماد ستين ألفًـا مـن الجنيهات لإنشاء الحنفيـات الـتي مـا زالـت إلى يومنـا هـذا تغـذي تلـك الأحياء بالمياه العذبة النقية.

وبهذه المناسبة فقد اشتركت مندوبة عن الشابات المصرية في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقـد بـقـصـر يلـدز في مدينـة إسـتانبول في 10 أبريـل سـنة 1930م وألقيـت الكلمة التالية:

سيداتي آنساتي سادتي

أقف بينكم اليـوم بتأثر عميـق لأعبر عن المشاعر التي تدفعني وأنا أشترك في مؤتمر الاتحاد النسائي الـدولي، كمـا أعـبر عـن غايـة سروري لإتاحة الفرصة لي لتمثيـل الشـابات المصريات في هذا المؤتمر العظيـم ولـم يمض عام فقط على تكوين جمعية شقيقات الاتحاد النسائي المصري التي أتشرف برياستها، هذه الجمعية الصغيرة التي نشأت من خلال إدراكنا لمسؤولية مـا نـراه مـن مـآسي الشباب في العالم الذي نعيش فيه، عالم الفوضى والانحلال والأزمات الاقتصادية، لأن العالم الذي نريده نحـن الشـابات هـو عالـم حـر عادل تسـود ربوعـه الأخوة والمحبة، عالم حيث لا يوجد فيه بطالة وانحلال خلقي وأخطـار حـروب وضمير شاب يتألم، نحن الشابات دخلنا العالم الذي صنعته لنا الأجيال التي سبقتنا. حقيقي أننا نفهم أن الذي يجرى في عالمنـا اليـوم مـا هـو إلا نتيجة الحروب الدولية المدمرة التي كانت أقـوى مـن الرغبة في توثيق العلائق الأخوية بين الناس، وبما أننـا نحاول أن نتفهـم؛ فمن الضروري أن نخلص من الماضي بـدروس حيوية نافعة، وفي جهودنا هذه نعتمد على مساندة جيراننـا لأننـا نؤمن بالمكاسب التي حصلوا عليهـا في ضـوء تجاربهم المريرة، وكل الـذي نطلبـه منهـم أن يثقـوا في رغبتنا الأكيدة وأن يفسحوا لنا طريقـا حـرًا لندخل بدورنا في المعركة مساعدين لهـم في إيجاد طـرق نافعة لتحريـر شـعوب البشرية التي ما زالت مستعبدة من شعور الكراهية والانتقام.

نحـن شـقيقات مصر نضم جهودنا إلى جهـود شـباب تركيا وشباب العالم كلـه لنجعـل من المستقبل شيئًا أفضل، وهـو مستقبل الإنسان الحـر الـذي يتمتع بالعدالة والأخـوة.

حواء إدريس

عـود مـرة أخـرى إلى المدارس التي التحقت بها لأحكي نادرتين تسببت في حدوثهما. كنت دائمًـا محـل رعاية وعناية جميـع ناظـراتي ومدرساتي لأنهـن كـن يعتبرنني تلميذة مثالية الأمـر الـذي كان يسبب لي الكثير من المتاعـب مـع زميلاتي التلميذات، خصوصًا عندما كانت مـس بـدرتطلب مني القيام بمراقبة تلميذات فصـلي أثناء تغيب مدرستنا لكيلا يحدثن ضجة في الفصـل كعادتهـن دائمًا في مثل هذه المناسبة. وكان هذا الاختيـار مـن وكيلة العميدة يضايق زميلاتي فكـن يحاولـن دائمًا إثارتي وإغضابي، ويقلن لي روحـي يـا شيخة شوفيلك لعبة تلعبي بهـا بـدل ما انت عاملة نفسك بني آدمـة بالعافية“. وطبعًا مثـل هـذه السخرية كانت تعكر مزاجي وتثير شعوري بما لا يجعلني أقبـل مـرة أخـرى المسؤوليات التي تحملها لي وكيلـة العميدة، فكنـت أعتـذر لـهـا عـن القيام بمـا تطلبـه مني منتحلـة شتى الأعذار، إلا أنهـا كانـت تصمـم عـلى أن أنفـذ تعليماتهـا وتطلـب منـي الجلوس مكان المُدرسة عنـد غيابهـا ومراقبة سلوك الطالبات، نظرًا لأنها تعتمـد عـليَّ في معاونة المدرسات، والظاهر أنهـا استنتجت الـسـر الخفـي مـن وراء كثرة إلحاحـي في إعفائي من ذلك الواجب، إذ أبلغتني أنها ستلقن طالبات فصلي درسًا في السلوك وأدب المعاملـة لـن ينسـوه. وفعلاً انتهزت فرصة تجمع كل طالبات الكلية في صالة التجمع ولقنـت هـؤلاء التلميذات درسًا أعتقد أنهـن لـن ينسـوه أبـدًا، وطلبـت مـني كل واحـدة منهن أن تتقدم وتعتذر لي أمام الجميع، وتم لهـن تنفيـذ ذلك الأمـر.

ومـرة أخـرى عندما التحقت بكلية البنات الثانوية التابعة لوزارة المعارف وجدت نفسي مضطرة أن أقـف موقفًا معينًـا مـن زميلـة لنـا، حـتى أنقـذ عـددًا كبيرًا مـن بنـات فصـلي من العقاب اليومي لهـن وضياع الحصة الأولى عليهن، إذ كانت ضمن زميلاتي في الفصل طالبة هي الابنة الوحيدة لوكيل وزارة المعارف في ذلك الوقت، عبـد الفتـاح باشـا صبري. وكانت جميلة – وهـذا اسـمها – تقطـن في العباسية وكليتنـا تقـع في الزمالك، وطبقًا لخط سير السيارة فـإن منزل جميلـة يقع في منتصف الطريق وكانت الأوامـر تقضي بأن تمر السيارة على جميلة صباحًا وبعـد مطافهـا عـلى منازل جميع الطالبات الأخريات، بصرف النظر عن موقع سكنها من خط السير، وذلك حتى لا تضطر جميلة إلى الاستيقاظ مبكرًا، ولم تكن تلك المدللة تكتفي بهذا القدر من الامتيازات اليومية، بـل كـانـت في أغلب الأوقـات تجعـل السـيارة تنتظـر أمـام بابهـا والطالبات يجلسـن بداخلهـا في منتهـي الضيـق، حـتى تكمـل سيادتها ارتداء ملابسها وتتناول إفطارهـا ثـم تتنازل بعد ذلك وتنزل لتستقل السيارة معهـن دون أن تهتم أبدًا بأمر أو مشاعر هـؤلاء الطالبات، وبخاصة وأن ذلك الانتظار الممل كان يؤدى إلى تفويت الحصة الأولى عليهـن، والنتيجـة هـي توبيـخ مـن مـدام بـرج العميـدة لهـن باستمرار ومعاقبتهـن، ممـا أضـطـر البعـض مـن الطالبات إلى استئجار سيارة أجـرة يوميًـا حـتى يتمكـن مـن متابعـة دروس الحصة الأولى، ومنعًـا مـن المشاكل التي تحدث مع العميدة، والبعض الآخـر اقـترح أن يطلـب مـن أولياء الأمور التدخل في الأمر، والبعض الثالث اقترح أن يتولى بنفسـه حـل هذا الإشكال بـأن يتوجـه وفـد منهـن إلى مقابلـة والـد جميلة ليضـع الأمور في نصابهـا الصحيح، ولكـني اقترحت على الجميع أن تتولى نحـن إزالة الأسباب التي تسبب لهـن المشاكل مع العميدة دون تدخـل أو وساطة مـن أحـد، ذلـك بـأن نتبع النظام نفسه الذي تتبعه المشرفة على السيارة إذا تأخـرت آيـة طالبة في ركوبهـا، كمـا يـجـب إلـزام السائق بالمرور على منزل جميلـة حسـب خـط سير السيارة دون تركهـا لآخـر المطـاف مع الانتظار ثلاث دقائـق فـقـط كأية طالبة أخـرى، فإذا لـم تـأت في هذه المدة فهي وشأنها، ونتركهـا ونمضى، إلا أن هذا الاقتراح لـم يجـد استجابة كافية لدى الطالبات إذ خشين عواقب التصرف، فأبلغتهن إنني سأتولى تنفيذه على مسؤوليتي، واتفقت مع المشرفة على السيارة، والتي كانت تعاقب أيضًا على التأخير، أن تمـر عـلى قبـل التوجـه إلى العباسية لوجـود سكني في منطقة قصر النيل وسط القاهرة، وطلبت إلى شقيقتي أن تذهب بمفردها إلى المدرسة في السيارة الخاصة بمنطقتنا، وواصلت رحلتي مع المشرفة إلى العباسية مع طالبـات هـذه المنطقة ثلاثة أيام متواليات، لألقـن الطالبة المدللة درسًا في احترام النظام وآداب المعاملة، وتم تنفيذ خطتي بنجاح تام ، وكانت السيارة تغادر موقفهـا أمـام منزل جميلة دون أن تنزل سيادتها، وفي اليـوم الرابـع حـضرت إلى المدرسة بصحبة والديهـا ليسـألا مـدام بـرج عن سبب عدم انتظار السيارة كالمعتـاد دائمًا، فاندهشت العميـدة وفوجئت بالأمـر، وعرفـت مـن جميلـة مـن الـتي دبـرت هـذا العمل فاستدعتني إلى مكتبها، وسألتني أمـام والـدي جميلـة عمـا سمعته، فأيدت ذلك بكل هدوء واعترفـت أنـي الـتي دبرت الخطة ونفذتهـا حـتى أوفـر عـلى الطالبات فصـل وعقـاب كل يـوم ، ولألقـن جميلة درسًا في المساواة بين الطالبات، لأنها تجاوزت حدود اللياقة والنظام بعدم مراعاتهـا مـا يدفعه أولياء الأمـور مـن مصاريف باهظة في سبيل تعليم أولادهم، في حين إنها تتعلم بالمجان لكـون والدهـا وكيل وزارة المعارف، بل زدت وتساءلت إذا كانت تلك البلهاء تعتقد أنها أفضـل منـا، وهنـا قـفـزت أم جميلـة مـن مقعدها لترد عليولكـن زوجها منعهـا. وانصرفـت بـعـد ذلك إلى فصلي، أمـا مـدام بـرج فـلـم أعرف كيف تصرفت، وإنما كل مـا أعلمه جيدًا أننا كسبنا الجولة. وبعـد أيـام من هذه المحادثة نشرت إحدى المجلات الأسبوعية الخبر تحـت عنـوان (فتاة صغيرة تلقن درسًا لوكيـل الـوزارة).

كيف دخلت ميدان الخدمة الاجتماعية لأواصـل نشاطي فيـه حـتى الآن، الأمر الذي شغل وقتي وحياتي، فهذا شيء أحب أن أذكره إذ أستطيع من خلاله أن أسترجع الماضي وأقلب في صفحاتـه بحثًـا عـن الأحـداث والوقائع المهمـة الـتي سـقطت مـن بـيـن سـطـور كـتـاب التاريخ، ذلك لأنه بوفاة المرحومة السيدة هدى شعراوي زعيمة النهضة النسائية في العالم العربي طويت صفحـة مـن أهـم صفحات الحركة القومية والنهضة النسائية في الشرق.

كنت في سن السابعة عندما التحقت بكلية البنات الأمريكية بالقسم الداخلي، وكنت كلما حضرت إلى المنزل أيام العطلة الأسبوعية وجدت نفسي محاطة بأشخاص كلهـم يعملون في محيط الخدمة الوطنية والاجتماعية، وألفت ذلك وكأن هذا العمـل قـد امتزج في روحي ودمي، فسرت في تياره وأنـا لـم أتجاوز الثانية عشرة من عمري، إذ تطوعت في مستوصف جمعية الاتحاد النسائي المصري التي كان مركزها في تلك الأيام شارع محمد علي بالقاهرة، وكنت أتردد على ذلك المستوصف برفقة شقيقتي ومربيتنا، وهي سيدة يابانية أرملـة أحـد الضباط المصريين، وكان عمـلي ينحصر في أن أشرح للأمهات طريقة إعطاء الدواء لأطفالهـن حسب تعليمات الدكتور سامي كمال متخصص الأطفال، الذي كان متطوعًا أيضًا في هذا العمل الإنساني النبيل، وكان من الضروري أن أتـولى مساعدة الطبيب لكـثـرة عـدد الأطفال المرضى الذين كانـوا يترددون عـلى عيـادة المستوصف للعلاج، وظللت أواظب على القيام بهذا العمل خلال الأجازات الأسبوعية والمدرسية برغم الصعوبات التي كانت تعترضني والمضايقات التي كانت تصادفـني نتيجة جهـل السواد الأعظم من الشعب وعدم تفهمه النافـع مـن الضار، وكذلك نتيجة الرواسب التي تتحكم في سلوكه، تلـك الرواسـب الـتي استقرت لديه مـن العقـد النفسية الـتي عانى منها، ممـا جـعـل سـواده لا يقبـل النصيحة الطبية أو حتى مجـرد النقـد ولـو كان في صالحه، بل جعلته يفضـل المـدح والتملق لملء الفراغ الذي يصرعه.

ولا أنسى بهذه المناسبة أن أذكر أني كتبت ذات مرة مقـالاً سنة ١٩٤٠ في مجلة الاثنين والدنيا ردًا على سؤال وجهـه لي المحرر، وكان هذا السؤال (مـا رأيك في شبان اليـوم ؟) فقلت إنهم ضحايـا حـب الظهور، وشرحت في المقال المبررات التي دعتني إلى أن أقـول ذلك، ثم ختمت ذلك المقال ببيت الشعر المشهور:

شبابٌ قُنَّع لا خيرَ فيهم…وبُورك في الشباب الطامحينا

وما إن نشر هذا المقال حتى انها لتعـليّ خطابات السب والشتم ، ولكـن مـن العجيب حقًا أن أحـدًا مـن هـؤلاء الشاتمين المتحمسين لـم يحاول أن يناقشني أو يقنعني بخطأ رأيي أو إنـني أبالغ فيما أوردتـه مـن عيـوب.

أمـا الرجال، فقـد كانـوا أوسـع صـدرًا مـن ذلـك الشباب إذ لجأوا إلى العتـاب المهذب المقنع عندمـا كتبت في المجلـة نفسها مقـالاً ردًا على سؤال آخـر (هـل يـوجـد في مصر خمس عظماء؟) قلـت ليس في مصر خمسة عظماء لأننا في بلد يقاس فيهـا قـدر الرجال بالمال والجاه والسلطان والنفوذ، بينما في بلد غيره تقاس العظمة بما يؤديـه الـفـرد مـن خدمات علمية أو وطنية صادقة أو اجتماعيـة جليلـة الشـأن، ويضحي بوقتـه ومالـه في أداء رسالة نبيلة للبشرية.

تطـور بعـد ذلك عملي، فأصبحت أمثـل المـرأة المصرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة في المحافل الدولية في الشرق والغرب، وكنت في كل مناسبة أتيحت لي أحـاول أن أثبت أن المرأة العربية جديرة بالمكانة التي تشغلها في الهيئات الدولية.

كما سجلت في الميدان الدولي في مختلف المؤتمرات النسائية والسياسية التي اشتركت فيها انتصارات عديدة، ومـن ذلـك أنـني تقدمت في مؤتمر الاتحاد النسائي العربي العام، الذي عقد في مدينة بغـداد بالعراق في المـدة مـن 5 إلى ١٢ مـارس سنة 1953، باقتراح أقنعت المؤتمرات ليكون ضمن قراراته، وكان هذا الاقتراح هو تأليف كتلـة عربية قوية متساندة تكـون كتلـة حيـاد بين الكتلتين المتنافستين لحفظ التوازن الـدولي، ولتتمكـن شعوب هذه الكتلة العربيـة مـن الاستقلال في شؤون سياستها الداخلية والخارجية وتوجيههـا بمـا تفرضه عليها مصالحها وحدها. كما اقترحـت دعـوة نساء تونس والمغرب والجزائر للانضمام إلى الاتحاد النسائي الدولي العام لتدعيمه وليكون جامعًا لسيدات معظم البلدان العربية.

ويومهـا أجبـت عـلى سـؤال صحفـي وجـهـه إلي في بغداد، وكانت منطقة الشرق الأوسط كلها تحت الاحتلال الأجنبي، ونقلت تصريحاتي وكالات الأنباء العالمية، إذ كان جـوابي إنني أدعو إلى وجـوب سياسة الحياد التام بالنسبة للدول العربية والأفريقية والآسيوية لحفـظ التـوازن الـدولي؛ لأنـه لا معنى أن نربط مصيرنـا بعجلـة أي من الكتلتين اللتين تتنازعان السيطرة على العالم“. وكذلك كنت دائمًا أدعـو في المؤتمرات النسائية الدولية التي اشتركت فيها خارج الحدود لقضايا عروبتنا، حيث سجلت في ذلك الميدان الدولي عـدة انتصارات، كما سيجئ فيمـا بعـد، ولا أنسى بهذه المناسبة أن أسجل أنـني كنـت أشترك في اجتماعات الاتحاد النسائي الدولي المصري سواء بصفتي الشخصية، أو بصفتي رئيسة جمعيـة شـقيقات الاتحاد النسائي المصري، أو جمعية خريجات كلية الأمريكان للبنات.

وفيمـا يـلـي إحـدى تلك الدعـوات الـتي وجهتها لي السيدة هدى شعراوي بتوقيعهـا للاشتراك

في الاجتماع الذي يعقـد لمناقشـة بـعـض قوانين الأحوال الشخصية المتعلقة بكيـان المـرأة:

 

بعثة الهلال الأحمر المصري

إلى سوريا يونيو سنة ١٩٤٥

ضرب الفرنسيون في شهر يونيو سنة ١٩٤٥ مدينة دمشـق بالمدافع والقنابل، وذلك على إثـر قـرار السوريين مقاومة الاحتلال الفرنسي لبلادهم. وقد ترتب على هذا الاعتداء الوحشي العديد من الحوادث البشرية المؤلمة والتخريب الشنيع للمدينـة مـمـا يعـد وصمة في تاريخ الحضارة الفرنسية. لذلك فقـد بـادر الهلال الأحمر المصري بإيفاد بعثة طبية لمعالجة الجرحى ومواساتهم، ولقـد تطوعت في هذه البعثـة ممرضة. وسافرت مع البعثة إلى سوريا في 5 مـن يـونيـو سـنة ١٩٤٥، ونزلنـا ضيوفًا على الحكومة السورية طوال المدة التي قضيناها في معالجة الجرحى الذين بلغ مقدارهـم حـوالي ربع سكان المدينة المنكوبة، وكانـوا يمثلون مختلف الأعمار بين رجال ونساء وأطفال صغار.

أعـدت الحكومة السورية لإقامتنـا مستشفى الولادة حديث البناء، نظرًا لأن الفنـدق الوحيد الموجود في العاصمة السورية ذلك الوقت أورينـت بـالاسلـم يكـن يصلح للسكنى والإقامة، حيث نالتـه قـذائـف الفرنسيون كغيره من المباني العديدة، العامة والخاصة، التي صوبت إليهـا مـن مدافـع ثقيلـة ضخمة نصبـت فـوق التلال المحيطة بدمشـق من جهاتها الأربع وأطلقت دون تمييز الأهداف، بل زادت نكبـة المدينة بفعـل طائرات الفرنسيين التي قذفتها بالقنابل وضربت سكانها الأمنين الوادعين بالرشاشات مـن مسـتوى منخفـض جـدًا مـمـا أدى إلى قتـل الأعـداد الكبيرة من الأهالي، بخاصة إذا تخيـل القـارئ أن هـذا الـضرب كان وقـت الغـروب والسكان جميعًـا خـارج ديارهـم في الخلاء يتمتعون ببعض الهواء لما اكتنف المدينـة مـن جـو حـار خانق في ذلك الوقت.

كانت بعثتنا برئاسة السيدة حرم حسن باشا أبـو الهـدى، حيث سبقتنا برفقة الدكتـور كامل حسين – رئيس بعثة الأطباء – طائرين إلى المدينة لتفقـد حالتهـا تمهيدًا لوصـول أعضاء البعثة عن طريق البحر على الباخرة المصرية الأميرة فوزية، نظرًا لأن الحكومة الفلسطينية في ذلك الوقت رفضت السماح بمرور البعثة عبر أراضيها بحجة أن الأفكار متوترة في أنحاء فلسطين نتيجة الثـورات التي تحركهـا الهيئات العربيـة ضـد الحكومة القائمة. وكان لسفرنا وقـع مهـم لـدى مختلف الأوساط نظرًا للظروف التي أحاطت به.

وصلنـا ميـنـاء بيروت، وكان في استقبالنا عـلى رصيـف المينـاء حـرم حـسـيـن باشـا أبـو الهـدى رئيسة بعثتنا، والدكتور كامل حسين رئيس بعثة الأطباء، كما استقبلنا منـدوب القنصلية المصرية وبعض الشخصيات اللبنانية وعلى رأسهم مندوب رئيس الحكومة رياض الصلح، وكذلك الكابتن لحـود يـاور خاص الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية، وقبطـان طـراد إنجليزي كان راسيًا في الميناء، وقـد أطلـق الـطـراد مدافعه تحيـة للعلم المصري المرفـوع عـلى سارية الباخرة المصرية.

توجهنا جميعًا بعـد تبادل التحيات التقليدية إلى القصر الجمهوري، حيث قيدنا أسماءنا في سجل التشريفات. وأثناء ذلك علـم رئيس الجمهورية بوجـودي ضمن البعثة فأبـدى رغبته في رؤيتي واستقبلني ومعي أعضاء البعثـة جميعهـم، ورحـب بنـا شاكرًا وداعيًا لنا التوفيق في مهمتنا الإنسانية، ثم أمسك فخامتـه بيـدي وقال لي إن السيدة حرمه تنتظرني في جناحهـا الخـاص لأنهـا لـم تستطع الحضـور معـه لمرضها، وأثناء توجهنا إلى جناحها سألني فخامتـه عـن ابنة عمي السيدة هدى شعراوي، وعن أحوالهـا، وتمنى لهـا أطيـب الأوقات، داعيًا أن يحفظها الله ذخرًا للعروبة، فشكرته بـدوري على تلطفه وحفاوته بي، وأبلغته بالمثل تحيات وتمنيات السيدة هدى شعراوي لـه والسيدة قرينته التي قابلتها فرحبت بي أطيب ترحيب، ثم استأذنا في الانصراف.

قضينا الليلة في الباخرة في المينـاء لـعـدم إمكانًـا مواصلة السفر في المساء، لتأخـر الوقت، وفي الباخرة بعد تناول العشاء انتهز الدكتـور كامل حسين فرصـة وجـود أفـراد البعثـة جميعهم في مكان واحـد، وعـرض علينـا كل المعلومات التي حصل عليهـا عـن الوضع في سوريا أثناء رحلته التفتيشية، ومدى الأضرار والخسائر التي لحقت بالأرواح، ومـا انتهـي إليـه مـن قـرار بـعـد اجتماعه برئيس صحة دمشق الدكتـور قـدري بـك وبـعـض الشخصيات الرسمية، وقال لنا إن الدكتـور قـدري بـك أبلغه أن جميع جرحـي حـوادث الاعتداءات الفرنسية دخلـوا المستشفيات، وأكـد لـه أنهم جميعًا تحت عنايـة الأطباء السوريون وعلاجهـم، وأنه لا يوجـد جـريـح خـارج المستشفيات، واقترح علينـا الدكتـور كامـل حـسـين إزاء ذلـك، وبعـد أن شرح لنـا عـمـل كل فئـة منـا، أن نـسرع بالعـودة إلى الوطـن بعـد أن نـوزع مـا أحضرناه معنـا مـن أدويـة وأربطة وملابس وهدايا، وقـال انـه لا ضرورة لمستشفى الميدان الذي أتينـا منـه مـا دام الجرحى جميعهم معتنى بهـم في المستشفيات الحكومية، وأنهى حديثه بقوله إن بقاءنـا بعـد تلك المعلومات التي حصـل عليها سكون مضيعة للوقت خصوصًا وأن بعض الأطباء الذين معنـا قـد تـركـوا وراءهـم عياداتهـم وهـم ليسوا بالعـدد القليل.

وافـق الجميـع عـلى اقتراح الدكتور حسين كامل دون نقاش، أمـا أنـا فـقـد وجـدت أن المسألة تبدو غير معقولة، لأن سفرنا إلى دمشـق إنما كان بناء على أخبـار موثوق بها تفيد أن السوريين يقعون بالمئات في الشوارع نتيجـة فتـك القنابل بهم، وأنـه ليـس مـن المعقول أن يكفي مستشفيان فقط لهذا العدد الضخم من الجرحى فضلاً عن المرضى الأصليين، ولذلك فقـد سمحت لنفسي بالاعتراض عـلى قـرار الدكتور كامـل حـسـين وقلـت لـه إنـي أعـرف السوريين معرفة جيدة، وأنه يتعين علينا ألا نتخـذ قـرارًا قبـل التأكد بأنفسنا، لأنه من الجائـز وجـود عـدد من الجرحى لا مكان لهـم بالمستشفيات، ومـن ثـم فإنه من الحكمة أن نتروى قليلاً للتيقن من حقيقة الوضع حتى لا يشاع عنـا أنـا أدرنا ظهورنا وعجلنـا بالهروب من الواجب عندما وجدنا العمـل شـاقـًا تحـت وابـل القنابل، وأننـا لـم نبحـث الأمـر منعًـا مـن أن نـورط أنفسنا في الالتزام بالبقاء مدة طويلة في مدينة مخربة، وأننـا مـا جئنـا بـكل هذه الطنطنة إلا للدعاية فقط.

احـتـد الدكتـور كامل حسين علي قائلاً إن المعلومات التي نقلها إلينـا إنمـا جـاءت مـن مصادر رسمية موثوق بها، وإنـه تباحث مع تلك المصادر يومين كاملين لكي يلـم بحقيقة الوضع تمامًا، وليتمكـن مـن تنظيم أمورنا طبقًا لما تطلبه حالـة المدينـة مـن مساعدات، وإن الدكتـور قـدري بـك شـكره على الاهتمام بمواطنيه، وأكـد لـه عـدم وجـود جرحـي خـارج المستشفيات. وإزاء هـذا الإصرار من الدكتـور كامـل حسین ترکـت المناقشة حتى لا يفطـن أنـي أتعمـد مضايقتـه.

قمنا في اليـوم التالي بزيارة (نقطة الحليب)، ثم استأذنت رئيسة بعثة السيدات للتوجه إلى دار الاتحاد النسائي السوري لتحيـة رئيسته السيدة عادلـة بيهـم الجزائري، وكذلك السيدات مـن عضواتـه، حتى لا أتخلـف عـن هـذا الواجب، فضلاً عـن أنـي كنـت أحمـل خطابًا من السيدة هدى شعراوي إلى السيدة عادلة بيهم، وكذلك بعض المنشورات التي أصدرتهـا جمعيـة الاتحـاد النسائي المصري احتجاجًا على الأعمال الوحشية الـتي وقعـت مـن الفرنسيين في سوريا.

لمّا وصلت إلى مقر الاتحـاد، وجـدت مفاجأة غير منتظـرة لـم أكن أتوقعها، إذ كانت جميع عضوات الاتحاد مجتمعات بالرغم من أن اليـوم كان عطلة رسمية – يوم الجمعة ، فقلت للسيدة عادلة بيهـم وأنا أحييهـا، إنهـا لصدفة طبية أن أجـد مجلس الإدارة منعقد اليوم لأحظى بتحية جميع الزميلات العضوات، إلا أن السيدة عادلة ابتسمت ببشاشة وقالت: “هذا ليس اجتماعًا دوريًا لمجلس الإدارة يا عزيزتي، وإنمـا نحـن قـد اجتمعنا منذ الصباح لاستقبالك، فقلت لهـا وأنـا في غاية الدهشة: “ولكـن كـيـف عـرفـتي أنني سأحضر لزيارتكـن في هذا الوقت بالذات؟أجابت ضاحكة: “إنني أعرف جيدًا يا ابنتي، وأعرف أن أول زيارة ستقومين بهـا فـور وصولك إلى بلدك الثانية ستكون لمقـر اتحادنـا، لـذا ترين أن المسألة لـم تكن صدفـة كـمـا تـراءى لك“. وبعـد أن تبادلـتُ التحيـة مـع بقية العضـوات ناولت السيدة عادلة الرسالة الخاصـة الـتي كنـت أحملها ومعها المنشورات إلى تتضمن احتجاج الاتحاد النسائي المصري على الأعمال الوحشية التي ارتكبتهـا فـرنسـا ضـد شـعـب سـوريا، فقامت السيدة قمـر قـزعـون بقراءة الرسالة والمنشورات بحماس واستحسان شديدين، ثم جلسنا جميعًا نتجاذب أطراف الحديث، وبطبيعة الحال كان يـدور حـول مـا قاساه الشعب السوري من محـن وانعكاس أثر ذلـك على شعب مصر. أثناء الحديث سألتني السيدة عادلة إن كانت البعثة الطبية المصرية ستظل بينهم بعض الوقت، فقلت لها إن ذلك متوقف على الحالة العامة التي تبدو في الوقت الحاضر طيبة؟ قاطعتني السيدة عادلة بقولها ماذا تقصدين بقولك إنها تبدو طيبة؟ أجبتها: “تعلمين أننا جئنا إلى هنا لمساعدة أطبـاء سـوريا في علاج الجرحى الذين قيـل لنـا أن عددهم مرتفع جدًا، ولكن اتضح لنا أن الحالة ليست سيئة بالدرجة التي سمعنا بها، وهذا بالطبع يسرنا كثيرًا وإزاء تلك الأخبار الطيبـة قـررت بعثنـا العـودة إلى الوطـن بعـدد ثلاثة أيام. فسألتني السيدة عادلة، وعلامات الدهشة ترتسم على محياها: “ومـن هـو هـذا الشخص واسع الاطلاع الذي نقل إليكم هذه المعلومات؟أجبتها إنه الدكتـور قـدري بـك مدير الصحة عندهم، فقالت بانفعال: “هـل هـذا هـو ما أخبر به رئيس بعثتكم، إن لدينا ما يثبت عكس ذلك تمامًا وتحت يدنا إحصائيات دقيقـة بعـدد الجرحى والمصابين في كل حـي مـن أحـيـاء دمشـق، هـؤلاء المنكوبين ما زالـوا بإسعافاتهم الوقتيـة الـتي أجريت لهـم منـذ أسبوع، وغالبيتهـم تنـذر حالتهـم بالخطر“. والتفتت إلى السيدة قمـر قـزعـون وطلبـت إليهـا أن تأتي بالملـف الـذي يضـم تلك الإحصائيات لأطلع عليها تمهيدًا لتحديد موعد مع الدكتور كامل حسين ليتثبت بنفسـه خطـأ المعلومـات الـتي حصـل عليهـا، وإبلاغـه اسـتعداد رئيسة الاتحاد النسائي السـوري لمصاحبتـه ومـن يـريـد مـن أطباء البعثة المصرية لزيارة الأحياء التي تضـم المصابين، حـتى يقرروا بأنفسهم إذا كان هؤلاء المنكوبين يستحقون الرعاية والعناية من عدمه. تناولت الملف وتفحصت محتوياته، وبقدر ما أفزعتـني وآلمتني البيانات التي قرأتهـا بـه، بقـدر مـا شـعرت في قرارة نفسي بالرضا لأن وجهـة نظـري الـتي أدليت بها إلى الدكتور كامل حسين كانت صحيحة، ورأيت أن هذه فرصة لأثبت لرئيس بعثة الأطباء صدق كلامي، وقلت في نفسي لقـد آن للسيد المذكور أن يرى بنفسه الحقائق وحدهـا وهي تتكلم ، وعليه أن يعرف الخلاص من الموقـف بعـد ذلك.

اتفقت مع السيدة عادلة على اللقاء بفندق أميـة عـصر ذلـك اليـوم، بعـد أن نتناول طعام الغذاء بدعوة من محافظ دمشق، وفعلاً حضرت السيدة عادلة وبرفقتهـا عـدد مـن عضـوات جمعيتهـا، وقمـت بتقديمهـن إلى أعضـاء بعثتنـا، وبعـد تبادل التحيـات والتعارف قدمت السيدة عادلة الوثائق التي تحملها إلى الدكتور كامل حسين، وقالت له: “سمعت أنكم تلقيتم معلومات خاطئة عن عدد الجرحى في المدينة، وهم الذين لم يشملهم العلاج داخل المستشفيات، لذلك رأيـت مـن واجـبي أن أقـدم لكـم هـذا الملف لتتلمسـوا بأنفسكم حقيقة الأمر، ولتقـرروا بعـد ذلك إن كان هـذا العـدد مـن الجرحى يستحق العنايـة مـن عدمه“.

ولما اطلع الدكتور كامل حسين على محتويات الملــف قـرر في الحـال زيارة الأماكن التي يوجـد بـهـا الجرحى، وطلب إلى أحـد زملائه الأطبـاء مصاحبتـه وكذلك السيدات السوريات عضـوات الاتحاد النسائي، ثم التفت إليّ وقال: “أرجـو يـا حـواء هانم مرافقتنا في هذه الجولة، إلا أنني أجبتـه بـأني أفضـل أن يذهـب بمفـرده مع هؤلاء السيدات حتى يستطيع أن يتخذ قراره بحرية تامة، ولكنه أصر على ذهـابي معهم، وقال: “لابد أن تكوني معنـا إذ لولاك لكنـا قـد وقعنا في خطأ جسيم“. ولكـني برغم إلحاحـه لـم أقبـل مصاحبتهـم.

غنى عـن القـول، إن الدكتـور كامـل حسين بعـد أن شاهد الموقـف بنفسـه اقتنع تمامًا بضرورة بقاء بعثة الأطباء المصرية في سوريا للقيام بمعالجة ذلـك العـدد الصخـم من الجرحى المقيمين في ديارهم دون رعايـة، وعقـب عـودة رئيس البعثة إلى الفندق جمعنا في شبه مؤتمر لاتخاذ الترتيبات اللازمة لتوزيع أعضاء البعثة بين مدن سوريا: حمص، وحماة، وديـر الـزور، وكلهـا كانـت مراكز مقاومة تساقط فيهـا عـدد كبير من الشعب السوري، وطلب مني الدكتور كامل حسين أن أبقى في دمشـق لمعاونة الدكتـور عباس الغريني عضـو البعثة، وندب معنـا حكيمة وممرضًا، قائلاً لي إنـه فـضـل بقائي في العاصمة لاستطاعتي تذليل الصعوبات الـتـي قـد تعترض طريقنـا أثنـاء العمـل.

وقبـل البـدء في أعمال الإسعاف والتمريض حضرت سيدات الاتحاد النسائي السـوري إلى مقـر بعثتنا لاصطحابنـا في زيارة سريعة للمدينة. زرنـا أولاً مبنى البرلمان، الذي كان مقصـودًا هـدمـه عـلى رأس جميـع نـواب سـوريا لإبادتهـم عـن آخرهم، ولكن لحسن الحظ كانـوا قـد خـرجـوا مـن المبنى قبـل الاعتداء عليه بدقائق معدودات لعدم اكتمال النصاب القانوني للاجتماع. شـاهدنا الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمبنى والجـدران ملوثة بالدماء، دماء القتـلى مـن حـرس البرلمان الذي أبيـد عـن آخـرة، والمقاعد جميعها مخربة، الأوراق مبعثرة والأبواب والشبابيك منزوعـة مـن مكانهـا بفعـل القنابل، ورأيـت إحدى الخزائن الحديدية في حديقة المبنى مكسورة متروكة، وهي من الآثار التي دللـت على النهب والسلب، كما رأيت الكثير من العلب الفارعة في حدائق المنازل المجاورة كانت ملكًا لأحد التجـار، كما كانت هناك أيضًـا أعـداد مـن علـب المجوهرات الفارغة، وعندما صعدنا إلى سطح مبنى البرلمان شاهدنا بوضوح آثار القنبلة التي ألقيت عليـه فاخترقت سقف قاعة الجلسات واستقرت وسطها في حفرة عميقة خلتها بئرًا إذ شملت كل مساحة القاعة.

تركنـا مبنى البرلمان، أو مـا تبقى منـه، وذهبنا لمشاهدة قلعـة دمشـق الـتي حولت إلى سجن، ولم يكن منظـر تلك القلعة بأحسـن مـن منظـر البرلمان، بل أكثر بشاعة، لذا تحولت تلـك القلعـة الأثرية إلى مجموعة من الأنقاض ترقـد تحتهـا جثـث القتـلى مـن المساجين، الذين لم تتمكـن فـرق الإنقاذ مـن استخراجهم، الأمر الذي جعـل رائحـة المكان كريهـة جـدًا.

قيـل لنـا أن تلك القلعـة كانت مقسمة قسمين، أحدهمـا سـجن للرجـال وآخـر سـجن للنساء. وكان يوجـد بـيـن جـدران سجن الرجال عشيق زوجـة فـوزي الغـزي، رجـل سـوريا الذي قتلته زوجتـه مـن أجـلـه، منـذ عشرين سنة مضت، كما كانت العشيقة مسجونة في سجن النساء هي الأخـرى. وعنـد ضرب القلعـة بالقنابـل هـرب عـدد مـن المساجين من بينهم العشيقان والتجأوا إلى حمايـة أفـراد الشعب، والعجيب في الأمر أن الأهالي رفضت تسليمهما إلى السلطات على أساس أنهما طلبا الحماية، حقًا إن هذه الظاهرة نادرًا ما يصادفها الإنسان إلا لـدي مـن يتصف بالشهامة ونبل المشاعر، هاتان الصفتان اللتان لا أعلم إن كنـت أستطيع أن أصف بهما الشعب السوري جميعـه مـن عدمه.

بعد هذه الزيارة عدت إلى عملي في علاج الجرحى والمصابين، وكنا ننتقل في أول الأمر إلى منازلهم بواسطة أتوبيس مدرسة دوحة الأدب الذي أعارتنا إياه السيدة عادلة بيهـم مؤسسة تلك المدرسة، وكانت مجموعتنا تتوجه إلى الأحياء بحثًا عن الجرحى حاملين معنـا الأدوية والأربطة وجميـع لـوازم الإسعاف والتضميـد. وكنـت أعمـل مـن السـاعة السابعة صباحًا حتى السابعة مساءًا، دون انقطاع في معظم الأيام ، وكثيرًا ما طلبت إلى السيدات السوريات اصطحابهن إلى المستشفى بعد ساعات العمـل لزيارة مريـض متألم حتى أتمكن من استدعاء طبيـب لـه مـن زملائنـا، وكنـت ألبي النداء دومًا وأستدعي الدكتور عباس الغريني المعيّن في منطقة دمشـق لرعايـة هـؤلاء المصابين.

في المساء حضرت حفل عشاء أقامته لي السيدة بهيرة هانم حـرم رئيس الجمهورية بالقصر الجمهوري، وكانـت حفلـة خاصـة بالسيدات فقط، وكان العشاء يقـدم عـلى مائدتين ترأس أحدهمـا حـرم رئيس الجمهورية، وترأس الأخـرى حـرم فـارس بك الخـوري رئيـس الـوزراء وقتئـذ. وكان مكاني عـلى مـائـدة أسماء هانـم حـرم فـارس بـك الخـوري وعلى يمينها باعتباري ضيفـة الـشرف. وأثناء الحديث طلبت مني أن أشمل صبيًا جريحًا في المستشفى برعايتي وأوصي بـه لـدى طبيب بعثتنـا لأنه مصاب في ساقه ولا يكـف عـن البـكاء مـن شـدة ألمـه، فاستأذنت حـرم رئيس الجمهورية التي قبلتني وشكرتني عـلى مـا أبذلـه مـن تضحيات ومجهـودات في سبيل أبنـاء سـوريا. وانصرفت بصحبة أسماء هانم في طلب الدكتور عباس الغريني، حتى وجدناه، وأبلغته بأمـر ذلـك الصبي، فقال إنـه فحصه في الصباح وأنـه لا خـطـر عـلى سـاقه، كمـا إنـه طـلـب إلى طبيب المستشفى أن يجـري لـه عمليـة فتـح خـراج وأنه سيعود في اليوم التالي. وفي صباح ذلـك اليـوم توجهت مع السيدة أسماء والدكتور الغريني إلى المستشفى لزيارة ذلك الصبي، وكذلك زيارة شخصين في أحد الأجنحة بالمستشفى طلبت إلى السيدة دولـت أبـو الهـدى رئيسة بعثة سيدات الهلال الأحمر زيارتهما لأن حالتهما تنذر بالخطر الشديد، وحتى أرشـد الطبيب إليهما لعلـه يستطيع إنقاذهما.

لما تم اسعاف ذلـك الصبي توجهت إلى الطابق العلـوي حيـث هذين الشخصين، ودخلت غرفة منعزلـة أرشـدت إليهـا فشاهدت منظرًا أقشعر لـه بـدني، رأيت الرجلين يرقـدان تحت النافذة الوحيدة بالغرفة، تنبعث منهما رائحـة عفـن كريهة، وكانا في حالة يرثى لها، إذ تركا بما عمل لهما من إسعافات أوليـة منـذ عشرة أيام دون عناية. وقفت حائـرة مـن هـول مـا رأيت، وأخذت أسائل نفسي هـل أستدعي أحـد الطبيبين، الدكـتـور الغريني أم الدكتـور البــردوس، أو أسـتدعي الاثنين معًا، وخرجـت مـن الغرفـة أجـري إلى حيث الطبيبين الزميلين وأبلغتهمـا ببشـاعة مـا رأيـت، ولكنهمـا لـم يصدقـا قـولي إلا بعد مشاهدتهما الحالة بنفسيهما، وقررا بعد فحص سريع إغاثة هذين المنكوبين في الحال، لخطـورة مـا بـهـمـا مـن حـروق. وفعـلاً تـولى الدكتور عباس الغريني أحـد المريضين بمساعدتي، وتولى الآخـر الدكتـور ألبيردوس بمعاونة ممرض ، وظللنا جميعًا نسعفهما من الساعة التاسعة والنصف صباحًا حتى أوشكت الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر وكانت العملية شاقة للغاية، ولكن تم إنقاذهما بمعرفة الدكتور عباس بواسطة مرهـم قام بكتابة أوصافه، وتم تحضيره في صيدلية المستشفى، ولن أنسى لحظة أن تسلمت تذكرة العـلاج مـن الدكتـور الغريني قـولـه لي عنــي سـأجد هذين المشوهين يستردان شكلهما الطبيعـي بعـد يـومـيـن عـلى أكـثر تقدير، ولـم يخـب الظـن إذ أصبـح الرجـلان في حالة جيدة خلال تلك الساعات القلائل ممـا جـعـل الدكتور عباس ينال إعجـاب واهتمام إخواننا السوريين.

في ذلك اليوم، وعقـب فراغـي مـن عمـلي، حـضرت السيدة أسماء الخـوري لتصحبني إلى منزلهـا لتناول طعام الغـذاء مع الأسرة، لأن زوجها السيد فارس الخـوري أبـدى رغبته في أن يراني ويتحدث معي، ولا يجـد لديـه وقـت فـراغ غـير فـترة الغـذاء لكثرة مشاغله ومسؤولياته. ولما وصلنا وجدنـا فـارس بـك الخـوري في انتظارنـا، وقـصـت عليـه السيدة أسماء انزعاجهـا حينمـا لاحظت الشحوب يرتسم على وجهي، وأنهـا لـم تهـدأ بـالاً إلا عندما أبلغها الدكتور الغريني أن ذلك لا يعني شيئًا، وإنما نتيجة تأثـري مـن مشاهدة مناظر المتألمين والمعذبين، وأنها تشعر بالأسف لأني قـد لا أستطيع تذوق الكبيبة التيـة التي أعدتها بنفسها مـن أجـلي، ولكـني، والحق يقال، لـم أرض أن أسبب لهـا خيبـة أمـل وأكلت بشغف لأول مرة الكبيبة النية، ثم جلسنا جميعًا نتجاذب أطراف الحديث حـتى حان موعد انصرافي.

بعد يومين، توجهت للاستفسار عن المحروقين وعمـل الغيارات لهما، وما إن دخلت غرفتهمـا حـتى لاقيـاني بترحـاب وفـرح وقـالا إنهمـا انتظـراني خلال اليومين الماضيين ولمـا لـم أحضر خشـيا أن تكـون وعكـة قـد ألمـت بي، وظـلا يدعيان لي متمنيان حضـوري للاطمئنان عليَّ، فأجبتهما أني لست متوعكـة، بل بالعكس في صحة جيدة ولله الحمـد وأني مسرورة لأنهما في طريق الشفاء العاجل وأن حالتهما لا تحتاج لزيارتي اليومية. إلا إنهمـا قـالا: “نحـن يـا ابنتنـا نطمـع أن نرى طلعتـك وبشاشتك كل يوم مما يخفف عنـا كثيرًا، ولنتبارك بوجـودك بيننـا لأنك إنسانة كريمة ممتازة“. شكرتهما وقلت لهما مازحة: “كيـف يكـون ذلـك؟ ألـم تقـولا لي عنـد المقابلة الأولى في هذه الغرفة أنكمـا لا تريـدان رؤيـتي مـرة أخـرى لأني عذبتكمـا أثنـاء الغيـار عـلى جرحكمـا؟أجابني أكبرهمـا سـنًـا وهـو يكاد يبكي: “هل قلنـا مثـل هـذا الكلام؟ وهل صدقت أننـا كنـا نعـي مـا نقـول؟ كنا في ذلك اليوم في عذاب جهنم، أرجـو يـا ابـتي أن تسامحينا إذا كنـا قـد أخطأنا في حقك والمثـل يقـول لا حرج على مريض“. قلت لهما إنني أعلم أنهما مريضين، وإنني لم أقصـد عتابهما، وإنمـا كنـت أمزح معهما لأنهمـا اليـوم في حالة جيدة جدًا، فأسـتـرد الرجلان بشاشتهما وقالا: “نحـن يـا ابنتنـا مدينـان لـك بحياتنا وراحتـا بـعـد العـذاب الأليم، ولـن ننـسى لـك هـذا الفضـل مـا بقيت فينـا حيـاة، ولكنا لا نملك رد جميـل لأننـا فقراء، وكل ما نملكـه هـو أن نبسط أيدينا إلى المولى عز وجـل داعين لك أن يجزيك عنا كل خير، وأن ينقص من عمرنا ويزيد في عمرك ويبارك الله فيه“.

تركت هذين الرجلين الطيبين وأنا في غاية التأثر مما أبدياه نحـوى مـن شـعور وقـد سرح خيالي فيما ذهبا إليه. حقًا إن هذا الدعاء كريم وفريد، هل يوجد إنسان يطلـب مـن الله سبحانه وتعالى أن ينقـص مـن عمـره ويضيفه إلى عمـر شخص آخر؟ إن هذا الدعاء إنمـا قـد صـدر عـن نفـس راضية وقلـب عظيم، بـل عـبر فعلاً عما يتصف بـه بعـض الأشخاص مـن خـلـق كبير برغـم مـا يتمتعون بـه مـن بساطة في التفكير وتقشف في الحياة.

توجهـت بعـد الظهـر مـع الدكتور عباس الغريني إلى المستشفى الوطني لزيارة مرضانا، وبدأنا بالصبي الذي كان يخشى على ساقه، واستقبلنا الصبي بوجـه باسـم بعـد أن زالت عنـه كل آثـار الألم، وقـف الدكتور الغريـني يداعبـه ويستفسر عن حالتـه مـن الطبيب السوري الذي أبلغـه أنـه في تحسن كبير، وأن حرارتـه طبيعية، وأنه يستطيع مغادرة المستشفى قريبًا…. كان الصبي ينظر إلينـا ووجـهـه ينطـق بعبارات العرفان بالجميـل والتأثير العميق، والتفـت إليـه الدكتـور الغريني وسأله وهـو يـربـت عـلى وجـهـه: كيـف حالـك اليـوم يـا بـطـل؟ وإذا بالصبي يجلس في فراشـه ويجـذب فجأة يد الدكتور الغريني ويقبلهـا بحـرارة دون أن يتكلم، لأنهـا اليـد الـتي خففـت عنـه آلامـه وأنقذت ساقه، تأثرنا جميعًا مـن هـذه الحركـة لدرجـة لـم أتمكـن معهـا مـن ضبـط شـعـوري فأدرت وجهي وخرجت من العنبر بسرعة، وبعد لحظات لحق في الدكتور عباس الغريني وعيونـه شـبه دامعة.

حقًاإن في هذه الدنيـا أناسًـا مـا زالـوا يعيشون بقلـوب بيضـاء….. قلـوب عامـرة بالحب…. تفيض بالخيربل تفيض بالإيمان.

وفي يوم السبت 10 مـن يونيـو سـنة ١٩٤٥ واصلنـا أعمالنـا كالمعتاد في العيادة الخارجية بمدرسة التجهيز الأولى للبنين لإسعاف المصابين الذين يترددون يوميًا للعلاج، كما قمنا بتموين المستشفى ودوائر الصحة في البلاد السورية بكل ما تحتاج إليهـا مـن معـدات جراحية وأدوات طبيـة، ووزعنـا المساعدات على الأمهات وأهالي المصابين. وحـوالي الساعة الواحدة ظهـرًا حـضرت إلى العيادة هنـاء، كريمـة شكري القوتلي، في السيارة الرسمية لرئيس الجمهورية، لاصطحابي إلى مقر الرئاسة. وهناك قابلني الرئيس والسيدة حرمه وكريمتـاه هـدى وهالة ورحبوا بي جميعًا أجمل ترحيب، خصوصًا الرئيس شكري القوتلي، وأثناء الحديث سألي شكري عن أحوال الجرحى وإذا كانت تصادفنا صعوبات أثنـاء قيامنـا بأعمالنا، فأجبتـه بـأن معظم الجرحى حالتهم طيبـة والآخرين في طريـق الشفاء التام، وأمـا عـن عملنـا فـإن الأمـور ميسرة لنـا، ونجـد مـن السيدات السوريات معاونة تامة صادقة. فأظهـر الرئيس رضـاه لمـا سـمعه، ثم صمـت وأخـذ يفكـر بـعـض الوقت، شعرت خلاله أنه يريد أن يقـول شيئًا مهمًا، وأنه يبحث عن الطريقـة الـتي يبـدأ بها حديثه، فـشرد ذهـني فيمـا عـسى أن أسمع وانشغل بالي لذلك، إلى أن قال رئيـس الجمهورية: “أرجـو ألا تظني يا آنسة حـواء هانـم أنـني دعوتك اليوم إلى هنـا لـكي أبحـث معـك شـؤون الجرحى، إذ أعـرف تمامًـا مـدى عنايتـك بشؤونهم وسهرك على راحتهـم، وإنما دعوتك لسبب آخـر، ذلك أنني قررت أن أنعـم عليـك بنيشان الاستحقاق السوري من الطبقة التي نمنحهـا عـادة لرؤساء الدول، ولـكل مـن يـؤدي خدمات جليلة لبلادنا، وبمـا أنـا لمسـنـا منـك أجـل الخدمات لشعبنا في دأب وتواضع، فـلا أقـل مـن أن نعـرب لك عن تقديرنـا واعترافنا بجهـودك الصادقة للتخفيف من الآلام التي يعانيها الشعب السوري في محنته الحالية.

لـم أدر مـاذا أقـول أو كيـف أتـصرف، إذ شعرت لأول مرة في حياتي بارتبـاك شـديد وحساسية خاصة للموقـف الـذي وجـدت فيـه، ومـر أمـام عيـني في لمح البصر شريط طويل لمـا سـيدور بخلـد زميلاتي أعضاء بعثة الهلال الأحمر إذا منحـت هـذا النيشـان دونهـن، لذلك جمعـت أطـراف شجاعتي وقلت للرئيس شكري القوتلي: “إني لا أتصـور أنني أستحق كل هذا التقديـر الـذي أعـتـز بـه وأفخـر مـن أجـل واجـب قمت بـه، وشكرت سيادته لهذا التقديـر الـذي أعـتـز بـه أشـد الاعتزاز ثـم رجـوت فخامنه أن يعفيـني مـن قبـول هـذا الإنعام الذي تفضـل بـه عـليَّ، وأضفت إنني أطلـب هـذا الإعفـاء ليـس مـن رئيس جمهورية سوريا وإنمـا مـن الـوالـد الـذي اعتبرني دائمًا ابنته الرابعة، وبرغـم مـا قلتـه شـعرت بحـرج لا حـدود لـه، إذ تصـورت أنـي أسـأت للشعور الطيـب الـذي أبـداه الرئيس القوتلي، ولكـن لـم يكـن هنـاك خيـار أو مـفـر مـن تـصرفي هـذا، لأن رأسي قـد امتـلاء بالمضايقات التي سوف تنتظرني والاحتجاجات والصراخ اللذين سألاقيهما من الجميع، الأمـر الـذي دعاني إلى المجازفة بمـا قلـت تفاديًا للعواقب الوخيمـة الـتي سـتنهمر عليَّ.

في هذه اللحظة التفـت شـكـري بـك إلىَّ وعينـاه تنطقان بالدهشة وظل ينظـر إلى دون أن يتكلـم، فترة خلتهـا دهـرًا، وأخيرًا تحـدث وقال: “عجبا يا ابنتي كيـف يـكـون هـذا الاعتذار، ولماذا؟ إنـه الحـدث الأول في حياتي الذي يصادفني في مثـل هـذا الموقف“. فقاطعت فخامته وقلت: “أرجو أن يلتمس السيد الرئيس لي عذرًا إذ أنـا تجـاوزت حدود اللياقة بهذا الطلب، ولكن هناك ظروف قهرية خاصة تقف دون ذلك“. سألني الرئيس: “وما هي الظروف الخاصة التي تتعـدي مشيئة رئيس الجمهورية؟أجبـت: “أخشى يا سيدي الرئيس أن ينتج عن انفرادي بهذا النيشان شعور بالاستياء لدى سيدات بعثتنا، ومنهـن مـن تـتـولى رئاستها ووكالتها“. قال: “المسألة يا ابنتي ليست بالمراكز التي يحتلهـا الإنسان أو الألقاب التي يحملهـا، ولكـن تقديـر لـمـا يبذلـه مـن نـفسـه ووقتـه في سبيل الغير، وبما يضحـي بـه مـن أجـل الإنسانية، ومع احترامي الشديد لسيدات البعثة ونبل مقاصدهـن إلا أنهـن لـم يكلفـن أنفسهن الكثير في هذه الظروف، ولعلـك تعلمين أنـي كـنـت مـن كـبـار المكافحـين مـن أجـل قضايـا بـلادي مما أدى بي إلى دخول السجون مـرارًا، مـن كـثـرة مـا أقمت في ظلماتهـا تخيلت في وقـت مـا أن الطريقة المثلى للخلاص من هذه الحياة البائسة هي الانتحار، فأقدمـت عـلى قـطـع شـريـان يـدي اليسري ولكـن طبيب السجن سامحه الله استدعي في الحال وأسعفني، ومـا أريد أن أقولـه إننا بحكـم جهادنا وكفاحنا المرير في الماضي يمكننا أن نقـدر أهـل الكفاح وأن نـزن الشخص بعمله، ومن ثـم نقـدر مـن يستحق التقدير، وأنـا بإنعامـي عليـك لـم أغبــن أحـدًا، لأن هنـاك فـرق كبير بين إنسان يضحي بوقتـه وصحته في سبيل توفير الراحة للآخرين وبين إنسان يأخذ الأمور بالبساطة وينتهز الفرصة للترويح عن النفس“.وقلت لشكري بـك: “يكفيني تقدير فخامتكم لي وهـذا أكثر مما أتمناه واعتبر أن النيشان قـد وصلني، ولكني ألتمس المعـذرة وأرجـو أن تصفحـوا عـني“. فـرد الرئيس بقوله: “إذا كانـت هـذه رغبتـك فـلا يسعني إلا الإذعان، ولكني أحب أن أضيـف أمـرًا، ذلك أنه لأول مرة في التاريخ، على ما أعلم، يعتذر شخص عـن قبـول منحـة تقديريـة مـن يـد رئيس دولة، وأن يقبـل رئيس الدولة مثـل هـذا الاعتذار“.

انصرفت بعد ذلك دون إن أكشف للرئيس القوتلي عن السبب الحقيقي المباشر الذي دفعني إلى الاعتذار عـن قبـول هـذا النيشان، ذلك أن سيدات الهلال الأحمر المصري كن على اتصال وثيق بالقصر الملكي في القاهرة، وكان في مقدورهـن إقناع الملـك بعـدم الإذن لي بحمل النيشان، ومما يؤكد ذلك أن السيدة تفيدة هانـم حـرم الدكتور عبـد الحليم محفوظ استدعتني عقـب عـودتي مـن العيادة الخارجية، ولمـا دخلت غرفتهـا وجدتها غاضبة ثائرة، وقـد تجمع حولها بعض السيدات السوريات يحاولن تهدئتها، وعلمت أن سبب تلك الثورة العارمة أن جريدة القبس الدمشقية نشرت مقالاً أثني فيه كاتبه على الأنسة حـواء إدريس العضـو البارز في مجلس إدارة جمعية الاتحاد النسائي المصري، ولم تكد تفيـدة هانم تراني حـتى اندفعت واقفة ووضعت يديها على خصرها وأخذت تكيـل لي أمام السيدات السوريات – ألفاظ الـردح على طريقة نساء الشارع، ثم أمسكت بجريدة القبس وأطارتهـا نحـوي قائلة: “كيف تنفصلين من عضوية الهلال الأحمـر المصري وأنـت عضـوة في بعثة السيدات وتعملين هنـا في زي الهـلال؟، ولمـا حاولت أن أوضح لهـا أنـي لـم أقابـل أحدًا من الصحفيين منذ وصولي إلى البلاد لعدم توفـر الوقـت لمثـل هـذه المقابلات وتبادل الأحاديث معهم، قالت: “إذن لمـاذا لا تكذبين ما نشر؟فقلت لهـا إن ذلك الطلب غريب حقًا، إذ كيـف أجد الوقت للتكذيب في حين أنني لا أجد الوقت للإدلاء بحديث مع أحـد مـن الصحفيين، كما لا أجد الوقت لقراءة ما يكتبون، فكيـف أكـذب مـا لـم أصرح به، ثم تركتها ومضيت إلى غرفتي، إلا أنها بعد لحظات حضرت عنـدي وأبـدت أسفها واعتذارها، وبخاصة أن السيدات السوريات ومن بينهن بعثة الهلال الأحمر السوري وجهـن إليهـا اللـوم والنقـد على ذلك الموقف الذي وقفتـه مـني، فقلت لهـا إنـه لا داعي للاعتذار، إذ إن ذلك لن يحمي الضيـق الـذي سببته لي بانفجارها في وجهي بما ينافي الصواب، خصوصًا وأنه لم يكن هناك ما يدعو إلى ذلك.

كان من الطبيعي والوضـع عـلى مـا ذكـرت ألا أنفرد بقبول النيشان الـذي كاد أن ينعم به على رئيس الجمهورية السورية في إطار ذلك الجـو المليء بالحقد والغيرة والضغائن، إذ لو كنـت قـد فعلت وقبلته، لما سلمت من العتاب والمضايقات.

في مسـاء ذلـك اليـوم تناولنـا طعـام العشـاء بدعـوة مـن حـرم حسين باشـا القوتلي وشقيقاته بمنزل الأسرة الكائن (بالحي القديم ) أحـد أحياء دمشـق. كان المنزل مشيدًا عـلى طـراز عـربي رائـع لـه حديقة منسقة تنسيقًا آية في الإبداع، تتوسطها نافورة ميـاه هائلة وبهـا حـوض أشبه بأحواض السباحة، وكان المنزل أشبه بمتحف عظيم، إذ ضـم بين جدرانـه عـددًا كبيرًا من التحف العربيـة النـادرة.

ولما جلسنا إلى موائد الطعـام الـتي صفت وسـط هـذا الإطار الجميـل مـن التحـف شعرت أني جلست فـوق شيء صلب تحـت (شـلته) مقعـدي، فقمت لفـوري أستكشـف الأمر، فإذا بي أعـثـر عـلى لفافـة بهـا مجموعة كبيرة من المجوهرات. فناديت في الحال إحـدى سيدات الأسرة وكانـت زوجـة حسـن باشـا القوتلي وقلـت لهـا مازحة:”أرجـو يـا عزيزتي أن تخلصيـني مـن هـذه التهمة، وناولتهـا اللفافة بما تضمـه مـن ثـروة، ضحكت وقالت بلهجتهـا الرقيقة: “ولو ياسـت حـواء، لا شيء مـن مقامـك، وحسب القانـون فإن لك عـشـر مـا عثرت عليه، وهـذا معناه أن لـك قطعـة مـن هـذه المجوهرات“. فأجبتها ضاحكة: “هذه مفاجأة سارة لم أكن أتوقعها، وعلى العموم فإني أتنازل عن نصيبي هـذا عـن طـيـب خـاطـر إلى جمعية الاتحاد النسائي السـوري“. ولـم أكـد أنتهـي من هذه الجملة حتى فوجئت بالسيدة عادلة بينهم الجزائري رئيسة الجمعيـة تقـول للسيدة صاحبـة تلـك الصُـرة مـن المجوهرات: “أرجـو يـا سيدتي ألا تتراجعي في قولـك هـذا، واعلمي أنـه ديـن عليـك أمـام جميع هؤلاء الشهود، وأننـا سـنطالبك بـه حتمًـا“. فضحكت السيدات الحاضرات وصفقـن لهـا، وقامـت بعـض عضـوات الجمعية بشكري على هذا الكـرم كأن تلك القطعة المهداة قـد تبرعت بهـا مـن جيـبي الخاص.

وفي صباح يوم ٢١ يونيو سنة ١٩٤٥ تلقيـت وأنـا في مقـر عمـلي رسالة من السفارة المصرية في بيروت جـاءت بها سيارة جيب تابعة للجيش السوري، وكانت هذه الرسالة نصًا للحديث التليفوني الذي دار بين السيدة هدى شعراوي والمسؤولين بالسفارة، والذي تضمن توصيتي بالبقاء في سوريا بعـد عـودة البعثة إلى حين وصـول مبلـغ ثلاثة آلاف جنيه مصري قيمة ما تبرع به الاتحاد النسائي المصري لمنكوبي سوريا، حتى أشرف على توزيعـه طبقًا لما تضمنته الرسالة وهـو عـلى الوجه الآتي:

۱۰۰۰ جنيه باسم حرم فخامة الرئيس شكري القوتلي.

۱۰۰۰ جنيه باسم الهلال الأحمر السوري.

۱۰۰۰ جنیه باسم الجمعيات الخيرية السورية الأخرى.

وبعـد أن انتهيـت مـن عمـلي توجهنا إلى الدكتـور عبد العزيز محمـود رئيس البعثـة الطبية، وأطلعته على الرسالة واستأذنت منه في التخلـف عـن البعثة، ألا أنه لم يقبـل وقال إنه لا يستطيع إطلاقًا أن يتركني هنـا وحيـدة بمفردي لأنه المسؤول عنـي كمـا هـو مسؤول عن أعضاء البعثة جميعهم، وإن واجبه يحتم أن أرافقـه حـتى العودة إلى أسرتي سالمة، نظرًا لخطورة الأحوال في سوريا، وأضاف سيادته إلى ذلك القول إنه من الجائز جدًا أن يعاود الفرنسيون ضرب المدينـة مـن جـديـد فيجعلوا منهـا أنقاضًا، ونصحني أن أكتب إخطارًا إلى البنـك أحــدد فيـه أسـماء الجهات المبينـة بتلك الرسالة حـتى يـتـولى البنك توزيع المبلغ على هذا الأساس دون مبرر لبقائي، وهكذا تـم حـل هـذا الإشكال.

في مساء ذلـك اليـوم دعيـت إلى حفـل عشـاء بمنزل سـعـد الله بك الجابري، رئيـس الوزراء السابق، وكانت الداعية شقيقة سعد الله بك، أمـا هـو فـكـان قـد فـرَّ مـن دمـشـق في صحبـة البـابـا الـروسي الذي كان يـزور سـوريا وهبـط المدينة عندمـا كانـت المعركة قـد بلغـت الـذروة، وقصـت عـلى شـقيقة سعد الله بك أن البابـا قـد تملكـه الرعـب إذ تعرض لخطـر المـوت مـن قذائف الفرنسيين عندما كان يقـف في بهـو فـنـدق أورينـت بالاس، فأخـذ يهرول هنا وهناك كلما سمع طلقة رصاصة أو قذيفة مدفع، مما جعل السلطات السورية تتصل بالقنصلية البريطانية لتطلب إليهـا التوسـط لـدى الفرنسيين لوقف إطلاق النار حتى يتمكن البابـا مـن مغادرة حـدود سوريا، وأن سعد الله بك انتهـز وجوده في زيارة البابا وتمكـن مـن مصاحبته هاربًا من السلطات الفرنسية التي كانت قد بيتت النية لاغتياله، وهكذا نجـا رجـل سـوريا مـن مـوت محقق. قضيت مع سيدات الأسرة وقتًا ممتعًا وأنا أستمع إليهن، وكل منهـن تحـاول أن تحكي قصة هروب سعد الله بك، وكيف تنكـر حـتى خـدع الفرنسيين.

كثرت الدعـوات الـتـي وجـهـت لي بمناسبة قـرب سـفـري بعـد أن مكثـت في دمشـق وبـاقي المدن السورية تسعة وعشرين يومًا في مهمـتـي الـتي وفـدت مـن أجلهـا.

من ضمن الحفلات والاستقبالات التي دعيـت إليهـاء الحفلـة الـتي أقامتها أسرة مـردم بك، الأديب والشاعر السوري المرموق، وقد امتازت تلك الحفلـة بـأن ضمت جميع الشخصيات السورية ذات الشـأن رجـالاً ونساًء، وقـد تـحـول ذلك الاستقبال إلى ندوة أدبية ذات مستوى ممتاز ألقيت فيها الخطب الشيقة والأشعار الرائعة. كما دعيت إلى حفلة سيدات الاتحاد النسائي السوري، وكانت عبارة عن مؤتمر نسائي ضخم، نوقشت فيـه موضوعات الساعة واتخذنـا فيـه جملـة قـرارات مهمـة، دللـت عـلى مـا تتمتع به الجمعية من وعي قومي كبير.

ومـن ضمـن الحـفـلات الـتي حضرتهـا، تـلـك الـتي أقامهـا لنـا نـصـوح بـك البخـاري وزيـر معـارف سـوريا والسيدة حرمه، حيث قضينا سهرة هادئة، وسررت فيهـا بلقـاء بعـض الشخصيات السورية التي كنـت أود لقياهـا قبـل مـغـادرتي سـوريا. وقـد فـرحـوا بلقـائي وقضوا معظم السهرة في صحبتي حتى احتج باقي المدعوين قائلين: “شو القصة؟ هـل هـذا استيلاء عـلى حـواء هانم.. نحن أيضًـا لنـا حـصـة فيهـا“.

وإن أنـسى فـلـن أنـسى تلك الدعـوة الـتي تلقيتهـا للمرة الثالثة بمفـردي لتناول طعـام الغذاء مع الرئيس شكري القوتلي وأفراد أسرته لقـرب سـفر البعثة إلى مصر بعد انتهاء مهمتهـا، وقـد تهيبـت لقـاء شكري بـك هـذه المرة اعتقادًا مني بأنـه مـا زال غاضبًا لرفضي قبـولي إنعامـه عـليَّ بنيشـان الاستحقاق. حضرت هنـاء القوتلي لتصحبـني إلى القصر الجمهـوري، وكنـت أدعـو الله خلال الطريق أن يمنحني القـوة لمواجهـة شـكري بـك ولكن استقبلني ذلك الإنسان الطيب بحفاوة جعلتني أشعر أنني نزلت في نفسه منزلـة الابنة الرابعـة لـه، ولم يذكر لي شيئًا فيما يخص موضـوع النيشان، كما حبتني السيدة حرمه بحنانها ورعايتها، وقضيت مع تلك الأسرة السعيدة وقتًا شعرت فيـه أنـه مـليء بأجمـل المشاعر الطيبـة. وعنـد انـصرافي مـن دار الرئيـس كـرر لي شكري بـك والسيدة حرمـه شـكرهما وتقديرهما للخدمـات التي أديتهـا لأبنـاء سـوريا المنكوبة، وقدمت لي السيدة حرم الرئيس قطعة قماش من البروكار الفاخر، كمـا قـدم لي فخامته حقيبـة يـد (سواریه) مشغولة بخيوط من الفضة الخالصة قائلاً: هذه يا ابنتي ليست نيشانًا، ولا يمكن أن تتسبب في إحراجـك أمـام زميلاتك، وقد أردت أنا وزوجتي أن تحمـلي مـنـا تـذكارًا متواضعًا، فقبلت هدیتهمـا الغالية وشكرتهما على شعورهما الطيب النبيـل نـحـوي قائلة إنه يكفيني منهمـا هـذا الشعور الذي جعلي ألمـس حنان الأم ورعاية الأب.

دعانا خالـد بـك المعظم محافظ دمشق في إحـدى الأمسيات إلى نزهة خارج المدينة يعقبهـا، تناول العشاء في مطعـم دُمـر عـلى ضفاف نهـر بـردى، ودُمـر هـذه مكان غايـة في الجمال يقع في مدخـل دمـشـق تحيـط بـه تـلال عاليـة تتساقط منها شلالات صغيرة، ومنظـر هـذه الشلالات يعـد مـن الروائع التي نسقتها الطبيعة. وفي حديقـة دمـر عـلى ضفة النهـر أقيمت قهـوة ومطعـم عـلى حـافـة النهر، وأقيمت أكشاك خشبية بدائيـة – كأكشاك الموسيقى التي نشاهدها أحيانًا في بعض الحدائق – نسقت تنسيقًا جميلاً وامتدت مقدمتهـا داخـل النهـر بمقـدار مترين تقريبًا تسندها أغصان الأشجار غير المصقولة، ويحلـو للزائر أن يجلـس داخـل هـذه الأكشاك لغرابـة شـكلها وجمالها.

عند وصولنا إلى المطعم تفرقنـا جماعات، كل منها احتلت أحـد هـذه الأكشاك، وكنت قد تأخرت بعض الوقت في حديث شيق مع سعد الله بك الجابري الذي كان في طريق عودتـه مـن بيروت، ولمحتـه خـارجًـا مـن المقهى بعـد اسـتراحة قصيرة فاستوقفني وأخـذ يتحدث معي، وكان خفيف الظـل جـدًا مرحًا كعادته، وراح يلقي النكات على الفرنسيين. وعندمـا تركتـه وانضممت إلى مجموعتي بالكشـك الـذي جلسـت فيـه وجـدتـه مزدحمًا جـدًا، ولـم أجـد لي أي مكان ولـو بجانب الحواجـز فـأخـذت مجلـسي في وسطه أمـزح مع صديقاتي السـوريات، وأثناء جلوسي كنـت أشعر بإيحاء عميـق في نفسي جعلني لا أطمئن إلى سلامة ذلك الكشك لكثرة الأشخاص الذين تواجـدوا فيـه، وخلـت أنـه لـن يصمد أمام ثقلهم، فطلبت إلى صديقاتي أن نبرح ذلك المكان ونبحـث عـن كـشـك آخـر أقل ازدحامًـا، ولـم أكـد أنتهـي مـن اقتراحـي هـذا حـتـى بـدأ الكشك ينهـار محدثًا دويًا فظيعـا مـن تحطم أعمدته الخشبية، ومـال الكشـك كلـه إلى الجهـة الـتـي تجـري فيهـا مياه النهر بانحـدار شـديد، ومعنى ذلك أن سقوط أي فـرد مـنـا في النهـر فيـه الـهـلاك لا محالة، وكان من الطبيعي أن يستولي الذعر علينا جميعا ويسود الهـرج ويندفع الجميع نحـو المدخـل طالبين النجـاة لأنفسهم، فكان التصادم والتلاحم والإصابات وبخاصة بين السيدات، لأن الرجـال كانـوا أول مـن أسرع إلى باب المنجـي، بـاب الخـروج، وكان من نصيبي إصابة في ساقي وأخـرى في معصمي نتيجة اصطدامي بأحـد أعمدة الكشـك. خـرجـت مـن الكشك إلى الحديقة، بـل نـجـوت بنفسي وأنا أكاد أخطـو عـلى قـدم واحـدة لشدة الآلام التي كنت أعانيها، وجلست على أقـرب مقعـد وجدته في طريق وأنـا أتلفت يمنة ويسرة، تنطـق عينـاي بمـا أشعريه مـن ألـم، وهالني أن لفـت نـظـري أن مضيفنا في ذلك الحفل السيد خالد العظم كان يجلس على بعـد خطـوات مـن أحـد الأكشاك الأخـرى ولـم يتحـرك مـن مكانه، ولـم يأبـه لمـا حـدث لبعـض ضيوفـه، وكأن الأمر لا يعنيه بحـال مـن الأحوال، وظهـر هـذا الرجـل بمظهـر تـجـرد تمامًـا مـن الـذوق واللياقة والشهامة؛ بـل خيـل لي أنه إنسـان بـدائي يعيش على الفطرة لا يهمـه مـن الدنيا إلا متعته وكيانه وحـده فـقـط. لمحـني في مقعـدي بعـض أطباء البعثـة فأسرعوا إلى، حيث أجـروا بعض الإسعافات اللازمة بعـد أن تبين لهم أن الأمر لا يزيـد عـن عـدة سجحات بالساق والمعصم، ولمـا خـف الألـم عـني غـادرت مكاني منسحبة من ذلك الحفل، ولـم أنـس وأنـا أبـارح المكان أن ألتفـت حيـث خـالـد بـك المعظم وأوجـه إليـه بـعـض عبارات اللـوم على تلك اللامبالاة وذلك الاستهتار اللذيـن ظـهـر بهمـا تجـاه ضيوفـه، وكأن أرواحهـم رخيصة في نظـره.

تهيأت البعثة إلى العودة إلى أرض الوطن، وقبـل السـفر اجتمعت بأعضاء الاتحاد النسائي السوري لبحث موضوعات الساعة، واستخلاص النتائج التي يتعين عرضها على السيدة هدى شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري. وعقب ذلك دعيـت إلى حفلـة أقامتهـا لي مجموعـة مـن الشـابات السوريات تكريمًـا لي مـن جهـة، ولإتاحة الفرصة لصديقـاتي ومعارفي للاجتماع بي قبـل السـفـر مـن جهـة أخـرى، وقـد أذنت لي السيدة دولـت أبـو الهـدى رئيسة بعثة الهلال الأحمر المصري بحضـور ذلك الحفـل قائلـة إنـني أستحق كل تكريم لأنني عملت كثيرًا وتعبـت كثيرًا، وطلبـت مـني أن أرفـه عـن نفـسي في ذلك الحفل، والحقيقة تقال، لـم أكن أتصور أن أجـد مـن زميلاتي في البعثة سيدة تحمل تلك الروح الطيبة مثل السيدة دولت، وهالني الفارق الكبير بينها وبين السيدة حرم الدكتور محفوظ التي أخذت تطلـق الألفاظ النابية أمام صديقاتي السوريات لمجرد أن إحـدى الصحـف كـتـبـت أنـني عضـو بـارز في جمعية الاتحاد النسائي المصري دون أن تذكـر عضويتي في بعثة الهلال الأحمر المصري.

ولن أنسى أبدًا تلك المقالات التي تحمل بين سطورها وعباراتها الوفاء والتقدير، التي نشرتها الصحف السورية صبيحـة يـوم سـفر البعثة وهـي جـرائـد الكفاح والقبس والإنشاء. وهذا نص أحـد تـلـك المقالات وهـو الـذي نشرته جريدة الإنشاء في عددها الصادر بتاريخ 19 حزيران (يونيو) سـنة ١٩٤٥:

مـآثـر بـعـثـة مـصـر الـطـبـيـة

ما برحـت البعثة الطبية المصرية والهلال الأحمـر والاتحاد النسائي المصري منـذ قدومها إلى سوريا تبذل كل ما في وسعها للتخفيف من الآثار الدامية والدموع المنسكبة التي خلقتهـا حـوادث النضال في سبيل الحرية والاستقلال. فقـد قـدم الاتحاد النسائي والهلال الأحمر المصريين جميع المساعدات القيمة بهمة السيدة حـواء إدريس، ونحن لا يسعنا، والبعثات على أهبـة العـودة إلى ديـار مصر الشقيقة، ألا أن نشكرهما على ذلك المجهود الجبار الذي قامت به البعثة الطبية، ونخص بالذكر الدكتور عباس الغريني، إثر افتتاحها مستشفى تجهيز البنين الأولى عقب جولاتها في المدينة المنكوبة برفقة الاتحاد النسائي السوري واطلاعهـا عـلى حالة الجرحى، ومـن ثـم مثابرتهـا حـتى اليوم عـلى مـداواة مـا يقـرب مـن ٤٨٤ جريـح يوميًا“.

ولـن أنـسى أيضـًا تلـك القلادة الرائعة التي تعتبر بحـق قطعـة مـن الأدب شرفني بهـا شعب سوريا الشقيق ممثلاً في رؤساء أحياء دمشـق الذين عبروا للبعثـة بصفة عامة ولي بصفة خاصة، عـن وفائهـم وشـعورهم النبيل، هـذه القلادة هـي ذلـك الكتـاب الذي تلقيته في الحفل الذي أقيم بمناسبة عودة البعثة إلى مصر، وقدمته لي السيدة عادلـة حـرم الأمير مختار ورئيسة الاتحاد النسائي السوري، وقد رأيت أن أنشره بنصه فيما يلي عرفانًـا منـي وامتنانًا: لقـد كـانـت أيامًـا تحمل الكثير مـن الصـور والذكريات والانطباعـات.

سافرت مع السيدة هدى شعراوي إلى لبنان في شهر سبتمبر سنة ١٩٤٤، وذلك لمناقشة قانـون الاتحاد النسائي العربي العام في الاجتماع الذي عقد في فنـدق سرسـق بمدينـة عالیٌ، حضرته جميـع مندوبات الهيئات والاتحادات النسائية في البلاد العربية. وتم في ذلك المؤتمر التصديق على القانون الذي أعدته السيدة هدى هانم وراجـع صياغته القانونية كل من الأستاذين محمـد عـلي علوبة باشا وزكي علي باشا، وبذلك ولـد الاتحاد النسائي العربي العـام. وعقب ذلـك سـافرنا إلى فلسطين بدعـوة مـن الاتحاد النسائي الفلسطيني.

بهذه المناسبة تلقيـت عشرات البرقيات ترحيبًـا وتأييدًا، أذكـر أحـدهـا وردت لي مـن السيدة حسـن القاســم مـن المجاهـدات الفلسطينيات، وجـاء بهـا:

حيفا في ١٤ سبتمبر سنة ١٩٤٤

السيدة حواء إدريس

الاتحاد النسائي/ القدس

الفتاة العربية تقدر جهودك بجانب الزعيمة الجليلة هدى هانم وفلسطين المقدسة ترحب بمقدمك،

عنهن

حسن القاسم

المديرة

سافرت في أغسطس سنة ١٩٤٥ مع ابنة عمتي السيدة هدى شعراوي إلى لبنان، وأثنـاء إقامتنا في فنـدق سرسق في سـوق الغـرب حـضر مـن سـوريا السيد عـوني عبـد الهـادي أحـد الزعماء الفلسطينيين في ذلك الوقت، وبرفقتـه السيدة حرمـه لـدعـوة ابنـة عمـتي لزيارة القدس لتعمل بدورها على مصالحة الأطراف المتنازعة على زعامة فلسطين، نظرًا لأن الكثير من الأسر القوية رأت أنهـا أحـق بتلك الزعامة. وهكـذا أنهينـا رحلتنا إلى لبنان وسافرنا إلى القدس، ونزلنـا في ضيافـة السـيد عـوني عبـد الهـادي والسيدة حرمـه لازدحام الفندق الوحيد المناسب بالقدس بالنزلاء، فضلاً عـن شـغل معظم أجنحته برجـال القيادة البريطانية، وهـو فـنـدق الملك داود، وبقينـا بتلك المدينة أسبوعًا كاملاً نجتمع بزعمـاء الحركة الفلسطينية بمنزل عـوني عبـد الهـادي، وقابلنا الكثير مـن أفـراد أسر الحسيني والنشاشيبي والدجـاني والتاجي وعبـد الهـادي والعلمي، كمـا قابلنـا قـائـد الثورة في تلك الأيـام وهـو السيـد عـارف عبـد الـرازق، وقد حاولت ابنة عمتي السيدة هـدى شعراوي في جلسات المصالحـة الـتي عقدتهـا طـوال أيـام ذلك الأسبوع قصـاري جهدها إقنـاع هـؤلاء الأطراف المتنازعة. وذكـرت لهـم أنـه يتعين عليهـم لـمَّ شـملهم وضم صفوفهم لمواجهة الأخطار التي تهددهم في عقر ديارهم، شارحة أنه ليس وراء تلك الخلافات والمنازعات والمشاحنات إلا كل هزيمة معنوية مما يؤدي في النهاية إلى فقدانهم بلادهم، وهـو مـا يسعى إليـه العـدو المتربص بهم.

لكـن مـع الأسف الشديد ذهبـت كل تلك الجهود التي بذلتها السيدة هدى شعراوي أدراج الرياح، وباءت مساعيها بالفشـل.

كنت في زيارة فلسطين في شهر أبريل ١٩٤٦ في مهمـة يمكـن أن توصف بأنهـا سياسية استطلاعية، وذلك لتقصي الحقائق عن موقف الصهيونيين من العرب، ومدى معاملتهم لهم، وذلك لتضارب الأخبار والأنباء التي كانت تصلنا في هذا الشأن، وبخاصـة قـد كنـا في حاجة إلى جميع المعلومات الصادقة لتتمكن السيدة هدى شعراوي من تقديمها إلى مؤتمر أنترلاكـن الـذي محددًا لعقـده شهر يونيـو مـن السنة نفسها.

وقد انتهـزت السيدات الفلسطينيات فرصـة وجـودي في حيفـا، وطلـب مـني وفـد منهـن أن أشترك بصفني مندوبة عن الاتحاد النسائي المصري في المؤتمر الكبير الذي يعقد في مدينة طولكرم ، ويضـم وفـودًا من جميع المنظمات النسائية الفلسطينية للرد على مقترحات اللجنة الأنجلو أمريكية، التي زارت فلسطين لمحاولة فض النزاع الناشب بين العرب واليهود في مسألة تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقـد أتـت تلك المقترحات مخيبة لآمـال العـرب، إذ بدل أن تنصف اللجنة أهل فلسطين وشعبها فرضت عليهـم قرارات مجحفة قاسية توصلـت فيهـا إلى تقسيم فلسطين بين الطرفين المتنازعين محاولة منها لإنهاء تلك المسألة.

وقـد قبلـت تلـك الـدعـوة وهيأت نفسي لهـا، فاجتمعـت بـوفـود الجمعيات النسائية في جميـع لـواءات فلسطين لدراسة الموقف لعلنا نستطيع تـدارك الأمر، أو تخفيف وطـأة تلك القرارات، وفي أسوأ الأحـوال نسمع العالم الخارجي صوتنـا لعـل شـعوبه تتحـرك وتؤيـد عـرب فلسطين في موقهـم مـن تلـك القضية، التي توشك أن تفقدهـم بلادهـم إلى الأبد.

وقد اشترك في ذلك المؤتمر ممثلات الجمعيات النسائية في البلاد العربية، كمـا ضـم مندوبات عن جمعية الاتحاد النسائي في القدس وفروع الجمعية في لواءات حيفا ويافا وعكا ونابلس وطولكرم والناصرة ورام الله وغـزة.

وقد دارت مناقشات حامية استمرت يومًا بأكمله، وفي نهايته أصدر المؤتمرون القرارات التالية:

1- تخصيص يوم في كل سنة يسمى يوم الأرض، تقوم فيه نساء العالم العربي بجمع الأموال لإنقاذ أراضي فلسطين.

٢تأليف لجنة في كل مدينة في فلسطين لتتعاون وتعمل مع لجنة المقاطعة.

3- إرسال خطاب إلى السيدة هدى شعراوي، باعتبارها رائدة المرأة العربية، يطلب إليها فيه العمل على تمثيل المرأة في مجلس الإدارة المؤقت للبنك المزمع إنشاؤه بناء على طلبها لتمويل أراضي فلسطين، وكذلك تمثيل المرأة العربية في جامعة الدول العربية لتنظيم الدفاع عن المشكلة الفلسطينية. والعبارة الأخيرة أضيفت بناء على اقتراحي هذا،

وقد تقدمت بالإضافة إلى ما سلف باقتراحين لم يتخذ فيهما أي قرار:

أولهماكتابة خطاب لرئيس وزراء بريطانيا نقول فيـه (نحـن نسـاء جميع البلدان العربية المجتمعات في مدينة طولكـرم عـلى أتم الاستعداد لإشعال نـار ثـورة عارمـة تلهـب الشرق الأوسط كلـه ضـد سياسة بريطانيا في المنطقة، ما لم توقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وينقطـع سـيـل الـعـدوان المستمر على زعماء البلاد وأفراد الشعب.

ثانيهماتأليـف لجنة تضم نخبـة مـن نسـاء البلاد العربية بالدعاية الواسعة لقضية فلسطين في الأوساط والمجالات العربية لمحاولة كسب الرأي العام العالمي، وفي هـذا أكبر سند لنا.

هذان الاقتراحـان لـم يتخـذ فيهمـا أي قـرار كـمـا قـلـت، ذلك لأن السيدات الحـاضرات جميعهـن رفـضـن إدراجهمـا ضـمـن بقية الاقتراحات، خشية أن تنتهز بريطانيا الفرصة للتنكيل بهـن في الظروف الدقيقة الـتي تمـر بهـا قضية فلسطين من جهة، وخوفًا من البطش بأفراد أسرهن الموجودين في المعتقلات أو المنفي اعتقادًا منهن أن مثل هذين الاقتراحين سيزيدان مـن أمورهـن تعقيـدًا.

استأنفت في المساء المجتمعات اجتماعهن في منزل السيدة حرم عفيف الحاج إبراهيم وبدعـوة منهـا، تلك السيدة التي كانت تشتعل حماسًـا بقضايا البلاد العربيـة برغـم كبر سنها، بـل بـرغـم عجـزهـا عـن مـجـرد القيام بأي نشاط لملازمتهـا الفـراش مقيـدة به دون حراك لمرضهـا بمـرض مزمـن لا يـرجـى منـه شـفاء، ولـم تـكـن تستطيع إلا أن تسطر بقلمها العديد من الاحتجاجات الوطنية تنشرها في الصحف. هكذا علمت همسًا بالحالة الصحية لتلك السيدة العظيمة عندمـا قـدمـوني إليها في غرفة نومهـا، فأكـبرت فيهـا وطنيتهـا برغـم مـا ألـم بهـا مـن ظـروف.

انفض ذلك الاجتماع بعد أن تم انتخاب وفـد مـن المجتمعات لمقابلة مستر سمرفيل، مندوب الحكومة البريطانية في لـواء طولكرم، وكنـت أحـد أفـراد ذلـك الـوفـد باعتبـاري ممثلة لجمعية الاتحاد النسائي المصري.

كنت عند بداية تشكيل ذلك الوفـد أرى أنـه ليـس مـن الصـواب مقابلة مستر سمرفيل لأنه باعتباره موظفًـا عـامًـا لـم يكـن سـوى منفذًا لمـا تمليـه عليـه حكومته، وكان من رأيي أن نسعى إلى الرأس المدبر لـكل تلك المآسي وهـو رئيس وزراء بريطانيا، بدل أن نجادل الذَّنـب الـذي لا حـول لـه ولا قـوة، ولكـن رأت أغلبية السيدات مقابلـة مسـتر سمرفيل فلم أر مناصًـا مـن الـنزول عنـد ذلـك الـرأي. ذهبنا إلى قصر المندوب الإنجليزي حـوالي الظهـر فوجدناه ينتظرنـا عنـد البـاب متهيء لاستقبالنا، وبالرغـم مـن سياسـة الإنجليز الاستعمارية العنيفـة فـقـد قـام ذلك المنـدوب باستقبالنا بكل أدب واحترام، وهـي إحـدى الصفات اللصيقة بأخلاقهم التي اشتهروا بهـا.

كان وفدنا النسائي يضـم اثنتي عشرة سيدة من رئيسات فـروع الاتحاد النسائي في جميع لواءات فلسطين، وبعـد التعارف وتبادل التحيات المعتادة أخـذت كل سيدة مجلسها حسب ترتيب السن. ولمـا كـنـت أصغـر الموجودات فقـد جـاء مقعـدي في آخـر الصـف حيث كان جلوسي في مواجهـة مسـتر سـمرفيل. وبعـد لحظـات أقبـل الحاجـب بأقـداح القهـوة وقدمهـا إلى الحاضرات، وعندمـا مثـل أمامـي اعتذرت عـن الـشراب فانسحب الحاجب، إلا أن مستر سمرفيل لاحظ ذلك، وحاول أن يقدم لي فنجان القهوة بنفسه، ولكـني كـررت الاعتذار بنـوع مـن الضيـق لـم يـغـب عـن فطنته، إذ فهـم أن وراء هـذا الاعتذار مـا ينم عن عدم الرضا، لأنه رمقني بنظرة حادة محاولاً أن يصل إلى أعماقي، وبخاصـة قلـت لـه في سبيل ذلك الاعتذار: “أشكرك يـا مستر سمرفيل، ولكن أرجـو أن تعلم سيادتك أن التقاليد في بلادنـا تقـضـي بـأن العربي الحـر لا يقبـل ضيافـة الأعـداء، لأنك تمثل القوة المسيطرة على مقدرات هذا الشعب، أما نحـن فنمثل الشعب الذي وقع عليه الظلم والعدوان“. احتقـن وجـه مسـتر سمرفيل وتسمّر في مكانه وكاد أن ينفجر وهـو ينظـر في وجهي، ولكنـه سرعـان مـا رسـم عـلى شفتيه ابتسامة أشبه بالتكشيرة، وتمالك نفسه وسيطر على أعصابـه كـدأب الإنجليز دائمًا في مثـل هـذا الموقف، ولـم يعقب على كلامي.

ويبدو أن حديثي هـذا فـتـح بـاب المناقشة إذ تقدمت السيدة زليخـا الشهابي ووجهـت سؤالها إلى مستر سمرفيل قائلة له: “لماذا تضطهدوننـا نـحـن العـرب بينمـا تقـفـون إلى جانب هؤلاء الصهيونيين المشردين وتساندونهم ضدنا، ولماذا لا نجـد منـكـم سـوى الإساءة والقسوة المتعمدة؟، وكنـت خـلال ذلك أحاول أن أقرأ ما ترسمه معاني الحديث من تغيرات على وجـه مسـتر سمرفيل، وكان واضحًا أن هذه التعبيرات تنـم عـن التشـفي والحقـد بـل الاحتقار، مما أثارني مـرة أخـرى فـقلـت لـه متحدية: “من المعلـوم يـا مستر سمرفيل إن بريطانيا العظمى تساند الصهيونيين لأنها اكتشفت فيهـم السيد القـوي الذي يسيطر عليها بماله وعلمه، أما نحن العرب فلم نستطع أن نمد بريطانيا بمثـل تلك الأموال التي يغمرهـا بهـا الصهيونيين، كما أننا لم نستطع أن نفيدها باختراعات تمكنها من إخضاع الشعوب. وليس بخاف على أحد أن اليهود هم أصحاب بريطانيا الحقيقيين لأنهم يسيطرون على أهم مرافقها الحيوية، فهل للعرب مثـل هـذا النفوذ في بلادكم حتى يخشى بأسهم ويعمل لهم نفس الحساب؟“. شعرت أن نظرات الرجـل لي قد تشبعت بحقـد كاف للقضـاء عـلي، ولكنـه تمـكـن مـن أن يقطب حاجبيه ويلقي إليَّ بنظرة غضـب محـاولاً بذلك أن يفقدني السيطرة على الموقف، ولكني تجاهلت كل ذلك وظللت أنظر إليه كأني أنتظـر جـوابـًا عـلى سؤالي.

ومضى الوقت، وعندما هممنا بالانصراف وجاء دوري لمصافحة مستر سمرفيل انتهـز الفرصـة وضغـط عـلى يـدي بمنتهـي القسوة، وهـو يرمقني بنفـس نـظـرات الغضـب. أحسست وقتذاك أن أصابعي تتحطم، ومع ذلك تماسكت ولـم أهـتز أو أبدي ماشعرت به من آلام، بل وقفت أمامه بكل بساطة أستمع إليـه وهـو يقـول: “أعتقد أنني قابلتك في السنة الماضية فهل تتذكرين؟، فأجبتـه غير مكترثة: “إنني لا أذكـر أنـه حـصـل لي مثـل هـذا الـشرف“. فقال: “نعم. كان ذلك في مدينـة القـدس في فندق الملك داود حيث أقيمت حفلـة غـداء تكريمًا للسيدة هدى شعراوي ولـك، وكنـت أحـد المدعوين إلى تلك الحفلـة فهـل تتذكرين الآن؟، قلـت وأنـا أرسم ابتسامة على شفتي برغم الآلام التي كنت أشـعـر بهـا: “إن ذاكرتي ليست قويـة مثـل ذاكرتـك يـا مـسـتـر سـمرفيل لـكي أنتبه إلى مثـل تلك المقابلة العابرة“. وسحبت يدي وأسرعـت ألحـق بزميلاتي اللاتي كـن ينتظرنـني عنـد البـاب، وفي الطريـق أحاطت بي السيدات وقلـن لي بصـوت واحـد بـتلـك اللهجة الرقيقة: “يسلم فمـك يـا سيـد حـواء، بـردت قلوبنـا بـردودك“. وأخـذن يقبلنـني بحـرارة حـتى كدت أختنـق.

انطلقنا إلى منزل السيدة حـرم عفيف الحاج إبراهيم، حيث كان الاجتماع، لنجـد في انتظارنا مفاجأة لم نكن نتوقعهـا أبـدًا، وهـي حضـور حـرم المندوب الإنجليزي مستر سمرفيل لذلك الاجتماع، وكانت قد سبقتنا إليه بوقت قصير. أقـول الحق لقـد تضايقت جـدًا مـن حـضـور تلك السيدة، ولم أتمالك نفسي عن التساؤل أمام زميلاتي عـن تلـك الجـرأة الـتي اتصفت بهـا هـذه السيدة وعن أسباب حضورهـا، وصممـت أن تعـود مـن حيث أتـت، إلا أن زميلاتي انزعجـن عنـدمـا رأيـن التصميم باديًا على وجهي، وحاولـن إقناعي أن تتركها وشأنها، ولكني رفضت بحـزم وقلت: “كيف نستطيع أن نناقش برامجنا وهذه السيدة بيننا ونحـن نعلم أنها جاءت لتتجسس علينا“.

هنا تدخلت رئيسات الجمعيات النسائية الفلسطينية وقلن لي أن مجرد التلميح بعـدم الرغبة في بقاء تلك السيدة بيننـا سـوف يفسر على أنه إهانة لها، ومـن ثـم (فالله وحـده يعلـم نتيجة ذلك)، وبرغم ذلـك قـلـت إنـه مـن الغباء أن نعقد مؤتمرًا ونناقش موضوعًا مهمًا أمام تلك السيدة. ألا يكفي مـا بيننـا مـن الجاسوسات مـن قبـل حـتى نضيف إليهن واحـدة أخـرى وخطيرة، كما أن الأسلوب الذي اتبعته في فرض نفسها علينـا غير مقبول إطلاقًا ويثير الغضب. ويبدو أنني كنـت مـحـتـدة جدًا أثنـاء شرحي لوجهـة نظـري، الأمر الذي جعـل جـو الاجتماع مشحونًا بالتوتر الشديد، ممـا حـدا بالسيدة زليخا الشهابي، رئيسة الاتحاد النسائي الفلسطيني بالقدس، بأن تقترب مني وتدعوني لمرافقتها إلى مكان آخـر نستطيع أن نتفاهم فيه بهدوء وتقـرر مـا يمكـن اتخاذه بخصوص حـرم المندوب البريطاني. وانصرفنـا، ولكـن لـم نجـد بالمنزل سـوى المطبخ ندخلـه لأنه كان المكان الوحيد الذي خـلا مـن جمهور السيدات الحاضرات. وبالرغم من كل ما قالته لي السيدة زليخا الشهابي ازددت عنـادًا وتشبثًا برأي في ضرورة التخلـص مـن مـسز سمرفيل قبل بداية الاجتماع، وعدنـا بعـد أن وعـدت السيدة زليخا أن يكون تصرفي في غاية الذوق والكياسة وأن أتحين الفرصة المناسبة.

وجـاءت الفرصـة، ولـم أكن أتوقعهـا بمثـل تـلـك السرعـة ولا بهذه الطريقة الطبيعية ذلك لأن مسز سمرفيل شعرت عـلى مـا أعتقـد بـأن في الجـو شـيئًا غير عـادي، إذ فات موعد انعقاد الاجتماع ولـم ينعقـد بعـد، وانتهزت هي تلك اللحظة وطلبـت مـن إحدى السيدات الحاضرات أن تقدمهـا إلي. فسألتها بعـد تبادل التحيـة وبـكـل بـراءة إن كانت عضوًا في إحدى المنظمات المشتركة في المؤتمر. أجابت، وعلى وجهها شيء من الدهشة والحيرة مع ابتسامة خفيفة، إنهـا لـم تنضم إلى أية منظمة محلية حتى الآن بالرغم من كونها عربية الأصل المولـد قبـل زواجهـا مـن مسـتر سمرفيل وتكتسب جنسيته الإنجليزية، وأردفت قائلة إنها تعطف دائمًا على أبناء وطنها الأصليين وهـو الأمـر الـذي دفعها إلى حضور هذا الاجتماع وطلب المشاركة فيه. إلا أنني أجبتها بصراحـة: “أسـفة يا سيدتي أن أقـول لـك إن مكانـك لـم يعـد بيننا الآن لأنك أصبحت أجنبية، وهذا معناه ليـس لـك حـق حـضـور مـثـل هـذا الاجتماع الـذي يبحـث نزاعًا بين العرب والإنجليز، ولا تنسي أن وضعك في هـذا البلـد دقيـق للغاية بحكم المركز الخطير الذي يتقلده زوجك، فهل سألت نفسك أي من الفريقين تناصرين عندما تشتد المناقشات، وبخاصة في السياسة الاستعمارية التي يخطط لهـا الإنجليز، هل يمكنك أن تقفـي ضـد تصرفات حكومة زوجـك وتؤيـدي العرب في قضيتهـم ؟ أعتقـد يـا سيدتي أن المسألة بالنسبة لك دقيقة للغاية وليـس لـك الخيـار“. وهنـا أحسست بالدمـع ينسـاب مـن أعـيـن بعـض السيدات ومنهـم مـسز سمرفيل نفسـهـا الـتي قامـت لتنصرف، وقبـل أن تغادرنا التفـت إلى وقالت: “على الرغم من زواجـي مـن إنجليزي وتجنسي بجنسيته، فما زالت بحكم مولدي وموطني ونشأتي متعلقة بشعوري بأبناء بلـدي الأصلي، فأجبتها في لطـف: “هذا شعور جميـل منـك ولكـن مـا باليد حيلة، والظروف وحدها هي التي وضعتنا في هـذا الموقف المضاد“. وهكـذا انسحبت مـسز سمرفيل بعـد أن قدمـت لنـا الاعتذار. وفـور خروجهـا هـرولـت نـحـوي بعـض السيدات الحـاضرات وكـدن يكتمـن أنفـاسي بقبلاتهـن قائلات: “ما أعظمك يـاسـت حـواء إنـك حبكـت الـدور فانتصرت عليها“. وكان البعض الآخـر مـا زال متأثـرًا مـن منـظـر مـسز سـمرفيل فأخـذن يـرددن: “يا لتعاستها حـتى إنهـا بكت“. وعندما انتهت القبلات والحسرات، بـدأ عقـد الجلسة ومناقشة البرامـج الـتي قطعنـا مـن أجلهـا تلك المسافات الطويلة للوصول إلى طولكرم. وكان برنامج الاجتماع يضـم الأجوف والدسم من الموضوعات، وسارت المناقشة الحاميـة مـرة، بـاردة أخـرى إلا أنه لم يكن هناك تعمق في دراسة الموضوعات المعروضة بشكل عملي.

ولا أنسى بمناسبة رحلة فلسطين هذه، التي كان الغرض منها كما قلت تقصي الحقائق عن موقف الصهيونيين من العرب، أن أذكـر أنـي تلقيـت معاونـة مـن كـبـار المسؤولين في فلسطين في ذلك الوقت، وأخص منهم بالذكر السيد جورج حسـون الـذي أرسل لي كتابًا، أنشر صورته الزنكوغرافية فيما يلي، وقد ساعدني سيادته كثيرًا في جمع الحقائق المطلوبة.

جاء ذلك الخطاب كالآتي:

قصـة أمـيـنـة: أبريل ١٩٤٦

في شهر إبريل سنة ١٩٤٦ كلفتـني ابنـة عمـتي السيدة هـدى شعراوي بصفتها رئيسـة الاتحاد النسائي المصري بالسفر إلى فلسطين في مهمة استطلاعية، وكنت ألتقي بحكم تلك المأمورية أثناء وجـودي في مدينة طبرية بشابة فلسطينية اسمها أمينة. كانت أمينة تعمل في المدينة صباحًا لكسب قوتها وتعمل بعد الظهر في معاونة ومساعدة الثـوار وكانت تأتي لزيارتي حيث أقيم بفندق طبرية في فترات متقاربة، وكان ميدان عملها مع الثوار العرب في منطقة الناصرة وما حولهـا مـن القـري. وأمينة، الشابة العربية، كانت خفيفة الظل للغاية، مرحة، وتتمتع بشخصية قوية تفرض نفسها بنفسها، وكان جمالها من النوع الهادئ المتوسط.

كانت زيارتها لي ذات أهمية كبرى حيث كنت في حاجة ماسة إلى الحصول على معلومات صحيحة عن وضـع الـعـرب في فلسطين وموقفهـم مـن الأحـداث الجارية في بلادهم، ذلك لأن الأنباء التي تنقـل إلينـا في مصر عن فلسطين كانت متضاربة، وأمينة، بحكـم صلتها الوثيقة بالثوار، كان في استطاعتها أن تزودني بكل سهولة بالمعلومات التي أحتاج إليهـاء الـتي من أجلهـا أوفدتني الجمعية لتكون تلك الأنباء مرجعًا قويًا للوفـد الـذي سيسافر إلى مدينة أنترلاكـن بـسـويسرا لحضور المؤتمـر النسـاني الـدولي في دورتـه الـتي ستنعقد في يونيو من العام نفسه.

كنـت أنصت إلى أمينـة وهـي تـقـص عـلىّ بطولاتهـا وأنـا أكاد أتصـور أن فلسطين كلهـا – رجالها ونساؤها – اجتمعوا في شخص واحـد، هـو تلـك الشابة التي تجلس أمامي، لأنني لمست فيها النضال من أجل الحرية والذود عن الشرف والوطن، والتضحية بالنفس في سبيل نصرة قضية المصير العربي.

ولتتخيل معي أيها القارئ حـال أمينـة وهـي تحمـل المـؤن والذخيرة والعتاد والأسلحة والملابس الثقيلة، تجوب بهـا دروب الجبال لتصـل بها إلى مخـان الثـوار تشـد أزرهم بما تحمل من معنويات وطنية وماديات ضرورية لاستمرار المقاومة الباسلة. قالت أمينة إنها ورفيقاتهـا كـن يحملـن كل ذلك تحت جنح الظلام في معظم الأيام والليالي حتى لا تلفت إليهـن الأنظار، وكن ينقسمن عندما يصعدن الجبال إلى مجموعات لا يزيـد عـدد المجموعة الواحـدة عـن ثـلاث فتيـات يـسرن وكأنهـن يتنزهـن. وتمضي أمينـة تقـول إن الثوار كانوا في الغالب ينزلن من الجبال إلى القرى المجاورة للراحـة قـرب مطلع الفجر وكان الأهالي مستعدون دائمًا لاستقبالهم والعمل على توفير كل سبل الراحة والطمأنينة لهـم وإخفائهـم عـن أعين الشرطة الباحثة عنهـم، بالرغـم مـن ذلـك الحرص الشديد فقد كان بعـض هـؤلاء الأبطـال يقع في أيدي الشرطـة وبالتالي كان مصيره هو نهايـة المطاف، هـو القـدر المحتوم.

تمضي أمينـة تقـص عـلى مسامعي وتقول إنه التجـأ في إحدى الليالي مجموعة كبيرة من الشبان إلى قرية بجـوار الناصرة وإخفائهـم الأهـالي كالعادة، ولكن لسوء الحظ فطـن إليهم رجال الشرطة فتعقبوهم بواسطة الكلاب البوليسية، فدب الذعر بين الأهالي خوفًا على حياة هؤلاء الأبطـال مـن جهـة، وخشية الانتقام منهم وإنزال العقاب بهـم مـن جـهـة أخـرى، وكان أبسط عقـاب هـو القتـل ونسف المنازل بمـا فيهـا ومـن فيهـا. وتستطرد أمينة القول إنها ورفيقاتها كن مستعدات للأمر إذ أحضرن كمية من مسحوق الشطة وفرشـوا طـريـق الـكلاب بهـا، وهكـذا فـقـدت حاسة الشم، وبالتالي تعـذر عليهـا الإرشاد عن الفدائيين الذين تمكـن أهالي القرية من تهريبهـم عنـد مطلع الفجـر.

وتضيف أمينـة القـول إنهـا كانـت تذهـب كثيرًا إلى مخـابئ الثـوار بمفردهـا لتحمـل إليهـم أخبار اليهود وتحركاتهم وخطط الحكومة الإنجليزية إزاءهم ، لأنه كان من السهل عليها أن تندس بينهـم مـن وقـت لآخـر لالتقاط أخبارهم وتصيـد المعلومات عنهـم لإتقانهـا اللغة العبرية مثـل كـثـيـر مـن بنـات وطنهـا. وكنـت كلمـا نصـحـت أمينـة بالتزام جانب الحـذر إزاء شجاعتها المتهـورة هـذه ضحكـت وأجابتـي قائلة إنهـا بسبعة أرواح مثـل القطط!! وتضيف قائلة بلغتها الفلسطينية ذات اللهجة الغريبة: “شو بنعمل واليهود والإنجليز مركزين البحث عن الثوار. فإذا لم نكن يقظين في الدفاع عن أنفسنا ووطننا فلا شك أن زمام الأمور سيفلت من أيدينا، وبالتالي نفقـد كل شيء. ولا يخفي عليـك يـا سـت حـواء أننـا منـذ عـام ١٩٣٦ نعيـش عـلى أعصابنا بصفة مستمرة، والحكومة ترهبنا وتحاول إجبارنا على الخضوع لسياسة معينة وهي خلـق دولة يهودية في بلادنا، ولذلك كله يتعين علينا جميعًا أن نقف في وجه العدو بقـوة وشجاعة وبسالة، فإما المـوت أو النصر في سبيل وطننا العزيز“.

وتصمت أمينة قليلاً ثـم تستأنف القـول في نبرات قويـة، ولكـن يشـوبها بعـض الحـزن والأسى: “سأعطيك مثـلاً واحدًا يـاسـت حـواء عـن مـدى وحشيبة هـؤلاء القـوم معنـا. لقد وقعت حادثة بشعة منذ مدة قصيرة في قريـة مـن قـرى الناصرة ذهبت ضحيتها مجموعات من الشبان، ذلك أن رجال الحكومة انتهكوا بيوت القرية بمعاونة الصهاينة وفتشوها تفتيشًا دقيقًا أسفر عن عثورهم على مجموعة من الشبان المختبئة في أماكن متفرقة، فجمعهم الجنـد وأكرهوهم على السير فـوق بساط مـن الشـوك فرشـوه عـلى الطريق الوحيـد الـذي يخترق القريـة عـلى مـرأى مـن أهليهم وذويهـم حـتى يجبروهـم على الاعتراف بأماكـن القـواد. ولمـا لـم يتكلـم أحـد منهـم قتلوا الجميع رميًا بالرصاص على مشـهـد مـن الجمـع المحتشـد مـن الأهـالي، ثـم طلبـوا مـن الموجوديـن التقـدم ليتعرف كل منهم على جثة ابنه أو قريبه ليواريهـا التراب، ولكن لم يتقدم أحـد. وكان من بين الجمـع امـرأة مسنة شاهدت بعينيهـا اغتيال وحيدهـا مـع مـن اغتيل، إلا إنهـا وقفت جامدة لا تتحرك ولـم تسقط لهـا دمعـة ثـم قفلت راجعة إلى دارهـا، ولكـن قـد فقدت عقلهـا وأصبحـت جسـدًا بلا روح، لا يعنيهـا مـن أمـر دنياهـا شـيئًا إلا أن تسرح بنظرها إلى لا شيء، تنظـر إلى ذلك المجهـول، لا تتكلـم ولا تتألم لأن ألمهـا دفنتـه في صدرها فنسيت نفسها فتـولى جيرانها رعايتهـا والعنايـة بهـا.

تأثـرت جـدًا مـن هـول مـا سمعت من البطلة الشابة، وطلبت إليها أن تصحبني إلى دار تلك الأم البائسة إذا كان ذلك ممكنًا، فرحبـت بتلك الفكرة قائلة إن زيارتي ستخفف عنها كثيرًا. وفعلاً ذهبنا إلى دار السيدة العجوز وحاولت أن أحادثهـا ولكن، هـل تبعث الكلمات المـوتى؟ وممـا زاد الأمـر ألمًـا وعذابًا أن تلك الأم، برغـم مـا بـهـا، حاولت أن تستضيفنا كعادة كل عربي أصيـل، ولكني أشفقت عليهـا مـن هـول مـا تحملـه مـن مشـاعر بائسة حزينـة ومـن مشـقة خدماتهـا لنـا إذا بقينـا، فطينـا خاطرهـا وانصرفنـا مدعيـة أن لدي موعـدًا مهمًا في المدينة يجـب اللحاق بـه.

ذات مساء كنـت كـعـادتي أجـلـس مـع أمينة بشرفة الفندق نتجاذب أطراف الحديث في شتی مسائل الساعة، قصت علىّ كعادتها إحـدى مغامراتها، وكانت هذه المـرة مـع أحـد ضباط الجيش الإنجليزي.

قالت أمينة: “دعيت إلى حفل ساهر أقيم في الهواء الطلق ذات ليلة من ليالي الصيف بكازينـو يـقـع عـلى شاطئ بحيرة طبرية في بقعة غاية في الجمال والروعة، وذلك للترفيـه عن الجنود الإنجليز، وصفت الموائد في حديقة الكازينو بحيث يجلس كل أربعة أشخاص إلى مائدة واحـدة، واتبع القائمون على الحفل نظامًـا خـاصًـا مـن مقتضاه إعطاء تذكـرة لكل مشترك تحمل رقمًا لإحدى الموائد دون تخصيص، وكان الغـرض مـن ذلـك هـو أن يختلط الحاضرون ليتعارفوا بطريقة دبلوماسية إجبارية، إذ لابد للجالسين إلى مائدة واحدة أن يتعارفوا مهما كان الاختلاف والتباين بينهم. وكان ضمن الجالسين إلى مائدتي ضابط إنجليزي طلب التعرف إلى وجلس يتحدث معي في شـتى الأمـور والموضوعات ، وكان يتطلع إلى وكأنـه يريـد أن يستكشـف خـبايـا نفـسي ويقـرأ أفكاري. وأخـذ يتطـرق في حديثه إلى موضوع الحب والجاذبية، وسألني إن كنت أشاركه رأيه في هذا الأمر، ولكنني تجاهلـت سـؤاله ولم أرد عليـه وأدرت دفة الحديث. وبعـد لحظـات عـاد سألني إن كنـت مـن أهـل هـذه البلاد فأجبتـه إني فلسطينية، ولم أزد عـن ذلـك حرفًـا واحـدًا حتى لا أكشف له عن حقيقتي، وبخاصة قد لاحظت وجـود فتاة عربية تجلس في مكان منعزل بالقرب مـني مـع شـاب يهودي، وكانـا مـسـتغرقين في الحديث، والتقطت أذنـاي مـن حديثهما بعـض العبارات المهمـة مثـل: “يجب الحذر، و خفض صوتك“. كل ذلك دعاني إلى أن أستجمع انتباهي وأركـز بـصري لعلي أستكشـف مـن هي تلك العربية التي تحاول أن تخفي نفسها عن الأنظار. وللأسـف عرفـت فيهـا إحـدى الفتيات المعروفات بمصادقة اليهود وساءني أن أجلس في مكان واحـد مـع مـثـل تلك الفتاة، وظهـر الضيـق عـلى وجهي عندمـا وصـل في التفكير إلى هـذا الحـد، ولـم أستطع أن أخفـي تلـك العلامـات الـتي ارتسمت على وجهي والتي لاحظها الميجـر الإنجليزي، فسألني عن سبب ضيقي هكذا فجأة، فنظرت إليه بريبة وقلـت عـلى الفـور: “لقد طلبـت مـني منذ لحظـة عنـوان مـنزلي وأنـا لـم أعطـه لـك بعـده، وأخرجـت مـن حقيبتي قلما ودونـت العنـوان عـلى قطعة من الـورق وأعطيتهـا للضابط الإنجليزي الذي اتفق معـي عـلى اللقـاء مـن وقـت لآخـر.

تستطرد أمينة قصتهـا فتقول: “يبدو أن الميجـر كان على عجـل مـن مقابلتي إذ حضر إلى منزلي في اليوم التالي في وقـت حـرج جـدًا، إذ كنت منهمكة مع زميلتين لي في إعـداد بعض الملابس التي سنحملها إلى الثوار لإبقائهم مـن بـرد الجبـل القـارس. لذلك انزعجنا جميعًا من هذه الزيارة المفاجئة وغير المرغوب فيها في هذا الوقت بالذات، إلا أنني استقبلت الضابط بكل هدوء، والابتسامة ترتسم على شفتي، وبدأ حديثه معـي وهـو يحييني قائلاً إن جمال الجـو أغـراه بالخروج إلى النزهـة بالرغم من أنـه ليـس مـن عادتـه الخروج في غير أوقات الفراغ. فكرت كيـف أتصرف وبسرعـة قلـت لنـفـسي إنهـا فـرصـة لإبعاده عن المنزل، وقبلـت دعوتـه واستأذنته في دخـول غرفتي الخاصة لتناول حقيبة يدي، ودخلـت وأبلغـت زميلتي بالأمـر وأوصيتهـا بإنجاز كل شيء قبـل عـودتي.

وخرجنا إلى الطريق ومشينا متجاورين، والضابط صامت يتأمل الطبيعة وما حولهـا ولـم يتكلم، فاعتقدت أنه إنمـا جـاء إلى منزلي يبحث عن شيء معين، وأخذت أفكـر بسرعة وأسترجع كل كلمة تناولها حديثي معه في الليلة السابقة، وكنت أثناء ذلك أختلـس إليـه النظـرات، وأحـاول أن أسـبـر غـوره لـعـلي أستطيع أن أقـرأ تعبيرات وجهـه، ولكـنـي لـم أستطع شيئًا ولـم أفهـم شـيئًا، فانشغل فكـري وأنا أسير إلى جـواره وهـو ينظـر أمامـه ووجهه يبدو جامدًا صارمًا، لا تنم ملامحـه عـن أيـة تعبيرات ولم أدر ماذا أفعل إلا أن أقطع عليه تفكيره وأخرجـه مـن صومعته هذه، فقلت له: “ما أجمل أن يتنزه الإنسان في مثـل هـذا الوقت السنة“. فأجباني بجمـود: “نعم إن هذه النزهات الخلويـة مفيـدة جدًا للصحة“. واقترب مني وحاول أن يغازلـي ولكـني تخلصت منـه بلياقـة، وقلـت لـه أتعـرف يـا مـجـر أنـه بينمـا أنـا ألهـو وأتنـزه معـك الآن، فإن الكثيرين من أفراد أسرتي مـا زالـوا في معسكرات الاعتقال، ووالـدي تـوفي في أحـد هـذه المعسكرات، ولحقته والـدتي حزنًا وغمـًّا عليـه؟وبداهـة لـم أذكـر لـه أيـن تقع هذه المعسكرات التي أقصدها، لأنه كان يتحدث معي على أنني فتاة يهودية لإتقاني اللغة العبرية، وبخاصـة قـد تماديت في تمثيل دور اليهودية حتى لا أثير ظنونـه وأوقـظ شكوكه.

فجـأة ونحن نسير التقينا برجلين عربيين في الطريق نظـر أحدهما إلى نظرة فاحصة، وقال لزميلـه بصـوت سـمعته: “أليست هذه الفتاة العربيـة الـتي تتنــزه مـع الضابط الإنجليزي هـي بذاتهـا أمينـة؟ كيـف اجتمعـت بهـذا الضابـط؟ وكيـف التقـت بـه؟، تصاعدت الدماء إلى وجهي وأنا أسمع ذلك الحديث واشتد بي الغيظ حتى كدت أفقـد السيطرة على أعصابي وتماديت وقلت غاضبة للضابط الإنجليزي: “أسمعت ماذا يقول هذان العربيان؟ إنهما يظنان أنني عربية ويدهشان لوجـودي معـك وهذا أمر يضايقني كثيرًا، إلا أن الضابط أدار رأسـه غير مكترث والتفـت إلى بـلا مبالاة، ورمقـي بنظـرة فاحصة محاولاً قـراءة أفكاري، وقال: “إنك طبعًا لا تتوقعين من الرجل العربي العادي وبخاصة رجـل الشارع أن يفرق أو يميز بين العربية وغيرها من النساء“. وفجـأة ابتسـم قائلاً: “وأنا أيضـًا لـكي أكـون دقيقًا في عمـلي يـجـب أن أعود إلى مكتبي طـاب صباحك يا آنسة“. وأحنى قامتـه الفارعة وانصرف فـورًا.

وتظـل أمينـة نقـص حكايتهـا، فتقـول وعـلى شفتيها ابتسامة ساخرة مريرة: “انطلقت بـدوري إلى عملي والارتباك يلفني خوفًا أن تكـون ذرة مـن شـك قـد اختمرت في نفـس ذلك الضابط، في الوقـت الـذي بـدأ فيـه يوطد أواصر صداقته معي، وحدث كل ذلك لحظة أن كنت في أشد الحاجة إلى الهـدوء لمواجهة الكثير من المهام الخاصة بمعاونة المناضلين، وبالرغم مما حدث، وكطبيعة الإنجليز دائمًـا مـن تعـقـب الأشياء، ولو كانت تافهـة مـا دامت تشغل بالهـم عـاد الميجـر دافيد لمقابلتي بعـد ظهر اليوم التالي ليصحبني إلى نزهـة حـول بلدة الناصرة، وصعدنا تلاً صغيرًا وجلسنا في مقهي ريفي بسيط ولكنـه أنـيـق وجلسنا إلى مائدة وبدأنا الحديث، وسألني عما أطلب فطلبت قدحًا من الشاي أمـا هـو فقـد طـلـب مـع الشـاي نوعًا معينًا من البسكويت. وبينما نحن في انتظار تلك الطلبات أخـذ الميجـر يسألني عـن مـدى معرفتي بتلك الفتاة العربية، التي شاهدناها مع أحـد الشبان اليهود في الحفلة التي تعارفنـا فيهـا. عندنـذ بـدأ الشك ينقلب إلى يقين، وأخذت الظنون تتضح فتصبح حقيقة، وداخلـني أن في الأمر شيئًا يوشك أن ينكشـف وشعرت أن مظهر الفتاة اليهوديـة لـم ينطـل عـلى ذلك الضابط، وأنه يحاول أن يستدرجني ليوقع بي، برغم ذلـك كلـه فقـد ظللت حافظـة لثقتي في نفسي، وقلـت لـه بـشيء مـن الملـل والضيـق: “هل يهمـك كثيرًا أمـر هـذه الفتاة؟قال: كلا. ولكنـه سـؤال عابر لنقتـل بـه الوقت“. فكرت قليلاً فيما أرد بـه وأخيرًا قلت: “عجبًا يا صديقي ! تقـول إن أمـر الفتاة لا يهمـك ومـع ذلـك تسألتي عنها باهتمام ظاهـر لمجـرد أنك رأيتها في حفلة عامة“. وقال: “لا عليـك فقد اعتقدت أنك تعرفينها. إنه مجرد اعتقاد. ونظرًا لأنك من ساكنات هذه المنطقـة فـقـد ظننت أنـك ربما تكونين قد سمعت بقضيتهـا الـتي أجـرى فيهـا تحقيقًا دقيقًا منذ وقت قريب بتهمة تعاملها مع سلطات الانتداب، ثم خلى سبيلها لعدم كفاية الأدلـة. إنها هي تلك الفتاة التي كانت تجالس ذلك الشاب اليهودي إذ عرفتها مـن صـورة لهـا رأيتها بمحض الصدفة“. فأجبتـه كأي فتاة يهودية: “إنـه ليـس لـدى وقـت أضيعه في الاهتمام بمشاكل الناس، وإنني أود أن أعرف لمـاذا لـم يخبرني بذلك في حينـه“. قال الضابط:” إنـه خـشي أن يفعـل فتلاحظ الفتاة أنـنا نتحدث عنهـا“.

وتمضي أمينـة تكمـل قصتهـا فتقول: “سألني الميجـر عـن مـكان عمـلي،فأجبته: “إنني أعمـل بالشركـة صباحًا، وفي الكانتينبعـد الظهـر لمساعدة السيدات اللاتي يقمـن بالترفيه عن الجنود. وأثناء ذلـك عـاد خـادم المقهى يقـول معتذرًا للضابط: “لم أجـد حاليًا صنف البسكويت الذي طلبتـه يـا سيدي، ولكن يوجـد نـوع آخـر أعرضـه عليـك“. ووضع أمامـه طبـقًـا بـه بـعـض البسكويت، ولكني فوجئت بالضابط وقـد أحمـر وجـهـه وكاد ينفجـر مـن شـدة الاحتقان يلقي بطبـق البسكويت في وجـه خـادم المقهى، ويحتـد عليه بشـدة قائلاً: “إنني أريـد النـوع الـذي طلبتـه، ويجـب أن تحضره بأية طريقـة وفي الحال“. إلا أن الخادم اعتذر بعدم وجود الصنف المطلوب في ذلك الوقت، وبالرغم من ذلـك لـم يـرض الميجـر وسـب الخـادم، ولما احتج الخادم على ذلك التصرف غير الكريم معه فوجئت بالضابط يندفـع مـن مقعـده وينهال على الخادم ضربًا.

هنا فقدت السيطرة على أعصابي ونسيت دور اليهودية، واندفعـت الدمـاء العربيـة إلى رأسي ولم أستطع أن أحتمـل رؤيـة ذلـك الخـادم البريء يهـان ويعتـدي عليـه بـلا ذنـب أتـاه، واندفعت بحركة لا شعورية أقـف بين الضابط والخـادم لأحـول بينه وبين الاستمرار في الاعتداء، إلا أن ذلك الضابط دفعـنـي بشـدة قائلاً لي: “مالـك أنـت وهـؤلاء العرب الجهلة المتأخرين؟، فما كان مني إلا أن صفعتـه عـلى وجـهـه صفعـة اعتقـدت أنها أسقطت فكيه، وقلـت لـه: “هؤلاء العـرب هـم أهـلي وعشيرتي، هـم وطـني. فماذا تظن نفسـك أنـت؟، فقـد الميـجـر السيطرة على أعصابـه وأراد أن يـرد تلـك الصفعة واندفع نحـوي وهـو يـقـول: “سترين أيتها العربية الخائنة كيـف أرد لك هذه الصفعة“.

ولكـن حـال دونه العاملون بالمقهى، فأحاطوا بـه ومنعـوه مـن الاسترسال في الاعتداء. وعقب ذلك انصرفـت مـن المقهى غاضبـة أشـد الغضب وعـدت إلى مسكني.

استمرت أمينـة وقـد شـدني قصتهـا البطوليـة هـذه تقـول: “عدت إلى داري وأنا خائفة إذ مما لا شك فيه أن ذلك الضابط سيبلغ عمـا حـدث، ويحاول إلصاق التهـم بي، في الوقـت الـذي كانـت فيـه العصابات الصهيونية تنشط في مهاجمـة القـرى وضرب العـرب الآمنين معزولي السلاح، فتفتك بهم وبأطفالهم ونسائهم ونحساب، وفعلاً حدث ما توقعت إذ قدم الميجر بلاغًا ضـدي إلى قيادته البريطانية بتهمة إهانة ضابط بريطاني كبير علنًا في محـل عـام دون مبرر لمجـرد أنـه أنّـب أحـد الخـدم العرب في مقهـى عـربي صغير لعدم قيامه بواجب الخدمة.

وذات يوم تلقيـت أمـرًا باستدعائي إلى القيادة البريطانية بناء على تلك الشكوى التي قـد تؤدي في إلى الحبس لمدة ستة شهور على الأقل، فطـار عـقـلي مـن الخـوف وأسرعت إلى صديـق لـوالـدي وأنـا أبـكي، وأبلغتـه بمـا حـدث فطمأنني قائلاً لي إنه سيدافع عـنـي بـكل ما يملك، وتوجه إلى الأستاذ عدنان المحامي ليبحث معـه الموقـف واثقًـا أنـه سـيجد مخرجـًا مـن هـذا المأزق، لأنـه مـن الضالعين في القانون، فضلاً عن مكانته المرموقة بين الناس. وقدمت إلى المحكمة العسكرية في اليـوم المحدد لمحاكمتي، ودخلـت القاعة أرتجـف بالرغم من أنني كنت محاطة بالأصدقاء، وعلى رأسهم الأستاذ عدنان المحامي. وهنـا يجـب أن أعترف أنني لاقيت معاملة إنسانية من القضـاة أزالـت عـن نفسي بعض الاضطراب الـذي شعرت بـه لأول مرة. أجلسوني في الصف الأول بين زميلتين حضرتا معي لتشـدا أزري، والتفـت يـسرة فوجدت الميجـر الإنجليزي دافيـد جالسًـا ومعـه عدد من زملائه الضباط.

عندما افتتحت الجلسـة نـاداني القاضي وقال لي: “يا أنسـة أنـت متهمة بإهانة ضابط كبير من ضباط صاحب الجلالة البريطانية علنًا فهل حدث ذلك منك؟، أجبته بقولي: “إن ذلك لم يحدث، وإنـي كنـت في موقف الدفاع عن نفسي عندمـا تجـاوز الضابط حدود اللياقة وسمح لنفسه أن يتطاول على قومي بألفاظ نابية لا يجوز أن تصـدر مـن ضابط كبير، لا لشيء سوى أن خادم المقهـى لـم يجـد صنف البسكويت الذي طلبه وأحضر له بديلاً لعلـه يحـوز قبوله، فألقاه الضابط في وجهه وأصر على ضرورة إحضـار الصنف المطلوب، ولمـا اعتـذر الخـادم ، هجـم عليـه وضـربـه، فكان من الطبيعي ألا أقف ساكنة لمثل هذا التصرف“. استدار القاضي وسأل الضابط إن كان قد حدث فعلاً فلم يستطع ذلـك الضابط تكذيبي. وعقب ذلك ترافع الأستاذ عدنان وأبرز أن مثـل هذه التصرفات الصبيانية تثير خواطر العرب الذين قاسوا وتحملـوا الكثير وبخاصـة قـد ضافت صدورهم فأصبحوا لا يستطيعون تحمل المزيد من الإهانات مثلما فعله ذلـك الضابط. انتهت المحاكمة بإدانة الضابط الإنجليزي، والحكم عليه بتخفيض رتبته من رتبة الميجر إلى رتبة يوزباشي، وحبسه لمدة سنة لتسببه في إهانة الزي العسكري الذي يرتديه في محـل عـام دون مبرر مشروع، فضلاً عن استعماله ألفاظًا قبيحة في حق آنسة على مسمع ومشهد من الناس، وعلقت المحكمة شرط تخفيف ذلك الحكم على تنازلي عن شكواي، واعتذار الضابط لي أمام المحكمة وقبـولي لذلك الاعتذار.

وتمضي أمينـة تقـول: “وفي الحقيقة كنـت مستعدة لأن أتنازل عن كل شيء حـتـى بـدون اعتذار لأن مشهد الضابط وهـو يستمع إلى الحكم كان مؤثرًا للغاية، إذ كان يبدو شاحب الوجه، تكاد عيناه تدمعـان غمًا وحزنًا. ولكـن قبـل أن أفتح فمي بكلمة فوجئـت بـه يقـول إنـه يرفض أي تنـازل مـن طـرفي، وإنـه عـلى استعداد لتحمـل نتيجـة غلطتـه، ولا يقبـل تسامحًا مـن أحـد، كما إنه ليس مستعدًا للاعتذار. وهكذا أصبح الحكم نهائيًا ونافـذًا، وبارحـت المحكمة وأنا أشعر بالألم والأسى مـن أجـل ذلـك الضابط، في حين أن أصدقائي الذين كانوا بصحبتي فرحوا وهللوا لتلك النتيجة وعلقوا على الحكم بقولهم إن الضابط يستحق هذا الجـزاء ردعًـا لـه، وليكون عبرة لغيره. وبعـد ذلك التجربة القاسية أصبحت حـذرة وخففـت مـن نشـاطي وانقطعـت فـتـرة عـن الذهاب إلى مخابئ الثـوار خشية أن أكون موضوعة تحت الرقابة، ولاعتقادي أن بـراءتي من تهمة إهانة الضابط لم تشمل براءتي مـن أمـور أخـرى قـد تكـون موضع الاعتبـار عنـد القيادة البريطانية. ولذلـك حـل محلي خلال مدة انقطاعي المذكورة شاب عربي من جيراننا.

تمضي أمينة في قصتها قائلة: “مضى وقـت طويـل وأنـا أحـن إلى مغامراتي في سبيل معاونة الثوار حتى اضطررت ذات يوم أن أتوجه إلى مركز قيادتهم لأحمـل إليهـم أنباء خطيرة عـن خـطـط تدبرهـا لهـم الحكومة والعصابات اليهودية للقضاء عليهم في أوكارهم وذلك بحصـار المنطقـة الـتي يتمركزون حولهـا بقـوة مـن ألفـيـن مـن الجنـود ونسـفهم. وكما تريـن يـاسـت حـواء أننـا نـحـن العـرب نقاتـل في أكـثر مـن جبهـة، جبهـة سياسية ضـد الاستعمار الـذي يحتضـن اليهود ويؤيدهـم في تحقيق مطامعهم في فلسطين، وجبهة حربية ضد الصهاينة أنفسهم، ومن ورائهم المستعمر، يشد أزرهم ويمدهـم بالعتاد والسلاح، مما اضطر الفلسطينيون إلى اللجوء إلى حرب العصابات لافتقارهـم إلى التدريبات العسكرية والأسلحة الحديثة، وكذلك تكوين هيئات سرية لتسليح الثوار بالرغم من الحصار الذي ضربته سلطات الانتداب لمنع وصول السلاح، علاوة على ذلك فإن العـرب يواجهون اليوم مناورات سياسية لأربعة دول قويـة هـي أمريكا الـتي تصر على فتح باب الهجرة على مصراعيه أمام اليهود، وبريطانيا التي تستعد للتخلي عن السلطات للعرب واليهود، أمـا روسيا، فإنها تعتبر قيام دولة يهودية في فلسطين نصرًا كبيرًا للشيوعية في الشرق الأوسط، لأن اليهود أكثر فائدة لروسيا من العرب الذين مازالـوا متخلفين عـن ركب الحضـارة، وتعتبرون حملاً عليهـا. أمـا فـرنسـا فإنهـا تـرى أن التقرب من اليهود أفضل بكثير لسياستها من التقرب للعـرب. وهذا هو موقفنا الآن، نقاوم أعـداء أشـداء ونحـن أمـة صغيرة وشـبـه عـزل مـن السـلاح. إننا نعتبر أنفسنا في حالـة حـرب انتحاريـة جماعية، كما تريـن أن شعب فلسطين يحتضر في الوقـت الـذي تقوم في أرضه دولة إسرائيلية، بالإضافة إلى أن كل الدول العظمي تحـاول بل تتصارع لفرض نفوذهـا في المنطقة، في حين أن كل جهـود زعمـاء العـرب فـي القـاء النـداءات والصراخ والإدلاء بالتصريحات وتوعـد اليهـود وتهديدهـم. وقـد التجأنا إلى اللجنـة العسكرية لجامعة الدول العربية، وكذلك المنظمات التي قامـت عـقـب الثـورة، إلا أن ذلك كان عبثًا دون جدوى، إذ لم يلـب أحـدًا منهـم نداءاتنـا حـتى الآن. كل ذلك دعانا یـاسـت حـواء إلى الاعتماد على أنفسنا فقط. فإما الحياة بكرامة، وإمـا مـوت بـشرف.

عـادت أمينـة إلى مهمتهـا الـتي خرجت في سبيلها إلى مركـز الثـوار فقالت: “كنـت أسرع الخطى إلى مكان الثـوار، وفجـأة وجدت نفسي وجها لوجـه أمـام أحـد عمـلاء سلطات الانتداب ، فاستوقفني وسألني إلى أيـن المسير بهذه السرعـة، فـقلـت لـه وأنـا أتصنـع الهـدوء وعدم المبالاة إنني عائدة إلى منزلي، ولكن يبدو أنني انحرفت قليلاً عن طريقي دون أن أشعر، وربمـا حـدث ذلك لانشغالي بالتفكير في موضـوع خاص. نظر إلى الرجـل بخبـث وشـك واستفسر عـن ذلـك الموضـوع الـذي شغل تفكيري لدرجة أن أحيـد عـن طريقي. فأجبته بجفـاء وأنـا أتماسـك مـن شـدة الغيـط ليـس مـن حقـك ذلك، لأنـه لـم تجـر العـادة أن يذيع الشخص أسراره الخاصة على الناس. شعرت أنه تظاهر بالإقناع وظل يرمقني بتلك النظرات الخبيثـة فـترة مـرت كالدهر، ثـم مـد يـده وضحك ضحكة صفـراء وصافحـني وتمنى لي حظًا سعيدًا ومـضي. وقفـت لحظـات مـكاني أفكـر كيـف أتصرف هـل أمضي في طريقي، الأمـر الـذي قـد يعـرض مواقع الثـوار للاكتشاف، أم أعـود إلى منزلي فيكـون في ذلك الهـلاك لهـم، وأخيرًا خاطـرت وتابعـت سيري أتلفت يمنة ويسرة واتخذت طرقًا ملتوية حتى اطمأنت إلى عدم وجـود مـن يتعقبني، ثم وصلت أخيرًا إلى مقر الثوار وأنا أكاد أسقط مـن شـدة التعب والإرهاق وأبلغتهم بمـا أريـد وقفلـت راجعة إلى منزلي بالوسيلة نفسها، وبالرغم من كل ذلك استدعيت بعـد أيـام للتحقيق ويبدو أن صديقنـا هـذا قـد وشى بي كالمتبع. ولكـن لـم تتمكن السلطات من وضع أيديها عليَّ لأن أصدقائي دبروا لي طريق الفرار ليلاً إلى حدود سوريا القريبة من مدينة طبرية، وهكذا نجـوت مـن عـذاب التحقيق وخطر السجن.

تضيف أمينة القول: “عـدت ثانية إلى أرض الوطن فلسطين في أوائل هذا العام عندما استقرت الأحـوال بالطريقة البائسة التي عرفتموهـا، وضاعت بلادنـا وكل مـا بذلنـاه مـن تضحيات. وهـا أنا الآن أجلس بين يديـك يـاسـت حـواء“.

هذه صفحات أفضت فيها الحديث عن الفدائية الفلسطينية أمينة أكثر مما أفضت عن مشكلة فلسطين نفسها لأن أمينة في نظري هي فلسطين بآلامهـا وآمالهـاء بأحزانها ومآسيها، بماضيهـا وحاضرهـا ومستقبلها، بصراعهـا المريـر ضـد القـوة الدخيلـة، ضـد التيارات المتصارعـة الـتي نجحت في السيطرة على المنطقة بفضـل سياسة الارتجـال التي اتبعتها الحكومات العربية، سياسة العويـل والـصراخ، مما أفسح لتلك العناصر الأجنبية سبل تثبيت أقدامها.

إن التاريخ لـن ينـسي عند تسجيله مأساة فلسطين موقف الحكومات والأمم العربية الذي اتسم بالميوعة خلال تلك الحقبة من الزمن، وما سببته تلك الميوعـة مـن ضيـاع جزء كبير من أرض فلسطين.

أمـا أنـا، فـلـن أنـسى مـا حييـت صاحبة ذلـك الوجـه الصبـوح المعبر. لن أنسى أمينة الفدائيـة الـتي زاملتـني ثلاثين يومًا كاملـة، تقاسمت معهـا فيهـا آلامهـا وآمالهـا خـلال أحاديثنـا عـن الأساليب التي اتبعها الصهاينة لإخضاع شعب فلسطين حتى تمكنـوا مـن اغتصاب ذلـك البلـد العـربي بكل الوسائل غير المشروعة، وسقط في أيـدي حفنـة مـن المهاجرين الوافديـن مـن جـميـع أنحـاء العـالـم.

لـم يقـف نشاطي في شأن قضية فلسطين عنـد حـد معـين، بـل لـم أتـوان أبـدًا عـن العمل والدعايـة مـن أجـل تـلـك القضيـة عمومًا، والتـي ثـارت على المستوى العالمي عقـب حـرب سنة ١٩٤٨، ومـن أجـل مشكلة اللاجئين خصوصًا، وهي المشكلة التي خلقتهـا تلـك الـحـرب، فعملـت عـلى حـث المسـؤولين والشـعـب عـلى مساعدتهم والاهتمـام بأمرهـم. ومـن ذلـك أنـي أجريت العديد من الاتصالات والمقابلات والمكاتبـات مـع الأجهزة المعنية، ولن أستطيع في هذا المجال أن أسرد كل أعمالي، وإنما أكتفي ببعض الخطابات التي تبادلتهـا مـع رئيسي لجنة إغاثة اللاجئين بلبنان والقاهرة، وكذلـك مـع رئيسة الهلال الأحمر بالإسكندرية. وأسطر هنـا صـور طـبـق الأصـل مـن تلـك المكاتبات دون تعليـق لأن مضمونهـا يـغـني عـن كل وصـف وتعبير، إذ حققت الكثير من النتائج الطيبة التي كنـت أهـدف إليها.

الرمل في ٢٧ سبتمبر سنة ١٩٤٨

حضرة صاحب العزة أحمد بك خليل،

رئيس لجنة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين بلبنان

أبعث إليكم بتحياتي وأرجـو أن يكون جميع أفراد العائلة متمتعين بالصحة والسعادة وبعد.

أكتب إليكم هذه السطور لأخبركم بأنـني لـم أنـس المهمـة الـتي تفضلتـم وكلفتمـوني بها، وإني لـم أهـدأ منـذ عـودتي إلى أرض الوطن، ذلك أنني اتصلـت حـال وصـولي بالجهات المختصـة الـتي في إمكانهـا إرسال مساعدات عاجلـة. ولزيادة التأكيـد في تنفيذ مطالـبي اتصلت تليفونيًا برئيس الوزراء دولة النقراشي باشا ونقلت إليه الكثير من حال اللاجئين في منطقة لبنـان، ومـا ينتظـر مـن مـصر لإغاثنهـم، وتأثر الرئيس مما سمع مني ووعـدني بأنهم سيعملون بإيمان لإيجاد حل لتحسين حالتهم والنظر للمشكلة ككل، وذلـك إلى حين النظر في وضعهم السياسي. ومـن أجـل ذلـك فـهـم قائمون على تكوين لجنة دولية لبحث هذه المشكلة واستنباط مـا يـجـب عـملـه، ولكـنـي قـلـت لـه أن تكويـن مثـل هـذه اللجنة ثم البحث في أحوالهـم يستغرق وقتًا طويلاً، بينما حالتهم الراهنة تستدعي الإسراع في مساعدتهم، فـرد دولتـه بـأن لا تزعـلي فالمساعدة ستصلهم حتمًا في الوقت المناسب. فنحن نرسـل مـن يقـوم بإسعافهم من المصريين إلى أن تقوم اللجنة الدولية بالدرس والبحث.. عسى أن يكون المبعوثـون قـد وصلوا الآن وبدأوا العمل.

هذا من جهة، ومن جهة أخـرى أرسلت طلب الإغاثة الذي حملتمـوني إياه إلى الدكتـور سليمان باشا عزمي، رئيس اللجنة العليا لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين في القاهرة، ليأذن لفرع الهلال بالإسكندرية بإرسال كميات الغذاء والكساء والأغطية الصوفية التي تمكن أعضـاء الهـلال مـن جمعهـا عـلى ذمـة هـؤلاء اللاجئين. وأنا الآن في انتظار رد الدكتـور عزمي بهذا الخصوص وحال وصوله سأرسـل لكـم تلغرافًا.

هـذا ورجـائي المعذرة عـن التأخير في الكتابة إليكـم، ولكن كما قلت قبـلاً أنا في انتظار رد الدكتور عزمي، وإنني بالرغم من عـدم الكتابة لا أتوقف عن العمل والدعاية لقضية اللاجئين، وحث الناس على مساعدتهم، والجميع هنـا لا يقصرون في شيء ويعطفـون على إخوانهم كل العطف ويهتمون بأمرهـم أكـبر اهتمام.

وإذا كنتم تريدون أن أقـوم بـأي عمـل آخـر مـن أجـل اللاجئين، فإنني سأكون في غاية السرور للقيام به، أنـا الـتي وجهت كل اهتمامي لقضية فلسطين منـذ فـجـر حيـاتي.

أرجو أن تكون السيدة مريم شقيقتكم بصحة جيدة وكذا السيدة قرينتكم مع تبليغ تحياتي لهما.

ولكم مني وافر التمنيات،

حواء إدريس

الرمل في 7 أكتوبر سنة ١٩٤٨

حضرة صاحبة العصمة السيدة سميحة هانم سعيد،

رئيسة فرع الهلال الأحمر – الإسكندرية

بعد التحية

تعقيبًا على المحادثة التليفونية بشأن اللاجئين الموجودين بلبنان.

أتشرف بكتابـة هـذه السطور لأشرح لعصمتـك حـالـة هـذه الفئة التعسـة مـن سـكان فلسطين كما رأيتهم في سبتمبر الماضي عنـد زيارتي لمعسكراتهم في منطقة لبنـان، هؤلاء اللاجئين الذين اضطروا إلى ترك بلادهم وبيوتهم والالتجاء إلى البلاد العربية المجاورة مـن قسـوة الثـورة الـتي يقوم بهـا أفـراد مـن ذوي قرباهـم.

التجأوا إلى البلاد العربيـة الـتي تعهدت بالدفاع عنهم ظنًا منهـم بـأن هـذه البـلاد الشقيقة سـوف تحتضنهـم وتعاونهـم وتخفف عنهـم ويـلات التشرد والشقاء، ولكـن مع الأسف الشديد لـم يقـدر أولـو الأمـر في تلك البلاد خطـورة الحالـة الـتي وصـل إليها هؤلاء التعساء حتى يقوموا بتقديم المساعدات بالسرعة اللازمة لدفع شر الجـوع والمرض والانحلال الخلقي عنهم.

أكتب إلى عصمتـك لمـا نـعهـد فيـك مـن غـيره وطنيـة وشعور بالإنسانية، لأعرفـك عـن بعـض حـالات لمستها بنفسي أثناء زيارتي لمعسكر قريـة (ميـه الميـه) اللبنانية.

هذه المنطقـة جبليـة وعـرة لا يوجـد فيهـا أي نـوع مـن أنـواع المساكن، وبناء عليـه فقـد شـاهدت اللاجئين نساء وأطفالاً وشبابًا وشيوخًا متروكين لعناية الله دون مـأوى إطلاقًا، ولا حتى الشجرة يجدونهـا ليفترشوا ظلهـا دفعًـا لقيـظ الشمس صيفـًا والـبرد القارص شـتاء، كما لا يوجـد مـن الكساء ولا الأغطية الضرورية ولا حتى الغـذاء الكافي ما يساعدهم على مقاومة الأمراض التي تفتك بهم بشكل مخيف خصوصًا الأطفال الضعفاء، الذين يموتـون بكثرة مخيفة.

تصوري عصمتـك أنـه لا توجـد ميـاه في هذه المنطقة، وأن اللاجئين فيهـا لـم يغتسلوا منذ أربعة أشهر ونصف منـذ أن تركوا ديارهم وبلادهم حتى الآن، وهـا قـد أقبـل فـصـل الشتاء وبداهـة سـتصل حالتهـم مـن سيء إلى أسوأ لأن هذه المناطق كمـا هـو مـعـروف عنهـا قارصـة الـبرد جـدًا في الشتاء، لكونهـا مكشوفة ومرتفعـة كثيرًا عن سطح البحـر فضلاً عن أنهـا جـرداء لا نبـات فيهـا وكل الـذي عـمـل لـهـم إلى الآن هـو تقديـم بعـض المساعدات الوقتية الضئيلـة مـن جـانـب الهيئات النسائية في لبنان، ولكـن حـتى هـذه المساعدات تعتبر كالعـدم بالنسبة لحجمهـا وكـثـرة عـدد اللاجئين.

ومـن ذلـك ترين عصمتك أن حالة هؤلاء القوم تستدعي العمل على مساعدتهم بسرعة لينجـو مـن بقي منهـم وإلا ماتـوا عـن آخرهـم، ولا يخفـي عـلى عصمتـك أن إهمالهـم بمثل هذه الصورة يعد وصمـة فـوق جبين الإنسانية وعارًا على البلاد العربية جمعاء.

هذا وإذا كان هناك نية في إرسال معونة عاجلة وإيفاد بعثة فأنا على استعداد تام أن أجنـد نفـسي ضمن أعضاء البعثة، برغم اعتلال صحتي، لتسهيل قيام البعثة بمهمتها لما لي مـن صـلات ومعارف بين شخصيات هذه البلاد خصوصًا في أوساطها النسائية.

ختامًـا تقبـلي يـا صاحبة العصمة شكري الجزيل وتقديري لاهتمامك بقضيـة هـؤلاء البؤساء، وهي قضية إنسانية يجب أن يهتم بها ويعمـل لـهـا كل إنسان أهل بإنسانيته.

مع مزيد تحياتي،

حواء إدريس

الرمل في 17 أكتوبر سنة 1948

حضرة صاحب السعادة سليمان باشا عزمي

رئيس اللجنة العليا لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين

القاهرة

تحية وسلامًا وبعد.

أسمح لنفسي بكتابة هذه الكلمة بخصوص اللاجئين الفلسطينيين، ولأذكركم بخطاب سبق تسليمه إليكم في شهر سبتمبر الماضي، وهـو خطاب موجـه مـن لجنة مساعدة اللاجئين بلبنان إلى، يتضمن طلب الإسراع بمساعدتهم لاحتياجهم الشديد إلى المعونة وكل ما يحتاج إليه الإنسان لمعيشته الضرورية. وكنتم قد وعدتم قريبتي التي حملت إليكم ذلك الخطـاب بالـرد عليـه في أقرب فرصة، وبالكتابة إلى السيدة سميحة هانـم سعيد رئيسة فرع الهلال بالإسكندرية لتكليفها بإرسال المعونة التي جمعت على ذمة هؤلاء البؤساء، وكنـت قـد أرسلت الخطاب المذكور بعد أن كتبت إلى السيدة سميحة هانم سعيد لأطلب منها أن تشد أزري لـدى أولي الأمر، ولـدى جمعيتها لتقوم بإرسال ما يكون لديهم من معونة، فأفهمتني بأنها مستعدة ولديها الكثير من المواد الجاهزة للشحن ولكنها تنتظر الإذن منكم.

فلا أظـن يـا سعادة الباشـا أنـه يرضيكـم ولا يرضي أي إنسـان مـعـتز بإنسانيته بـأن يهمـل شـأن هـذه الفئة التعسـة مـن إخوانكم ويترك أمـر مسـاعدتهم والتخفيف عنهم للأوروبيين بينمـا، مـن واجبنـا نـحـن العـرب القيام بهذا العمـل الإنساني والأخـوي لصلاتهـم بنـا ولحقوقهـم علينـا.

وأرى أنه من الأفضـل سرعـة إرسال هذه المساعدات لتنجو البقيـة الباقيـة مـن هـؤلاء القـوم الأعزاء علينـا قبـل فـوات الوقت.

وفي انتظار رد سيادتكم أرجو أن تتفضلوا بقبول فائق التحية،،،،،

حواء إدريس

وبتاريخ ٢٣ من أكتوبر سنة ١٩٤٨ تلقيت ردًا مـن الدكتور سليمان باشا عزمـي عـلى خطابي سالف الذكر ولأهميته رأيت أن أنشر صورته الفوتوغرافية ليتبين القارئ الأثر المباشر والفوري الذي حققته رسالتي:

ولم يقف نشاطي في سبيل الدعوة إلى إغاثة اللاجئين عنـد حـل، بل كان يمتد إلى الكثير من النواحـي مـن ذلـك أن السيدة ساذج نصـار أرسلت لي نسخة مـن نـداء وجهتـه إلى الجامعة العربية ولجنتها السياسية لحثهـا عـلى اتخاذ إجراءات إيجابية لحـل ذلـك المشكلة بدلاً مـن مـجـرد إلقاء الخطب الرنانة والابتعاد عن الأعمال الإيجابية.

وقمت فعلاً بالاتصال بكثير من المسؤولين إيمانًا مني بواجبي نحـو هـؤلاء المواطنين الذين شردتهم جحافل الصهيونية من جهة، والتفكك العربي في ذلك الوقـت مـن جهـة أخرى، وكان بودي أن أنشر نص ذلك النداء، لولا أن افتقدته مكتبتي، ولعـل أحـدًا مـن المسؤولين قد استحوذ عليه ولا يسعني إلا أن أنشر صورة الخطاب الذي أرسلته لي السيدة ساذج نصار برفقة ذلـك النـداء.

كنـت أزور عمـان في شهر مايـو سـنة ١٩٤٦ بدعـوة مـن صديقتي الأنسـة أميـلي بـشـارات، سكرتيرة جمعية الاتحاد النسائي الأردني، والتي حضرت إلى طبرية في فلسطين لتصحبني إلى العاصمة الأردنية للتوسط بين الأطراف المتخاصمـة في فـروع الاتحاد النسائي الأردني وبصفة خاصـة فـرع أربـد والمركز الرئيسي في عمان والسعي إلى التوفيق بينهما.

وفي طريقنا إلى عمان توقفـت يومًا كاملاً في أربد، حيث نزلت ضيفة على زوجـة حـاكـم المدينة، وهي في الوقت نفسه رئيسة فرع الاتحاد النسائي بها، وانتهزت الفرصة وبدأت الاجتماعات والمناقشات التي دارت حول أسباب الخلافات الناشئة في فروع الجمعية، التي اتضح أخيرًا إنها تتركز في رغبـة حـرم رئيس الوزراء إبراهيم باشا هاشم في الإشراف على إدارة المركز الرئيسي في عمان، مخالفة بذلك قانـون الجمعية الذي ينص على أن تسند الرئاسة الشرفية إلى زوجـة حاكم البلـد منـعًـا مـن الدخـول بالجمعية في متاهـات السياسة والحزبيات، وتجنبًـا مـن أن تحيـد عـن أغراضها الاجتماعية الإنسانية.

كان من الطبيعي أن تجـد تلـك الرغبـة معارضة قويـة شـديدة مـن عضـوات الجمعية، وبالتالي تثـور المقاومة حرصًا على رسالة الجمعية من البعـد بها عن أهدافها الأصلية. وقـد اسـتطعت بعـون مـن الله عـز وجـل أن أقنـع الأطراف المتنازعة بضرورة التفاهـم مع حرم رئيس الوزراء التي هددت بحـل الجمعية إذا لم تسند إليها رئاستها الفعلية، وذلـك بـأن تسند إليها رئاستها الشرفية منعـًا مـن تعـريـض أهـداف الجمعيـة للتيارات السياسية المختلفة، الأمـر الـذي قـد ينتهـي بهـا إلى حـل، ويكـون نتيجة ذلـك خسارة المرأة الأردنية ميدانًا مهمًـا مـن ميادين نشاطها الاجتماعي.

أثنـاء تلك المناقشات الطويلة التي دارت في اجتماعنا ضربت للعضـوات مثلاً يجب أن يقتديـن بـه وهـو ديمقراطية الأميرة زيـن الـشرف، زوجـة ولي العهد الأمير طلال، التي انضمت إلى الجمعيـة بوصفهـا عضـوًا عـامـلاً فـقـط بالرغـم مـن أنـه عـرض عليهـا رئاسـة الجمعية من جميع العضوات في جميع الفروع، إلا أنها فضلت أن تكـون عضـوًا عاملاً فقط. وبالرغم من ذلك، كانت مهمتي شاقة للغاية، لأن حـرم رئيس الوزراء لـم تكن لديها أيـه قابلية لإدراك الحقائق وتفهم الواقع، بـل وصـل بها ضيق أفقها وتفكيرها إلى اعتقادها أنها طالما كانت حـرم رئيس الوزراء، فإن لها الأمـر وعـلى الغير الطاعة بصرف النظر عما يحدث بعد ذلك، وعما إذا كان في مقدورها أن تتحمل أعباء تلك التصرفات والمسؤوليات من عدمه.

أخيرًا هـداني التفكير إلى إقناعها بأن تتقدم أولاً وتدفع قيمة الاشتراك في الجمعية، ثم تقوم العضوات بترشحها للرئاسة الشرفية طبقًا لقانون الجمعية. وقبلت سيادتها هـذا الحـل الـذي أنهى تلك الأزمـة أو على الأصح الزوبعـة الـتي أثارتهـا حـرم رئيس الوزراء وكادت تطيح بالجمعية في مهب الريح.

كانت النتيجة أن دعتـني الملكـة مصبـاح (أم طلال) إلى القصر الملكي لتناول الشاي في ضيافتها وبرفقة صديقتي أميـلي بشارات. وكنـا نحن الثلاثة فقط وأخذت الملكـة تـرحـب بي أثناء تناول الشاي الـذي قدمته بنفسها، وأبـدت سرورهـا وابتهاجها بذلك الموقف الذي استطعت تدبـر حـلـه بلباقة، وجنب الكثيرات المضايقات الجمـة. شعرت أن الملكة راضية عني لأنها حاولت أن تهديني خاتمًا ثمينًا كانت تزيـن بـه أصابعها، ولكني اعتذرت عن قبوله خجـلاً مـن أن أدعهـا تجـرد أصابعها من الخاتم لتعطيني إياه، وقلت لهـا أن استقبالها لي بهذه الحفاوة والتكريم واهتمامهـا الـزائـد بأمـري لـهـو عنـدي أعظـم مـن أيـة هدية مهما بلغت قيمتها. قبلت جلالتها اعتذاري ببساطة واعتقدت أن الموضوع قـد انتهـي عنـد هـذا الحـد، ولكـن بـدا الأمـر لـم يكـن كـذلـك لأني عندما توجهت إلى القصر مع أميـلي بشارات لزيارة الملكة الأم استئذانها في السفر شعرت أن استقبالها لي هـذه المـرة لـم يكـن يحمل تلك الحرارة التي استقبلتني بها في المرة الأولى، إذ كان الجـو فاتـرًا نوعًا ما.

ولما كاشـفت أميلي بذلك الشعور، ونحن في طريق العودة، أجابتني أن ذلك كان نتيجة تصرفي، وإنهـا لـم تـر إنسانة زاهدة في الدنيا في هذه السن المبكرة إلى حد أن ترفض هدية ملكة البلاد. قلت لأميـلي: “إذن فهمت الآن سر ذلك الفتـور الـذي ساد المقابلة وهـو عـدم قبـولي الخاتم، ومـا ذنبـي وهـذا مبدئي، هدية مقابل هدية، فكيف يمكنني أن أقدم هدية إلى الملكة، وليست عنـدي المقدرة لأهديها ما يليق بمقامها“. ضحكت أميـلي كثيرًا وقالت: “هذا تفكير لا بأس بـه يـا حـواء. حقًـا إنـك فريدة في هذه الدنيا“. رددت عليهـا بقـولي: “وماذا كنت سأفعل؟ هل كنت أدعهـا تخلع الخاتم من أصابعها لأخـذه؟ ومـن أدراك إذا كان زوجها لن يغضب من ذلك؟، قاطعتني أميلي قائلة: “ما هـذا الهـراء الـذي تقولينه؟ كان من الواجب عليك أن تأخـذي الخاتم فقط“. فسألتها ماذا سيحدث الآن؟، أجابت: “لا شيء مجـرد شـعور بالضيـق العـابـر سيسود الملكة ثم يمضي ويتلاشي“. وفي خلال الأيام القليلة الباقية لزيارتي لعمان اقترحت صديقتي أميلي على أن تصحبني لزيارة الزوجة الثالثة للملك عبد الله، إذ كانت قد حدثتني عنهـا كثيرًا، ووصفتها بكونها جميلة جذابة، بالرغم من أنهـا زنجيـة، وأنيقة في ملابسها، وأن الملك عبد الله مدله في غرامهـا حـتى إنه قاطع ابنه وولي عهده الأمير طلال لأنه اعترض على زواجه منها بدعوى أنهـا لـن تلـيـق لـه سـنًا أو مقامًا.

ولما قبلت اتصلت أميـلي فعـلاً بالزنجية الحسناء ناهـدة، هكذا أطلقت عليها، فرحبت بزيارتي وقالت إنها سمعت عني كثيرًا، وقرأت مـا أكتبه في الصحف، وأنها معجبة بآرائي وأفكاري، وترغب كثيرًا في التعرف إلي، وطلبت أن أحدد أنا الموعد الذي يناسبني، لأنها لا تعلم برنامج زيارتي لعمان، ولكن مع الأسف الشديد غادرت العاصمة الأردنية دون أن أتمكـن مـن زيارتهـا والتعرف إليهـا بالرغـم مـن رغبـتي الشديدة في ذلك، لأن برنامج زيارتي كان مزدحمًا لدرجـة لـم تسمح أبدًا بإيجـاد ثـغـرة أنفـذ منهـا إليها، كمـا أنـي لـم أستطع مـد إقامتي في عمان لارتباطي بمواعيد وأعمـال مهمة في حيفا بمناسبة حضـوري اجتماع السيدات الفلسطينيات في طولكـرم يـوم الجمعة 17 مايـو ١٩٤٦ للـرد عـلى مقترحات اللجنة الأنجلـو الأمريكية الخاصة بمشكلة فلسطين. وهكـذا ضاعـت فـرصـة العمـر لزيارة الزنجية الحسناء، ولم أستطع إلا محادثتهـا تليفونيًا حديثًا طويلاً ممتعا ملأته حقًا بالمشاعر الطيبة الجميلة، ولـم تنـس الحسناء الجميلة أن توفـد أحـد أمنـاء القـصـر يـوم سـفري حاملاً لي باقة من الزهـور النادرة مع تحياتها وأطيب تمنياتها لي. هكذا أيضًـا غـادرت عمان دون أن أجتمع بالزوجة الثالثة للملـك الـتي ملأت قصصهـا ونوادرها المجتمع الأردني، والـتي، على حد ما سمعت، كانت تحكـم البـلاد مـن وراء الستار، لأنهـا كانـت أقـوى شخصية في المملكـة بـعـد الملـك.

أول ندوة عامة تحضرها سيدات الأردن

أثنـاء إقامتي بعمـان دعـاني السيد عبـد الله النجـار قنصـل سـوريا العـام في الأردن إلى حضـور ندوة اللجنة الثقافيـة الـتي يشرفهـا الأمير طلال ولي عهـد المملكة الأردنيـة برئاسته نيابـة عـن والـده لغيابـه في مهمة رسمية بالعراق، إلا أنني اعتذرت عـن تلبيـه هذه الدعوة لأنه كان من المعروف عن الملك عبد الله معارضته لاختلاط الجنسين في الأماكن العامة وفي سفور المرأة، ولأنـه لـم يكـن مسموحًا لسيدات مجتمع العاصمة الحضور في مثـل تلـك النـدوات، وهـو مـمـا يتعارض مع مبادئ الاتحاد النسائي.

إلا أن السيد عبد الله النجـار كان لـه رأيًـا آخـر، إذ طلـب مـن صديقـتي أميـلي بشـارات، مؤسسة الاتحاد النسائي الأردني، أن تنتهز فرصـة وجـودي ممثلة للاتحاد النسائي المصري لتخطـو المـرأة الأردنية الخطوة الأولى نحـو السـفور والتحـرر مـن قيودهـا، وذلـك بـأن تدعـو أكـبر عـدد مـمـكـن مـن السيدات أعضاء جمعيتهـا لحضور الندوة معي، لأن ذلك سيكون فرصـة المـرأة الأردنية الوحيدة لتحقيق هدفهـا في التحـرر. وفعـلاً استطاعت أميـلـي بـعـد جـهـد مـن الحصول على موافقة 25 عضـوة كان من بينهـن حـرم عبـد الله النجـار نفسه. ركبنا جميعًا خمـس سيارات وتوجهنا إلى نادي الملك حسين، حيث مكان انعقاد اللجنة الثقافية. وحين وصلنـا فـوجئ بنـا سـكرتير النادي الذي كان واقفًا بالمدخـل يستقبل المدعوين، فارتبـك ولـم يعـرف كيف يتصرف إلا أن يصحبنـا ويدخلنا غرفة مكتبه الخاص، ثم يغلـق علينا بابهـا وبعد فترة حضر إلينا عبد الله النجار، وأثـار مشكلة عدم وجود أماكن لجلوسنا في قاعة الاجتماع، واقترح وضع ٢٥ كـرسـي عـلى منصة الخطباء في مواجهة الجمهور، فقلـت لـه كـيـف يمكـن ذلـك إذا كان مجرد حضورنـا غير مرغوب فيه، وطلبت أن ينقل إلى المنصة في الأماكن التي خصصت لنا خمسة وعشرين مدعـوًا مـن أحـد الصفوف الأمامية، وفعـلاً قبـل اقتراحـي وانصرف، ثـم عـاد بـعـد قـلـيـل ودعانا أن نصحبه. وقفنا عند مدخل القاعة، وكل واحدة من السيدات تنتظر أن تبدأ زميلتهـا الدخـول، ولمـا لـم أجـد مـن تبـدأ تقدمت بالرغـم مـن سـني الصغير في ذلك الوقت، وطلبت من الحاضرات أن يتبعنـني، ودخلت إلى القاعـة ومـن ورائي باقي السيدات دون أن نلتفت يمينًا أو يسارًا، وجلسنا جميعًا في الصف الأول بعـد إخلائه خصيصًا لنـا، وكان الموقف من المواقف الصعبة التي نادرًا ما صادفتني لذلك لن أنساها في حياتي، طابور طويـل مـن السيدات يسير أمام مئات المشاهدين الذين خيـم عليهم السكون دونما اعتراض، بـل عـلى العكـس شـعرنا أنهم يؤيدوننا في خطوتنـا هـذه.

افتتح السيد عبد الله النجـار النـدوة معتذرًا عـن عـدم حـضـور الأمير طلال لسبب طارئ مفاجئ، والتفت إلينـا (ولـم يكـن هـذا العـذر الطارئ كمـا علمـت فيمـا بعـد إلا حضورنـا نحـن السيدات لتلك الدعوة لأنها كانت مفاجأة لـه، وخشية أن يعاتبـه والـده الملك عبـد الله لخروجـه عـن تقاليـد البـلاد)، وتناول عبـد الله النجار بالكلمـة حـدوث ظاهـرة طيبـة للمـرة الأولى في تاريخ العاصمة الأردنيـة، وهـي وجـود عـدد مـن سـيدات العاصمة بصحبـة ضيفـة عمـان حـواء إدريس في تلـك النـدوة.

قوبلت تلك الكلمة بالتصفيق الحـاد والتأييد المطلـق وعقب ذلك تناول المحاضرون كثيرًا من الموضوعات العامة منها: (صراع العروبة) لعبد الله النجار، و(مدرسة القرية) لصباح بك الروسان وزير المعارف، و(صـور مـن الحيـاة) لزهـاء الـديـن بـك الحمـود و(مشاهداتي) لوكيل وزارة آخر. ولـم تنس الجرائد والصحف أن تشير إلى تلك الندوة، وذلك الحدث الضخم الذي فتح للمرأة الأردنية بابًا مهمـًا مـن أبـواب المجتمع الـتي كانت مغلقة دونها، ومـن تلـك الصحـف جريدة الرأي العام الصادرة في ١٢ أيار (مايو) سنة ١٩٤٦.

مـقـدمـة

عندمـا فكرت في كتابـة هـذه الصفحـات عـن رحلتي إلى الهنـد كان الدافع لي أن أحتفـظ ببعض المذكرات والذكريات، ولأسجل تلك الواقعـات الخطيرة التي أحاطت بمهمتي الرسمية في بلاد العجائب والبدائع، وأن أكتسب عـن أول مؤتمـر للعلاقات الآسيوية الأفريقية في وقت كان الاستعمار فيـه هـو السيد الآمـر عـلى دول آسيا وأفريقيا جميعها. وهكـذا بـدأت أول رحلة طويلة لي في بلاد الحضارات العريقة.

ولست أدعـي أنـني أسرد في هذه اللمحات السريعة على مسامع القـراء حـوادث رحلـة طريفة أو مغامرات شيقة عجيبة، كمـا تعـودوا في مثل هذه المناسبات خصوصـًا، عـن بلاد الهنـد الـتي أحيطت بكثير من الغموض والقصص والخيال، إنما أردت أن أعـرض على من يهمهم الأمر دون تزيد أو رتوش الحقائق والوقائع التي عشتها فترة من الزمـن خلال دوري في تلك الأحداث، وعلاقتها بمشاكل الشرق الأوسط التي فرضتها الظروف في تلك الآونة من بين سطور المؤتمر، الذي انتدبت إليه لتمثيل الاتحاد النسائي المصري كما شاهدتها وعشتها. ومن ناحية أخرى كان الواجب يفرض علىَّ تسجيل هذه الأحداث لأهميتها التاريخية قبـل أن تطويهـا الأيـام ويشملها النسيان. ومرجـع هـذه السطور إنمـا هـو مذكراتي اليوميـة الـتـي كنـت أسجلها لحظة بلحظة منذ بداية التحضير للمؤتمـر وخـلال إقامتي بالهنـد حـتى عـودتي إلى أرض الوطن.

الدعوة لحضور المؤتمر

في أوائل شهر فبراير سنة ١٩٤٧ تلقت جمعية الاتحاد النسائي المصري دعـوة لحضـور أول مؤتمـر لـدول آسيا يعقد في مدينة دلهـي الجديدة بالهنـد، وكانت الداعيـة لهـذا المؤتمر باسم حكومة الهنـد رئيسته السيدة ساروجني نايـد والشاعرة الرقيقة الملقبة بلبلـة الهنـد، التي تشغل في الوقت نفسه منصب المحافظ لإحدى المقاطعات.

وقد دعيت مصر بصفتها زعيمة الدول العربية الواقعة في القارتين الآسيوية والأفريقية ودعي الاتحـاد النسائي المصري باعتباره رائـد الاتحادات النسائية في الدول العربيـة، وعضـوًا مهمًا في الاتحاد النسائي الدولي ولمـا يتميز بـه مـن ربـاط وثيـق بـكـل مـن آسـيا وأفريقيا، كما يعتبر الدعامة القوية للاتحاد النسائي العربي العام. لذلك وجهت إليـه دعـوة لإيفاد مندوبات عنـه يعـبرن عـن أمـاني مـصـر بخاصـة ونساء العروبة بعامـة في أول مؤتمر للعلاقات الآسيوية يبحث وسائل التكتل والتعاون بين شعوب دول آسيا وأفريقيـا ضـد أي اعتداء خارجي. وبمجرد تلقي الاتحاد النسائي المصري تلك الدعـوة جمعـت ابنـة عمـتي المرحومة السيدة هدى شعراوي أعضاء مجلس إدارة الجمعيـة لمناقشة موضوع الدعوة الهندية لنساء مصر، والتشاور فيما يمكن اتخاذه مـن قـرارات في هـذا الشـأن.

مناقشات حادة في اجتماع مجلس إدارة الجمعية

في الساعة الرابعـة مـن بعـد ظـهـر يـوم 5 فبرايـر سـنة ١٩٤٧، اجتمعـت عـضـوات مجلـس الإدارة في غرفة نوم السيدة هدى شعراوي لمرضهـا آنـذاك، وذلك للنظر في موضـوع تلك الدعوة واختيار المندوبات اللاتي يرشحن للسفر إلى الهنـد لتمثيـل الجمعية في المؤتمر الخطير والاطلاع على برنامج الموضوعـات الـتي ستبحث في المؤتمـر.

وعندما انعقدت الجلسـة وبـدأ بحـث موضـوع السـفـر لـم تـكـن السيدات العضـوات متحمسـات أصـلاً للموضـوع، لأن الرأي العام في ذلك الوقـت سـواء في مصر أو البـلاد العربية كان يعتبر مثـل هـذه الرحلة مغامرة خطيرة، وليس أدل على ذلـك مـن المقـال الذي نشره الدكتور عبـد الوهـاب عـزام عـن تلـك الرحلـة بـعـد تمامهـا – في مجلـة آخـر سـاعة بتاريخ 30 أبريـل سـنة ١٩٤٧ بعنـوان (مغامـرة مـن مـصـر إلى الهنـد وبالعكس مرت بسلام). فإذا كان الرجال، وفي مقدمتهم الدكتـور عـزام الذي جاب العالم شرقًا وغربًا، قـد نظروا إلى تلك الرحلة أنها مغامرة خطيرة فيمكن أن تتصور مدى موقف المرأة منها، وفضلاً عن ذلك فلـم يكـن لـدى معظم السيدات اللائي حضرن جلسة الجمعية في اعتقادي أية معلومات وافيـة عـن الهنـد ومـدي علاقاتها بـدول الشرق الأوسط، لذلك اتفقت المجتمعات على تفويض ابنـة عمـتي السيدة هدى شعراوي في اتخاذ مـا تـراه مناسـبًـا مـن قـرارات في هذا الشأن، والـرد عـلى جميع المراسلات التي كانت الجمعيـة تتلقاها من الهنـد بخصوص ذلك المؤتمر. وعلى الفور ودون أي تردد اقترحت السيدة هـدى اشتراك الاتحاد النسائي المصري فيـه؛ حيـث رأت الفرصة فريدة لتوثيـق عـرى الصداقة العربية الهندية القديمة، كما أنهـا وجـدت فيـه مجـالاً نادرًا لدراسة مشكلات العالم العربي ومجموعة دول آسيا على نطاق دولي واسع. وقد وضعت السيدة هـدى في اعتبارها أن هناك قوتـان كبيرتان متصارعتـان في أقصى الشرق وأقـصى الغرب، وأن مجموعة دول آسيا وأفريقيـا تـرزح تحت نير الاستعمار المقيد حرياتها، وأن مطالب مجموعـة هـذه الـدول واحـدة، وهي الاستقلال وكفالة حياة أفضل لمواطنيها قوامها العـزة والكرامة. لذلك فإن طبيعـة الأمـور والمنطق السليم كانا يوجبـان ويحتمـان أن تتكـتـل هـذه المجموعات أمام العدو المشترك لتصد التيارات الشرقية والغربيـة الـتي تتربصهـا لتعصف بها.

ولا يفوتني أن أذكـر في هذا المقام أن الدعوة لمثل هذه المؤتمرات والتكتلات في ذلك الوقت كانت ضربًا من الخيال لا يمكـن حـتى مـجـرد التفكير فيها، كمـا لـم يكـن يخـطـر على بال رواد النهضة وساستها أن مثل هذه الأفكار والآراء يمكن تحقيقها. ولكل هذه الأسباب رأت السيدة هدى شعراوي أنـه مـن الـضروري الاشتراك في هـذا المؤتمـر وطلبت من العضوات الحاضرات أن تتقـدم مـن بينهـن مـن يمكنها السفر إلى هذه البلاد الشرقية الشقيقة. وقد أثار هذا الاقتراح مناقشات طويلة وتبادل وجهات النظر بين العضوات في الجمعية فيمن تستطيع منهـن القيام بهذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، وبخاصة أنه كان واضحـًا مـن طريقـة سير المناقشات تهيّـب السيدات وتخوفهـن مـن ركوب الطائرة وبعـد المسافة، ولأن شعوب تلك البلاد غريبة عنهن. ومـر الوقت بطيئًا دون أن تتقـدم واحـدة مـن المجتمعـات حـتى أنقذت السيدة عصمـت عـاصـم عضـو مجلس الإدارة الموقـف وأبدت استعدادها للقيام بهذه الرحلة وعلى نفقتها الخاصة، وقالت إنهـا سـتكون مسرورة للغايـة لـو تشجعت أيضًـا إحـدى السيدات الحاضرات وانضمت إليها.

وهنـا أقـف لحظـات لأسرد حادثة جانبية وقعت أثناء تلك المناقشات لأنها ذات دلالة خاصة، ذلك أنه بعد أن أنهت السيدة عصمت عاصم كلمتها قامت إحدى السيدات من بين الحاضرات لازالت معروفة في عالم الصحافـة حـتى اليـوم وعارضـت بشـدة مجـرد التفكير في المؤتمر، قائلة إنه لا يجوز أبدًا وبحـال مـن الأحـوال أن نسيء إلى شعور مائة مليـون مسلم هنـدي بهـذا العمل لمجـرد أن تلقينـا دعـوة مـن حكومـة الهنـد دون أن نبحث عن الدوافـع لهـذه الدعوة والغرض منها، وأن مؤتمر العلاقات الآسيوية ما هو إلا بمثابة ستار تختفي وراءه حركات معادية لمسلمي الهند، واستندت في معارضتها هذه إلى تصريحات للسيد محمـد عـلـي جنـاح أبداهـا إلى بعض مراسلي الصحـف عنـد مروره بالقاهرة في ذلك الوقت في طريق عودته إلى الهنـد بعـد إحدى أسفاره، واستطردت السيدة المذكورة القول إن زعيـم مسلمي الهنـد حـذر العالم الإسلامي مـن اشـتراكه في هـذا المؤتمـر لأن مسلمي الهنـد قاطعـوه لعـدم رغبتهم في التعاون مع الهندوس في أي نشاط في الظروف الحاضرة، لذلك فإنهـم لـن يقابلـوا اشتراك الأمـم الإسلامية فيـه بنفـوس راضية.

هنا قامت مناقشة حـادة بيني وبين تلك السيدة بعد أن عارضتهـا فيما ذكرتـه؛ حيـث أبديـت لهـا أن مجـرد الطعـن في أهـداف اجتماع خطير كهـذا المؤتمـر عـلى صفحـات الجرائد لا يقوم دليـلاً عـلى أن محمـد عـلى جنـاح جـاد في كلامه، وأن الكلمات العابـرة التي نشرت على لسانه في الصحف لا تكفي، ولا يمكن أن نعتبرهـا حجـة عـلى ثلاثمائة مليـون هنـدي حـتى تجعلنا نقاطـع بكل بساطة اجتماعًا على جانب كبير من الأهمية والخطورة إرضاء لشخص واحـد أراد أن يعبث بعمل عظيم وفكرة جليلة، وأنه بالرغم من الدعاية المضادة التي أثارها السيد محمـد عـلـي جنـاح فإنـه لـم يستطع أن يقـدم دليلاً واحـدًا عـلى سـوء نيـة الهنـدوس تجاه المسلمين في الهند، ولذلك فإنه لابـد مـن وجـود نـوايـا خفية وراء تلك الضوضاء التي أثارها.

إلا أن معارضتي هـذه كانت لها حساسية شديدة لتلك السيدة، ذلك أنهـا انفعلـت بشدة وهاجمتـي هجومًا عنيفًا قائلة: “كيف تسمحين لنفسك أن تكذبي زعيمًا عظيمًا وتضعين أقوالـه موضـع الشـك وتتهمينـه بالعبث، ومـاذا تعرفين عن آرائـه واتجاهاته حتى تنتقديه بهذه الطريقة غير اللائقة؟، فأجبتهـا مـن فـوري أن معلومـاتي عنـه لا تهم، وإنمـا الـذي يهـم كثيرًا رأي الناس فيه، وأرجو أن يكون مفهومًا وواضحًا لك أننا لا نقبـل ولا نملـك مقاطعـة اجتماع خطير كهـذا لمجرد أن عابر سبيل أدلى بتصريحات على صفحات الجرائـد بـغـرض بلبلـة الأفـكار نحـو أعظـم فكـرة عرضـت للتنفيـذ حـتى الآن“.8 واستمرت حـدة المناقشة بيني وبين تلك السيدة حتى تدخلت السيدة هـدى شعراوي وأنهـت تلك المعركة، ولكن بعد أن استطاعت هذه السيدة أن تبث خواطرها بين عضـوات الجمعية فشتتت أفكارهـن. والغريب في الأمر أن هذه السيدة بالرغم مما أبدتـه مـن معارضة واحتجاج ومـا أثارتـه مـن زوبعـة وبلبلـة لـم تـكـن عضوًا في مجلس إدارة الجمعية، ولم توجه إليها الدعوة للحضور وإنما كانت موجودة في تلك الأمسية مصادفة في زيارة السيدة هدى شعراوي للاطمئنان على صحتها.

عقـب انصراف العضـوات قالت لي ابنـة عمـتي السيدة هدى شعراوي كيـف سـنعرف الحقيقـة الآن يـا ابـنـتي وكيـف سـنتصرف في الموضـوع؟، فأجبتهـا أن ثمـة طريقـة مـا للوصول إلى الحقيقة. وبعـد بـرهـة طلبت مني أن أتصـل بوزير الخارجيـة تليفونيًا في منزله لتحدثه في الموضوع وتطلب إليـه تكليف قنصلنا في بومباي بالتحـري عـن أهـداف هذا المؤتمر وإرسال إيضاحات دقيقة تفصيلية عن اتجاهات الهنود في مؤتمرهـم هـذا، حتى تتمكن من تحديد موقفنـا نهائيًا في ضوء معلوماته.

وفي ٢٠ فبرايـر سـنة ١٩٤٧ ورد رد قنصلنـا في الهنـد متضمنًـا أن أهـداف المؤتمر مهمـة وتستحق العنايـة، وقـد اتفـق هـذا الـرد مـع رد قنصـل الـعـراق الـذي كلفتـه حكومتـه بالبحث في الموضوع نفسه بناء على طلب وزيرها المفوض في القاهرة في ذلك الوقت المرحوم السيد تحسين العسكري. وفي ضوء هذين الردين تقرر سفرنا إلى المؤتمر دون إبطاء، كمـا قـررت الحكومة المصرية إيفاد الأستاذ الدكتور عبد الوهاب عـزام ، عميـد كلية الآداب في ذلك الوقت، مندوبًا عنها منضمًا إلى قنصلنا في بومباي السيد مصطفي كامل، كما أوفدت جامعة الدول العربية مندوبًا مستمعًا عنها. ومما هو جدير بالذكر أيضًا أن جمعية الإخوان المسلمين كانـت قـد انـتدبـت أحـد أعضائهـا للسـفر لحضـور ذلك المؤتمـر.

ومما يلفت النظر أن حضور الدكتـور عـزام كان مراقبًـا فقط، ذلك لأن الحكومة المصرية كانت مترددة في تلبية تلك الدعوة لكثرة مـا أحـاط المؤتمـر مـن إشاعات، وبخاصة بعد أن علمت أن رابطة مسلمي الهنـد قـد قـررت مقاطعة المؤتمر المذكور، إلا أنه إزاء قواعـد المجاملة التي التزمت بها مصر تجـاه الـدول الأسيوية، وأثر ذلك على قضية مصر التي كانت ستعرض على هيئة الأمم المتحدة، وحاجتها إلى تكوين صداقات دولية وكسب تأييد الكثير من الشعوب، فضلاً عن رعايـة حـقـوق الجـوار وحسن الصلات، كل ذلك أدى إلى قبـول الحكومة المصرية الاشتراك في المؤتمر الأسيوي، وإيفاد الدكتـور عـزام مراقبًـا فـقـط إرضـاء منهـا لمختلف طوائف الهنود المسلمين وهنـدوس. وقـد وجـهـت الدعـوة ليـس إلى حكومـات الـدول فحسب، بل وإلى الهيئات والجمعيات الشعبية والجامعات والمؤسسات العلمية أيضًا. كل مـا تقـدم يفنـد حجج تلك السيدة الصحفية التي ساقتها في سبيل معارضـة اشتراك الاتحاد النسائي المصري في مؤتمر العلاقات الأسيوية بمقولة إنه كان ضد مسلمي الهند.

نعـود بـعـد ذلك إلى تحديد السيدة التي ستصاحب السيدة عصمت عاصم في سفرها إلى الهند، وهنا أيضًا تدخلت تلك الصحفية – متطفلة كعادتها – قائلة إنه يجب أن تكـون إحدى المندوبات على الأقـل تجيـد اللغة الإنجليزية إجادة تامة لأنها اللغة الرسمية في الهند، ولأن عصمت وحـواء لا يجدنهـا إجـادة تامة، فأوضحت لها السيدة هدى شعراوي أنه طبقًا لبرنامج المؤتمـر فإنـه يمكـن التكلـم بجميـع لـغـات دول آسيا وأفريقيا، وأن هنـاك مترجمـون لـكل هـذه اللغـات، إلا أن تلك السيدة أصرت بقـوة عـلى أن تصحـب الوفد النسائي المصري مـن تستطيع أن تتحدث الإنجليزية بطلاقة، وانفض الاجتماع دون تعيين العضـوة الثانية للمؤتمر.

كانت حكومـة الهنـد في تلك الأثنـاء تعلـم تمـامًـا مـا يـحـاك حـول مؤتمرهـا، متيقظـة لكل الاحتمالات التي تثيرهـا الحكومات والهيئات المدعـوة. ومـن أجـل ذلـك أوفـدت ممثلاً خاصًا لهـا هـو الدكتـور ل.هـ. القريشي أستاذ التاريخ في جامعة دلهـي يجـوب مجموعـة الـدول العربيـة، شـارحًا للمسؤولين فيهـا حقيقـة طبيعـة مؤتمـر العلاقات الآسيوية وأهدافه المزمع عقده في ٢٣ مارس سنة ١٩٤٧ في الهند، ومـن الهيئات الـتي اتصـل بـهـا هيئتنا – الاتحاد النسائي المصري – حيـث حضر ذات أمسية إلى منزل ابنـة عمتي السيدة هدى شعراوي مصحوبًا بمترجـم ، ونظرًا لغيابهـا عـن القاهـرة لعمـل عاجـل فقد استقبلته بنفسي، وكانت في ضيافتنا الدكتورة حنـا ريـد السويدية الجنسية والرئيسة الجديدة للاتحاد النسائي الدولي بمناسبة طوافهـا البلدان العربية للوقوف عـلى مـدى نشاط الهيئات النسائية بها. ولما أبلغت الدكتور القرشي بأن السيدة هدى ستعود في اليـوم التالي أبدى رغبته في مقابلتها شخصيًا، وهكـذا عـاد مـرة أخـرى وقابـل السيدة هـدى الـتي أكـدت لـه اهتمام الاتحاد النسائي المصري بذلك المؤتمر، وأنـه سيوفد مندوبات عنـه. ولمـا اسـتفسر منهـا عـن هـؤلاء المندوبات أبلغنـه أنـه لديهـا في ذلك الوقت مندوبة واحدة هي السيدة عصمت عاصم، أما الثانية فستنضم إليها في القريب العاجل، فقال الدكتـور القرشي وهـو يشير إلى إذ كنـت حـاضرة الاجتماع أتـولى أعمال الترجمة –لماذا لا تسافر الآنسة إدريس نيابة عنـك؟، أجابته السيدة هـدی کـم كنت أود أن تسافر لمعرفتها الواسعة بمشاكل منطقتنا بحكم عملهـا معنـا مدة طويلة، ولكنها مريضة في هذه الأيام ومرهقة لانشغالها بضيوفنـا، وأخشى أن لا تتحمل مشقة هـذا السفر الطويل، فـرد عليهـا الدكتـور القرشي قائلاً أرجـو يـا سيدتي أن تشجعيها على السفر، فتغيير الجـو سيفيدها حتمًا، ومع ذلك إذا شعرت بتعب لا قدر الله فإننا مستعدون لحشد جميع أطباء الهنـد للعناية بهـا فـكـوني مطمئنة عليها“. وهنا التفتت إلى ابنـة عمـتي السيدة هدى وقالت: “ما رأيك في هذا الكلام يـا حـواء؟، ولمـا لـم أجـد مـا أجيبهـا بـه أردفت قائلة: “أمامك متسع من الوقت للتفكير في الأمر“.

في مسـاء اليـوم التالي أقبلـت السيدة سيزا نبراوي، إحـدى رائـدات الاتحـاد النسائي، فأطلعتهـا السيدة هدى شعراوي على ملخـص مـا دار بينها وبين القرشي مـن حـديـث بشـأني، فسألتني السيدة سيرا قائلة:”طبعًـا أنـت موافقة ومستعدة للقيام بهذه المأمورية“. وعندهـا أجبتهـا إننـي لـم أتخـذ أي قرار في الموضوع بعـد اندهشـت لعـدم اهتمامي وتناولي الأمـور بـمثـل هـذه البساطة، وقالت: “نصيحـتي لـك يـا صغيرتي ألا تتركي هذه الفرصة الفريدة تفوتك. إنها فرصة العمر لزيارة الهنـد ومشاهدة معالمها التاريخية الخالدة، فضلاً عن أن اشتراكك في مؤتمر العلاقات الأسبوية ممثلة للاتحاد النسائي المصري لـه أهمية كبيرة نظـرًا لإلمامـك وتتبعـك أحـوال البلدان العربيـة ومشاكلها، فضلاً عن معلوماتـك عـن الهنـد وصلتك الوثيقة بمجموعة من الشخصيات النسائية الهندية“. وأصرت السيدة سيزا نبراوي علي انتهاز الفرصة وعدم التردد إطلاقًا، فكان من الطبيعي إزاء هذا الاقتناع والتشجيع أن أوافـق عـلى السـفر.

لا يفوتـي في هذا المقام أن أذكـر بالتقدير الجهود التي بذلتها السيدة سيزا معي في سبيل تيسير إجراءات سفري، ممـا هـون علىّ الجزء الأكبر من مهمة الاستعداد للسفر في ظروف كانت فيها الأحـوال في غاية الدقة والصعوية والتعقيد، الأمـر الـذي أسجله لها مقرونًا بالشكر والامتنان. وعقب ذلك كان من الضروري أن أتقابل كثيرًا مع السيدة عصمت عاصم لتدبير كافة الأمور، ولنتفق على الموضوعات التي نشترك في دراستها ومناقشتها. وفي أول يـوم تقابلنـا فـيـه حـضرت إلى منزلنـا تلـك السيدة الصحفية وكأنهـا كانت على ذات الموعد، فاشتركت بل تدخلت وفرضت نفسها في الحديث، ومـرة أخـرى أصرت على أن ينضم إلى الوفد النسائي المصري عضـو يتقن اللغة الإنجليزية إنقانًا تامًا، فطلبت إليها السيدة هدى شعراوي أن ترشـح مـن بـين عضـوات الاتحاد النسائي المصري مـن تـرى أنه يتوفر فيها الشروط التي تريدها، فرشحت على الفور سيدة لـم تكـن حـاضرة كمـا لـم تكن عضوًا في الاتحـاد حسبما كان يقضي العـرف بذلك، قائلة إن تلك التي ترشحها حاصلة على دبلوم في اللغة الإنجليزية من إنجلترا، وإنهـا تـدرس هذه اللغة وظلت تعـدد مناقب مرشحتها والفوائد التي ستعود على الاتحاد من سفرها معنا، حـتى اقتنعت السيدة هـدى بأهمية مرافقتهـا لنـا، وكانت النتيجة أن انسحبت السيدة عصمت عاصـم مـن عضوية الوفـد المسافر إلى الهنـد تاركـة مكانهـا للعضـو الجديد مبدية عدم رغبتها في زمالتهـا واستيائها الشديد مـن تصرفات تلك السيدة الصحفية وتذمرهـا مـن تطفلهـا هـذا. وقبـل انصراف السيدة عصمت عاصم التفتـت إلى تلك السيدة الصحفية وقالـت لهـا إنه لغريب حقًا أن تجـدى في نفسك كل هـذه الشجاعة في تغيير رأيـك بين يوم وليلة هكذا فجأة ودون مبررات أو سبب معقول. أنا لا أكاد أصدق أنـك أنـت نفسـك التي كنت تعارضين مبـدأ اشتراكنا في المؤتمر، ثم تأتين اليـوم وتحبذين انضمام مرشحتك إلينـا بالحرارة والقوة نفسها التي كنـت تعارضين بهـا سـفرنا إلى الهنـد. بـودي لـو أستطيع أن أعرف أي الموقفين منـك أصـدق؟، وهكذا وضحت ذبذبة رأي تلك السيدة الصحفية، ومـدى سهولة تغيير اتجاهاتها.

لم يكن خافيًا على البال أن بعـض الـدول الغربيـة لـم تكن راضيـة أصـلاً عـن انعقاد مؤتمر دول آسيا خشية نشوء تكتـل حيـادي يعمل على القضاء على مصالحها الحيوية. وقد وضح لنا ذلـك مـن وراء الدعايات المضادة التي قامت في وجـه هـذا المؤتمـر الـتي أكدت أن هناك صعوبات قوية بذرهـا بعـض العملاء واختبرناهـا أثنـاء إنجـاز إجـراءات السـفر الـتي تعقدت كثيرًا، إلا أننـا لـم نيأس أو نستسلم بل مضينـا في استكمال تلـك الإجراءات بهمة ونشاط، متخطين كافة العراقيـل والصعوبات التي فرضت علينـا ووضعت أمامنا، ومنهـا عـلى سبيل المثال لا الحصر أننـا أخطرنـا في آخر لحظة أن طائرة شركـة BOAC الـتي تـم حـجـز أماكننـا عليهـا لـن يمكنها التوجه إلى الهنـد لقدومهـا مـن منطقـة موبوءة بالحمى الصفراء، مما يتعين معه بقائها في الحجـز الصحي مدة معينة ستفوت علينا بالتالي موعد انعقاد المؤتمر، وكانت هذه آخر لعبة لمنعنا من السفر. كما قيـل لنـا عنـد السـؤال عـن جـوازات السفر الخاصة بي وبزميلتي أنهـا بمكتـب أحـد الموظفين المتغيبين عن القنصلية البريطانية ولا يعلمون موعد عودته، وإزاء تلك التعقيدات رأينا أن نتصـل بـوزارة الخارجية المصرية لعلها تسعفنا وتدبر الأمر، وبخاصـة لـم يكـن أمامنا إلا بضع ساعات للتغلب على كل هذه الصعاب. وقـد تفضـل كـبـار موظفـي الـوزارة، بأمـر مـن الوزير، بالعمـل عـلى إيجاد مكانين على مقعديـن عـلى إحـدى طائرات شركة TWA الأمريكية المتجهة إلى بومباي التي قربت المسافة إلى مدينة دلهي الجديدة، حيث كنا سنصل إليهـا عـن طريـق كراتشي خط سير الطائرة الأولى.

لا يفوتني أن اذكر أن زميلتي التي انضمت إلي في آخر لحظة، كانت قد انسحبت بسرعة واعتذرت عن الاشتراك في المؤتمر عندما شعرت بوجـود عقبات تعترض طريق السفر، ولكنهـا قفلت راجعـة بـأسرع مما انسحبت بمجرد أن تمكنت من تذليـل هـذه العقبات وتيسير تلك الظروف، ومن الغريب حقًا أنها لم تبرر مسلكها هذا بل أخذت الأمـور في منتهى البساطة.

لقـد تـواردت علىَّ الخواطر وأنا جالسة على أحد مقاعد الطائرة سكاي ماستر الضخمة بعد أن أدارت محركاتهـا وعـلا أزيزهـا وهـي عـلى وشك الإقلاع إلى الهند، وكيف تمكنت من التغلب على كل تلك الأحداث التي سبقت سفرنا حتى وصلنا إلى مكاننـا هـذا وبهذه السرعة الفائقة. كنـت أشعر بمزيج من الرهبة المغلفة ببعض السرور. أما الرهبة فكان مصدرها الإقدام على أول رحلة طويلة بالطائرة تنقلني من أفريقيا إلى آسياء، مـن عـالـم اعتدنا العيش فيه إلى عالم يختلف عنا تمامًا في محيطه وشعوبه وعاداته، فضلاً عن اشتراكي للمرة الأولي في حياتي في مؤتمر خطير يجمع بين شعوب آسيا وبعـض شـعـوب أفريقيا. أمـا السرور فكان مبعثه إتاحة الفرصة لي لزيارة الهنـد ومشاهدة آثارها الخالدة التي خلقتها المدنيات التي أشرقت بين ربوعها، فضلاً عن الظروف التي ستمكنني من مقابلة عظمائهـا مـن الرجال والنساء. وهكذا كان شعوري يـوم ٢٠ مارس سنة ١٩٤٧ وأنا داخـل الطائرة الضخمة المحلقة في السماء في طريقها إلى الهند.

بعد مسيرة ساعة ونصف ساعة هبطنا في مطار اللد بفلسطين، حيث ركب معنا الوفد الصهيونيوفـد الجامعة العبرية – لحضور المؤتمر نفسه تحت ذلك الاسم، وكان هذا الوفـد مشكلاً مـن أحـد عـشر عضـوًا بين رجال ونساء أخـذوا مكانهـم مـن الطائرة في ركـن منـعـزل عن بقية الركاب، وانشغلوا بالمناقشات بينهم. والغريب في الأمر أن أحـدًا مـن الـركاب لـم يكتشف شخصية هذا الوفـد إلا بعد وصولنا نهاية الرحلة، تلك الرحلة التي لم يستطع مندوب الجامعة العربية مشاركتنا إياها لتأخـره عـن اللحاق بطائرتنـا، فاستقل طائـرة أخـرى أوصلته إلى عاصمـة الهنـد في منتصف الجلسة الأخيرة للمؤتمـر. ومـن مـطـار اللـد استأنفت الطائرة رحلتها إلى مطار الظهران بالسعودية، وهبطـت بـه الساعة الواحدة بعد منتصف الليل حيث ظللنـا بـه حـوالي ثلاث ساعات لعطل أصاب أحـد محركاتها الأربعة أثناء تحليقها بين فلسطين والسعودية.

وهنـا أقـف بالقـراء للحظـات لأصـف شـعوري في تلك الليلة الكئيبة الحالكـة السـواد. غادر جميع الركاب الطائرة في جولة سريعة بالأتوبيس حول مدينة ظهران لحين إتمام تصليح الطائرة، وبقيـت أنـا لأجلـس عـلى دكة خشبية في صالة الانتظار بالمطار وحيـدة دون أحـد بـه سـواي لشعوري ببعض التعب، وأخذت أمعن النظر فيمـا حـولي والأفكار تدور برأسي وتملؤ نـفـسي رهبـة، وبدت لي منطقـة ظـهـران بمطارهـا ومنشـآت البترول بهـا أشبه بواحـة صغيرة وسط صحـراء مترامية الأطراف قاحلـة جـرداء. وبالرغم من أن الساعة كانت قـد جـاوزت منتصف الليل، إلا أن الجو كان خانقًا والحرارة مرتفعة لدرجة كادت تتعذر معها الحركة بمجرد التنفس، وكنت أشاهد مـن مـكاني المنشآت الضخمة للشركة العربية الأمريكية للبترول ومداخنهـا الهائلة أشبه بالحـراس مـن المرَدَة يحمـون تلك المنطقة المثيرة للخواطر، والدخان الأسود الكثيف ينساب منهـا ويتلـوى في الجـو ويملؤه سوادًا فيزيده ضيقًا واكتئابًا، وقـد حلـت السماء من نجومهـا بالرغم من صفائها، ولـم يكـن للحيـاة وجـود خـارج حدود المطـار بـعـد مـغـادرة الركاب الطائـرة سـوى نـفـر قليل من الفنيين متجمعين حول الطائرة لفحصها وإصلاحها.

فجـأة وأنـا في هذا الشعور العميـق الرهيـب إذا بعـدد مـن العربان الملثمين الحفـاة يظهـر فـجـأة أمامي، عنـد مـدخـل الاستراحة التي أجلـس بـهـا منفردة، يوحي مظهرهـم من خلال الصورة الحسية التي تلفني كأنهم قطاع طريق خطيرين، وبحركة شعورية ضممت محفظتي إلى صـدري وقفـزت ثـم بـادرت في خطـوات سريعة إلى اللحاق بالمجموعة الصغيرة الموجـودة حـول الطائرة وسـط أرض المطار، وإذا بهؤلاء العربان الملثمين يختفـون فجـأة كمـا ظـهـروا فـجـأة، وكأن الظـلام قـد ابتلعهـم، لا أدري كيـف ظهروا أو اختفـوا، إلا أنني عندما تأكـدت مـن خـلـو المـكان مـن هـؤلاء القـوم عـدت إلى مقعـدي وأنـا أفـكـر مـاذا يكـون أمـري لـو وقـعـت بـيـن بـراثـن هـؤلاء الحفـاة. هـل كانـوا لصوصًا فعلاً كمـا يـنـم مظهرهـم؟ هـل كـنـت أسـتطيع الإفلات منهـم ؟ وأنـا منـفـردة بعيدة عن الأفراد القليلين المحيطين بالطائرة. دارت بي الدنيـا وأنـا فريسة لهذه الأفكار السوداء، وشعرت برعب لـم ينقذني منـه إلا صـوت المنـادي يعلـن في الميكروفـون قـرب قيام الطائرة.

أعـود بالقاري إلى القول إننـا غادرنـا مطـار الظهـران بعد الساعة الثالثة صباحًا بقليل في طريقنا إلى مطار كراتشي أول ميناء هنـدي نـصـل إليـه. وهنـاك استغرقت الإجراءات الجمركيـة وفـحـص الأوراق والأمتعـة وتأشيرات المرور وقتًا طويلاً تعـذر معـه زيـارة المدينة بالرغم من شوقنا جميعًا لذلك، وعليه تابعنا السفر إلى مطار بومباي محطة الطائرات الأمريكية في القارة الأسيوية، حيث وجدنا في استقبالنا قنصـل مـصـر ومعـه كـبـار موظفي القنصلية بتكليف من وزارة الخارجية المصرية. ولن أنسى أبدًا ذلك الاستقبال الحار والحفاوة الطيبة التي شملنا بهما ممثلونا في الهند طيلة الأربعة والعشرين ساعة التي قضيناهـا في المدينـة الخالدة، إذ دعانـا القنصـل لمأدبـة الغـذاء في دار القنصليـة المصرية، ودعـا معنـا بعـض الشخصيات البارزة في المدينة، وبعـد الظهـر صحبنا بعربته الخاصة في جولة حول المدينة الهائلة، كما دعانا عمدتها إلى حفـل سـاهر بأحـد النوادي الليلية، حيث رافقنـا القنصـل وكبار رجال القنصلية، وكانت تلك الحفلة في غاية الروعة والجمال وجمعت الكثير من الشخصيات البارزة من الرجال والنساء، سواء من المدعوين أو رواد النـادي. وكانـوا يـرتـدون أزياءهـم الوطنية الجميلة، فالنساء في أبهى الساريات وأثمنها، والرجـال بملابسهم الناصعة البياض، والكل كباقـات أزهـار مختلفة الألوان والأشكال في إطـار فـني بديـع التنسيق. ومـا لفت الانتباه وسـط هـذه الباقات المتجانسة أن شـلة من الضباط البريطانيين بزيهم العسكري تزين أكتافهم وصدورهم الرتب والنياشين يصحبـون نساءهم في ملابس السهرة الرائعـة يرقصون ويتمايلـون على أنغام الجـاز الغربي مختلف الرقصات الأوروبية، وبين حين وآخر كان الراقصون يتبادلون السيدات في حلبة الرقص، فكنـت تـرى الملابس العسكرية تراقص الساريات، والملابس البيضاء الناصعة تصاحب ملابس السهرة الأوروبية أو العكس، وكانـت هـذه المشاهد الرائعة والمناظر البديعـة كأمـواج بحـر تلاحـق بعضها بعضًا يستحق فعلاً عناء الحضور والمشاهدة بالرغم من التعب والإرهاق اللذين حلا بي مـن طـول الرحلة.

وفي الصباح المبكر غادرنـا بومباي إلى دلهي الجديدة على متن إحـدى الطائرات شركة طاطالاينالهندية، حيث سيعقد مؤتمر العلاقات الآسيوية هدفنا من الرحلة، وكان في توديعنا بالمطار قنصل مصر وزملائه، وكذلك بعض الشخصيات الهندية بمعية عمـدة المدينة. وبعـد مسيرة ساعتين ونصف هبطت بنـا الطائرة في مطار أحمـد أبـاد للتموين والراحة، وليتيسر لمـن يشـاء مـن الـركاب تناول بعض الطعام في مطعم المطار.

تقع مدينة أحمد أباد في منتصف الطريق بين بومباي ودلهي الجديدة في واد منخفض عن سطح البحـر بحوالي ٢٠٠ متر، تحيطها سلسلة من الجبال العالية جعلت جـو المدينـة حـار جـدًا مشبعًا بالرطوبة لدرجة تشعرك بلسعات الشمس الحارقة والاختناق الشديد. وقد بلغت درجة الحرارة في ذلك اليوم ٥٠ درجـة مـع رطوبة عالية جدًا.

غادرنـا تلـك المدينة التي تعتبر إحـدى دعائم الهند في صناعة الحرير إلى مدنية دلهي الجديدة، حيث هبطنا في مطارهـا حـوالي الساعة الخامسة مساء اليوم نفسه، فوجدنا في استقبالنا أعضاء لجنة تنظيم المؤتمـر حـيـث رحبـوا بنـا ترحيبًـا يفـوق كل وصـف ثم صحبونا إلى مقـر الضيافة فقدمونا إلى الوفود الآسيوية التي وصلت قبلنا. ومما لفت نظري بين هذه الوفـود وفـد بـلاد التبت المكون من ثمانية أشخاص ستة رجـال وسيدتين، كان لهم زيًا فريدًا بين ممثـلي باقي الدول، إذ ارتـدى الرجال منهم ملابس تشبه كثيرًا الكيمونو الصيـني ولكـن عـلى مستوى أفخـر وأثمـن بكثير، يتحلـون بالحـلي النسائية، تتدلى من آذانهم اليمني أقـراط طويلة، ومن آذانهم اليسرى أقراط قصيرة، ثبت شعورهم المرسلة في ضفائـر بمشـابك مـن الحـلي الزرقاء، أما السيدتان فكانتا على النقيض تمامًـا إذ ارتديتـا مـلابـس أوروبية في غاية البساطة في مظهرهمـا العـام مقصـوص شعريهما، لا تتزينـان بأيـة حليـة أو أقـراط، فكان منظـر هـذا الوفـد بطبيعـة الأمـور ظاهـرة غير مألوفة ملفتًا للأنظار.

عقب التعارف وتبادل عبـارات الـود والتحية التقليدية توجه كل فريق منـا بصحبـة أحـد أفراد لجنة الاستقبال إلى مقر الضيافة المخصص لـه، وكان من نصيـي النزول في ضيافة أسرة سكرتير قائد الجيش الهنـدي، حيث تقرر إقامـتي مـدة انعقاد المؤتمر في رعايـة تلك الأسرة المسلمة. وقد حظيت في هذه الفترة من مضيفتي الشابة الجميلة طاهـرة هانم – ربة تلك الأسرة – باستقبال ودي حـار، واهتمت بنفسها بإعداد غرفة خاصة لي ملحق بها حمام مستقل، موفرة لي ذلـك كل سبل الراحة والهـدوء. وبعد فترة قصيرة من الحصول على قسط من الراحة، وكنـت قـد رتبت حاجياتي أقبلـت مضيفتي الشابة بصحبـة أطفالها الثلاث إلى غرفتي، وقدمتهـم لي قائلة إنهـم في غايـة الـسرور بوجـود الضيفة المصرية بينهم. وكانت مضيفتي الشابة طاهرة هانم لطيفة ومهذبة وفي غاية الرشاقة، تعمل كل جهدها لتجعـل إقامتي بين أسرتها ممتعة، حـتـى خيـل لي أننــي لـم أغترب عن داري قط، ولم يكن زوجها الشاب الضابط شاهد حامـد أقـل حفاوة وترحيبًا بي منهـا، إذ كان يجتهد دائمًـا ليشعرني أني بين أهـلي وعشيرتي، ممـا أزال عـن نفسي الرهبة، وجعلـي أنطلق إلى عمـلي بنفـس كلهـا ثقـة واطمئنان وتفاؤل.

أمـا أطفالهـا الصغـار فكانـوا مـن ألطـف الأطفال وأظرفهـم، الذين صادفتهـم في حيـاتي خصوصًا تلك الصغيرة (شاما) الـتي كانـوا ينادونهـا (شوشـو)، إذ جذبتني إليهـا نظرتهـا الأولى لي لخفة دمهـا وأدبهـا الـجـم ، فضلاً عن جمالهـا الهنـدي المفـرط الجـذاب. كانـت سـمراء ذات عينين واسعتين جميلتين تحوطهمـا أهـداب طويلة في غاية الروعـة والانسجام، تشرق من فمها ابتسامة ملائكية طاهرة. وكانت شوشـو بالرغم من صغـر سنها، إذ لم تتعد الثالثة من عمرها، ذات تفكير وذكاء يدلان عـن إدراك يفـوق ذلك السن بكثير. وقد استطعت أن أبـادل هذه الصغيرة حبًا بحب، وبذلك انعقدت أواصر الصداقـة والـود بيننـا لدرجة أن أصبح هذا الملاك الصغير، كمـا علمـت مـن مضيفتي يبحث عني، وعندما تستيقظ من نومهـا ولا تجـدني تسأل أمهـا عن تلك الخالة الضيفة التي تختفي في الصباح المبكر ثم لا تعـود إلا وقـد نامـت، وإذ لا تجـد لذلك تفسيرًا يقنعهـا لا تـكـف عـن ملاحقـة أمهـا بأسئلتها عـن وقـت عـودتي إلى المنزل ومتى سيكون ذلك، ولم تستطع صديقتي الصغيرة أن تفهـم، بحكم سنها، الأسباب التي ترغمني على التغيب عن دارهـا طـوال النهار، كما أنها لم تكن تقبـل الأعذار التي تسوقها لها أمها لتبرر غيابي، بل كانت تصر على أن أبقى معها في المنزل. وأذكر أنه عندمـا كنـت أعـود في بعض الأحيان مبكـرة كـنـت أجـد الطفلـة مازالت مستيقظة، وهنـا تبـدأ متاعـب الأم، إذ ترفض الطفلة النوم في الميعاد المعتاد، بـل تـصر على أن تجالسني وتمطـرني بأسألتها الساذجة البريئـة عـن سبب غيابي عن المنزل طيلـة اليـوم، ولـم تكن تقتنع بالأعـذار الـتي أبديهـا لهـا، إذ كانت تفكـر بعـض الوقـت فيمـا تسـمعـه ثـم تـعـود مـرة أخرى إلى السؤال عن تلك الأعذار والأعمال المهمة التي تمنع رؤيتها لي طيلـة اليـوم، فأحاول جاهـدة أن أشرح لهـا الأمـر ببساطة، ولكنني كنت ألاحـظ دوامًـا أنها لا تقتنع أبدًا بإجاباتي، وما أسعد لحظات أن أتطلع إليها بإعجاب ونفسي تحدثني مـا أجمل أن يكون الإنسان طفلاً.

انطباعاتي عن وفود المؤتمر يوم ١٣ مارس سنة ١٩٤٧

كان هـذا اليـوم بالنسبة لنـا نـحـن وفـود البلاد الآسيوية الأفريقية أعضاء ذلك المؤتمر يومًـا حافلاً مشهودًا، وكان مركز ضيافة الوفـود أشـبه بخلية النحـل، كل وفـد انهمـك في إعداد وتحضير ومراجعـة كلماتـه الـتي سـتلقى في جلسة الافتتاح الأولى للمؤتمـر، حيث كان مقررًا بدايتها الساعة الخامسة مـن بعـد ظـهـر يـوم ٢٣ مارس سنة ١٩٤٧. كان منظر الوفـود الآسيوية المختلفة المشتركة في المؤتمـر وقـد تجمـع كل منها على حدة في ركـن مـن أركان مركز الضيافة مشوقًا للغاية ومثيرًا للانتباه، إذ كان يخيل للناظر إلى تلك الحشود الضخمـة مـن الوفـود يجمعهم مكان واحـد يتحدثون ويتناقشـون كل بلغـة بـلاده، وهـم منهمكون في مراجعـة كلماتهـم أو الاطلاع على برامج الموضوعات المعروضـة عـلى لجـان المؤتمـر. وكان البعض الآخـر مـن هـذه الوفـود يحيط بالسيدة ساروجني نايـد ورئيسة المؤتمر يتباحثون في تشكيل مكتب رؤساء الوفود، وكان كل هذه المناظر توحي إلى المشاهد أن هيئـة أمـم آسيوية قد قامت لحل مشاكل آسيا كلها. ومما لفت النظر أيضًا أنك كنت تشعر بترابط هذه الجموع ويسودها الإخاء والمحبة وبالرغم من اختلاف اللهجات وتنوع الأزياء الوطنية إلا أن وحدة الهدف وتجانس الفكر كانا يؤكدان أن الدنيا مازالت بخير بصرف النظر عن قسوة الظروف التي تكتنفها، وأن هناك شعوب مازال لديها الاستعداد الطيـب لتجعـل مـن هـذه القسوة شيئًا محتملاً.

كانـت أهـداف المؤتمر ترمي إلى تحقيق التعاون الثقافي بين الأمم الآسيوية بعيـدًا عـن الناحية السياسية بقصد الوصول إلى تكوين هيئة أمم أسيوية على نسق جامعـة الـدول العربيـة تجـعـل مـن هـذا التعاون شيئًا واقعًا مثمـرًا، ولا شك أن هذه الأهـداف كانت ترمي إلى تكـتـل الشعوب الآسيوية ضـد أي اعتـداء خارجي، وقـد أتيحت لي الفرصـة أن أتلمـس هـذه الرغبة القوية من جانب الهنـد بصفة خاصة من خلال المناقشات الـتي دارت في اجتماع اللجـان، التي تكونت في الأيام الأولى للمؤتمـر لبحـث الطرق العملية لتحقيق التعاون بين الدول الآسيوية التي كان لي شرف عضويتها.

افتتح أولى جلسات المؤتمر السيد كريشـنـا منـون، الممثل الشخصي للبانديـت نـهـرو في ربـوع آسيا وأوروبا في ذلك الوقت، هذا الاجتماع بقولـه على لسان زعيمه: “إن البانديت لا يود أن يلزمكم برأيه، ولكنـه أوفـدني لأؤكـد لـكـم أنـه يـسره كثيرًا أن نخـرج مـن هـذا المؤتمر بنتائج، وإلا فكأننا لم نفعل شيئا“.فاقترح مندوب الصين أن تقتصر المناقشات على الموضوعات الثقافية والعلميـة فـقـط مع تقرير اجتماع المؤتمـر بعـد سنتين في أي بلـد آسيوي، ولكـن هـذا الاقتراح لـم يقف في طريق الاتجاه العام للمؤتمـر إذ تقرر فعلاً العمل على إنشاء جامعة أسيوية بأي شكل من الأشكال مع إعادة انعقاد المؤتمـر بعـد عامين في بلاد الصين.

ولقـد صـادف المؤتمر مشاكل لا حصر لها، أهمها كان موقف الرابطة الإسلامية في الهند مـن هـذا المؤتمر، إذ كان حـزب الرابطـة قـد قاطع بالفعـل أعمال المؤتمر. ولمـا كانـت الرابطة تمثـل مسلمي الهنـد جميعهم، باستثناء عـدد قليل منهم، كان موقف الوفـود الإسلامية من هذه الناحية حرجًـا بـعـد الـشيء، ذلك أن دعامة حجج الرابطة أن الهنـد تعيش في أزمـة شـديدة، وأنهـا تـجـتـاز في ظروفهـا الراهنـة جـوًا مـن الفتن والمؤامرات، وليست الدعوة إلى مثل هذا المؤتمر إلا تجاهلاً لهذه الحقائق المرة، وإنه لذلك فإن مسلمي الهنـد قـد قاطعوا المؤتمر لعدم رغبتهم في التعاون مع الهندوس في أي نشاط في تلك الظروف، كما أنهم استاؤوا مـن اشتراك الأمم الإسلامية فيه. وقـد جـاهـر لنا بعضهم بذلك، بل وكان موقـف هـذا البعض منا يدلل على الاتجاه الذي ينـادي بـه حتى أتيحت لهـم فرصة الاتصال الشخصي بالوفود الإسلامية الأخرى، ومناقشة وجهـة نظرهم بقصـد الدعايـة لـهـا، فأقبلـوا بعـد ذلـك عـلى بـاقي الوفـود بالـود بعـد الجـفـوة، والترحيب بعد المقاطعة، وقد تلقى وفدنا الكثير من دعواتهم لمنازلهم ، وفي خلالها أتيح لي مقابلة العديد مـن كـبـار مسلمي الهند والاستماع إلى أحاديثهم الشيقة في مختلف الشؤون المهمة.

مما هو جدير بالذكر أن اليابـان كانـت قـد دعيت لحضـور المؤتمـر وقـبلـت الدعـوة، وحاولت إرسال مندوبيها، ولكـن أقيمت العقبات في طريق وفدها ونسبت هذه العراقيل إلى السلطات الأمريكية الموجودة في اليابان في ذلك الوقت، وقـد حـاول البانديت نهـرو التوسـط لـدى أمريكا لتيسير مهمـة وفد اليابان، ولكـن انفـض المؤتمـر قـبـل وصـول أعضاء ذلك الوفد. ربما كان ذلك من حسن حظ اليابان في ذلك الوقت بالذات، لأن الشعور العام الذي كان يسود وفـود الأمـم الـتي احتلتها اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية كان في غير صالحهـا بالمـرة.

كان الملاحظ أيضًا في اجتماعـات هـذا المؤتمر أن معظم الأمم الآسيوية الممثلـة فيـه كانت قد منحت المرأة في بلادهـا حـق الانتخاب، وليس أدل على ذلك من أنه كان من بين أعضاء الوفود وزيرات، وبقـدر مـا سررت مـن مشـاهدتي أقطار آسيوية تقفز بخطوات واسعة نحو التقدم بمساواة المرأة بالرجل في جميع الحقوق والواجبات، فإني شعرت بأسـف عميـق وأنـا أقـارن ذلك بمركز المـرأة في بلادنا، وهي بالرغـم مـمـا قـامـت بـه مـن أعمال جليلة ومجيدة في سبيل وطنها مازالت محرومة مـن هـذا الحـق لا تجـد لهـا عونًا أو نصيرًا.

أمـا إذا تحدثـت عـن عمـلي في هـذا المؤتمـر الأسيوي، فإنـني كـنـت قـد اطلعـت عنـد الإعداد لسفري إلى الهنـد عـلى جـدول أعمال ذلك المؤتمر، ووجـدت أنه يطرح للبحـث والمناقشـة عـدة موضوعات على جانب كبير من الأهمية، فانتقيـت منهـا، بتوجيـه مـن ابنة عمتي السيدة هدى شعراوي، ما وجدته مناسبًا ومتصلاً بشـؤوننا كمصريين،

وقررت أن أجد لنفسي فرصة كي أتحدث إلى المؤتمرين عن الموضوعات الآتية:

1- مشاكل العمل والخدمات الاجتماعية.

۲مركز المرأة والحركة النسائية.

3- الهجرة وحريات الشعوب.

وقـد رأيـت مـن واجـبي أن أتناول هذه الموضوعات بالبحـث باعتبـاري مـن المشتغلات في مجال الخدمة الاجتماعية مما جعلني وثيقة الصلـة بهـا ومشاكلها منذ فجـر حيـاتي. وفيما يتعلـق بالهجـرة فقد كنت قد قررت التحدث عنها في إطار مشكلة فلسطين باعتباري عربية يهمني لفت النظر إليها، شأني كأي عربي أينما كان، فضلاً عن دراسـاتي لها في العديد من المناسبات. أمـا عـن حريات الشعوب فلقد كان المؤتمر فرصة سانحة لعرض قضيـة بـلادي وقضايا البلاد العربية الشقيقة، وكنت أمثلهـا نيابة عن ابنـة عمـتي السيدة هدى شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري والاتحاد النسائي العربي العام في ذلك الوقت، حيث لم تتمكـن مـن حـضـور المؤتمـر لمرضهـا كمـا سـبق الحديث. لذلك كلـه فـقـد شعرت بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي إزاء ذلك الواجب المقدس للدفاع عن قضايا البلاد العربية وتوضيح معالمها لإخواننا الآسيويين، الذين لا يعرفون عنهـا إلا القليـل لبعـد المسافة مـن جهـة، ولمخططات المستعمر مـن جهـة أخـرى، بحيث كانت أفكارهـم لا تساعدهم على التحمس لهـا بالقدر الذي كنا نرغبـه ونتمنـاه. ومن هنا كان ثقل المهمة التي توليتها للعمل على اكتساب الرأي العـام سـواء في الهند أو البلدان الآسيوية المجاورة، لأن ذلك يؤدي حتمًا إلى الحصول على أكبر تأييد لعدالة قضايانا، ومـن ثـم مسـاندة هذه البلاد لنـا بمـا تضمه من ملايين البشر، وفي ذلك كسب لقـوى عظيمة.

يوم الحريات

انتظرت بفارغ الصبر بـدء العمل في لجنة الحريات وفضلت أن يكون كلامي في الجلسة الختامية، لأنها كانت جلسة عامة مفتوحة يحضرها، بالإضافة إلى الأعضاء المشتركين في المناقشـة، كثيرون جـدًا مـن جمهـور المستمعين والزوار، وفي ذلـك مجـال أوسع لعرض قضايانا والتعريف بها والدعاية لها. رأس هذه اللجنة السيد هـان هـين وزير معارف الصين الذي رأي أن يعطي في الجلسة الصباحية الكلمة الأولى مندوب الجامعة العربية باعتباره ممثلاً لسبعة دول عربية، فناداه في الميكروفون مرارًا وتكرارًا، ولكن مع الأسف الشديد لـم يُـرد السيد المندوب حضـور هذه الجلسة الخطيرة، ولـم يعتقد أن لها أهمية تفـوق تفرغه لشـؤونه الخاصة التي استغرقت وقتـه كلـه. ونظرًا لأن هذه الجلسة كانت قد خصصت بعـد تخطـي عـدة عقبـات وسُـمي اليـوم بيـوم الحريات تمكينًا للوفـود مـن عـرض سياسات بلادها خـارج المؤتمر دون رقابة السلطات الحاكمة، ولما كان النداء في الميكروفـون قـد تـكـرر على السيد مندوب الجامعة العربية لإعطائه الفرصة لعرض مشاكل البلاد التي ينوب عنها باسم المنطقة التي أوفدته دون جدوى، ونظرًا لأني لاحظت أنـه لـم يكـن لذلك المندوب أي نشاط أو تمثيـل إطلاقًا، لذلك فقد أسرعت واقترحت على زميلتي أن تأخـذ مـكان مندوب الجامعة العربية وتعتذر عنـه بـأي عذر مقبول وتلقى كلمتها في الموضـوع بـدلاً منه. وقد طلبت إليهـا ذلك باعتبارها سيدة ناضجـة لهـا كياستها وخبرتها، وليست شابة صغيرة مثـلي قـد تتعرض لنظرات الشفقة والرثاء، ولكن مع الأسف الشديد رفضت زميلتي ذلك الاقتراح بالرغم مما أوضحتـه لهـا من عواقب امتناعهـا وعـدم تلبية النداءات المتكررة في الميكروفـون وأثـر انعكاس ذلك على مجموعة دول الجامعة العربية. وإزاء تمسكها بموقفهـا شعرت بمزيـد مـن الضيـق جعلني أقـول لـهـا إنـي أسجل عليها هذا الموقف وسأطلب الكلمـة بنفسي. هممت برفع يدي لأرجـو رئيس الجلسة أن يسمح لي بالحلول محل مندوب الجامعة العربية لتغيبه ولكـن أسرعت زميلتي وكأن تيارًا كهربائيًـا قـد مسـها فجذبت يـدي بسرعة ورفعت يدها هي تطلب الإذن بالكلام. والحق يقال فقـد شـرحـت القضية شرحًا وافيًا بأسلوب شيق وعرض جـذاب اعتقـد أنـي لـم أكن أستطيع مثلـه بالرغم من دراساتي ومعلوماتي عن القضية.

وعندما انتهيت زميلتي مـن كلمتهـا وعادت إلى مكانها بجانبي، شعرت أنها ترمقني بنظرات حادة غاضبة. قالت لي وهي ترتجـف مـن الغيظ لن أغفـر لـك هـذا، قالتها بالإنجليزية دون وعي I will never forgive this فأجبتهـا بهـدوه زادهـا غليانًا غفرانك أو عدمـه لا يهمني كثيرًا، أمـا مـا يهمني فعـلاً أن نثبت وجودنـا ووجـود مـن يمثـل مجموعـة الـدول العربية في مثل هذا الاجتماع الخطير بالذات، وهـو مـا حـدث فعلاً ولله الحمد“.

هذا وقد اتسمت الأبحاث التي تداولت بأنها شائكة نسبيًا نظرًا لاشتراك بعـض الـدول الآسيوية في الحروب العالمية الأخيرة إلى جانب الدول الأوروبية، وعـلى هـذا الأساس آثار مندوبو كل من بورما وإندونيسيا والملايو اعتراضًا على ما قدمتـه بعـض دول آسيا من مساعدات للبلاد الاستعمارية، ومنهـا منـح الكثير من التسهيلات، وحـق استخدام المطارات، وتقديـم القـوات المسلحة وكل ذلـك مـن أجـل إخضـاع بلـد آســوي آخـر لسيطرة الدولة الاستعمارية. وأشار مندوب الصين إلى أنه لا صحة لما يثـار مـن خشيه قيام الصين بالبطش ببعض البلاد الآسيوية، لأن الصين خلال تاريخها الطويـل لـم تفكـر أبـدًا في اتباع سياسة استعمارية، وأنهـا مـن أجـل ذلـك لـن تقف في وجـه أيـة أمـة آسيوية تعمل على نيل حريتها أو المحافظة عليها أو تقرير مصيرهـا كمـا تشـاء.

وأجـاب منـدوب مقاطعـة نيبـال عـن سـؤال وجهـه منـدوب سيلان بأنـه لـم يـصـل إلى مسامعه بأن معسكرات للجـوركا9 ستنشأ في نيبال، ووعد بتوجيـه نظـر حكومته إلى هذه الملاحظة. وصرحت مندوبة الهند، وكانـت مـسز بانديـت نـهـرو أخـت الزعيـم نهـرو، فيما يختص باستخدام القوات الهندية في بورما وإندونيسيا، بأن الهند في ذلك الوقت كان مسلوب السلطان على جيشـه، وأن الحكومة الهندية تعمـل عـلى سحب قواتهـا مـن بلدان آسيا جميعها التي تتجمع فيهـا مثـل هـذه القـوات، وأضافـت مـسز بانديت قائلة بأنه مهما كان الأمـر فـإن هـذه القـوات لـم تكن تستخدم لقمع الحركات الوطنية في البلاد التي تتمركز فيها. وطالب مندوب بورما معاونة بلاده والبلاد الآسيوية الأخـرى في الحصول على عضوية هيئة الأمم المتحدة، وكذلك في الاشتراك في باقي المنظمات الدولية الأخرى، ووعـد مندوبا الهند والصين ببذل الجهود اللازمة في هذا الموضوع. واقترح مندوب إندونيسيا على الدول الآسيوية جميعها الاعتراف بجمهورية إندونيسيا الجديدة المستقلة، كمـا اقـترح إنشاء وكالة أخبـار آسيوية لتبادل المعلومات الخاصة بالحركات التحررية بين الشعوب الآسيوية. وقـد قـدمـت جميـع هـذه الاقتراحـات إلى مكتب المختص بذلك بالمؤتمر.

عندما انعقدت الجلسة الختاميـة ليـوم الحريات في المساء، توليت الحديث في الموضوع، وملخـص مـا قلته أنه من سخريات الأمور ولدغات القـدر أن تعلن استقلالنا وجيوش الإنجليز مازالت تحتـل قلـب عاصمتنـا، وقد أثبتـت لنـا التجربـة خـطـر وجـود جيوش الاحتلال في أراضينا لأنهـا مصـدر متاعـب مستمرة، لذلك إذ نطالب بجـلاء تلك الجيوش عـن قناة السويس، فإننا نريد استكمال استقلالنا والإسهام في إفادة التجـارة العالميـة بهـذه القناة. وأشرت إلى إعلان الحمايـة عـلى مـصـر عـام ١٩١٤ والثـورة الوطنية عام 1919 وتصريح ۲۸ فبراير عام ١٩٢٢ ومعاهـدة سنة ١٩٣٦، ثم شرحـت نقـط الضعف في تلك المعاهـدة، وقلـت إنـه لا يكفـي جـلاء الجيـوش عـن المـدن فـقـط وتركزهـا حـول قناة السويس بحجة حراستها لأن القناة تجـري في أرض مصرية صميمة، وليس لأحد غير

مصر شرعية السيطرة عليها وحراستها، ثم عرضت قضيـة وادي النيل وأعطيت الأدلـة التي تثبت اتصال الشمال المصري بالجنوب السوداني اتصالاً وثيقًا ينبـع مـن وحـدة الأرض والدين والعـادات. فضلاً عن قيام الصـلات التاريخية والجغرافية والاقتصادية العريقة وارتباط مصالـح الشعبين، وبالرغم من ذلـك يتجاهـل المغرضـون كل هـذه الاعتبارات، وأبرزت أن الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس لم تقم بمجرد محاولة تثقيف وتعليـم شعب السودان منـذ عـام ١٩٣٤ بعـد فـصـل شـقي الـوادي، بل ذهبـت أبعـد مـن ذلـك، إذ عملـت عـلى فصـل أجـزاء السودان نفسه عن بعضها، ووضعت الصعوبات والعراقيل لمجـرد التنقل بين أجزائه المختلفة، وغـذت النفـوس بالنزاعات القبلية. كل ذلك يدل على مخطط استعماري مرسوم، وهـو مـا يجـب مواجهته بشدة وقوة حتى نصل إلى تحرير بلادنا تحريرًا كاملاً بما يكفل استقلال تلك الشعوب الحرة الأبية.

مكان انعقاد المؤتمر

أعـود بالقارئ إلى المؤتمر بتفاصيله وأحداثه حـتى أتمكـن مـن أن أنقـل صـورة مصغـرة ولكـن واضحـة. في إحـدى ضواحي مدينـة دلهـي الجديدة ارتفعت الخيـام الواسعة تحدها الأسوار الباقية من القلعة القديمة التي يرجع تاريخ إنشائها إلى 3000 سنة. ولكي يتصـور القارئ مـدى اتساع المساحة الـتي أقيم عليهـا المؤتمر يكفـي القـول إنـه كان يوم الافتتاح يضم ما يربو على خمسة عشر ألف نسمة. وبهذا الحشد الضخم من جمهور الحاضرين، مؤتمرين ومدعوين، افتتحت السيدة ساروجني نايـد وشاعرة الهنـد المرموقة أولى جلسات هـذا المؤتمـر مسـاء يـوم ٢٣ مارس سنة ١٩٤٧. تبـوأت الشاعرة الرقيقة المنصة الرئيسـة بين رؤساء الوفـود وجلست على مقعـد يعـلـو مقاعدهـم بقليل، بينما كان البانديت جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهنـد في ذلك العصر وصاحب فكرة الدعوة لهذا المؤتمر يحتل مقعدًا بين رؤساء الوفود، يشيع من محياه التواضع والبساطة ممثلاً بحق شعب الهند العظيم، الذي لمسناه فيه وفي شخص الآلاف التي حضرت المؤتمر، روحًا معنوية عالية واستعدادًا كبيرًا للتعارف والتفاهم مع دول آسيا. وبحـق لقـد نجحت اللجنة المشرفة على الإعداد والتنظيم لهـذا المؤتمر نجاحًا فـاق كل تصور بالرغم من الحشود الكبيرة والضغط الشديد، حيث وفرت الراحة للجميع، وقام الطلبة والطالبات بالمحافظة على النظام على خير وجـه دون أية مساعدة أو معاونة من القائمين على الأمن.

والجدير بالملاحظة أن كثيرًا مـن أفـراد شـعب الهنـد أسـهم في نفقـات إقامة الوفـود وتكاليف المؤتمـر بصـورة تنـم عـن مـدى وعـي هـذا الشعب، إذ كان الجمهور يشتري بطاقات حضور المؤتمر بأعـلى مـن ثمنها الأصلي كل حسب مقدرته، حتى إن أحـد كـبـار رجال المال دفع ثمنًا لبطاقته خمسة عشر ألفًا من الجنيهات الإسترلينية مـع رجـاء أن تكـون لـه شرف التكلم في أول يوم لافتتاح المؤتمـر.

بهـذه الـروح الطيبة والإخلاص الصادق ارتفـع صـوت السيدة ساروجي نايـدو رئيسة المؤتمـر مفتتحـة جلسته الأولى بهـذه الكلمات: “لابد أنكم تتساءلون لمـاذا تـترأس سيدة مثـل هذا المؤتمر الخطير بالرغم من وجـود أبرز شخصيات هذا البلد بيننـا مثـل المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو والسردار باتل وغيرهم. أرد على هذا التساؤل بالقول إن الهنـد دائمًـا كـرمـت المـرأة وإنهـا عنـدمـا تختـار اليـوم سيدة تترأس هـذا الاجتمـاع العظيم فهـي تستجيب إلى تقاليدهـا القديمـة“. وعقـب ذلـك تناولت بالشرح أسباب انعقاد المؤتمر وأهدافه، والأغراض التي يرمي إليها بصوت هادئ عميـق قـوي النبرات ثم قامت بتقديم رؤساء الوفـود كل بـدوره حسب ترتيب اسمه في الحروف الأبجدية تمهيدًا لإلقاء كل منهـم كلمـة بـلاده.

والجدير بالذكر في هذا المقام أنني سعدت بلقاء السيدة العظيمة وسلمتها رسالة السيدة هدى شعراوي إليهـا باعتذارهـا عـن حـضـور المؤتمـر لمرضهـا مـع تمنياتهـا بنجاحه. وقد قابلتني بترحيب كبير، وأبدت سرورها العظيم لاشتراكي في المؤتمر نيابة عـن ابنـة عمـتي، وإن كانـت قـد أبـدت أسـفها الشديد لمرضها وتمنـت لهـا الشـفاء.

فيما يلي نص تلك الرسالة:

عزيزتي مدام نایدو

تأثـرت جـدًا مـن نـدائـك العاجـل الموجه إلينا، والذي تصممين فيـه عـلى اشتراك وفـد نسائي مصري في مؤتمر العلاقات الآسيوية المزمع انعقاده في دلهـي الجديدة، نـداء أخـوي مـن شـخصية وطنية عظيمـة حـازت حبنـا وإعجابنا جميعًا لا يمكن أن يظـل دون صـدى، لذلك أقـدم لـك بكل سرور مندوبتنـا الشـابة ابنـة خـالي السيدة حـواء إدريس التي ستنوب عن جمعية الاتحاد النسائي المصري والاتحاد النسائي العربي العام في هذا المؤتمر، وهي عضـو أيضًا بجمعية الهلال الأحمر المصري (لجنة السيدات)، ورأسـت لمدة طويلة جمعية شقيقات الاتحاد النسائي المصري، كما اهتمت كثيرًا بقضايا البلاد العربية وبصفة خاصـة قضية فلسطين. إنهـا فخـورة وسعيدة بإتاحة الفرصـة لهـا في الاشتراك في هذا الاجتماع العظيم لدول آسيا وأفريقيا تحت رئاستك وفي كنفك، الذي يجمع في رحابه الأسرة النسائية الكبيرة في آسيا وأفريقيا. وكم كنت أود أن أكون في حالة تسمح بأن أسعد بمشاركتكم لنصرة قضيتنا المشتركة العزيزة علينـا، والتي تدافعين عنها بنجاح وحماس لا نظير لهما في الداخل والخارج، إلا أن ظروفي الصحيـة هـي الـتي تحول دون وجـودي بينكم، لذلك أبعـث إليكـم مـن الأعمـاق بتهـاني القلبية وأطيـب تمنياتي بنجاح مؤتمركم الـذي سيترك أثرًا لا يمحى في تاريخ حركة حريات الشعوب.

مع رجاء قبول أسمى عبارات صداقتي وودي وإعجابي العميق أيتها الصديقة العظيمة،،

توقيع (هدى شعراوي)

جاء دور مصر في إلقاء كلمتها في جلسة بعد الظهر، ولما كان قـد تـردد بين بعض الوفود أنه لن يسمح بالكلام لأكـثر مـن منـدوب واحـد عن الدولة الواحدة لكثرة عدد الوفـود المشتركة والمساواة بين الجميع، ووضع حد للإشاعات المغرضة التي كان قد تعرض لهـا المؤتمر، ونظرًا لأن مندوب جمعيـة الإخـوان المسلمين في مـصـر قـد ألقى كلمتـه في اليوم السابق، لذلك خشيت ألا يسمح لنا بالكلام باعتبار أنه سمعت كلمـة ذلـك المندوب مـن قبـل، فطلبت مقابلة السيدة ساروجني نايـدو، وتباحثـت معهـا موضـوع رسالة نساء مصر إلى المؤتمر، ورجوتهـا أن تدبر لي وسيلة إلقاء كلمتي في جلسة المساء. ولكتهـا اعتـذرت بلباقـة قائلة: “إنـي أخـشـى لـو أتحـت لمصر فرصـة الـكلام يومـين متتابعين أن يحتـج عـلي مندوبـو الـدول الأخـرى ويشيرون إلى تحـيزي“. أقـول صراحـة لقد تضايقت كثـيـرًا جـدًا مـن هـذا الـجـواب الـذي لـم أكـن انتظـره أو أتوقعـه وشـعرت بدقة الموقف وصعوبـة حـل هذه المشكلة، ومع ذلك كان لابد من القيام بأي إجـراء ييسر لي أداء واجـبي الـذي ندبـت مـن أجـلـه، ومررت بلحظـات يـأس وأنـا أفـكـر كيـف أجـد بابًا للخروج من هذا الموقف، وبخاصة أن الأمـور بـدت شديدة التعقد حيث كان الأب الروحي للهند المهاتما غاندي سيحضر تلك الجلسة، وبالتالي يتضاعف عدد الحاضرين مما يجعـل الكلمـة بـيـن هـذه الألـوف ذات قيمة كبيرة، وفجـأة ألهمـنـي القـدر فـكـرة عرضتهـا عـلى الفـور عـلى السيدة ساروجني نايـد، إذ قلـت لهـا: “تقولين يا سيدتي إن مندوب الإخوان المسلمين المصريين اختتم جلسـة الأمـس، فمـا المانـع لـو افتتحنـا نحـن مندوبات نسـاء مـصـر جلسـة اليـوم برسالتنا إلى المؤتمر على أنها تكملة لكلمـة مندوب الإخوان المسلمين وأننـا تقاسمنا الموضـوع“.

فوجئت السيدة ساروجني نايـدو بهذا الاقتراح، ولـم يبـد عليها أنها كانت تتوقعـه بحـال مـن الأحـوال، ونظرت إلى بدهشة ثم قامـت وعانقتني بحـرارة قائلة: “إنهـا فـكـرة بارعـة جدًا يا ابنتي. كوني مستعدة وسأدعوك في الوقت المناسب“. وهنـا أبديـت لـهـا شـكري وامتناني ثم انسحبت لفـوري لأبلغ زملائي المصريين بتلك النتيجة الطيبة التي حصلت عليها.

ولما جاء دورنا في جلسة بعد الظهر أشارت إلى السيدة ساروجني مـن فـوق المنصة التي تجلس عليهـا كي أتوجـه حيـث الميكروفون، إلا أنني خشية أن أرتبـك أمـام هـذا الجمـع الحاشد، ولشعوري أنني مازلت أسيرة لما انتابـي مـن انفعالات، طلبت من زميلتي أن تنـوب عـني في القاء الكلمة بالرغم من توصيـة ابنة عمتي السيدة هدى شعراوي أن أقوم أنـا بذلك. وقفت السيدة ساروجني تقدم الكلمة، وقالت إن لرسالة مصر إلى المؤتمر بقية، وهـذا الجـزء ستلقيهوهنـا مـالـت إلى الوراء قليلاً دون أن تلتفت ، وسألت: “ما اسمك يا ابنتي Your name my child ظنا منهـا أنـي الـتي وراءهـا فـردت عليها زميلتي باسمها، فاعتدلت في جلستها ورددت الاسـم بقـوة ثـم أضافت إليـه قائلة: “إن الأنسة الصغيرة التي ستلقي عليكم رسالة نساء مصر هي ابنة خال زعيمة النهضة النسائية في الشرق العربي السيدة هدى شعراوي، إلا أن الجمهـور همهـم بضحكات خفيفة للالتباس الذي حدث بيني وبين التي كانت تقف خلفها، واستطردت السيدة ساروجني القـول تلك السيدة التي زاملتهـا في عدة مؤتمرات نسائية دولية عرفتهـا فقـدرت فيهـا الشخصية الوطنية القوية الصادقة، ثم أضافت إنني أعتز بصداقتهـا وأقـدر كفاحهـا مـن أجـل عالم أفضل، فالسيدة هدى شعراوي ليست فقط سيدة مصرية عظيمة، بل هي تعـد مـن كبريات نساء العالم “. وكان لهذا التقديم والتعضيـد المشرفين اللذين خصت بهمـا الرئيسـة سـاروجني رسالتنا للمؤتمر، دون غيرهـا، أجمـل الأثر في نفوسـنا ونفوس المجتمعين الذين استقبلوهما بعاصفـة مـن التصفيق الحـاد الـذي استمر فترة طويلة.

بعد ذلك جاء دور فلسطين في الكلام، ولـم يكـن أحـد موجـودًا لتمثيلها، كما أن مندوب الجامعة العربيـة قـد تأخر وصوله حتى منتصف الجلسة الختامية، كما سبق أن ذكـرت في غير هذا المكان، لذلك فقـد تقـدم رئيس وفد الجامعة العبرية بفلسطين واحتـل المكان ليلقي كلمته، وإذا به لا يقتصر فيمـا يقـول مـن عبـارات التحية والمجاملة والأمـل في تحقيق أهداف المؤتمـر كمـا هـي العـادة في مثـل هـذه المناسبات، بل انتهز فرصـة اجتماع أكثر من عشرين ألف نسمة فـعـرض قضية الصهيونية عرضًا مثيرًا جـدًا، إذ قال: “إننا أيها الإخـوان قـد أخرجنـا مـن وطننا الأصلي فلسطين على أسنة رماح الرومان منذ ١٨٠٠ سنة، واستمر سيف الرومان يطاردنا على مر السنين، فهمنا على وجوهنا مشردين إلى أن انتهي بنا المطاف في أوروبا حيث تفرقنـا جماعات بين أقطارها المختلفة، وبذلنا من جانبنا كل جهـد حـتى نصبح مواطنين أوروبيين مخلصين، وبالرغـم مـن ذلـك فـقـد ذقنا الأمرين على يد النازيين، ولعلي في غنى عن التحدث إليكـم عمـا أصابنـا ولـحـق بنـا خلال السنوات الأخيرة على أيدي النازيين من اضطهاد وتقتيل وتشريد وتعذيب وخنـق في حجرات الغـاز. ولقـد حـل كل هذا بنـا رجـالاً ونساء وأطفالاً دون تفريق أو تمييز، بحيث فقد الشعب اليهودي المظلوم ستة ملايين من أبنائه، فهل تدركـون لماذا وقع علينـا هـذا العنف الوحشي؟ رغمًـا عمـا بذلنـاه مـن إخـلاص ووطنية للبلاد التي توطنَّـا بهـا؟ الجـواب على ذلك أن الغربيين يمقتوننـا لأنـا شرقيـون مثلكم، يكرهوننـا لأننـا آسيويون من أهلكم ونبيكم، لذلك فقد صممنا أن نعـود إليكم لنقيم في بلادنا الأصلية وننشئ وطنـًا قـوميًـا لنـا في فلسطين، ومـن أجـل ذلـك لـم نشـأ أن نجلب لأراضيكم الآسيوية لغة أجنبية عنهـا فقررنا أن نترك الألمانية والإنجليزية ومشاكلها، ونحيي اللغة العبرية القديمة ونتحدث بلسان آسيوي مثـل لسانكم “.

هكذا أنهـي الدكتـور هـوج بـرجمـان رئيس وفـد الجامعة العبرية في فلسطين كلمتـه ولا شك أن عرضـًا كـهـذا لـه جانب عظيـم مـن الخـطـورة والأهمية، لأنـه اتبـع أسلوبًا يستدر بـه العطـف ويستثير بـه الشفقة والتأييد، وإن تـرك هـذا الأمـر دون رد يفحمـه ويتغلب عليـه لخـرج جمهور المستمعين وهم في حسرة على شعب صهيون المظلوم، وخصوصًا أن شعب الهند وباقي الشعوب الآسيوية لم يكن يتيسر لهم فرصة التعرف على العنصر الصهيوني واستكشافه، ومن ثم فقد كانت تجهل تمامًا حقيقة موقفهـم، لذلك فقد طلبت من البانديت جوهر لال نهرو رئيس وزراء الهنـد الـذي ترأس الجلسة في تلك اللحظة، بعد أن انسحبت السيدة ساروجني نايـدو لشعورها بهبوط مفاجئ، أن يسمح لنـا بالـرد على كلمة الدكتور برجمان باسـم وفـد مـصر.

وقـد تـولى السيد محمد صديقي المندوب الرسمي في وفـد الهنـد وضابط الاتصال بين الوفـود حـمـل رسالتي إلى البانديت نهـرو وقـد جـاء فيهـا:

أرجو السماح لنـا بالـرد على المشكلة المعروضة أمامكم الآن، لأن لنا رأيًا مضادًا فيها بصفتنا أصحاب الحق في البلاد العربية المتنازع عليها. وإن لم نأخذ فرصتنا للتدخـل والـرد فـورًا سنضطر إلى الانسحاب من المؤتمر احتجاجًا على ما قيل“.

حواء إدريس

عضو الوفد المصري ومندوبة

الاتحاد النسائي العربي العام

والاتحاد النسائي المصري

حاول نهـرو في أول الأمر أن يثنيـني عـن الدخول في مجـادلات، ولكـني وعدته بأنـه مهمـا بلغ بنـا الحمـاس فلـن نتعـدى حـدود اللياقة المطلوبة، وأن كل ما في الأمر أننـا نـريـد تبصير الرأي العام المستمع بحقيقة القضية والنزاع الذي عرض وجهـة نظـر الطـرف المعتـدي، فضحـك نهـرو كثيرًا وأشـار لي مـن فـوق المنصـة مـا مـعنـاه أصـبري وسـوف ترين ما سيكون. فلما أنهي الدكتـور برجمان عرضه المسرحي المثير، حضر إلى السيد محمد صديقي وأبلغني أن نهرو استجاب إلى طلبي. وكانت كل هذه المفاوضات تـدور بيني وبين الزعيـم نهـرو والدكتـور بـرجمـان مـازال يشرح قضية بني جنسه.

كان ردنـا عـلى مـا أثاره الدكتـور بـرجمـان سـطورًا مـن مـذكـرة كانـت بـين أوراقي لخصتهـا السيدة سيزا نبراوي، إحـدى رائدات الحركة النسائية في مصر، عن معلومات سبق أن أتيـت بهـا مـن فلسطين عام ١٩٤٦ عند زيارتي لهـا

وجاءت هذه السطور كالتي:

لقد أثـار حـضرة العضـو ممثـل الجامعة العبريـة جـدلاً مسَّـنا باعتبارنـا طـرف فـيـه وخصـوم ، وقـد اعـتـرف حضرتـه أمـام سيادتكم الآن أنـه وأهله وعشيرته نزحـوا مـن فلسطين منـذ ألف وثمانمائة سنة ويهمنـا نحـن العـرب أن نعلـن عليكـم أنـا نقيم في فلسطين منذ ألف وأربعمائة سنة إقامة مستقرة متصلة، لم نترك هذه الديار خلالها لحظة واحدة، فإن كانت فلسطين بعـد أربعة عشر قرنًا لا تعتبر بلادًا عربيـة، فـلا يمكن لأمة في العالم أن تدعي ملكيتها لأراضيها، فالأمريكيون لـم يمض على إقامتهم في أمريكا خمسـة قـرون، ومـع ذلـك لا يجـرؤ أحـد عـلى التشكيك في أحقيتهـم لتلـك البلاد، والإنجليز أنفسهم دخلوا الجـزر البريطانية في هيئة النورمانديين الفاتحين سنة ألف ستة وستين ميلادية، ولا يدعى أحـد الآن أن الجـزر البريطانية ليست ملكًا لهـم والفرنسيون الذين أسسوا فرنسا الحديثة التي تعرفهـا اليـوم لـم يستوطنوها أكثر مما استوطن العرب في فلسطين. إننا نلجأ أيها السادة لـروح العدالة فيكـم، هـل يـجـوز أن يجبر شعب فلسطين وهـو لا يزيد عن المليون وربع المليون نسمة يعيش على رقعة من الأرض لا تكاد تكفـل لـه إلا الـرزق الكفاف، على أن يضـاف إليـه قهـرًا وضـد إرادتـه ورغبتـه مـا يقـرب مـن ثلاثة أرباع المليون نسمة؟ إننـا نبـذل التضحيات للتخلـص مـن الحكم البريطاني، نفعـل ذلـك في سبيل الحرية وليس لنستبدل استعمارًا بمجموعات من الصهاينة الأوروبيين تفرض نفسها على أهـل البـلاد الأصليين، وهـو أمـر أشقى أمـر. وليكن في علمكم أيها السادة أن اليهود العــرب قـد عاشـوا بننـا وعـلى مـدي القـرون الطويلة في طمأنينة وسلام، توددوا إلينا فأجبناهم، وتعاملوا معنـا فأكرمناهـم، ولذلك تمتعـوا في ظل الأمـم العربية على مر العصور بالخير والإخاء والمساواة، في حين لاقى بنو جنسهم الأمريـن عـلى يـد شـعوب الأمم الأخرى. إننا نعلن لكم أيها السادة أننا لا نقاوم الصهيونيين لأنهم يهود، بل لأنهم أجانب طغاة، ومن يريد أن يمنح ويتصدق فليمنح ويتصـدق مـن مـالـه وجيبه الخاص لا مـن مـال غيره أو جيبـه“.

ظهر أثـر هـذا الخطاب جليًا واضحًا على جمهور المستمعين، إذ بدا سخطهم واضحًا على الدكتـور هـوج برجمـان وبالتالي وضـح سـخط برجمـان علينـا إذ طلـب التعقيب على ذلك الخطاب، ولكن لم يسمح له البانديت نهرو بذلك، فاستاء برجـمـان مـن موقـف نـهـرو وقال له: “هذا ظلم لي وتحيز للوفد المصري“. إلا أن نهرو العظيم رد عليه بقوله: “لقد أثـرت موضوعًا وجلبـت عـلى نفسـك هـذا الـرد، إذ إنـك أعربـت عـن رأي الصهيونيين في الموضـوع الـذي أثرتـه فـرد علـيـك وفـد مـصـر بـرأي العـرب وانتهـي الأمر“. ولكـن لـم يقتنع الدكتـور بـرجمـان بذلك وعـول عـلى الانسحاب واتجـه مسرعًا برفقه زملائه نحـو بـاب الخروج، بعـد أن كتب ورقـة وأرسلها إلى رئيس الجلسة البانديت نهرو. إزاء ذلك تكهرب الجـو بـعـض الوقـت حـتى تدخـل في آخـر لحظـة أحـد أعضـاء لجنة التنظيم فقفـل وفـد الجامعة العبرية راجعًا بأسرع مما انسحب، واتجه الدكتـور برجمان إلى منصبه وصافح مندوب الجامعة العربية ثم احتل مكانه، وكان واضحًا أن هذه المناورة ما هي إلا مؤامرة تدبرها ذلك الوفـد لينـال مـن ورائهـا تأييـد الـرأي العام الهندي والمندوبين الآسيويين محاولة منه إلى اكتساب الأصوات التي تساعده في المضي في طريقه لإثارة الخواطر وبلبلة الأفكار ضـد العـرب. إلا أن كل ذلك لم يجد له صـدي بين جمهور الحاضرين الذي ظل ساكنًا وكأن على رؤوسهم الطير، منذ أن حـاول وفـد الجامعة العبرية مغادرة القاعة يسير بين صفين من الكتل البشرية في طريقه إلى بـاب السرادق الـذي يبعـد حـوالي ألـف متر، وكان لذلك السكوت الرهيـب أبلغ الأثـر إذ عبر تمامًا للدكتـور ترجمان ورفقائـه عـن معارضة صامتة ولكـن عنيفة قوية.

أما من جانب الوفد المصري فلم تكن الأمور تسير بهذا الهـدوء، إذ كان الدكتور عبـد الوهـاب عـزام مندوب الحكومة المصرية المستمع غاضبًـا أشـد الغـضـب منـي لـدس أنفي في موضوعات لسـت عـلى مستواها كمـا عـبر لي، وقام بلومي وتأنيبي بمقولة إن حكومة الهنـد أوصت الوفـود بعـدم التعرض لسياسات بلادها الداخلية، وإنـي بذلك أحرجت البانديـت نهـرو نفسه، بل وربمـا تسببت في خلـق أزمـة دبلوماسية بين مصر والهنـد. إلا أنني قلـت للدكتـور عـزام عجيب أن تجـد تدخلي في غير محلـه بينمـا لا تعترض على العرض الجريء الذي قدمه لك الدكتور برجمان أمامـك الآن، كنت أعتقد أن الدفاع عن حقـوق عـرب فلسطين هـو جـزء من مهمتنا جميعنا، وأنه يتعين علينا ألا ندع مجالاً للصهيونيين أن يقرروا مصيرنا في مشكلة كهذه دون أن نعلـن صوتنا ورأينا. أليـس لـديـك فـكـرة عـن وجـود صحفيين عالميين في هذا المؤتمر؟ وبالرغم مـن شـعوري بشيء من الحرج إلا أنه من غير المقبول أن نترك ذلك الوفد يسترسل فيمـا أبداه من أقوال دون أن نرد عليه برأينـا سـواء كان في ذلك إحراجًا لنهرو أو حتى قطعًا للعلاقات، وأن نهرو ليـس بالإنسان الضعيف، بـل إنـه يعـرف كيـف يتصرف في مثـل هـذه الأمـور لأنه سياسي محنـك. واستطردت القـول للدكتـور عـزام إنـه لا يخفـي عليـه أن المؤتمـر يعـج بعشرات المراسلين لجميع الصحف العالمية، وقـد سـجـلـوا مـا قـالـه منـدوب الجامعة العبرية، وإنه إذ لم يرتفـع لـنـا صـوت يعارضـه ويحتج عليـه ويفنـد حججه فإن العالم بأجمعه سيتأكد أن العرب لا يعارضـون عـودة الصهاينة إلى فلسطين، وكيف يظـن بنـا النـاس وكيف نفسر موقفنـا وسكوتنا وقـد وفدنا محملين بالثقة فينـا والأمانة على حقوق العرب، وتعلقت الآمال علينا في مثل هذه الظروف“. وأنهيت كلامي مع الدكتـور عـزام قائلـة لـه إنني أفهـم يـا دكـتـور إنـك مقيد بسياسة حكومتك التي تنـوب عنها في هذا الاجتماع، ولكـن هـذا لا يعني أبدًا التزامي بتلك السياسـة كمـا لا يمنع أن أتصرف بالطريقة التي أراها أنها الصواب لأن الجمعية التي انتدبتني والهيئات النسائية العربيـة الـتي أمثلهـا لـن تـغـفـر لي أيتهمـا تفويـت هـذه الفرصـة إذا أنـا أهملـت مسـألة خطيرة كهذه“. لم يستمر دكتـور عـزام في عتابه، ولكنني لاحظت أنه كان متضايقًـا لمـا اعتقده أن ثمة عواقب خطيرة ستحدث.

في ختام الجلسة تقدم الرئيس نهـرو إلى الميكروفون وخاطب المجتمعين قائلاً: “رأيتم أيها السادة منـذ لحظات حادثـة صغيرة لـم تتعـد ولله الحمـد بـاب القلعة القديمة، وقـد تـرك لي الدكتـور برحمـان قبـل شروعه في الانسحاب رسالة قصيرة يتهمني فيهـا بالظلم ومجافـاتي لقواعد العدالة في تصرفي، وادعـى تحـيزي للمندوبة المصرية، وأنـه يسجل عليَّ ذلك بشدة، وإني أقـرر لحضراتكم في ردي هـذا أنـه أثار موضوعًـا والـعـرب طـرف فـيـه وخصم، وجلب على نفسه عواقـب مـا أثاره، وهـو مـا سمعتموه، ولـو كـنـت كما ادعى الدكتـور برجمان متحيزًا لمـا كنـت تركـتـه يمضي في عرض مشكلة الصهاينة في فلسطين، لذلك كان من الطبيعي أن أعطي الطرف الآخـر وهـم العـرب أصحـاب الحق في الموضوع المثـار فرصـة إبـداء الرأي في النزاع، كمـا أنـه لـم يكـن في استطاعتي بوصفـي رجـلاً مهذبًا أن أرفـض للسيدة الشابة طلبًا، خصوصًا وقـد رأيت أن لهـا هـذا الحـق عندمـا جـاوز مندوب الجامعة العبرية حـدوده، وهنـا التفت إلىَّ الرئيس نهـرو وابتسم وهـو يستطرد الكلام، كما وأني بصفتي رئيسًا للجلسـة لـم أتحيز إلى أحـد، بـل وقفت موقف العدل بين الجبهتين المتنازعتين، وأود بهذه المناسبة أن أوكد لحضرتكم أننا لا نقـر الاضطهادات التي لحقت بالشعب اليهودي في السنوات الأخيرة، ونرحـو أن ترتفع الإنسانية إلى المستوى اللائق بهـا فـلا تقترف مثـل هـذا مستقبلاً، ولكني في الوقت نفسـه وأوجـه ذلـك للدكتـور بـرجمـان شـخصيًا أود أن أذكـر أن فلسطين كانت دائمًـا في نظرنـا نحـن الهنـود بـلادًا عربية وستظل أبدًا كذلك.

وبهذا التعقيب القـوى الحاسم أنهى الرئيس جواهر لال نهرو هذه المحادثة دون أن يسبب حرجًا لأحد أو مشكلة سياسية بين دولتين بفضـل مقدرته ولياقته وبلاغته، وتابع حديثـه بـعـد ذلـك بكلمـة مختتمًا الجلسة الأخيرة شارحًا للمندوبين دور اللجـان الـتي ستبدأ عملهـا فـورًا، مـع رجـائـه أن تتولى كل لجنة دراسة الموضـوع الـذي ستختص به بطريقـة تكفـل التفاهم والتعاون بين دول آسيا وتمنى للجميع الهداية والتوفيـق.

ولما انفضت الجلسة توجهت إلى نهـرو لأقـدم لـه الشكر العميـق عـلى مساندته لنـا بالرغم من دقـة الموقـف الـذي أحـاط بـه، إلا أنه عندمـا بـدأت أوجـه لـه عبـارات الشكر والامتنان وضـع يـده برفـق عـلى كتفي وقال: “هل أنت راضيـة عـن موقفي، قلـت لـه كيف لا أكون راضية يا صاحب السعادة؟ بكل تأكيد إنـي في غاية السرور وأشعر أننا كسبنا سندًا قويًا لقضية فلسطين، فعقب بقوله كل مـا يـهـم أن تكوني راضية، ثم سار معي قائلاً هيا بنا يا ابنتي لأذهـب بـك إلى مقـر الضيافة Constitution House وصحبـني إلى منزل مضيفتي.

وأثناء خروجنـا مـن ذلـك الاجتماع لمست عطفًـا كبيرًا من الجمهـور وأمطرني الكثيرون بالأسئلة، وكان منهم أساتذة بالجامعات وأصحاب دور صحف ومراسلين ورؤساء هيئات ووفـود وعدد كبير من الطلبة والطالبات تصادف وجودهم بالقرب منـا أثناء المناقشات الحادة التي دارت بيني وبين الدكتـور عـزام، كما سمعوا جزءًا كبيرًا من الحديث الذي دار مع السيد محمد صديقـي الـذي توسـط في الموضوع، وقد دارت معظم الأسئلة حـول الرغبة في الإلمام بحقيقة مشكلة فلسطين وشكوى العرب نحوها.

إزاء تلك الأسئلة التي تطلبت الكشـف عـن أهـم قضية عربية ندافع عنهـا عكفـت عـلى كتابـة مقـال لخصـت فيـه المسألة الفلسطينية، وأبرزت نقاطهـا المهمـة وأكـدت فـيـه أن الوجـود الصهيوني في قلـب الشرق الأوسط سيكون مصدرًا دائمًا للقلاقـل وعـدم الاستقرار، وأن للصهيونيين أطماعًا استعمارية في فلسطين، وأنه يتعين على الإنجليز والأمريكيين ألا يتصدقـوا بغير مالهـم، وأن في إمكانهـم أن يسمحوا لليهود بالاستيطان في أراضي كندا وأستراليا الشاسعة غير المستغلة حيث المساحات الواسعة والطاقات الاقتصادية الوفيرة دون تضحيات تذكر من جانبهم. وسلمت هذا المقال لمراسلي عدة صحف ومجلات، ونشر فعـلاً عـن طريـق دار نشر Bengera Ltd. في مجلتها الواسعة الانتشار الفـورم” Forum بنصه الكامل باللغة الإنجليزية في عددها الصادر بتاريخ 13 إبريل ١٩٤٧.

وفيما يلي الترجمة العربية لذلك المقال.

يجب وقف المزيد من هجرة اليهود

أثنـاء إقامـتي القصيرة في الهنـد وجـهـت إلى عـدة أسئلة بشأن قضية فلسطين، لذلك سأحاول في هذا المقال أن ألقـي أمـام الـرأي العام الهنـدي بـعـض الضـوء حـول تـلـك المشكلة. وبـادئ ذي بدء أؤكد للسادة القراء أن الموضوع بالنسبة للعـرب ليـس موضوعًا دينيًـا بـل هـو مسـألة حيـاة أو موت، فمنـذ قـرون قامـت في فلسطين، تلـك الأرض المقدسة، الديانات الثلاث جنبًا إلى جنب في وفاق وسلام وتعاون وألفة. أما التعصب ضـد الجنس السامي، اليهود، فقـد وفـد إلينـا مـن أوروبا. والآن فـإن العالم العربي بريء تمامًـا مـن ذلـك التعصب، وفي الوقـت الـذي كان الغـرب دائمًـا يضطهـد اليهود نجـد العالم الإسلامي يسبغ الحماية عليهم، بل ويوفر لهم الأمان والسلام. لذلك كلـه فـإن العـرب بمنجى عن اضطهاد اليهود وتقع مسؤولية ذلك على الغرب وحـده الذي شردهم وطردهم من بلاده. ثم، لماذا لا يلتزم الاتحاد الثنائي المهزوم ألمانيا وإيطاليا باستعادة اليهود الذين شردوا، بل ولماذا لا ترحب الدول العظمى المنتصرة مع ما لديهـا مـن المساحات الشاسعة من الأراضي غير المأهولـة وغير المستغلة باستيطان اليهود لها لتعميرها، وبذلك تكسب طاقات اقتصادية وفيرة؟ ثم، لمـاذا تكون فلسطين وحدهـا برقعتها الصغيرة وإمكانياتها الضئيلة هي الدولة الوحيدة التي تتحمل وزر تلك الأفكار؟ إن أبسط مبـادئ العدالة تجعل من غير المقبـول فـرض الهجرة إلى بلـد ضـد رغبـة سـكانه الأصليين.

وفي فلسطين، لا يطلـب العـرب طـرد اليهود الذين استوطنوا البلاد، سـواء قدمـوا إلـيـه بطريق مشروع أو آخـر غير مشروع، بالرغم من انتهاء أحكام الكتاب الأبيض، ولكنهم بحق ضد المزيـد مـن هـجـرة اليهود التي تشكل أعظم الخطـر لـهـم، لأن استمرار هجـرة اليهود ستجعل لهـم مـع الوقـت الغالبية، ويصبح سكان البلاد الأصليـون أقليـة ممـا يمكن اليهـود من التوسع في جميع الجهات. فهـل في شعوب العالم أجمـع مـن قبـل مثـل هـذا الظلـم ؟ إن مطلـب العـرب الوحيـد هـو حمايـة وجودهـم وأمنهـم ، وذلـك بوقف هجـرة اليهود إلى بلادهم ومنع ملكية الأراضي إليهـم.

وما أهمية ميثاق الأطلنطي إذن؟ إذا لم تمنح الشعوب حرية تقرير مصيرها، (وفلسطين مـا زال تحـت الانتداب البريطاني)، بل إذا لم تتمكـن مـن حماية حقوق الأجيال مـن أطفالها وكفالة الحياة والحريـة لهـا، ومـا قيمة الوعود البريطانية الأمريكية المعسولة للعـرب، ومـا قيمـة ميثاق الأطلنطي والمنظمات القائمة للدفاع عن الحريات؟ وكيـف يمكن أن يقـوم سـلام حيث تمتنع العدالة؟ بل يوجـد اعتداء على أقدس الحريات.

إن فلسطين قـد أضافت إلى تعـدادهـا مـن اليهـود مـا يساوي ثلث سكانها الأصليين وبهذا فعلت ما لم تفعلـه بـل ولـن تفعله دولة أخرى. إن الإمكانيات المحدودة لفلسطين لا يمكن أن تسمح له بقبول المزيد من الأجانب دون الإضرار بسكانه الأصليين، وفوق ذلك كلـه فـإن سيول المهاجرين الذين وفدوا إلى فلسطين من شمال أوروبا يختلفون تمامًا عن سكانه الآمنين، سواء في اللغة أو العادات أو الطباع بحيث يشكلون مجموعات من الأجانب من العسير عليها أن تمتزج مع المسلمين أو المسيحيين أو حـتى مـع اليهـود العرب المقيمين في البلاد. كيـف إذن يمكن لهاتين الوحدتين المختلفتين من السكان التعايش معًا والتفاهم معا؟

إن فكرة إنشاء وطن قومي لليهود بالقـوة في فلسطين معناها المخاطرة بإيقاظ العنصرية الدينيـة مـن سـباتها العميق، ومـن ثـم تتهـدد الـشرق كلـه الحـروب الدينية الشعواء.

ومنذ متى كان مسموحًا بوجـود دول دينية؟ إن الغرب إذا اهتم بحقوق الشرقيين وعمل على ما فيه صالحهم وحـد مـن استغلالهم فإن معنى ذلـك هـو خـلـق روح من التفاهم والوفاق والصراحة بين الشرق والغرب.

وقـد تـصـادف أن كان من بين الصحفيين الحاضريـن تلـك الجلسة الصحفي العالمي الأمريكي مستر هوبكنز، حيث سمع تفاصيل الحادثة العربية الصهيونية، كما روى له مستر محمد صديقي ما دار بين كواليسها، فحضر إلي في اليوم التالي، وقدم لي نفسه وجلـس إلي يتحـدث طويلاً في أمـر العـرب، ومدى إهمالهم في الدعاية لقضيتهم. وكان ملخـص مـا قـالـه مسـتر هونكــز إنـه يعيـب عـلى العـرب تقصيرهـم في حـق قضيتهـم، إذ يتهمـون أمريكا بالانحياز إلى الصهيونيين، ويثيرون حـول ذلـك ضجـة تحمـل العالم على الاعتقاد بأن كل قـوى أمريكا تناصر الصهيونيين ضـد العـرب، وإننا بذلك نقـوم بدعايـة لخصومنـا مـن حيـث لا ندري، في حين إن حقيقـة الحـال تؤكـد غير ذلك، إذ إن أعضاء الكونجرس الأمريكي أربعمائة وثمانين عضـوًا منهـم فـقـط مائة عضـو يـنـاصر اليهود، لذلك فإنـه يجـب علينـا أن ندرك أن فرصتنـا مـا زالـت عظيمـة، وأنـه يـجـب على الهيئـة الـتي ترأسها السيدة هدى شعراوي أن تقوم بالدعايـة الكافيـة لقضيـة فلسطين. ومـن أجـل ذلـك يجب أن توفـد البعثات إلى أمريكا للدعاية فيها، إذ إن مجـرد الاعتماد على الصحافة وحدهـا لـن يجـدي لأن الصهيونيين يسيطرون بأموالهـم عـلى غالبية الصحف، أما الوفـود الـتي تندبهـا الجامعة العربية للدعاية فإنه في استطاعتها بالاتصالات الشخصية مـع رجـال الكونجرس أن تصل إلى مزيد من التفاهـم وتقريب وجهات النظر والإقناع وملخص هذه المقابلات والاجتماعات تلتزم دور الصحف بنشره بطبيعة الحال.

واستطرد الصحفي العالمي هوبكنز حديثـه معـي قائلاً: “إن الدعاية الصهيونية في أمريكا ترتكـز عـلى نقطتين أساسيتين هما:

1- أن العـرب قـوم متأخـرون ومتعصبـون ومـا زالـوا يعيشون بعقليـة القـرون الوسطى بفضـل الجهـل المتفشي بينهـم.

٢أن نساء العرب جاهلات أميـات ورجالهـم مـن صنـع هـؤلاء الأمهات. فهل يجـوز عـدلاً أن تناصر أمريكا هؤلاء العرب البدائيين ضـد شـعب وصل إلى خلاصـة مـا حققـه البـشر من التقدم والرقي والعلم والاختراع ؟

لذلك يتعين عليكـم معـشر العرب أن تردوا هذه الدعايات بدعايات أوسع منهـا مـدى، مراعين فيهـا إبراز العنصر المسيحي المثقف من الرجال والنساء حتى تسقط الحجة عنكم بالتعصب والتأخـر. اذهبـوا بأنفسكم إلى كل مكان والفتـوا الأنظار إلى وجودكـم وجدارتكم تحصلـون عـلى التأييد، أمـا أن تكتفـوا بالاحتجاج في المناسبات في مثـل هـذه الأمـور الجـادة الخطيرة، وتجسـموا في نظركم ونظـر العـالـم مـا يعترضكـم مـن عقبـات دون إقامة الأدلة المادية والواقعية عليهـا فهـذا غير معقـول أو مقبول، لأن البقاء في عالمنا الحالي للأقـوى والأصلح.”

شکرت مستر هونكر إذ شعرت أنه يتكلم عن إيمان بعدالة قضيتنا، وأبلغته أن حديثه الذي تميز بالصراحة سيكون بمثابة نصائح قيمة سنعمل بها، وإنـا لـن نتخاذل ولـن نترك الميدان للصهاينة مهما بلغ الثمن والتضحية، وسنمضي في طريقنـا بـكل وسائل الدعاية والإعلام بالرغم من أننـا لـن نـجـد العـدد الوفير من المؤيدين لنـا مثـل ذلـك العـدد الـذي يؤيد الصهيونيين.

في اليـوم التالي دعا البانديت نهـرو رؤساء الوفود إلى مأدبة غـذاء بصفته رئيس مجلس وزراء الهند لتبادل وجهات النظر المختلفة للدول الممثلة في المؤتمر، وقد فوجئت في هـذا اليـوم بحضور السيدة كيـتي سـفرا زوجة أحد كبار رجال الاقتصاد وعضو الكونجرس الهندي، بصفتهـا عضوًا في لجنة استقبال الوفود، لتبلغـي رسالة مـن البانديـت نـهـرو بدعوته لي مع رؤساء الوفـود للمأدبة التي أقامهـا لهـم. وبمزيج من الدهشة والسرور استقبلت تأكيدات المسز كيتي بألا أتخلـف عـن الموعد المحدد وهـو الساعة الواحدة تمامًا، وقبـل انصرافها أبلغتني أن مكان جلوسي على يمين الداعي.

توجهـت في الموعد المحدد إلى قاعة الطعام التابعة لمقـر ضيافة الوفـود فـوجـدت ابنـة نهرو السيدة أنديرا غائـدي هـي الأخـرى داعيـة عـددًا مـن شـباب الوفـود، فتوقفت لحظات حرجـة واسترجعت ذاكـرتي في مـن يـكـون قـد دعـاني، الأب أم الابنة؟ وبطبيعة الأمـور فكرت أن مكاني بين الشباب، وأكـد ذلك الظـن أننتي لمحت مقعـدًا خاليًا في مائدة السيدة أنديـرا فـأخـذت طريقي رأسيًا إليها، وزاد يقيـني عندما استقبلتني السيدة أنديـرا في منتصف الطريق وقادتني إلى المقعـد الخـالي، وبعـد قـلـيـل مـن الزمـن حـضر إلى المتر ودوتيل المشرف على خدمة المدعوين على مائدة نهـرو وأخبرني أن المقعـد الخـالي على يمين رئيس الوزراء هـو مقعـدي، وعلى الفور انتابـي ضيـق شـديد من الخلط الـذي وقعت فيه، وسبب لي كل هـذا الحـرج وانتقلت بهذا الشعور إلى مائدة نهرو، وحاولت أن أعتذر عن خطئي إلى نهرو ومدعويـه مـن رؤساء ووزراء البلاد الأسيوية، ولكـن نـهـرو بلباقته وكياسـته بـدد كل الحـرج الـذي شعرت به، إذ قال لـم يكـن هـذا اللبـس منـك وإنمـا حـدث نتيجـة عـدم توضيح السيدة كيـتي شـفراو المدعـوة لـك كـمـا يجـب نظـرًا لمشاغلها ومسؤوليتها الكثيرة هذه الأيام، فأرجو المعذرة لمـا سببته لـك مـن ارتباك“. لم أحاول أن أجادل نهرو احترامًا لسنه ومركزه ولياقته، إذ كنت أشعر في قرارة نفسي أن السيدة كيتي شيفراو قامت بواجبهـا بصـورة واضحة تمامًا، وأنـني الـتي وقعت في هـذا الخلط بخاصة بعد أن شاهدت مقعـدًا خاليًا على مائدة السيدة أنديرا غاندي.

عقب الجلستين الافتتاحيتين للمؤتمر وجهـت كل جهودي في اللجان لمناقشة الموضوعات مع أعضاء الوفـود في جـو هـادئ وتعـاون واضح محاولة إيجاد الطرق العملية لتحقيقها، وكانت كل لجنة تتناول الموضوعات التي أنيطت إليها بطريقة تكفل نجاح مهمتها

وقد درس المؤتمر الموضوعات التالية:

1- استبدال الاقتصـاد الاستعماري بالاقتصـاد القومي والإصلاح الزراعي والتقـدم الصناعي.

٢إيجاد توازن لتنشيط الاقتصاد المحلي بزيادة إنتاج المواد الأولية.

3- العمـل على أن تساير الصناعات المحلية الثورة المعدنية التي يستغلها الجانب الأكبر من الأجانب.

٤تصحيح أوضاع المزارع التي تخضع غالبيتها لملكية الأجانب أو إشرافهم.

5- معالجة هبوط أسعار المواد الأولوية، دعامة التجارة الخارجية للبلاد، إزاء مضاربة المـواد الأجنبية لها.

6-العمل على ترقية الصناعات اليدوية في البلاد وانتشالها من حالة الركود التي وصلت إليها.

وفي مجال العمل والخدمات الاجتماعية تدارس المؤتمر الموضوعات التالية:

1- تهيئة الوسائل لوضع حد أدنى لمستوى عادل للعمال وفقًا لما جاء في المعاهدات.

۲اتساع مجال التشريعات العمالية ليشمل نطاقها طوائف أخرى من العمال.

3- إنشاء المؤسسات وتدعيمها لمراقبة تنفيذ التشريعات العمالية.

4- إنشاء مراكز إعدادية لموظفي الاتحاد التجاري.

5- تنشيط التعاون الثلاثيالحكومة والمستخدم ورب العمل لانعكاس أثر ذلك على المسائل العمالية والاقتصادية.

6- الإسهام في إنشاء لجنة للاتحاد التجاري العالمي.

7- وضع ميثاق يتضمن مبادئ الحقوق الانسانية وهي الغذاء والملبس والمسكن والضمان الاجتماعي.

8 – تبادل الإحصائيات والبيانات العمالية بين ربوع دول آسيا.

وفي مجال الأبحاث العلمية ومشاكل التعليم أثـار منـدوب بورما موضـوع عـدم توفر الأجهزة والآلات العلمية اللازمة في بلاد كبورمـا الـتي دمرتهـا الحـرب فـغـدت لا تستطيع القيام بأية أبحاث أو تجارب علمية، وعقـب على ذلك مندوب هنـدي بأنـه مـن السهولة إجـراء الأبحاث المهمـة بواسطة الآلات البسيطة التي يمكن تصنيعها محليًا بواسـطة الطلاب أنفسهم دون الحاجة إلى مزيد من النفقات لشراء الأجهزة الأجنبية باهظة الثمن.

ثم تناقش الأعضاء في المحاولات التي بذلت في سبيل خلـق تكاتف ثقافي بين مختلف البلاد الآسيوية، وأعطوا المثل الأعلى على ذلك بمصر التي توفـد البعثات الكثيرة من مدرسيها إلى البلاد العربية المجاورة، وفيما بدأته جامعة كلكتـا بإجـراء اتصالات ثقافية مع الجامعات الأخـرى. وأشير إلى وجـود مجمع علمي في الصين ومعهـد مـلـكي للعلـوم في سيام، ولجنة ثقافية تتبع جامعـة الـدول العربية في مصر، وأنـه مـن أجـل ذلـك كلـه يجب أن ينظم التعـاون الكامـل بـين كل هذه المعاهـد والهيئات العلميـة حـتى تعـم فائدنهـا شـعوب الدول الأعضاء. وهنـا طـلـب منـدوب هنـدي الكلمة وأثار موضوع إيجـاد لغة دولية قائمة بذاتها للتفاهـم بها بين الدول الآسيوية واقترح – حيادًا منـه – إنشاء هذه اللغـة بـعـد تكليف لجان دوليـة تشـكل مـن البـلاد الأسيوية، ولكـن عـارض هـذا النظـر كـل مـن مندوبي الملايو وجورجيا والصين على أساس أن ذلك الاقتراح لـن يـفـي بالغرض، ولـن يحل المشاكل القائمة، واستقر الـرأي على الاستمرار في استعمال اللغـة الإنجليزية باعتبارها اللغة المتداولة بين معظم البلدان الآسيوية والبلاد العربية، مما يتيسر معـه التفاهـم بهـا بين شعوب آسيا وأنـه يمكـن نـشر اللغات الأسيوية بالإكثار من عدد الدارسين لهـا.

وانتهي الأمر إلى إصدار المؤتمر للقرارات التالية:

1- التعـاون والتآزر يسين المكتبات والمتاحـف لتيسير تبادل المعلومـات بـيـن الـدول الأسيوية.

2- ترجمة الكتب الكلاسيكية والمؤلفات الثمينة من لغة آسيوية إلى أخرى.

3- إخراج أفلام علمية وثقافية.

4- إيفاد معلمي اللغات الآسيوية المختلفة إلى البلاد الآسيوية لنشر هذه اللغات فيها.

5- إجراء دراسات تعاونية للثقافات في الجامعات والمدارس الآسيوية المقترح إنشاؤها للدراسات الآسيوية.

6-النظر في معادلة الشهادات والدرجات العلمية المختلفة التي تمنحها البلاد الآسيوية.

7 – إعداد نشرات ومذكرات دورية عن مدى تقدم التربية الثقافية في مختلف دول آسيا.

8 – نشر التعليم وخفض نفقاته بين طلاب أية دولة آسيوية يدرسون في دولة آسيوية أخرى.

۹تيسير سبل الإقامة للطلاب الزائرين أو الوافدين في رحلات من بلد آسيوي إلى بلد آسيوي آخر وإعفاء طلاب اللغات من مصروفات الانتقال وتوفير الراحة لهم في البلاد المضيفة.

10- عقد مؤتمرات تربوية للطلاب الآسيويين.

11- إنشاء معهد دولي آسيوي للتربية البدنية وكذلك تكوين اتحاد ثقافي بين الطلاب.

١٢إنشاء محطة إذاعة آسيوية.

۱۳تنشيط الهجرة بين مواطني الدول الآسيوية وتيسير التجنس بجنسية البلد التي يختارها المواطن.

14- كفالة الحريات الدينية لجميع المواطنين.

15- إزالة الفوارق الاجتماعية والعنصرية بين الطبقات.

مركز المرأة والحركة النسائية

في الاجتماع المشترك بين لجنني دراسة الخدمة الاجتماعية ومركز المرأة والحركة النسائية افتتحت الجلسة بتصريحـات عـن مـركـز المـرأة في مختلـف البـلاد الآسيوية. وقـد أبـان النقاش والبحث أن غالبية الأمم الآسيوية تشكو من سوء النظم الصحية بها وضعـف النواحي التعليمية والتربوية ومشكلة الإسكان، إلا أن هذه المشكلة الأخيرة طرحـت مـن البحث لخروجهـا عـن موضوعـه ومجاله. وقـد أشير إلى أن الريف الصيني يعـاني تمامًا من انحطاط كل مظاهـر الخدمات الاجتماعية، وأن ذلك يرجع إلى حالة الفقر المدقع به، أما في بقية الأقطار الأخـرى فقـد عزيت تعاسة الحالة العامة إلى ما خلفته الحرب العالميـة مـن دمـار، وقد اقترح تغيير شامل في برامج التعليم في كل البلاد الاسيوية باستثناء الاتحاد السوفيتي وسيلان والفلبين، وذكر أن المشكلة تتوقـف عـلى إيجـاد طائفة من المعلمين تكفل تعليم الأعداد الكبيرة من الطلاب في أقصر وقت، باستثناء التعليم في الريف حيث مشكلته عسيرة الحـل. ومـن أجـل ذلـك قـدم اقتراح بالعمـل بطريقة اليهود في فلسطين وهـي عـدم السماح لأي طالب بالالتحاق بالجامعـة مـا لـم يكـن قـد أمضى عامًا في مزاولة الأعمال اليدوية التي تكسبه أفقًا واسعًا في العلم. ووجـه النظر أيضًا إلى أهمية تعليم الكبار واقترح تطبيق النظام الذي اتبعتـه كل مـن كوريا وسيلان حيث نجح نجاحًا كبيرًا. وأجمع المؤتمرون على ضرورة توحيـد التعاون بين التعليم المهني والتعليم الثقافي، والتسليم بصـواب مشروع (ورادهـا) الـذي ينـادي في تقريره بضرورة تمرين الأطفال على العمل الذي يربدون مزاولته في المستقبل. واتفق المجتمعون على أن لغـة كل بلـد والمهن الأساسية بها هي القاعدة التعليمية التي تتخذ لإعداد النشء إعدادًا صالحًا.

وانتهي الأمر إلى إصدار التوصيات الآتية:

1- تبادل المعلومات في جميع المسائل بين البـلاد الآسيوية لانعكاس أثر ذلك على الصالح العام باتساع أفق التجارب والأبحاث والدراسات العلمية.

۲تشجيع التعليم الطبي وتمرين الممرضات وتطبيق مبادئ الأمن الاجتماعي.

3- إعداد تصميمات للمباني تتناسب مع الظروف المناخية للبلاد، ومراقبة المشروعات الصحية في الريف للعمل على تهيئة سبل الراحة لسكانها أسوة بأهل المدن.

٤التوسع في سياسة التعليم الإلزامي.

5- تشجيع الطلاب على تأدية الخدمات الاجتماعية والثقافية بين سكان المدن والقرى.

وانتهي اجتماع اللجنة بين حفاوة المجموعات الهائلة من الحاضرين الذين كان أغلبهم من جموع الطلبة والطالبات التي أحاطت بنا للحصول على توقيعات لنـا بأوتوغرافاتهم إعرابًا عن تقديرهم لما دار في الجلسة وما قدم من اقتراحات حازت اعجابهم.

زيارتي لمدينة أجرا وبعض الأماكن الشهيرة

عقب انتهـاء اللجـان جميعًـا مـن دراساتها وتقديم الاقتراحـات إلى المكتب المختص تقرر سفر الوفـود إلى مدينة أجـرا حسب البرنامج المرسوم. وفعلاً غادرنا مدينة دلهي الجديدة الساعة التاسعة صباحًا بقطـار خـاص لقضـاء أربع وعشرين ساعة في زيارة المدينة الأثرية الخالدة.

بمجرد وصولنا محطـة أجـرا انطلقت إلى باب الخروج مع من انطلقت من المجموعات متعبـة مرهقـة بـعـد رحلـة اسـتغرقت أربـع سـاعات أحـاول أن أنـال قليلاً من الراحـة قبل أن أستأنف نشاطي. وأمـام بـاب خـروج الركاب لاحظت شابًا وسيمًا يقـف يتطلع في وجـوه القادمين، وكان يبدو أنـه ينتظـر أحـدًا منهـم، وعندما اقتربت منـه فوجئـت بـه يتقـدم نحـوي وسـألي باهتمـام ظاهـر وأدب جـم هـل أنـت مـس إدريس عضـو الوفد المصري؟، أجبته بدهشة نعم أنا هي، فقال أرجو أن تقدميني إلى زملائك الآخرين، انتظرت بجـواره لحظات حتى أقبـل بـاقي الزملاء فقدمتهم جميعًا إليه، وقال بعـد مصافحتهـم إنـه أقبـل هـو وشقيقيه الـذي ينتظـر في سيارة الجيـب بالخـارج مـن أجـل توصيلنا إلى محل الإقامة المخصص لنا، ورجانا أن نتبعه. حدث هذا كله بسرعة وبطريقـة لـم تـدع لي مجالاً للتفكير بوضوح، وأثناء انطلاق السيارة الجيب بنـا تنبـهـت إلى مجيء هذين الشخصين الغريبين إلينا في مدينة تطأهـا أقدامنـا لأول مرة في حياتنـا لا نعرفها ولا يعرفنـا بـهـا أحـد، وأن أحدهما ناداني باسمي، ولماذا اختار الوفد المصري بالذات؟ أثار ذلـك فـضـولي، فسألت ذلـك الشـاب الـذي كان ينتظرنـا ببـاب المحطـة عـن باعـث وجـوده، وهل كان ذلك من قبيل الصدفة وحدها، أم إنـه جـاء ينتظـر أحـد الاصدقاء القادمين من دلهي الجديدة، وعما إذا كان قـد قابلـني مـن قبـل خـلال جلسات المؤتمر. إلا أن ذلك الشاب رد عـلى بـاسـمًـا بـأن كل هـذا لـم يحـدث، وأضـاف بعـد أن لاحظ الدهشة ترسم خطوطهـا عـلى وجهـي، أن لمجيئـه هـو وأخيه إلى المحطة قصـة طريفـة يحق لي معرفتها لأنهـا تخصـني أكـثر مـن زمـلائي، وأنه يظـن أنـني سـأسر كثيرًا بها. ازداد تعجـبي لتلك الأقـوال الـتي يذكرهـا ذلـك الشـاب، فطلبـت إليـه أن يفسر لي أقواله فقال: “لقد اتصل بنا المهاتما غاندي تليفونيًا ليلة البارحة وأوصانا، أخـي وأنـا، أن نعمل على توفير سبل الراحة للوفد المصري، وطلب إلينا أن نكون في خدمتكم طيلة المدة التي ستقضونها في المدينة، وأمرنا أن نستضيفكم في دارنا إذا لـم نجـد لـكـم أماكن في الفنادق لشدة ازدحامها، وإنني سألت المهاتما غاندي عن كيفية التعرف على الوفد المصري وسط الجموع الهائلة القادمة إلى المدينة، فقال لي انتظـر يـا بـني لأرى كيف يمكنكم ذلـك ثم أعطاني أوصافـك قائلاً ابحـث عـن شـابة أنيقـة ذات عيـون زرقاء جميلة وشعر غزير أسـود، تبدو جذابة للغاية، ولن تستطيع أن تخطيء في ذلك Look for a smart young lady with beautiful blue eyes and dark hair، she looks

Very attractive، you can not miss her.

فهلا تجدين هذا الإطراء من المهاتما غاندي فخرًا لك؟ إن وصف المهاتما غاندي لـك لـم يسمح لي أبدًا أن أخطئ في التعرف إليـك حيثما لمحتـك عـن بعـد. ألا تريـن أن ذلك يتضمن تحية تقدير لشخصك مـن زعيـم الهنـد؟، قلـت لـه: “لا شك أن الأمر كذلك وإني اعتبر نفسي محظوظة للغايـة لهـذه اللفتة الكريمـة مـن أعظم رجل في القرن العشرين“. وانتهي حديثنـا حيـث وصلنا إلى قلب المدينة وأنا أعتبر نفسي من أسعد الناس حيـث فزت بتقدير الأب الروحي للهند وفي ذلك أكبر تعزيز وتكريـم.

بحثنا في جميع الفنادق عـن أماكـن لـنـا فـلـم نجـد إطلاقًا، لذلـك ونزولاً عـلى توصيـة المهاتما غاندي للأخوين طلبـا اسـتضافتنا في دارهم، ولكن هذا الطلب لـم يجـد صـدى في نفس مندوب الجامعة العربية لأن سكن هؤلاء القوم في نظـره لـم يكـن بمثـل القصر الذي كان يتصوره، بل كان منزلاً صغيرًا متواضعًـا وجـده لا يليق بمثله، فقرر السفر في الليلة نفسها إلى دلهي الجديدة بعد زيارتنا لتاج محـل في ضوء القمر. وفي الحقيقة لقـد وجـدت أن تصرف ذلك الزميـل ينـافي ويجـافي الذوق السليم ، خصوصًا أن الأخويـن مـا قاما بالأمـر إلا بناء على توصيات المهاتما غاندي نفسه، وأنه إذا سافر في الليلة نفسها وحده وبعد ساعات قليلة من وصولنـا فـإن هـذا العمل سيفسر على أن المكان الذي اختاره لنـا المهاتما غانـدي لـم يعجبه، وفي ذلك مساس بشعور الجميع، فتوجهـت لفـوري إلى الدكتـور عبـد الوهـاب عـزام وأبلغتـه بالأمـر وطلبت إليـه أن يثـني منـدوب الجامعة العربية عما اعتزمه بكل السبل، ولكـن بـاءت هذه المحاولة بالفشل، بالرغم مما قاله لـه الدكتـور عـزام من أن يتصور أنه افتقد في الصحراء وأنه يقضي ليلـة تحت خيمـة كيفمـا تكـون، وأن ذلك سيمضي سريعًا ويتلاشي مـع طلـوع الفجـر، ولكـن كان مندوب الجامعة العربية في واد ونحـن في واد آخـر ولا مجـال أبـدًا للتفاهـم والتقارب، وصمم سيادته على العودة إلى دلهـي الجديدة في ذات الليلة وبقطـار الثانيـة بعـد منتصف الليل. أحسست بالضيق ينتابني والاستفزاز يتملكني وشعور الغضب يسـودني وبخاصـة بعـد أن كان سيادته قـد أزعجنـا طـوال الطريـق بشـكواه المستمرة مـن رداءة المواصلات، فوجدت نفسي مضطـرة أن أتدخـل وأصفـه بأنـه رفيـق سـفر سيء الخلـق ومحدث نعمة، وقلت موجهـة حديثي إلى الدكتـور عـزام إنه فعلاً سيكون معـذور، ألا يعرف الدكتـور أن الزميـل قـد تـرك وراءه حبيبة القلب الهندية الحلـوة، وإنـه يـرى أن أربع وعشرين ساعة زمـن طـويـل عـلى هـذا الفـراق. قـلـت ذلـك حيـث سبق أن علمت أنـه هـام حبًـا بإحدى الفتيات الهنديات تمت بصلة القربي لبعض صديقاتي الهنديات، وكان من الطبيعي أن يستاء الدكتـور عـزام من تصرفاته هذه، ويلفت نظره إلى ضخامة مسؤولياته بصفته ممثلاً لسبعة دول عربية في هذه البلاد، وأنه لا يصـح لـه أن يتناول الأمـور بمثـل هـذه الاستهانة والرعونة، إزاء ذلـك كلـه اضطـر منـدوب الجامعة العربية مكرهًـا رغم أنفـه أن يبقى معنـا حـتى عودتنـا جميعًا في اليـوم التالي.

أمـا الأخـوان الشابان فقـد رافقانـا إلى كل مكان، وصحبانا إلى الأماكن الأثرية المهمـة واقترحـا علينا أن نـزور مقبرة تاج محـل المشهورة في أوقات مختلفة، مـرة عنـد الظهـر وأخـرى عنـد الغـروب والثالثة في ضوء القمر، لأن لتلك المقبرة روعة وجمال خلال كل وقـت مـن هـذه الأوقات، بحيث يعجـز الوصف عن تحديد أي من الأوقات تزداد تلـك الروعة وتحـس هـذا الجمال. ومقبرة تاج محـل مـن حيث التصميم والزخرفة تعـد مـن أجمـل المباني الأثرية في العالم، فضلاً عمـا تـرمـز إليـه مـن عواطف نبيلـة فياضـة ووفـاء نادر من زوج إلى زوجته، قـلَّ أن يوجـد لـه نظير. وقد شيدت المقبرة في عصر السلاطين المغـول إذ أقامها الإمبراطور شاه جيهـان تخليدًا لذكرى زوجته ممتـاز مـحـل الـتي كانت لهـا عنـده الحظوة الكبرى على زوجاته الأخريات. ومقبرة تاج محـل أقيمـت مـن المرمر الناصع البياض الذي تشتهر به منطقـة أجـرا، شيدت على شكل جامع لـه أربعة مآذن، تتوسطها قبـة مـن المـرمـر أيضـًا، وطعمت القبـة والجـدران مـن الداخـل بأحجـار ملونـة نصف كريمة على شكل زهـور مختلفة الأنواع والأحجام، تتدلي منها أوراقها الخضراء الجميلة. وصممت القيبة بطريقة هندسية فذة تجعل صدى الصـوت يـرن داخلهـا مـدة لا تقل عن خمس دقائق، وأمام مدخل المقبرة حديقة غنـاء أقيـم بهـا حـوض مـليء بالمياه الشفافة التي تنعكس عليهـا صـورة التـاج مـحـل في الليالي القمريـة الـتي يزهـو فيها ضوء القمر، وتعتبر حديقة تاج محل تحفة ومن أبهي حدائق العالم من حيث التنسيق والجمال وندرة الزهـور الـتي تحتويها، ومن الغريب في مضمار وفـاء الإنسان للإنسان أن هـذا الإمبراطور المغـولي لـم يكـتـف بـنـاء هـذه التحفة الفريـدة لزوجتـه العزيزة عليـه، بـل وضـع في اعتباره ألا تغيـب عـن نـاظـره مـا بـقـى فيـه نفـس أو حيـاة فشــيد قـصرًا في مكان يـطـل عـلى تـاج محـل صممت جميـع أبوابـه لتطـل عـلى المقبرة بحيث يمكنه رؤيتهـا مـن أي اتجاه، كما وضع المرايـا عـلى براويز أبـواب القصر الخارجية في مستوى النظر لتحقيق الغرض نفسه عندما يدخل القصر ويدير ظهره للمقبرة، إذ تنعكس صورتها في المرايا الموضوعة على الباب. حقًـا إنـه وفـاء نـادر.

تشتهر مدينـة أجـرا بكونها مدينة سياحية مهمـة إذ تضـم العـدد الكبـير مـن المبـاني التاريخية الأثرية فضلاً عن أنها مدينة صناعية عظيمة يعمل أهلها في صناعة التحف المرمرية المطعمة بالأحجار الملونـة نصف الكريمة، تشبه رسوماتها الحائط الداخـلي لمقبرة تاج محـل ونماذج مصغرة منهـا تعـرض للبيع للسياح. ومن الآثار الخالدة التي شاهدناها أيضًا ضمن برامج الرحلات خلال فترة المؤتمـر قـطـب منـار (بـرج قـطـب)، وهـو بـرج فريد من نوعه في العالم على الإطلاق إذ يثير العجب في تصميمه، وهـو آيـة من آيات الفن المعماري الإسلامي أسهم في زخرفتـه وتصميمه الجـريء فئة قليلـة مـن حكام الهند في ذلك العصر حتى يثبتـوا للعالم أجمع أن باستطاعتهم صنع المعجزات. وقـد بـدأ في إنشاته نائب الملك قطب الدين أيبـك حـولي عام ١٢٠٠ ميلادية، وهـو يشـبه في شكله العام شمعة ضخمة، ومقسم إلى خمسة طوابق يحيط بكل طابـق بـروز أشبه بالبلكونات، محـلى برسومات مـن الـورود الجميلة، أما واجهته الخارجية فهي مزيج من الطوب الأحمر والمرمر الناصع البياض على شكل كتابات ورسومات في منتهى الروعة والإبداع، ويبلغ ارتفاع هذا البرج العجيب ٢٣٤ قدمًا. وبعـد وفـاه قطب الدين أيبك أتم بناء البرج مملوكه وزوج ابنته ووريثه (ليتتمش) الذي أصبح فيما بعـد أول سلطان مسلم جلـس عـلى عـرش بـلاد الهنـد وحصـل عـلى تأييد الزعماء جميعهم، ولـه مقـبرة معروفة باسمه.

خلال الأيام التي سبقت سفري إلى بومباي حضر إلى مقر ضيافتي للمرة الثانية الصاغ حسين والسيدة حرمه، وكانـا قـد تعرفا بي في القاهرة خلال وجودهمـا بهـا إبان الحرب العظمى الأخيرة، ودعـواني إلى زيارة حـول مدينة دلهي الجديدة والقديمة. ومدينة دلهي الجديدة ذات طابع هنـدسي بسيط ولكنـه جميـل، روعي في تصميمهـا أن تتلاءم مع جوها الحار الخانق، تتكون مبانيهـا مـن فيـلات ذات طابق واحـد بكل منها حديقة كبيرة المساحة. أما المباني الضخمة فتركز في الحي التجاري فقط. ومن الآثار العجيبة التي رأيتها في تلك الجولة السريعة مرصد جانتر مانتر الذي شيده المهراجـا جـي سـنج مـن جيبـور، الذي اعتـلى عرش الهنـد سـنة 1699 ميلادية، وكان رجـلاً قـديـرا وكفؤًا وضابطًا وسياسيًا يتقـن علـوم الفلك ويتعمق فيهـا حـتى ظـل يشتغل بهـا سبع سنوات طوال عـلى أمـل أن يؤلف كتابًا عنها. ومرصـد جـانـتر مـانـتـر هـذا مقسم إلى ستة أقسام، كل قسـم منـه يحمـل اسـمًا معينًا ويختص بعمـل محـدد مستقل، ولكـن يكمـل بقيـة الأقسام في عمليات الأرصاد وشـؤونها.

حفلات ودعوات

اهتـم القائمون على تنظيم برامج المؤتمـر بإقامـة عـدة حفلات واستقبالات لأعضـاء الوفـود. مـن خـلال تلك الدعوات لاحظت أن شعب الهنـد كريم مضيـاف يجد متعة كبرى في استقبال الضيوف والترحيب بهم، كمـا لاحظت أن الحياة الاجتماعية بالهنـد تشبه الحيـاة الاجتماعية في أوروبا فهـي ذات قواعـد وأنظمـة، كمـا أن سيدات الهنـد يتمتعـن باحترام كبـير مـن الرجـال، ولهـن مكانتهـن سـواء في المجتمعات أو مياديـن السياسـة معـززات مكرمـات في بيوتهـن.

من ضمن الحفلات التي حضرتهـا خـلال إقامـتي بالهنـد حـفـلـة لـن أنسـاها لروعتهـا وجمالهـا، وهـي حفلـة الاستقبال التي أقامها تكريمًا للوفود السيد ( أرشـاريه كريبلاني) رئيس الكونجرس الهندي في حديقة منزله الجميـل بدلهي الجديدة، حيث أعـد السيد كريبلاني حديقتـه بحيـث بـدت رائعـة جذابة تبهـر الأنظـار سـواء بأنوارهـا الكهربائية الساطعة بألوان العالم الهنـدي، أو تلك الأضواء الـتي زينـت بهـا الأشجار بصـورة هندسية فنية رائعـة أو الموائد وقـد صفـت عـلى بسـاط كبير من الحشيش الأخضر الجميل. وقد بدت الحديقة في مظهرها العام كما الأساطير التي تحكيهـا قصـص ألـف ليلة وليلة. وفي وسـط هـذا الإطـار الرائع كانـت أجمل نساء الهنـد في أبهـي السـاريات بألوانها الجذابـة يبهـرن الأنظار بقوامهـن المـتزن الممشوق داخـل تـلـك الساريات الـتي أحاطت بهن بطريقة خاصة، وكن يخطـرن هنا وهناك كأنهن حوريات من الجنة، وكان يخيل للإنسان أن ما يشاهده من الروعة الفائقة إنما هو من صنع الخيال وليـس مـن الحقيقة في شيء. وفي تلك الحفلة كان لي حـظ مقابلة أبرز شخصيات الهند، رجالاً ونساًء حيث حظيت بكثير من الإشـادة والإعجـاب بموقفـي مـن مـنـدوب الجامعة العبرية عندما تعرض لقضية فلسطين، تلك القصة التي كانت قد انتشرت بين المجتمعات الهندية في ذلك الوقت.

أيضًـا مـن ضـمـن الحـفـلات الـتي دعيت إليهـا، تلك الحفلـة الـتي أقامهـا محـافـظ دلهـي الجديدة حيث أقـام حـفـل غـداء في حديقة معبـد بـرلا البوذي، وقبـل الغـذاء قمنا بجولة لمشاهدة تماثيل الآلهة المختلفة المنتشرة في أرجاء الحديقة، والملاحظ أنه لا توجـد عادة داخل المعابد الهندية تماثيل كثيرة، بـل يقتصر على تمثال واحـد للعبادة وهـو في غاية البساطة، كما أنهـا تخلـو مـن المقاعـد مثـل الكنائس، والناس يجلسون داخـل القاعة المستديرة على الأرض حـول منبر يتوسطها، يرتفع قليلاً عن الأرض يتبوأه رجـل الديـن يعـظ المصلين. ومـن تقاليـد زيـارة هذه المعابد أن يحاط عنق الزائـر بعـقـد مـن الـورود، كما يعطى مجاميـع مـن أوراق الـورد الملونة مخلوطة ببعض أنواع الياميـش والتين صرت في منديل من القطن. كما حضرت في المساء سهرة تمثيلية في المبنى الوحيد الذي صمـد لتقلبات الطبيعيـة خـلال قـرون وهـو قائـم في القلعة القديمة المعروفة بديـوان خـاص، وكانت التمثيليـة مـن تأليـف شـاعر الهند الكبير طاغـور قامت ببطولتهـا طالبات الكلية التي تحمل اسمه.

أمـا الحفلـة الـتي أقامهـا البانديـت نـهـرو في حديقة منزلـه تكريمًا للوفـود فـقـد كـانـت طـرازًا خاصًا. حقـًا، لقـد صـدق علماء الاجتماع عندمـا ذكـروا أن الحكـم عـلى أخـلاق الأمـم ونفـوس شـعوبها ومـدى شـعورها بالحيـاة يتوقـف عـلى كثـير مـن الأمـور منهـا أغانيها وموسيقاها القومية، ذلك أن موسيقاها وأغانيها هي مرآتهـا الـتي تعكس حقيقة أحاسيس القـوم ومـا هـم عليـه مـن أخـلاق عالية ونفـوس أبية أو العكس، وإذا ما دققنا النظر في أغـاني الهنـود وموسيقاهم ورقصاتهـم لوجدنا أنهـم يمتازون بصفـات راقيـة ومكانة عالية. وإذا تتبعنـا مـعـاني تلك الأغاني وتعبيرات ذلك الرقـص نـجـد أنهـا تجمـع بين الحشمة والأخلاق والذوق الرفيع، لهـا طـابـع ديـنـي خـاص، ذلك أنهـا إمـا أغـاني ورقصات دينية أو حربية ترمز إلى الشرف والفروسية.

هكذا كان لي حـظ وافر لمشاهدة تطور موسيقى الهند ورقصاته في حفل البانديت نهرو، حيث رجـع بنـا الفنانون بأدائهم في ذلك الحفل إلى القرون الوسطى، وكان الرقص يمثـل حرب دفـاع عـن النفس عندما كان يعيش الإنسان على الفطرة. وقـد بالغ البانديت نهرو في تكريم الوفود فاستقدم لأجلهـم خاصة عائلة هنديـة مـن إحـدى المقاطعات الداخلية البعيـدة يتخصـص أفرادهـا أبـًا عـن جـد في عرض الرقصات البدائية الأولى، كما عرضت علينا في الحفل نفسه تمثيلية طويلة أديت بالموسيقى والرقص والحركات الإيقاعية التعبيرية منقولة عن القصة الطويلة التي كتبهـا نهـرو في سجنه عـام ١٩٤٥ بعنوان (اكتشف الهنـد)، التي تحكي كيف دخـل الإنجليز الهنـد منـذ قرن على هيئة تجـار عاديين ثم تطور العمل الفردي إلى احتلال البـلاد مـا يقـرب مـن مائة عام، وقد أدى تلك الرقصة مجموعة كبيرة مـن الهـواة مـع بعـض الفنانين رجالاً ونساًء، فكان الأداء بحـق في غاية الإتقان والروعة والإبداع.

ومن الملابسات الطريفـة الـتي حدثـت خـلال تلك الحفلات والاستقبالات أن جـاء إلى مركـز الضيافة عقب اجتماع يـوم الحريات في المسـاء شـيخ وقور وقـف بين أعضاء الوفود، التي أخذت تتأهب للذهاب إلى حفل الاستقبال الذي أقامه لهـا مهراجـا بـارودا، يسأل عن الذين دعاهم إلى منزله للعشاء، وقال إنه وجه إليهم بطاقات الدعوة منذ أربعة أيام مضت، وإنه انتظر اليـوم مـدة ساعة بعد الميعاد المحدد إلا أن أحدًا لـم يلب دعوته، لذلك فإنه قدم بنفسه ليصحبهم إلى منزله، إلا أنه للأسف لم يحظ بأي رد مـن أحـد مـن الموجودين لانشغالهم جميعًا بالاستعداد لدعوة المهراجـا. فلمـا تأكـد لذلك الشيخ الوقور أن الجميع متصرفين عنـه مقبلين إلى قصر المهراجا كادت الدموع تجـري مـن عينيـه لفـرط تألمـه وتأثره، وقـد تابعت هذه المسرحية الصغيرة عـن قـرب وعنـد هـذا الحـد وبالرغم من أنني لم أكن بين المدعوين لحفـل ذلـك الشيخ، إلا أنـي رأيت نفسي، إشفاقًا عليـه لكـبر سـنه وتجشمه مشقة تجهيز العشاء، أتقـدم إليـه وأطيب خاطـره وأعـده بالحضور ومعي عدد من أعضاء الوفـود لتناول العشاء في منزله، وسرعان ما تبدلت ملامح ذلك الشيخ الطيـب مـن ألـم مفقـرط إلى سعادة واضحة، وشـعـر أنـه أنقـذ مـن مأزق أمام المدعوين الآخرين، وكان المفروض أن أطلب إلى من أعرفهم جيدًا مشاركتي في عشـاء ذلـك الشـيخ، ولكـن بـعـد سمعت الكثير من الاحتجاج بـأن الـظـرف ليـس ظـرف خدمات اجتماعيـة وإنمـا هـو مـؤتمـر، وبخاصة أن المعـروف عـن حـفـلات مهراجـا بـارودا الفخامة والبذخ وتوزيع الهدايا الثمينة على المدعوين، وبالرغم من ذلك تمكنت من اصطحابهم إلى دار الشيخ الوقـور.

كان العشاء عند ذلك الشيخ يتسم بالطابع الريفي البسيط حيث افترشنا جميعًا الأرض حول ملاءة بيضاء صفت عليها أصناف الطعام وأدواته، وكانت الأصناف التي قدمت لنا تمتاز بكونها ذات طابع هنـدي صميم. وكان جـو ذلك الحفل البسيط يتسم بـروح عائلية صفـت مـن التزمت والنفاق، وشعرنا بالسعادة في تلك الليلة بعد أن وجدنا ذلك الشيخ الطاعـن وقـد استرد وقارة وحياءه، ووجـد فينـا مـن لبى دعوته البسيطة وطيب خاطره وحافظ على كرامته. واستمر بنـا الحـال حـتى انتصـف بنـا الليل إذا بي أنتزع مـن ذلك الجـو العائلي الهادي الجميل بقدوم السيد صلاح الدين خورشيد المذيع العراقي بالقسم العربي في إذاعـة الهنـد يدعوني إلى محطة الإذاعة ليسجل لي كلمة عن الحركة النسائية في مصر باللغتين العربية والإنجليزية، وكان سيادته بتعقبـني يوميًـا مـن أجـل ذلك وأنا لا أجـد فـتـرة فـراغ ألـبي فيهـا طلبـه، وخشية أن تفلـت منـه الفرصـة ولـم يبـق على بقائي بالهنـد إلا أيام قلائل هبـط عـلى دار ذلك الشيخ الطيـب يحاول أن ينتزعـني من صومعـة جـو الصفـاء العائلي الذي كان يحيط بنا، متبعـًا أسلوب الأمر الواقع، إذ حضر إلى دار الشيخ في إحـدى سيارات الإذاعة. ولما أخبرته أن العشـاء لـم ينتـه بعـد، وأن انسحابي مـن ضيافة الشيخ قـد تسيء إلى شعوره هـو ومدعويه، فاجئني بضرورة اصطحابـه بالرغـم مـن كل الظروف، والتفت إلى الداعي والمدعوين قائلاً لهـم أرجـو المعذرة أيها السادة عـن تـصرفي، ولكـني مضطر إلى خطف الآنسة إدريس بالقوة حيث لم أتمكـن مـن إقناعهـا بالذهاب إلى دار الإذاعـة بالطرق السلمية، ولا حيلـة لي الآن إلا اتخاذ هذا السبيل منعًا من أن أفقـد تسجيل حديث الآنسة الذي أعلنت عنه الإذاعة مـن قبـل“. وهكذا انسحبت من دار الشيخ الوقـور بـل انتزعت من مجلسه، ولكـن بعـد أن اطمأننت أنه راض عن ذلك الموقف، وتوجهت إلى دار الإذاعة وبقيـت بهـا بعـض الوقـت حـتـى خـلي مـكاني في أحـد الأستديوهات، واستعد الأستاذ صلاح الدين خورشید للتسجيل، وكانت الساعة قـد جـاوزت الثانية بعد منتصف الليل، وسجلت حديثي وأنا شبه نائمـة مـن شـدة التعب والإرهاق. وكنـت أتوقع أن يكـون حـديـث نـوم لا حديث حركة نسائية تمتاز بالنشاط، ولكن عندما استمعت إليه في اليوم التالي حمدت الله كثيرًا، وجاء ظـني على غير ما توقعت، إذ كان صوتي مرسلاً قويًا لا أثر للنـوم فيـه، كما أن الحديث في مجموعه وموضوعه كان مشوقًا للآذان.

ومن طرائف الحفلات التي مرت بي أيضًا حفلة استقبال أقامتها عائلة هندية مسلمة مـن كـبـار الأغنياء، وكانت الحفلة في غاية الروعة تنسيقًا ونظامًا، حـوت الكثير من الأواني الغالية الثمينة، كما تضمنت برنامجًا ترفيهيًـا مـن الأغاني والرقصات الهندية قديمهـا وحديثها، وتولت كريمتـا صاحـب الـدار الأنيقتـان خدمة المدعوين والحفاوة بهم. وعنـد منتصف الليـل اسـتأذنت وزميلتي للانصراف لسابقة ارتباطنا بموعـد في الصباح المبكر لزيارة بعض المباني الأثرية الإسلامية الخالدة، وانصرفنا نتعجل الوصول إلى دار ضيافتنا لنلتمس قليلاً من الراحة قبل بدايـة يـوم آخـر مـن الأيام المشحونة، ولكن سيارة الأجرة التي ركبناهـا لـم تـر رأينـا هـذا، ولـم تهتـم بحالنـا ولـم ترحـم تعبنـا، بـل وقـفـت في منتصف الطريق بكل بساطة وهـدوء، ولم تفلح معها كافة الطرق إقناعها ورفضت أن تتحرك من مكانهـا قيـد أنملة. ولمـا تعـذر على السائق تحريكها نزلت وزميلتي ندفعها إلى الأمام بقدر ما أوتينـا مـن قـوة وجهـد، بينما السائق يجلس إلى مقعـده يضغط بين الحين والآخـر عـلى دواسة البنزين ويحرك الفيتيس ولكن دون جدوى، واستماتت السيارة في مكانهـا، وممـا زاد الأمـور تعقيدًا أننـا كنـا لا نستطيع التفاهـم مـع السائق لـعـدم معرفته أيه لغة أجنبية سوى اللغة الهندية وحدها، كمـا لـم يكن في الإمكان التفاهـم معه حتى بالإشارة لأنه لـن يراهـا لشدة الظلام، وهكذا أعيتنا كل الحيـل فسلمنا أمرنا لله وجلسنا على حافة السيارة ننتظـر نجـدة مـن السـماء. وبعـد فـترة لا تعرف مداهـا لمحـت عـن بعـد جسمًا أبيض اللـون يتحرك مقبلاً نحونا وسط ذلك الظلام الدامس فأشرت إلى السائق أن يستطلع هذا الجسم ، وكان مـن حسـن حظنـا أحـد المـارة الذين استطعنا التفاهم معهم بالإنجليزية حيث كان يتحدث بهـا بطلاقة، فطلبنـا إلـيـه أن يساعدنا في البحـث عـن سـيارة أخـرى تنقلنـا مـن هـذا المكان، فسألنا عـن عنـوان ورقـم المنزل الذي نقصده، فلما ذكرناهمـا لـه شـد مـا كانـت دهشتنا أن أشار إلى البـاب الـذي كنا نقف أمامـه وقـال «هـذا هـو مسكنكم“.!!

تصـور أيهـا القـارئ حالنـا في تلك اللحظة ونحـن نـقـف أمـام المنزل الـذي نقيـم فيـه طوال هذه الفترة ولا نعرفه، ولم أكن أدري ما الذي كان يقصده ذلك السائق اللعين؟ ومـن المفروض أن يعلـم المـكـان الـذي أردنا الوصول إليـه. هـل كان يقصـد ألا نتركه وحيدًا في هذا الظلام ؟ أم كان يقصد معاونتنـا لـه حـتى تتحرك العربة؟ الله وحده الذي يعلم.

كانت آخر الاستقبالات التي حضرتها تلك الدعوة التي وجهتها لي مسز بانديـت شـقيقة نهرو والعضـوة البارزة في الوفـد الهنـدي بالمؤتمر، حيث تناولت معهـا الغـداء بصفة شخصية في أحـد النـوادي الفخمة، ولن أنسى ما حييت تلك الحفاوة التي شملتني بهـا، والرعاية التي أحاطتـي بهـا طـوال مدة إقامتي مثـل شـقيقها العظيـم نهـرو.

على هامش المؤتمر – مقابلتي للزعيم غاندي

عندمـا يتحـدث الإنسـان عـن الهنـد، فلابد أن يقفز إلى ذهنـه اسـم الزعيـم غـائـدي، فغانـدي هـو الهنـد. لذلك فإن مقابلتي لذلك الزعيم تعتبر حدثًا كبيرًا يجب أن أسجله.

قرأت عن الهنـد كثيرًا وعن زعيمها الروحي غاندي وعـن جهـاده وكفاحه في سبيل حياة أفضل وأرقى لمواطنيه، وكنت معجبة غاية الإعجاب بشخصية ذلك الزعيم الفذة وقوة إيمانه ببلده ومبادئه، لذلك كنت أتمنى أن يحالفني الحظ بمقابلتـه ولـو مـرة واحـدة في حيـاتي. ولكـن مـرت الأيام والأعوام دون أن يتحقـق هـذا الحلم الجميل، وظلـت هـذه الأمنيـة تـراودني دائمًا في خيـالي إلى أن لاحـت بـوادر الأمـل في تجسيد هذا الخيال ليصبح حقيقة. عندما انتدبت لحضور مؤتمر العلاقات الآسيوية في الهند، وأثناء جلسات ذلك المؤتمـر دعـاني السيد أبـو الـكلام أزاد زعيـم حـزب الأقليـة الإسلامية في الهند، ضمن أعضاء الوفـود، إلى حفـل الشـاي الـذي أقامـه لهـم في فنـدق إمبريال، وأكرمني الداعي بأن خصص مكان جلوسي على المائدة الرئيسة، وكان مقعـدي بين قطبين عظيمين، إذ جلس إلى يميني الزعيم جواهر لال نهرو، وإلى يساري خـان عبـد الغفار خان الملقب غاندي الحـدود، وهـو شـيـخ وقـور طويل القامة بشكل غير طبيعي، نحيف الجسم ذو لحية بيضاء مرسلة، ترتسم على محياه قسمات من الطيبة والزهـد. وعقب تناول الشاي، قام بعض الخطباء بإلقاء كلمات الترحيب المعتادة في مثـل هـذا الحفل، وأخـذ البانديت نهـرو يترجم لي خطبـة يلقيهـا أحـد أعضاء جمعية العلماء باللغة الأرديـة، وخلال تلك الترجمة لاحظت البانديت نهرو يكثر النظر إلى ساعته بين الحين والآخـر فقلـت لـه يبدو أنـك عـلى موعـد مهـم يـا صاحب السعادة، وأرجـو ألا أكـون سببًا في تأخيرك عـن مـوعـدك فإنني أستطيع أن أحصـل عـلى ترجمة الخطاب فيمـا بعـد، فقال لي إني أريد مقابلة المهاتما غاندي قبـل ذهابـه إلى نائب الملك، فقلت له يالك من محظوظ يا صاحب السعادة، فارتسمت على محياه ملامح الدهشة وسألني عـن السبب، فأكملت قائلة لأنك ستقابل المهاتما غاندي الذي يتمنى كل إنسان في العالم أن يحظى برؤيتـه ويتحـدث إليـه ولـو مـرة واحـدة في حياته“. فضحك البانديـت بهـرو كثيرًا وقال لي أكون سعيدًا لـو تفضلـت معـي بزيارته“. لـم أصـدق عقلي أن أمنيـتي قـد أوشكت أن تتحقـق ولـم أتـردد في قبـول مثـل هـذه الفرصـة النـادرة، حقًـا صـدق المثـل القائل إن رب صدفـة خـيـر مـن ألـف ميعـاد. ومـن يـدري هـل في الإمكان أن تتكرر هذه الفرصة؟ هـل أدعهـا تفوتني؟ لذلك أسرعت بالـرد على البانديـت نـهـرو بـقـولي لـه لا شك إنني سأكون سعيدة للغاية بشرف هذه المقابلة“. وفجأة تذكرت زميلتي واعتقدت أنها قد تتهمني بالأنانية إذ أنـا لـم أصحبها معي إلى هذه الفرصة الفريدة، وأنها بذلك لن تغفـر لي أبـدًا، فقلـت للبانديـت نـهـرو هـل في الإمكان أن ترافقني زميلتي أيضًا دون أن أسبب إزعاجا لفخامتكم ؟، فأجـاب بكل سرور ياابنتي“. وعندئذ هممت بالتوجه إلى حيث زميلتي لأبلغها ذلك النبأ السار، إلا أن نهرو العظيم أوقفني قائلاً: “أريني مكان جلوسها وسأدعوها لك“. وفعلاً توجـه حيـث تـوجـد زميلتي وقـال لـهـا زميلتـك تـريـدك فهـل رافقتني؟جـاءت زميلتي مسرعـة وهـي قلقة للغاية تستفسر عـن الخـبر وسبب استدعائي لها، فقلت تمهـلي يـا عزيزتي ستعرفين على الفور“. وبعـد قليـل كـنـا إلى جـوار نهرو في سيارته تمرق إلى حي الكناسين حيث يقيم المهاتما غاندي، ذلك الزعيـم الـذي أجبر العالم أجمع على احترامه والخضوع لإرادته. خلال الطريق أراد البانديت نهرو أن يعطيني فكرة سريعة عن المكان الذي يقيم فيه غاندي حتى لا أفاجأ عندما أشاهده، فسألني إن كنـت أتصـور أيـن يسكن المهاتما، قلـت لـه طبعًا لا، فقال إنه يسكن في حي كناسي المدينة. إنه يعيش مع هؤلاء القوم حتى يلفت إليهـم نـظـر أولي الأمر من المسؤولين والأغنياء وينبههم إلى سوء حالتهم المعيشية، ورفض أن يقيم حيـث الأثرياء بالرغم أن قصورهم كلها ترحب بـه، ولكنه آثـر هـذا الحي المتواضع دون باقي أحياء دلهي الجديدة“.

وبعد مسيرة طويلة وقفـت بنا السيارة أمام مدخـل أرض فضاء متربة جافة تتوسطها حجـرات مصفوفـة مرقمة، وأمـام إحدى هذه الحجرات المتواضعة سبقنا البانديـت نهرو وأزاح بيـده سـتارًا مـن الحصير ليكشـف عـن بـاب العرفـة، ثم أشار إلىّ أن أدخـل ولكني تهيبت الموقف وفضلت أن يستأذن لنا أولاً، فما كان من نهرو إلا أن أطل برأسه إلى الداخـل وقـال معي بالباب آنسة مصرية ظريفـة مـن أعضاء المؤتمـر فـهـل تسمح لهـا بالدخـول؟، سمعت ضحكة هادئة وكلامًـا باللغة الأرديـة. التفـت نهـرو عـلى إثـره وقال لي يقول المهاتما غاندي إنـه يـسـره جـدًا تفضلك بالدخول“. خطوت أولى خطواتي في ذلك المحراب متهيبـة وجلـة كأني في مكان مقدس، وعنـد مـدخـل البـاب سرحت بفكـري لحظات، وأنا لا أكاد أصـدق مـا تـراه عينـاي، فحـولي مساحة صغيرة متواضعة يجلس في ركـن منهـا أعظـم زعيـم أنجبـه القـرن العشرين، أيمكـن هـذا؟ أيمكن أن يعيـش هـذا الأب الروحي لمئـات الملايين من البشر في مثـل هـذا الإطـار البـدائي؟ ومهمـا قلـت فإنه يصعب على العقل أن يتصـور مـدى تواضـع ذلـك المكان مع ما يضمـه مـن درة إنسانية غالية.

لـم أفـق مـن دهشـتي إلا عـلى صـوت البانديـت نـهـرو يقدمني إلى المهاتما غاندي قائلاً: “أتيت إليـك بأظـرف شخصيات المؤتمـر الآسيوي، فأضـاف غانـدي قائلاً:”وهـي تثيــر الاهتمام أيضًا بموقفهـا الحـازم مـن منـدوب الجامعـة العربية“. فوجئـت كـثـيـرًا بهـذا التعقيب الـذي صـدر مـن الزعيم غاندي لأن الموقف الذي كان يشير إليـه لـم أقفـه عـلى منصة الخطابة، وإنمـا حـدث وراء الكواليس عندمـا كنـت أحـاول تجميع الصفوف للـرد والتعبير عـن وجهـة نظـر العـرب إزاء ما يقوله برجمان، وأضاف غاندي موجهًا الحديث لي أرجـو المعذرة يـا طـفـلـتي لعـدم وقوفي لتحيتـك فـإني رجـل ضعيف وكبير السن ولا أستطيع الحركة بسهولة، فقلـت لـه يهمني مـا فيـه راحتكم وإنني في غاية السعادة إذ نلت شرف لقائكم لأنكم بالنسبة لنـا رمـزًا للبطولة النادرة والكفاح والحـق“. فابتسم ابتسامة أشرقت لها أسارير وجهه وقال: “أشكرك يا طفلتي على شعورك النبيل هذاثم حيّاني بتحية الهنـد تقليدية فبادلته التحية بالطريقة نفسها.

كان غاندي يجلس في ركـن مـن حجرته الصغيرة المتواضعة في مواجهة المدخل متربعًا على (الشلتة)، ويستر جسده النحيل بقطعة من القماش الأبيض الناصع ولكـن يبـدو عليـه أنـه خشن الملمس. وعندما دخلنا إلى الحجـرة لاحظت أن البانديت نهرو قـد خلع حذاءه ففعلت مثله، وجلسنا أمام الزعيم غاندي على حصيرة تغطي أرض الحجـرة يعلوهـا كليـم عـادي ومنضدة صغيرة بسيطة جدًا أمـام غاندي رصـت عليهـا مجموعة من الكتب والصحف. وقـد لفت نظري أن تلك الحجـرة تنقسم قسمين يفصلهما ساتر، وكان غائـدي يجلـس بـكل تواضع مسندًا ظهـره إلى حائط الغرفة. أخـذت أطيـل النـظـر إليـه، إلى تلك الشخصية الأسطورية الفـذة الـتـي هـزت أكـبر الإمبراطوريات وتحـدت أقوى دول العالم في ذلك الوقت. إنه رجـل يرتسم على محياه التواضع الجـم والزهـد العميق، تشع عيناه بريقًا عجيبًـا هـو مزيج من صلابـة الـرأي والاعتزاز بالنفس والثقة المتناهية وقوة العزيمة وكل ذلك في إطار من الطيبة الصادقة. وقـد شـعـرت مـن نـبرات صوتـه بقـوة إيمانه بوطنـه وبحـق شـعبه في أن يعيـش حـيـاة حـرة كريمـة وكان له تأثير عجيب على مستمعيه، تشعر معه للوهلة الأولى أنك أمام شخصية غير عادية تؤمن بدورها القيادي وتقدر المسؤوليات.

جلست أستمع لغانـدي ومداعباتـه للبانديـت نـهـرو، وكنـت أعجـب لبساطته ومرحـه وتواضعـه، وبعـد فـتـرة مـن حـديثـه مـع نـهـرو التفـت إلي وسألني قائلاً:” أرجـو أن تكـوني مستريحة يا ابنتي في مكان إقامتـك ولا ينقصـك شـيئًا، أجبتـه قائلة: “أشـكر لكـم اهتمامكـم بأمـري وأنـا في منتهي الراحـة، وسعيدة جـدًا، ولا ينقصـني أي شيء إطلاقًا بـل إنـي موضـع تدليـل الجميـع ممـا جـعـلـي أفكـر مـن الآن كيـف أتعـود الحياة عندما أعـود إلى بـلادي، ضحـك غـانـدي كثيرًا، والتفـت إلى نهـرو وقـال: “نفـدت لتـوك يـا صديقـي بشـهادة مـس إدريس، فـرد نـهـرو قائلاً:” نحـن نشكر للآنسـة حسـن تقديرهـا لضيافتنا، فأجابـه غـانـدي هـذا مـن حسـن حـظـك أنـت لأنـي كنـت سأحاسبك حسابًا عسيرًا“. ضحكنا جميعًا لهذه المداعبة اللطيفة لنهـرو حـتى عـاد غاندي وسألني ثانية: “هـل كـنـت مـن خطيبات المؤتمـر يـا طفلتي؟، فأجبتـه لـم يكن لي هذا الشرف لعـدم إتقاني اللغة الإنجليزية، ولكـني اشتركت في اللجان في مناقشة ودراسة المقترحـات. فـرد غاندي قائلاً: “أتظنـيـن يـا طفلـتي أن مـن الضروري إتقان اللغة الإنجليزيـة حـتى يتكلـم بها الإنسان أو يرتجـل الخطاب؟، قلـت يبدو أن ذلك كان ضروريًا في هذه المناسبة لأن معظم الوفـود تتكلم بها“. إلا أن عانـدي لـم يؤيد هذا النظـر وقـال: “أوكد لك أن الأمر ليس كمـا تظنين إذ لا داعي إطلاقًا لإتقان اللغة الإنجليزية حتى يخطب بهـا الإنسان“. ثم سألني عـن مـوعـد سـفـري مـع الوفـود إلى مدينـة أجـرا، فأخبرته بأننا سنسافر بعـد يومين في الصباح المبكر، فالتفت إلى نهرو وسأله إذا كان قد اتخذ كافة الترتيبات لسفر الوفود وراحتهم أثناء إقامتهم في أجـرا فأجابـه بالإيجـاب.

هكذا دار الحديث مع المهاتما غاندي زعيم الهنـد الروحي، في جـو مـن أدبـه الـجـم وتواضعه العظيم وتكريمه للضيوف وملاطفته للجميع، مظهرًا رقة عذبة وعطفًا دون تكلف. وعلى هذا الأساس طلب منا أن نأذن له بالانصراف قائلاً إنـي مرتبط بموعـد مهـم مـع نائب الملك، ولا يليـق أبـدًا أن أدعـه ينتظـرني“. ثـم وقـف يتحدث إلى نهـرو بعض الوقت قبل أن يختفي وراء الساتر ليرتـدي زيـه التقليدي المعروف، وقـال قـبـل أن يغادرنا إذا أعجبتم بشيء في هذه الحجـرة فهـو لـكـم، فليس لي فيها شيئا إطلاقاً“. شكرناه على حسن ضيافتـه لنـا ومـا أسبغه علينـا مـن شرف وفخـر وسعادة. وحين غادر الحجـرة سعينا خلفه إلى المكان الذي تنتظره فيـه العربة الرولزرويس التي أوفدها إليـه نائب الملك ليستقلها، وكانت تقف عند مدخل حي الكناسين لضخامة حجمها بالنسبة إلى الطريق المؤدي إلى حجرة غاندي.

أثنـاء سيرنا لمحـت بعـض مصـوري الصحـف مصطفـيـن عـلى ذلـك الطريق في انتظـار قدوم غاندي لتصويره، فقلت لنهـرو بشيء من الأسى وكنت أسير إلى جانبـه كـم كـنـت أود تكتمل سعادتي بالحصـول عـلى صـورة لي مع المهاتما غاندي، فضحـك نهـرو كثيرًا وقال: “عليـك اللحاق بـه لأنه لا يتوقـف أبـدًا للتصويـر فتـركـت نهـرو وأسرعت الخطى وراء غانـدي حـتى لحقت به، وكان من حسن حظي أن تلتقط الصورة وأنا أسير خلفـه وهي من الصور الغالية التي احتفظ بها ضمن سلسلة التذكارات القيمة التي جمعتها خلال السنين الطويلة التي قضيتها في خدمة بلادي وأهـلي وعشيرتي. وقد لاحظت أن الصـور الـتي تنشرها الصحف للزعيم غاندي كانت تبرزه دائمًا معتـل الصحـة نحيفًا أكثر مما هو عليه بالفعل.

وممـا لاحظتـه أيضًـا أن غانـدي إذا تحـدث أو خطـب كان يتكلم بصـوت هـادئ عميـق مشـوب بنبرات قويـة أخـاذة، وقـد وقـف إلى عشريـن ألـف نسمة في آخـر أيـام المؤتمر وخطب فيهم قائلاً:” إنكم جميعًا ضيوفنا يسعدنا أن نرحب بكم، لقـد جئتـم إلى هنـا فرأيتـم الهنـد وسـكان دلهـي واختلطتـم بهـم وتعرفتـم إليهـم ، ولكنكـم حـتى الآن لـم تروا الهنـد الحقيقية، إذ إن الهنـد هـي القـرى، وأرى أن تـزوروا قـرى الهنـد حـتى تعرفوها تمام المعرفة، وأضاف يجـب عـلى شعوب آسيا أن تتحـد فيما بينها اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا لمواجهة الصعوبات التي قد تعترض كل بلد على حدة في تكتـل قـوي، ثـم قال فلنتحاب جميعًا فإنه إذا انتشرت المحبة والإخاء بين الجميع سادت الطمأنينة والسلام في ربوع العالم:. ورد على سؤال أحدهم إذ سأله عما إذا كان قد اكتشف دواء للبؤس، خلال تجاربه الطويلة بين البؤساء، قال أنا لم اكتشفه ولكنني أعـددت لاكتشاف هذا الدواء، إنه القوة التي تتولد عن الحق والحب وعدم استعمال العنف.

هذه بعض لمحات بسيطة عـن رسـول السلام والحرية والمحبـة عـلى الأرض، عن غاندي الزعيم الروحي للهند، لأن الحديـث عـن الهنـد وحـده لا يكتمل إلا إذا احتـل غاندي مكانه في ذلك الحديث، هذا الرجل الذي أجمعت كل الطوائف الدينية على محبتـه واحترامها له، فأنزلوه منازل الأنبياء والقديسين. لا شك أنه كان شخصية نادرة الوجـود. قـاد بلاده إلى التحرر بحكمتـه وقدرته. كان زعيمًـا بـكل معنى الكلمـة: ضحى في سبيل وطنه ومواطنيـه بـكل شيء، حتى بحياته نفسها. وكان غانـدي بحق الشخص الوحيد الذي يحبه ويحترمه الجميع وتديـن لـه الطوائف جميعهـا بالـولاء. سجل اسمه في التاريخ بحروف مدادها من الحب وتضحية النفس وإنكار الذات. وكان في استطاعته أن يعمل الكثير مـن أجـل بـلاده لـولا تلك الرصاصات الطائشـة الـتي صوبهـا إليـه أحـد المعتوهين الهنـدوس، فأفقـد الهنـد قـوة روحيـة عظيمـة كانت في أشـد الحاجة إليـه. وهكـذا مـات صـاحـب مبـدأ القـوة تتولـد عـن الـحـق والحـب، وانتهت حيـاة رجـل مـن أعظـم رجـال القرن العشرين، انتهـت مـن سـجل الأحياء، لتدخـل سـجل الخالديـن.

هدية غاندي

كنت جالسة ذات صبـاح في بهو مركز الضيافة أنتظـر زيارة بعض الصحفيين الهنـود وإذا بشاب جميـل الطلعـة يـدل مظهـره وحركاتـه عـلى تهذيب رفيع، كثير الشبه بالبانديـت جواهر لال نهرو، وكان يحمـل بـين يديـه لفافـة غلفـت بـورق أبيض ناصع البياض وحليـت بشـريـط مـن الحرير الأخضر، أخـذ يجـول ببصره حـتى أقبلـت عينـاه نحـوي، فتقـدم منـي وقـال إن اسمه نهرو ولكنـه ليـس البانديت وإنمـا ابـن عمـه، وإنـه يبحـث عـن مـس إدريس عضـو الوفد المصري في المؤتمـر ليقـدم إليهـا تـذكارًا أرسـله المهاتما غاندي إليها شخصيًا، ورجـاني أن أقدمه إليها إن كنت أعرفها، فقلـت لـه وأنا في غاية الدهشة (أنـا مـس إدريس)، فارتبك الشاب الوسيم ببعض الوقـت ثـم مـديـده إلىَّ باللفافة التي يحملهـا وهـو يـقـول لقـد كلفني المهاتما غاندي بإبلاغك تحياته وتمنياته وأن أقـدم لـك هـذا التـذكار منـه شـخصيًا“.

نظرت إلى تلك اللفافة وأنا لا أكاد أصـدق مـا أسمعه أو أراه، وفي غمرة دهشـتي تـركـت يـد الشاب ممدودة بالهدية الغالية وسرحت بفكـري لحظـات، استرجعت حـوادث الأيـام القليلة الماضية لاستكشـف مـا الـذي يمكن أن يرسله المهاتما غاندي لي وهـو الزعيـم الذي لا يملك شيئًا أبدًا، إلا أنـي أفقـت عـلى صـوت السيد نهـرو يقـول: “نعـم هـذا لك فتفضلي بأخـذه“. مـددت يـدي مترددة وأخـذت مـا قـدمـه لي وفضضت اللفافـة في الحال أمام الرسول، فإذا بها كتاب من كتب الزعيم غاندي، وهو عبارة عن مجموعة الرسائل والمقالات التي كان يتبادلهـا غـانـدي ومحمـد عـلـي جنـاح في مسألة الباكستان، وكان يحمـل عنـوان (أبطـال باكستان). سررت جـدًا لتلك الهدية القيمة وشعرت بفخـر لأن غاندي العظيم خصني دون غيري من الزملاء باهتمامه وعنايته بالرغم من مشاغله الضخمة ومسؤولياته الكبرى.

ولكن، نعم هناك دائمًا، وبخاصة في مثل هذه الظروف والمناسبات، إذ إن سروري لـم يكتمل لأني وجدت الكتـاب لـم يكـن يحمل توقيعـا مـن مهديـه فأبديـت أسـفي الشـديد لهذه الملاحظة للسيد نهرو الشاب الذي كان مازال واقفًا أمامي، فطيب خاطري وقال إن المسألة من أبسط الأمـور ذلـك إنـه يمكـن لابـن عمـه البانديت نهرو تدبير هذا الأمر مع المهاتما غاندي بكل يسر وسهولة إذا أنا أبلغته رغبتي هذه، ثم استأذن وانصرف. عقب ذلك لمحت البانديـت نـهـرو في بهو القاعة جالسًا إلى بعض رؤساء الوفود، ويبدو منهمكين في حديث ودي، فلم أدع الفرصـة تفلـت مـن يـدي، فتوجهـت إليـه في الحـال وأبلغتـه بمـا حـدث وأضفـت قائلـة إن حصـولي عـلى ذلك الكتاب يعتبر حظًا طيبًـا، ولكن يبدو أن فصـول تلك القصة الممتعة الجميلة لـم تتم بعـد لأن المهاتما غاندي سـهـي عليـه أن يضـع توقيعـه عـلى الكتاب، وهـو أمـر سـوف يزيـد ذلك الكتاب قيمـة أدبية عظيمة، فضحـك نهرو كثيرًا وقال: “لا تنزعجـي يـا عزيزتي إلى هذه الدرجة فإن الأمـر ميسور لا يحتاج إلى أي عناء، يـا عزيزتي عنـد عودتـك مـن أجـرا مـسـاء بـعـد بـاكـر سأكون في انتظارك بالمحطة الساعة الثامنة لأرافقك لزيارة المهاتما غاندي مـرة أخـرى ونطلب إليه التوقيع على الكتاب، وحتى لا تضيعين وقتًا في البحث عن الكتاب عنـد عودتـك فـإني أقترح عليـك أخـذه معـك إلى أجـرا ليكـون مـعـك بالتـالي عنـد عودتـك“. شكرته كثيرًا على هذا الجميـل الـذي لن أنساه. ولكن يظهر أن الحظ لم يحالفني أو أن الأقـدار عاندتني كعادتها، إذ إنه عنـد رجوعنـا مـن أجـرا تأخـر القطـار الـذي نستقله عن موعد وصوله أكثر من أربع ساعات، الأمـر الـذي فـوت عـلى زيارة غانـدي مـرة أخـرى وبالتالي افتقادي لتوقيعه على هديته لأنه كان مسافرًا في الصباح الباكر إلى باتنـا PATNA مركز نشاطه الاجتماعي. وهكـذا احتفظت بالكتـاب مـعـي حـتى اليـوم دون أن يشرفـه الزعيم غاندي بتوقيعه.

أما البانديت نهرو فقـد أهـداني بدوره کتابه بعنوان Discovery of India يحمل توقيعه. وهذان الكتابـان يرمزان بكل فخر إلى ما حصلت عليـه مـن تكريم وتقدير من شخصيتين عالميتين قلمـا يجـود بمثلهما التاريخ.

انطباعاتي عن البانديت نهرو

إن من الصفات البارزة في البانديت نهرو، وجعلـت منـه شـخصية أسطورية محبوبة، هي تواضعه الجم وقوة شخصيته وعطفه العميـق الـذي ينبع مـن قلـب هـو الرقـة بعينها غلف في إطار الإنسانية الكاملة. وسأسجل للسادة القـراء مـا لمسته بنفسي عـن بـعـض نواحي صفات ذلك الزعيم الجليل.

في أواخـر أيـام المؤتمـر أرادت الوفـود المختلفة أن يلتقط لهـا صـورة تذكاريـة تضـم جميـع مندوبي الدول الأعضاء في المؤتمر. وفي الموعد المحدد أقبلنا جميعًا إلى المكان المخصص لنأخـذ أماكننـا تمهيدًا للتصوير، واقترح البعض أن يجلـس البانديـت نـهـرو عـلى كـرسي فوتيـه ثـم يلتف حولـه جميـع الأعضـاء عـلى شكل نصف دائرة متجهين بأبصارهـم إليه باعتبـاره رمـزًا لإشعاع فكرة جديدة قامـت في آسيا لأول مرة في تاريـخ شعوبها، ولكنـه اعتـذر بلباقـة وقـام بنفسـه ينظـم أعضاء الوفـود بطريقـة تجـعـل كل عضـو يظهر في الصورة، ولـم ينـس أن يخصص مكانًا لجلوس كل سيدة من المندوبات في الصف الأول مـن الصـورة، وبعـد أن رتب كل شيء بنفسـه ظـل هـو خـارج الصـورة، فانشغل الجميع وسألوه أين سيكون مكانـه فـرد في الحال وبكل بساطة إنني سأجلس هنا على الأرض عنـد أقـدام مـس إدريس، واتجـه رأسًا إلى المكان الذي اختاره بنفسه لنفسه. وكان من الطبيعي ألا يتركـه الأعضـاء يجلـس وحـده، وهكذا انتقـل عـدد مـن الواقفين بالصفوف الخلفية وأحـذوا مكانًا إلى جـوار نهرو على الأرض وتم التقاط صورة تذكارية لأول اجتماع لشعوب آسيا.

ذات صباح، استقبلي نهـرو في مركز الضيافة وقال لي: “يا عزيزتي مـس إدريس، هـل طالعـت صحـف اليـوم ؟فأجبتـه بأنــي لـم أتمكـن بعـد لانهماكي في دراسة موضـوع سأناقش فيـه بعـد لحظات. قال أرجـوك إلقاء نظرة سريعة على جريدة أخبار الهنـد الصفحة الثامنة وإبلاغي رأيك في الموضـوع، ولما كان بـاد عليه الضيـق والانزعاج فقـد سألته في قلـق إذا كان قـد حـدث مـا يزعجه، فأجاب إن مندوب الإخوان المسلمين أعطى تصريحًا للصحف بصفته رئيسًا لوفدكـم قـد يسبب مضايقات كثيرة لحكومتنا، لذلك فإنني أريـد منـك قـراءة هذا التصريح والتشاور مع زملائك فيمـا يجـب عمله لتكذيبـه. وعدته بذلك واستأذنت منه وبحثت عن الصحيفة المذكورة وحصلت على نسخة منها وقرأت ذلك التصريح، وكان نصـه أن المسلمين في الهنـد قـد قاطعـوا المؤتمـر لأنهـم وجدوا في مـواده مـا يمسهم من الناحية الدينية“. ثم توجهت إلى غرفة الدكتور عبد الوهاب عزام لأطلعه على تصريح مندوب الإخوان، فوجدته مجتمعًا بمندوب الجامعة العربيـة وزميلتي، فأطلـع الجميـع عـلى ذلك التصريح، وغضـب الدكتـور عزام وقال: “كيف يسمح هـذا الشاب لنفسه أن يسـب قومًـا أكـرمـوه وهـو مـازال في ضيافتهم ؟، فقلـت لـه إنني لاحظت البانديـت نـهـرو كان متضايقًـا جـدًا وهـو يحدثني قبـل حـضـوري إليكم، ولابد أن يكـون هـذا التصريح السبب في ذلك، وطبعًـا لـم أقـل لـهـم إن نهـرو لفت نظري إلى الموضوع لأني فهمت من كلامه أنه لا يريد ذلك“. قررنـا بعـد مناقشات طويلة أن نكتب تكذيبًا في الصحـف نـقـول فـيـه إن مـا ذكـره منـدوب الإخوان إنمـا هـو رأيه الشخصي دون رأي الوفد المصري الذي لا يخضع لرئاسة السيد المذكور. وبعـد كتابة هذا التكذيب طلـب منـا الدكتـور عـزام أن يوقع عليه الجميع بما فيهـم صاحب التصريح نفسه، ولكنه خشي أن يرفض التوقيع بمقوله إنه من غير المقبول أن يكذب الإنسان نفسه خلال أربع وعشرين ساعة.

ولما كان البانديت نهرو وضع ثقته في مقدرتي على تصرف حكيم لذلك، فقد طلبت من الدكتـور عـزام تسليمي التكذيب، وذكـرت لـه أنـني كفيلة بإرغامه على التوقيع، وأنه لو لزم الأمر فـإني سأهدده بـأن أطلـب مـن القنصـل المـصري ترحيلـه فـورًا إلى مصر، وفعلاً بعـد مناقشة حادة بيني وبين مندوب الإخوان أضطر أن يوقع رغمًـا عنـه وهـكـذا مرت تلك الأزمة بسلام.

في صباح اليوم التالي حضر البانديت نهرو إلى مقر الضيافة وقابلني باسما وشكرني، وقال أعجبتني كثيرًا طريقتك في التصرف وكانت بارعـة ومـرت الأزمـة بهـدوء“. وتخيلت في نفسي لـو أنـه سـمع المناقشة التي دارت بيني وبين مندوب الإخوان واستمرت ساعة حتى أجبره على التوقيع لكان غير رأيه فيما عبر عنـه.

من مآثر نهرو

في صيف عام ١٩٥٠ كـنـت في الإسكندرية، وطالعتنا الصحـف بأنبـاء تقـول إن الهنـد قـد تعترف بإسرائيل كدولة على أساس الأمر الواقع، فلـم أصـدق أن يحدث هذا والبانديت نهرو على رأس الحكومة الهندية، وهـو الزعيـم الـذي ساند العرب في مؤتمر دول آسيا بتعقيباته القوية على خطاب رئيس وفـد الجامعة العبرية. لذلـك فـكـرت في أن أبـرق إليـه أذكـره بموقفـه مـن مشـكلة فلسطين في ذلك المؤتمـر عـام ١٩٤٧، وقبل أن أنفـذ تلك الفكرة عرضتهـا عـلى السيد فؤاد أباظة باشا فاستحسنها وشجعني على تنفيذها فورًا، ولكـي قلـت لـه: “هـل تظـن يـا باشا أن يكون لتدخلي في هذه المسألة وقع عنـد البانديـت نهـرو أم سـوف يتهمني بالغـرور؟، قال: “كيـف ذلـك وقـد كـنـت مندوبة إلى المؤتمـر الـذي صرح به بنفسه أن فلسطين بلاد عربية وستظل كذلك؟ إني أرى أنـه مـن الأهمية والضرورة إرسال تلك البرقية تذكريه بتلك التصريحات“. وفعـلاً ساعدني فـؤاد أباظة باشـا عـلى صياغة تلك البرقية باللغة الإنجليزية وأرسلتها في الحال

وهذا هو نصها:

الإسكندرية في٢٣ سبتمبر سنة 1950

فخامة البانديت نهرو

دلهي الجديدة – الهند

ذكريات جميلة عن مؤتمـر عـام ١٩٤٧ حيث صرحتم أن فلسطين ستبقى دولة عربية ولكن يؤسـفني أن أعبر لفخامتكم عن خيبـة أمـلي بمشروع حكومتكم الاعتراف بإسرائيل كدولة. أرجـو ألا يتحقق ذلـك،،،

حواء إدريس

وتتابعت الأيام والأشهر على هذه البرقيـة دون أن أتلقى ردًا عليهـا أو على الأقـل مـا يفيـد وصولهـا، إلى أن كنت في إحدى الليالي في طريقي إلى مطار القاهرة الدولي لتوديع صديقة عزيزة، وهي السيدة فيوليت ألفـا الـتي كانـت تـزور القاهرة مندوبة عن الهنـد لحضور حلقة الدراسات الاجتماعية، وعلمت مـن صديقتي ونحن في الطريق إلى المطار أن البانديـت نـهـرو قـد وصـل إلى القاهـرة عـلى الطائرة ذاتها التي ستستقلها إلى الهنـد عائـدًا مـن أحـد الاجتماعات السياسية الخطيرة التي حضرهـا في لندن، لذلك رأيـت الفرصة سانحة. وما إن وصلنا إلى المطار حتى استأذنت صديقتي وتوجهت حيث يوجـد البانديت نهرو في استراحة الشركة الهولندية للطيران، فوجدته محاطًا بجمع كبير من الـزوار بينهم وزير الخارجية المصرية وأمين الجامعة العربية الأستاذ عبد الرحمـن عزام ، وعـدد ضخم من الصحفيين والمصورين. وجدت أنه من المتعذر الوصول إليـه لتحيتـه وتبادل الحديث معه، فهممت بالعودة إلى حيث تركت صديقتي، ولكن لمحني في هذه اللحظة السيد سعيد نجـم تشريفاتي الجامعة العربية، فاستوقفني يسألني ما الخبر، فقلـت لـه أتيت لتحيـة البانديت نهـرو ولكني أرى أن هذا ليس ممكنًا، فطلب إلىَّ الانتظار لحظـة، وتوجـه إلى نهـرو يبلغـه بـوجـودي. فلما رآني البانديـت تـرك الجمـع الغفير حـول المائدة وأقبل نحـوي باسمًا وحياني تحية رقيقة للغاية، وقال أظـن أن من المستحسن أن نترك هـذا المكان الصاخـب إلى مكان آخـر أقـل زحامًا، وصحبنـي إلى إحدى قاعات الاستراحة حيـث لـحـق بنا الأستاذ عبد الرحمـن عـزام. تحـدث معي نهرو في لطف وسألني إن كنت مازلت أتابع نشاطي نحـو مشكلة فلسطين فأجبته إنها مسألة حياة أو مـوت بالنسبة لنا، ولا يمكن أن نتركها إلا إذا حصلنا على حل عادل لهـا، قال: «بهذه المناسبة أعتذر لعدم ردي على برقيتك إذ وصلت قبـل سـفري بساعات، فلم أستطع الـرد عليها إلا أنني أعطيت الأوامر اللازمة وأظنـك لمسـت أن اعترافًـا لـم يحصـل منـا بإسرائيل كدولـة حـتى الآن“. شكرته وأنـا في دهشة أن يتذكـر هـذه الواقعة بعـد أشهر طويلـة بمثـل تـلـك الدقة، بالرغـم مـن مسـؤولياته الكبرى وضخامة الأعبـاء التي يتحملها. هذا هو البانديت جواهر لال نهرو الرجـل الإنسان الذي افتقدته الهنـد وافتقدت بذلـك أحـد دعاماتها القوية.

لقـد بـدا لي أن أسجل هنـا بعـض نواحي تواضـع ذلـك الرجل العظيم وإنسانيته ومروءته، لأن نهرو الرجل السياسي يعرفه العالم حق المعرفة، فلا حاجة بي أن أكـرر مـا يعرفه الجميع، أمـا نهـرو الإنسان فقـد لمست صفاتـه بنفسي أثناء انعقاد المؤتمـر الآسيوي إذ كان في كل مواقفه وتصرفاته، خلال الأيام الخمسة والعشرين التي قضيتها في ضيافة حكومته، معبرًا بتعبيرات صادقـة عـن الرقـة والتهذيب الرفيـع والتسامح والتواضـع، وهذه صفات قلما تجمعت في أحـد مـن النـاس مهما ادعى أو تظاهـر، لذلك فإن فترة معرفتي بهذا الرجل العظيم تعتبر من الذكريات الخالدة في حياتي.

في طريق العودة

انتهت جلسات اللجان وحان موعد العودة إلى أرض الوطن فذهبت إلى فندق إمبريال لأحجز مكانًا لي على الطائرة المسافرة إلى بومباي. وبينما أنتظر رد المضيـف الـذي كان يراجع مواعيد قيام الطائرات جاءتني سيدة بلجيكية كنـت قـد تعرفت بها هي وابنتها ليليان في القاهـرة أثناء الحرب العالمية الأخيرة، وكانتـا تحـضران بصفة منتظمة صالـون الثلاثاء عنـد ابنـة عمـتي السيدة هدى شعراوي. وكنت لا استلطف الأم لأنهـا كانـت تدس أنفهـا دائمًا فيما لا يعنيهـا، كـمـا أنـه كـانـت تـدور حـول الاثنتين إشاعات بأنهما جاسوستان تعملان لحساب القوات البريطانية. دهشت أن أحدهما في الهند وفي دلهي الجديدة بالذات، لأن الهنـد قـارة كبيرة ومدنهـا كثيرة، فسألتها عمـا جـاء بها إلى هـذه البـلاد النائية. قالـت إن ابنتها الوحيـدة ليليـان تزوجـت أثنـاء الحـرب بأحـد الضبـاط الهنود، وعندما انتهت الحرب عاد إلى بلاده مع زوجته وكان طبيعيًا أن تتبع ابنتها. ثم استمرت تحدثني عن حياتها وحياة ابنتها في الهند، وكيف أنهما ألفتـا وطنهما الجديد وأصبحتـا تحبانـه كأنهمـا عـاشـتـا فيـه طـوال العمر. وفجـأة تركتـني وغابـت بعـض الوقت ثم عادت تقـول لي: “سمو الأمير العثماني كاظم أفنـدي يريد التعـرف بـك فـهـلا أتيـت معي لأقدمـك إليـه، وأشارت إلى شخص يقف على بعـد خطـوات منـا“. قلت لها: “ما هـذا الـذي تفعلينـه؟ هـل فـقـدت صوابـك لماذا لا يأتي هـو مـا دام يطلب التعرف إلى؟ عـودي إلى أميرك وأبلغيـه أنني لم أتعـود الجـري وراء مـن يرغب التعرف إلي حتى لو كان أميرًا“. حاولت أن تقنعني أنه لا ثمـة ضرر في أن أتقدم للتعـرف بـه، فقلت لها هـذا مـن شأني أنـا وحـدي وليـس مـن شـأنك، فلو كان أميرًا حقيقيًا كما تقولين لما سمح لنفسه أن يطلـب مـن سيدة أن تأتي هـي إليـه بـدلاً من أن يسعى هـو إليهـا. إنـه مـن المفروض في الأمراء معرفتهم للذوق واللياقة وقواعد الإتيكيت لا أن يتصرفـوا كالصعاليك، فلا يبعـد أن يكون أميرك هذا أحد المشردين فـاغـربي عـن وجهـي قبـل أن أفقـد صـوابي“. فاختفت تلك السيدة من أمامي للمرة الثانية إلا أنها عادت ومعها ذلك الشخص، وعندما اقتربا مني أدى ذلك الأمير تحية عسكرية وقدم نفسه لي على أنه الأمير كاظم ابـن عـم الأميرة دورشهوار زوجة ولي عهد إمارة حيدر أباد، وقال إنه يأسـف أشـد الأسـف عـلى تصرفـه الـذي أغضبني، إذ إنـه لـم يقصـد أبـدًا أن يكـون فظًا عديـم الـذوق، بـل ظن أننـي عضـوة في وفـد إحـدى الجمهوريات السوفيتية، فأراد أن يستفسر مـني عـن آنسـة مصرية في الوفد المصري حيث جاء خصيصًا من إمارة حيدر أباد بتكليف من الأميرة دورشهوار للبحث عنها وتبليغهـا دعـوة الأميرة لها لقضاء ثلاثة أيام في ضيافتها بحيـدر أباد. واستطرد قائلاً: “إنني لـم أعـرف أن الآنسـة الـتي جئت خصيصًا للبحث عنهـا هـي أنت إلا مـن السيدة رجيـس الآن، كما أن ردودك أكـدت لي أنك فعـلاً الآنسة المصرية التي أبحث عنها، إذ أعطـوني فـكـرة عـن شخصيتها القوية وأنـا أعجـب وأقـدر كل سيدة تعـرف حـق نفسها ولا تسمح لأي إنسان مهما كان أن يتجاوز حدود اللياقة. ثـم كـرر الدعـوة قائلاً:” إن الأميرة دورشهوار كلفتني أن أرافقك إلى حـيـدر أبـاد دون إبطـاء فـهـلا تفضلت معي؟، طبيعـي أنـي لـم أكن مستعدة لمثـل هـذه الدعـوة ولا لمثـل هـذه المفاجأة فاعتذرت لذلك الأمير بكل أنواع الاعتذار، وطلبت إليـه أن يبلغ شكري وعميـق تقديري إلى سمو الأميرة لتعطفهـا واهتمامهـا بـدعـوتي مـع أسـفي لعـدم إمكاني تلبيـة دعوتها لضيق الوقت. حاول ذلك الأمير إقناعي وأخـذ يلح كثيرًا في اصطحابي إلى مدينة حيدر أباد، ولما لم يفلح دعاني للعشاء في اليـوم التالي في فندق إمبريال نفسـه الـذي كنـت أتحـدث إليـه في ردهتـه مـع بعـض العظماء، فقبلت دعوتـه هـذه المرة مشترطة حضور زميلتي معي أيضًا، فرحب بذلك وطلب مني نظرًا لغياب زميلتي أن أنـوب عنـه في دعوتها. كان حفل العشاء فخم جدًا راعي فيـه الـذوق السليم في اختيار المدعوين وعددهم ، فكانوا محدوديـن ومـن الشخصيات البارزة، وقضيت أنا وزميلتي وقتًا سعيدًا ممتعًـا، ولكن بالرغم من كل شيء لم أقتنع بالسفر إلى حيدر أباد، وهكـذا ضاعـت منـي إحـدى رحلات العمـر الـتي كان يجب أن أقـوم بها.

في طريـق عـودتي إلى أرض الوطن توقفـت في مدينة بومباي بدعـوة مـن مـسزر كاملا ديفي شاتو باديا، عضـو الوفـد الهندي في المؤتمـر وإحـدى الشخصيات السياسية البارزة في الهنـد، وذلك لقضاء أربعة أيام في ضيافتها في المدينة الهائلة، ووعدتني أن تمهـد لي مقابلة بعض كبار المسؤولين في الحقل الاجتماعي ورجال الفكر والصحافة، ومن بينهم الصحفي الهندي المعروف شانكر رئيس تحرير جريدة إنديان نيوزكرونيكل، والمستر جماكيـم ألـفـا والسيدة حرمه، عضـوا الكونجرس الهندي اللذان يملكان دارًا كبيرة للنشر وكذلك الجريدة اليومية بومباي كرونيكيل، ومجلتين أحدهما سياسية واسعة الانتشار فورم والثانية مجلة نسائية بيجومالتي تنفرد بإدارتها ورئاسة تحريرهـا مـسز ألفا، وسيكون ذلك في الحفل الذي تقيمه في أحـد نـوادي بومباي الكبرى لتتيح لي الفرصة كي أشرح فيها لمجتمع المدينة قضية فلسطين التي شغلت الصحافة والرأي العام الهندي على إثر المنازعات التي قامت بيني وبين الدكتـور برجمان مندوب الجامعة العبرية في فلسطين حول إقامة وطن قومي لليهود في المنطقة. وقالت لي مـسز كاملاديفي: “إذا تحمـس هـؤلاء القوم لقضية فلسطين فسيكون ذلـك مـن حسـن حظ العـرب لأنهـم جميعًا أصحاب أقلام قوية ممتازة في صحافة الهنـد، لهـم قـراء كثيرون وعن طريقهم يمكنك أن تنقـلي إلى الرأي العام الهنـدي مشكلة فلسطين بصورة واضحة، خصوصًا وأن الهنـد لـم يتيسر لهـا بعـد دراسة المشكلة تمامًا والإلمام بنواحيها، وسيكون ذلك أيضًـا أبلـغ الـرد عـلى الدعايات الصهيونية في بلادنا“. ثـم أردفت قائلـة وهـي تضحك مازحة: “وكل هذا يتوقف على لباقتـك يـا عزيزتي في إقناع الصحفيين الذين سيحضرون الحفل في ذلك المساء“. واتفقت معي على أن أبدأ الاستعداد لشرح مشكلة فلسطين بوضوح مع التركيز في كلمات موجزة ألقيها على المدعوين أثناء العشاء، وعلىَّ أن أكـون مستعدة أيضًا للإجابة على الأسئلة الكثيرة التي ستوجه إليَّ في الندوة التي تعقب حفل العشاء. وهكـذا عندما وصلت إلى مدينة بومبـاي بعـد ثلاثة أيـام مـن هـذا الحديث اعتكفت في غرفتي بالفندق لتحضير الكلمة القصيرة المركزة التي سألقيها وتدوين النقط المهمة الرئيسة التي تدور حول مشكلة فلسطين. وقد نجح حفل العشاء نجاحًا كبيرًا بالنسبة لي، وهكـذا أعتقـد أنـني تركت أثرًا كبيرًا في نفوس هؤلاء القوم، كمـا أعتقـد أنـي نلت تأييدهم المطلق لقضية فلسطين.

أثنـاء انشغالي واعتـكافي بغرفتي بالفنـدق لتحضير تلك الكلمـة الـتي ألقيتهـا في حفـل العشـاء المذكور، حضرت إلى الآنسـة مريـم زواوي وهـي شـابة في مثـل عمـري في ذلك الوقت. أصل والديهـا مـن سنغافورة نزحا إلى الهند قبـل مولدهـا بمـدة طويلة. يعمل والدها الثري في التجارة. ومع أنهـا مـن مواليـد الـهنـد ولـم تشاهد بلادًا عربية غير الهند، إلا إنها لم تهمل تعلم اللغة العربية، لغة أبويها، إذ كانت تتحـدث بهـا بطلاقة وتشعر بفخـر وسرور كبيرين عندما تجد شخصًا يتحدث بلغـة القـرآن الـتي تعشقها أكـثر مـن أيـة لغـة أخـرى. هكذا كان وصفها لي. وظلت مريم تلازمني كظـلي، بحكـم أنـه تجمعنا لغـة واحـدة، ولم تتركـي طـوال المدة التي قضيتها في بومباي، وكان يسعدها دائمًا أن تلبي أي مطلب لي.

وفي اليـوم التالي لوصـولي بومباي أبلغتـني مـريـم بـأن مجموعـة كبـيـرة مـن الطلبـة والطالبات من زملائها الهنود سيحضرون بعد لحظات لزيارتي والترحيب بي، وأنه يجب أن أستعد لمقابلتهم والرد على أسئلتهم الكثيرة التي ستوجه لي عن المؤتمر الآسيوي، وبخاصة عن مشكلة فلسطين. وبالفعل أقبلت إلى الفندق أمـواج مـن هـؤلاء الطلبة تربو على المائة، وبعد التعارف أمطـروني بسيل منهمـر مـن الأسئلة المختلفـة حـول مشكلة فلسطين، وكيف يمكن للعـرب أن يدافعوا عن بلادهم وأنفسهم ضـد تسرب اليهـود مـا دام هناك إخـوان لهم يساعدون اليهود في الهجرة إلى فلسطين بطرق مختلفة. وانتقلت أسئلتهم إلى النواحي السياسية والاجتماعية والنسائية، ووفقت في إجابـاتي جميعهـا واعتقـدت مـن كـثرة هذه الأسئلة أن هؤلاء الطلبة الماكرين عندمـا وجـدوني قريبة من أعمارهم أرادوا أن يمتحنـوني ليعرفـوا مـدى اطلاعي ودراسـاتي، وعلى العموم مهما كان الأمـر فـقـد سـعدت بلقائهم كمـا كنـت مستعدة لجميع أسئلتهم.

انتهزت فرصـة هـذا الجمع الكبير فشرحت لهم مهمتنا بوصفنـا متطوعات في خدمة البيئة والمجتمع، وشرحت الأغراض التي تسعى إليها الدعاية الصهيونية والجهود التي تبذلها المرأة بعامة والخدمات التي تؤديهـا المـرأة العربية والمصرية بخاصة لقضايا بلادهـا، وكيف كان تطـور المـرأة المصرية سببًا في النهوض بالمرأة في جميـع البـلاد العربية الشقيقة، ممـا دعـى أولـوا الأمر في تلك البلاد إلى مسايرة هذه النهضة. وقـد لاقـت محـاضراتي إلى هؤلاء الشباب استحسانًا وتقديرًا، فاستقبلوني بكثير من التصفيـق تحيـة منهـم للمرأة العربية والجهود التي تبذلها في سبيل الوصول إلى النهضـة والـرقي، وقضيت مع هذا الجمع المثقف وقتا ممتعًا بالرغم من طوله وبالرغم من ارتباطي بمواعيد أخـرى بعـد لحظات.

مما استرعى انتباهي أثناء تلك المناقشات أن هؤلاء الشباب كانـوا عـلى دراية واسعة بمشاكلنا كلها، وكان يبدو عليهم الاهتمام بكل ما يتصل بمنطقة الشرق الأوسط، كما لاحظت أن لديهم العقلية الناضجة الواعية والفكر الثاقب، وربما يرجـع ذلك، فضلاً عن ثقافتهم ، إلى روح التصوف التي تغلب على حياة الهنـود.

كنـت خـلال أيـام إقامتي في بومباي موضـع حـفـاوة وتكريـم مـن الجميـع حـتى غادرتهـا عائدة إلى أرض الوطـن. وعقـب عـودتي إلى بـلادي أقـام لي الزعيـم السـوداني الجليـل المرحوم إسماعيل الأزهري حفلاً كبيرًا لجهودي في المؤتمر الآسيوي وبخاصة لموقفي في ذلك المؤتمر عندما شرحت ودافعت عن قضية السودان باعتباره وحدة مع مصر، وكنت أثناء وجـودي بالهنـد قـد تلقيـت برقيـة منـه نصها لا تنسـوا قـضيـة السـودان“.

بالرغـم مـن مـرور الأيام والسنين على تاريخ انعقاد ذلك المؤتمـر فوجئـت بخطاب تلقيته في أحـد أيـام شهر فبراير سنة 1951 مـن المسـتر جواكيـم ألفـا عـضـو الكونجرس الهندي يبلغـني فـيـه أنـه كلما تذكـر مـصـر تذكرني بالتالي، ويستعيد اللحظات التي قابلني فيها مع حرمه السيدة ألفا، ويقدر مواقفي الوطنيـة ومـا لمسه مـن حـب شعب مصر لشعب الهنـد، وأنهـي خطابـه ذاكـرًا لي أنـه قـدم سـؤالاً إلى الكونجرس الهنـدي يـوم 15 فبراير سنة 1951 يستفسر فيـه عمـا إذا كانت الهنـد ستؤيد مصر تأييدًا كاملاً مطلقًا في طلبها انسحاب القوات البريطانية من منطقة القنـاة. يكفـي هـذا الخطاب أنـه يدلـل على مدى ما لقيته من نجاح في ذلك المؤتمر، وعـن وفـاء أهـل الهنـد وحسن تبصرهم الأمـور.

هكذا تمـت رحلتي إلى الهنـد، بـلاد الحضارات العريقة والقصص الأسطورية، بعد أن فزت لصالـح بـلادي بعامـة والبلاد العربية بخاصـة بقرار من المؤتمـر الأسيوي يؤيد فيه عروبة فلسطين المطلقة، ويستنكر بشدة مطامع الصهيونية فيها في الوقت الذي تعرضت فيه منطقة الشرق الأوسط لسيطرة الجانبين الغربي والشيوعي، وكذلك ساد فيه الاستعمار جميع دول آسيا وأفريقيا. وبذلك كانت رحلـتـي نـصرًا سياسيًا كبيرًا مـا بعده نصر.

وتمضي الأيام ويبرز نشاط مسز بانديت، شقيقة الزعيـم نهـرو، وتصبح أول سيدة في العالم ترأس الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة. ولا تفوتني هذه المناسبة كي أسطر لها الرسالة مهنئة. ومـن قبـل ذلـك كـتـبـت إليها رسالة تقدير وافتخـار بمناسبة زيارتها للقاهـرة تتضمـن دعوتهـا للنزول في ضيافة الاتحاد النسائي المصري للتشاور في الأمـور التي تهم سيدات الهنـد ومـصر.

وأكتفي بنشر صورتي هاتين الرسالتين دون تعليق

4 ديسمبر ١٩٥٢

عزيزتي مسز باندیت

بالنيابة عن الاتحاد النسائي المصري يسرني جـدًا أن أعبر لـك عـن عظيـم إعجابنـا للمجهودات الرائعة والعمل العظيم الذي تقومين بـه مـن أجـل رفعـت بـلادك وآمـال الشعوب الشرقية، ولمـا كـنـا قـد سمعنا أنك في طريقك إلى الهنـد سـتمكثين بضعـة أيام في مصر لذلك فإنه يشرفنا أن تتقبلي النزول في ضيافتنـا مـدة إقامتك في القاهرة، وعضـوات نـادي الاتحاد النسائي المصري يتشرفن بالترحيب بالسيدة الجليلة وسيكنَّ فخـورات بذلك، وفي الوقت نفسـه ستسنح لنا جميعًا الفرصة للتشاور معـك بشـأن وجهات نظرنا في المشاكل المختلفة الموجودة في المنطقة، ولزيادة توثيـق الروابـط القائمة بين سيدات الهند وسيدات مصر لأنه يهمنا أن نعرف الكثير عن إخوتنـا الهـنديات.

ومع أملنا أن تتقبلي دعوتنا أكون شاكرة التفضل بإبلاغنا تاريخ وصولك إلى القاهرة.

ومع أطيب التمنيات لك خالص التقدير.

حواء إدريس

الإسكندرية في ٢٤ ديسمبر سنة 1953

عزيزتي مسز باندیت

أشعر بمزيـد مـن الـسرور أن أهنئك في انتخابك الأخير كأول سيدة لرئاسة الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، هـذا الـشـرف الـذي نلتـه مـن خـلال صفاتـك النـادرة وأعمالـك المجيـدة سـواء في المجال الوطني أو المجـال الـدولي. انتخابك كان له فرحتين في محيط الهيئات النسائية في مصر، أولاً لأن سيدة هندية انتخبت لهذا المركز المرموق، وثانيًا لأن انتخابـك بـدون شـك يـعـد انتصارًا ملحوظًا لقضيـة المـرأة خصوصًا في بلادنا الشرقية. ومن أجـل ذلـك أضـم تهنئتي الشخصية إلى تهاني سيدات الاتحاد النسائي المصري وكل نساء البلاد العربية اللاتي يرون في رئاستك الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة رمزًا لتحرر المرأة الشرقية، ولا أشك في أن المركز السامي الذي تشغلينه سوف يمكنك، كعهدنا بك دائمًا من المدافعـة عـن حرية شعوب العالم ومقاومة الضغوط الاستعمارية من أي جهة كانت، وستكون مساعدتك السريعة مطلوبة بصفة خاصة لمعاونة شعوب مراكش وتونس وفلسطين والبلاد التي مازالت تحـت الحكم الأجنبي،كذلـك شـعبنا المصري في صراعه ضد الاحتلال الانجليزي.

ونحـن نـأمـل مـن رئاسـتك للجمعية العامة للأمم المتحـدة مـا يحقـق لهذه المنظمـة العالمية نفعًـا أكـثر مـن أجـل السلام العالمي والتقـدم.

ولك يا سيدتي موفور الاحترام

حواء إدريس

عضو الاتحاد النسائي المصري

والاتحاد النسائي العربي العام

في صيف عام ١٩٥٠ مثلت الاتحاد النسائي المصري في جلسات الاتحاد النسائي الدولي التي عقدت في مدينة جينيف، وكذلـك حـضرت اجتماعات الهيئات غير الحكومية المنضمة لهيئـة الأمـم المتحدة في سراي اليونسكو بصفتـي إحـدي عضـوات الاتحـاد النساني الدولي، وهـو الاتحاد الذي انضم إليه الاتحاد النسائي المصري عام ١٩٢٣. وفي هذه الاجتماعات أديت واجـبي عـلى أحسـن مـا يـكـون سـواء بالنسبة لبلادي أو بالنسبة للهيئات النسائية العربية التي كانت قد أنابتـي عنهـا لتمثيلهـا بهـا. وكانت رئيسة الاتحاد النسائي الـدولي قد اختارتني لعضوية اللجنة الخامسة التي اختصت بدراسة مشاكل الشرق الأوسط. وقد سررت لهذا الاختيار، إذ أتاح لي فرصـة عـرض قضية اللاجئين على هذه الهيئة الدوليـة حـتى أحصـل منهـا عـلى قـرار لصالح العـرب.

أثناء توجهي إلى حيث اجتماعات اللجنة الخامسة سمعت صوتًا، فطنت إلى صاحبته يناديـني مـن بعـد أسرعـي الخطـى لأذهـب بـك إلى اللجنـة الـتي تقصدينهـا لأنهـا عـلى وشك الانعقاد“. وكانت صاحبة الصوت هي مسز سبيلر أمينة صندوق الاتحاد النسائي الدولي، وهي إنجليزية يهودية صهيونية، كانت لهـا عـدة قصص ومغامرات خلال عام ١٩٤٧ أثناء حضورهـا مـع الدكتورة حنـا ريـد رئيسة الاتحاد النسائي الدولي إلى القاهـرة لزيارة الهيئات النسائية العربية للتعرف على نشاطها، إذ رفضت جميع الدول العربية السماح بدخولهـا بلادهـا، وأبلغـت ممثليها في القاهرة برقيًـا في ذلك الوقـت بـمـا يـفيـد أنه إذا حاولـت مـسز سبيلر السفر إلى تلك الأقطار فإنها ستعرض نفسها للقبض عليها فور مغادرتها الطائرة. وكان ممثلو الأردن وسوريا ولبنان على اتصال دائم بي لإبلاغ ابنـة عمتي السيدة هدى شعراوي لإقناع تلك السيدة بعـدم المخاطرة بالسفر إلى أي مـن البلاد العربية.

ولما وصلت إلى حيث كانت تقف مسز سبيلر قلـت لهـا كيف عرفت أنني أقصـد اللجنة الخامسة؟، أجابت أعلـم أنـك لـن تشـتركي في غيرهـا إذ إن الموضوع المـدرج بجدول أعمالهـا يهمـك جدًا، ولقـد كـنـت قـد قـررت حضـور هذا الاجتماع ولكـني عدلت عـن رأيي ورأيت أن مـن الأفضـل أن أتنـازل لـك عـن مـكاني“. فقلـت لـهـا ومـا الـذي يدعوك إلى ذلك؟ أنـا لسـت في حاجة إلى أن يتنازل لي أحـد عـن مكانه في أي اجتماع لأني اعتقـد أن مكاني محفوظ دائمًا في كل لجنـة أحضرها“. ولما وصلنا إلى باب القاعة تقدمت وفتحته أمامي وأشارت لي بالدخـول قائلة: “تفضـلي يـا صغيرتي العزيزة إذ سأتركك هنا تمضين بمفردك إلى عريـن الأسـد، ولكـني لـن أخـاف عليـك فـعهـدي بـك أنـك مـن الصعـب أن تخسري معركة“. فالتفت إليهـا وأنـا أبتسم بسخرية وقلت لها: “وهـل في هـذا شـك؟ لا تنسي يـا مـدام سبيلر أنـي صاحبـة حـق“. وتركتهـا ودخلت إلى القاعة، وكـم كـانـت دهشتي حين وجدت أن كل أعضاء اللجنة من الصهاينة ولـم أجـد بينهـم عضوًا عربيًا واحـدًا يمثل أية حكومة عربية، إذ لم نكن سوى ثلاثة شرقيين أعضاء في منظمة دولية منضمة لهيئة الأمم المتحدة، رجل وسيدة من إيران وأنـا مـن مـصر.

ولما افتتحت الجلسة طلب الرئيس، وهـو عضـو بـارز في إحدى المنظمات الصهيونية العالمية الكبرى، بـأن يـتـولى أحـد الأعضـاء ترجمة المناقشات الـتي ستدور في الجلسة. وهنـا اقـترح رحـات بخاري، مدير مكتب استعلامات الأمم المتحدة بالقاهرة، والذي يشمل نشاطه منطقة الشرق الأوسط، وهـو هنـدي مسلم ، اقترح أن أتـولى أنـا أعمـال الترجمة المطلوبة لإتقـاني عـدة لغـات، فأجبتـه عـلى الـفـور إنـي لـم أحـضـر إلى هـذه اللجنـة للقيام بعمـل مترجمـة، وأنـا جئـت لأناقـش مشـاكل منطقـني، ولكـني أرى مـع الأسف الشديد أن هذه اللجنة بتشكيلها ليست مجـالاً لمناقشة تلك المشاكل لخلوها من العناصر التي يهمها معرفة الحقائق عن المنطقة، وأنـه مـن الطبيعي والأمر كذلك أن يقتصر اهتمامهـا عـلى مشاكل اليهود القاطنين في مختلف البلدان العربيـة“. فقـرر رئيس الجلسة أن يتخلى عن شرط وجـود مترجم وترك الحرية للأعضاء كل منهم يتكلم بلغته، وافتتح الجلسة على هذا الأساس.

وهنـا وقـف أحـد أعضاء اللجنـة، وهـو مـن اليهـود بطبيعـة الحـال، ووجـه سـؤالاً إلى رحـات بخاري عن سبب اضطهاد اليهود في بلادنا أثنـاء حـرب ١٩٤٨، وعن سبب عدم وصـول أخبـار هـؤلاء اليهود إلى المنظمات الصهيونية في الخـارج عـن طريـق مكتـب الأمم المتحدة الذي يمثلـه رحـات بخاري بالرغـم مـن كل المجهودات التي بذلت في هذا السبيل. نظر الأستاذ رحـات بخاري إليَّ نظرة مضطربة وأجاب على ذلك السؤال بصفة عامـة مشيرًا إلى الظروف الاستثنائية التي كانت قائمة في ذلك الوقت. إلا أننـي رفعـت يـدي أطلـب الكلمـة وقـلـت إنـني مندهشة أن يطلـب مـن مـديـر مـكـتـب هيئـة الأمم المتحدة أن ينقـل إلى هذه اللجنـة أخبـارًا عـن اضطهاد البلاد العربية لليهود، وأعتقد أن ذلك ليس من اختصاصه. ولو كان الأستاذ رحـات بخاري قـد خـاطـر وأجـاب بإجابات غير صحيحة لكنت قد رددت عليه فورًا، وكذبته إذ إنه تحـت يـدي المستندات القاطعـة الـتي تثبـت بعـض الحقائـق بما لا يقبـل مجالاً للشك أو التهرب منهـا. وكنـت أشير بذلك إلى عـدد مـن مـجلـة (بروش أورينت) لصاحبهـا أنـطـوان عسـاف نـشـر فيـه الترجمة كاملة لتقرير هيئة الصليب الأحمـر الـدولي عـن مذابح دير ياسين، وكنـت قـد ملأت حقيبتي بنسـخ مـن هـذا العـدد لتوزيعهـا عـلى مندوبات الاتحاد النسائي الدولي. ثم سألت رئيس اللجنة عما إذا كان يظن أن هيئة الأمم المتحدة قد أنشأت المكتب المشار إليـه لخدمة القضية الصهيونية في منطقة الشرق الوسط.

هنا أحسست أن نشاط اللجنـة قـد توقف، وأن زوبعـة مـا في طريقها، وتطـوع الدكتـور إيسترمان، العضو الصهيوني في المؤتمر، محاولاً إقناعي بأن استنتاجاتي لا محل لها ولا أساس لها من الصحة، وأن اهتمام المكتب يشمل الجميع. إلا أنـي أجبتـه بـأني آسفة أن أقـول إني لـم أجـد هـذا المعنى في الحديـث الـذي دار أمامـي الآن. وإزاء ذلـك لـم يستمر الاجتماع الـذي بـدأ ورفعت الجلسة.

وعندما غادرت القاعة تعقبـني الأستاذ رحـات بخاري ليقنعني بدوره أنه بريء من التهمة التي ألصقتهـا بـه وكان يبدو عليه الارتباك الشديد أثناء حديثه معي، إلا أنني رددت عليه بقولي: “عبثًا تحاول یا مستر بخاري لأن الأمور واضحة للغاية لا تحتاج إلى مزيـد مـن الشرح أو الإقناع، وتركتـه وانصرفت. ولا شـك أنـه لـم يفلح في إقناع أولى الأمر فيما بعـد حيـث تقـرر نقلـه مـن منطقة الشرق الأوسط عقـب الشكوى التي قدمتهـا بعـد عودتي من جينيف عن تصرفاته، وأعتقد أن ذلك المكتب كان سيتحول إلى مركز لمناصرة اليهود والصهيونية لو استمر مستر بخاري مديرًا لـه.

عقب ذلك اشتركت في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي كنـت قـد سافرت إلى سويسرا أصلاً لحضـوره، وقمت بعرض الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدعـو إلى الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط.

وأهم هذه الأسباب هي:

1- الاهتمام بحل قضية اللاجئين الفلسطينيين حلاً عادلاً وإيجاد علاج ناجع لوضعهم الراهن.

2- وضع حد للاحتلال العسكري في منطقة الشرق الوسط.

3- تحذير الدول الكبرى من اتباع السياسة الاستعمارية التي تتمثل في الضغط السياسي والاقتصادي على الدول الصغيرة والنامية.

4- تطبيق مبادئ حقوق الإنسان التي تنادي بها هيئة الأمم المتحدة على شعوب دول الشرق الأوسط.

5- تحريم استعمال الأسلحة الذرية ومنعها.

وقد لاقت هذه الاقتراحات اعتراضًا شديدًا من المندوبات بزعم أن الهيئة غير مختصة ببحث مثـل هـذه الموضوعات لأنها ذات صبغة سياسية، ولأن بعضهـا مـن اختصاص لجنة السلام، كما ادعين أن الوقت غير مناسب لبحثها لأن الحرب الكورية قد نشبت في ذلك الوقت.

كان أقـوى هجـوم صادفـني في هـذا المجـال مـن جـانـب المحامية الفرنسية الصهيونية أندريه ليمان، إذ كادت نظراتهـا تفترسـني مـن شـدة الغيظ والغضب لإقدامي على تقديم مثـل تـلـك الاقتراحـات في ذلك الوقت، وبخاصة الاقتراح الأول فقامـت معركـة كلاميـة حامية بيني وبينها، تبادلنـا فيهـا الاتهامات، أنهتها المحامية السويسرية عضو المؤتمر أنطوانيت كانـش إذ وقفت إلى جانبي وألزمت المحامية الفرنسية اليهودية أندريه ليمان الاعتذار لي، وقالت تلك الأخيرة وهي تعتذر أنها لم تقصد إطلاق المساس بشعوري كما أنها لم تتعـد في كلامهـا المعاني التي أدركتهـا، فقـلـت لـهـا: “لو كانت المناقشة قـد تمت بلغة غير اللغة الفرنسية لربما شككت في قدرتي على تفهم المعاني كما تزعمين ولكـن مـن سـوء حظـك يـا مـدام أني أفهم كل دقائق اللغة الفرنسية كما تفهميهـا أنـت“. وانتهـي الأمـر بـأن تمسكت بضرورة قبول افتراحـاتي ودراستها، وقدمت الأدلة والبراهين على أنهـا مـن اختصاص هذه اللجنـة، وإزاء ذلـك تـقـرر قبولهـا وإحالتها إلى المكتـب ليعمل على تحقيـق مـا يمكن تحقيقه منها في ضوء التقريـر الـذي يقـدم مـن اللجـان المختصة بمثل تلك الاقتراحـات.

وقـد تلقيت خطابًـا رقيقـا مـن الرائدة الكبيرة السيدة سـيـزا نبراوي يتضمن تشجيعًا وتعاطفًـا وتأييدًا أنقلـه فيمـا يـلي:

القاهرة في ٢١ يوليو سنة 1950

عزيزتي حواء

أحسنت يا عزيزتي الصغيرة حـواء، لقـد كـنـت رائعة وقمت بمهمـة عـلى أحسن وجـه لا أستطيع أن أعبر لـك عـن سروري وسعادتي وأنـا أقـرأ خطابيـك الطويلين المهمين للغاية والمليئين بالتفاصيل الغريبة المسلية. استطعت أن أتصـور مـن هـنـا الوجـوه الفزعة أثناء تقديمك للاقتراحات وغضب هذه اللعينة أندريه ليمان. إنني أعرفهـا جـيـدًا لالتقائنا في عدة مؤتمرات. تستطيعين أن تتصوري الآن كم كانت قاسية المعارك التي خاضتها عمتك المسكينة (تقصد السيدة هدى شعراوي) في السنين الأخيرة لكي تقنع المؤتمرات لمناصرة اقتراحاتهـا أو حتى لتدافع عنها. وصلتـني مـن مـسز كـوربـت آشـبى أخيرًا رسالة في أسلوب دبلوماسي كأسلوب السياسة البريطانيـة تقـول فيهـا إنهـا تأسـف لعـدم إمكانها الحضور إلى جينيف لتشترك في الاجتماع لاضطرارها إلى مصاحبـة زوجها إلى النرويج، وتقول إنها تؤيـد طـلـب النظر في التمييز العنصري بصوت مسموع، ولكنها تشكو مـن عـدم تقديـر بعـض الهيئات للحوادث الجارية أو اهتمامهـا بهـا بالقدر الكافي، ولكنها تعتقد أن الكثيرات منهن قمن بواجبهـن، وكمـا عـبرت أنـت جيدًا فإنهـن لا يخدمن في الحقيقة المبادئ الجميلة التي يؤمن بهـا كمـا يجـب.

كنـت أعـرف يـا عزيزتي حـواء أن وجـودك في جينيـف أثنـاء حـوادث كوريـا بصفة خاصـة بموقف حكومتنـا مـن قـرار الأمم المتحدة، سيكون دقيقًا. لابـد وأن أصدقاء الغـرب كانوا ينظرون إليـك بحـرص ولا أقـول بـعـداوة. كنت في انتظار خطاباتك لأكتـب مـن واقـع تقريرك مقالاً في الجورنال ديجيت، وإنني أرسـل لـك الكلمة التي كتبتهـا وأرسلتها لكل من جريدة الأهرام والمصري والزمان وأرجو أن تكون هذه الجرائد لبقـة فتترجـم كلمتي ترجمة جيدة وتنشرها.

بعـد سـفرك اتصلت تليفونيًا بأبـو الفـتـح لأشكره وأسـأله لمـن أرسـل بلاغـاتي ومقـالاتي فأجابـي أن أرسلها إلى شقيقه أحمـد وهـذا مـا فعلت.

لـم التـق بـعـد الدكتور صلاح الدين باشا لانشغاله في هذه الأيام بمناسبة سفره إلى أمريكا لمقابلـة سـفراء بعـض الـدول، ولكنـي سـأحاول أن أراه لأبلغـه اقتراحـك بانتـداب أحـد المندوبين المصريين الموجودين حالياً في جينيف لحضور اجتماع مكتب العمل الدولي إلى مؤتمر الهيئات غير الحكومية المنضمة لهيئة الأمم المتحدة، وسأنتهز هذه الفرصة وأقـدم لـه المقال المذكور أعلاه.

يا عزيزتي

إننا جميعًا هنـا فخورين بمآثـرك ولـن أقـصر في أن أذكـر لأعضاء الجمعيـة كل مـا قـمـت به. عزيزتي حواء

في غمار حـوادث مهمتـك الـتي أثارت اهتمامك سهي عليك أن تخبرينا عن صحتك، وهـل أنت مرتاحة في باد جشتين وهـل وجـدت هناك معارف.

أختم خطابي الطويل وأشكرك من كل قلبي يا عزيزتي حواء،

سيزا نبراوي

ملحوظة: –

الجرائد العربيـة لـم تنـشـر بعـد شـيئًا، وربمـا تأخـرت مـن أجـل الترجمة وإني منتظـرة وحـال ظهـور خـطـابي ومقـالي سأرسـل لـك.

وأذكر بهذه المناسبة أن الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس نشر في جريدة روز اليوسف مقالاً أثنى فيه على نشاط الاتحاد النسائي المصري بصفة عامة، ومـا أقـوم به بالاشتراك مع السيدة سيزا نبراوي بصفة خاصة، وذكر الكثير من مواقفي الوطنية والمؤتمرات الدولية التي مثلت بلدي فيها. فلم يسعني إلا أن أوجه إليه الشكر على تلك اللفتة الطيبة التي اعتبرتهـا خـير تأكيد وتشجيع. فما كان منـه – اعترافًا وامتنانًا – إلا أن وجه لي خطابًا أكتفي بنشر صورته دون تعليـق.

في سنة 1951 كنت لا أزال أعاني من آثار الصدمة النفسية التي أصابتني على إثـر وفـاة ابنة عمتي المرحومة السيدة هدى شعراوي. وكان لهذه الصدمة تأثيرًا بالغًا انعكس مباشرة على حالتي الصحيـة، الأمـر الـذي منعـني مـن حـضـور جلسات مؤتمر الاتحاد النسائي العربي العام الذي انعقد في دمشق في شهر يوليو سنة 1951. ولمـا جـاءت السيدة عادلة بيهم الجزائري رئيسة الاتحاد النسائي السوري إلى القاهرة بعد انتهاء المؤتمـر بـعـدة أسابيع ذهبت إلى زيارتهـا في فنـدق سميراميس. وحالما رأتني بادرتني بقولها أنا أعتـب عليـك بشدة يا عزيزتي حـواء لعدم حضـورك جلسات المؤتمر النسائي العربي العام خصوصًا وأنها المرة الأولى التي ينعقد في الشام، كما أنك تعلمين تمامًا مدى أهمية وجـودك بيننا، ليس فقط في مؤتمرات الاتحاد النسائي جميعهـا، بـل وفي الاجتماعـات الدورية للمكتب جميعها، لأننا نعتبرك بحـق خليفـة زعيمتنـا المرحومـة هـدى هانم في جميع أوجه النشاط النسائي ومجالاته في العالم العربي، ونعتمد عليـك في كافة المسائل التي تطرح للبحث في تلك الاجتماعات لخبرتك التامة بها ودراستك العمليـة لهـا عـلى مـر السنين“. حاولـت مـن جـانـبي أن أعتذر وأشرح لهـا مبررات تغيبي عن الاجتماع المذكور، ولكنها لم تتقبل اعتذاري وحملتني مسؤولية ما ينتج من عدم توفر كل العناصر ذات الخبرة في هذا المجال، ولم تتركني إلا بعد أن حصلـت مـني على وعد بالسفر إلى دمشق في أقرب فرصة للتباحث في العديد من الموضوعات المهمة ولـم أستطع أن أحقـق هـذا الوعـد إلا في صيف عام ١٩٥٤.

معاونة الفدائيين في

الإسماعيلية أكتوبر1951

في ٢١ أكتوبر سنة ١٩٥١ تصاعدت عمليات الفدائيين ضد الإنجليز في منطقة القناة، وكنت أول من زارت مدينة الإسماعيلية مندوبة من جمعية الاتحاد النسائي المصري للوقوف على حقيقة الحالة هناك، ولمعرفـة مـدى احتياجات الفدائيين لمعاونتهم ، ولتسهيل السبل المؤدية لتوفير كل متطلباتهم بمـا يـشـد أزرهـم ويتضمن استمرار عمليـات المقاومة للوصول إلى نجاح الكفاح القائم ضد الاحتلال العسكري. وبعـد ذلك رتبت برامجي على أن أقـوم أسبوعيًا مع بعض السيدات الاتحاد بزيارة المناطق التي تتواجـد فيها معسكرات الشباب للمقاومة، وكانت في مدن الزقازيق والسويس والإسماعيلية، وكنا نقضي أيامًا كاملـة في تلك المدن لتوزيـع مـا نحملـه مـن مؤن وملابس ثقيلـة مـن أغطية صوفيـة وبـول اوفـرات وشرابات لوقايتهـم مـن الـبرد.

ولحصولي على الملابس الصوفية الثقيلة قصـة طريفـة، إذ ذهبـت يومًـا إلى السيد مصطفـي نـصرت وزير الحربية في ذلك الوقـت لأشرح لـه دورنـا في الكفاح، ولأطالبـه ببعض الملابس الثقيلة الخاصة بالجيش. ولـم يتأخـر سيادته عن تلبية كل طلباتنـا، وبالرغم من إجراءاتهـا المعقدة اتصـل السيد الوزير في الحال بالضابط المسؤول عن مخازن المهمات بالقوات المسلحة وأمره بإعداد الكمية التي طلبتها حسب المواصفات التي أوضحتهـا وإرسالها في الحال. ولـم يخـب طـني إذ وفـدت إلى دارنـا في مساء ذلـك اليـوم سيارة نقـل كبيرة من سيارات الجيش مملؤة بجميـع مـا طلبتـه مـن ملابـس ومـهمات.

ولمـا كـنـت قـد رتبـت أمـري عـلى السفر إلى السويس في اليـوم التالي مباشرة لتقديـم مـا جمعنـاه مـن أمـوال لشراء الذخيرة اللازمة ولمواساة منكوبي حـي كـفـر عبـده الـذي نسفته جيوش الاحتلال لإقامة معسكرات لها على أنقاضه لمواجهة عمليات الفدائيين، فقد سهرت الليـل بطولـه أصنـف تلك المهمات التي حملتها السيارة العسكرية واستكمل ما ينقصهـا مـن خياطات أو زراير، وتمت تلك المأمورية بنجاح كامـل حسبما رسمته وتوقعته.

ولقـد كتبت جريدة الجمهور المصري في عددها الصادر بتاريخ ۱۷ ديسمبر سنة 1951 تحـت عنـوان (أربع سيدات من القاهـرة يقضيان يومـًا بـيـن أهـل كـفـر عبـده).

قالـت الجريدة:زارت السيدة حـواء إدريـس مـع بعـض فضليات السيدات منطقـة السويس وقضين يومًا كاملاً في مواساة منكوبي القرية البائسة كفـر عبـده وتوزيع الحلوى والنقود عليهم وعلى أطفالهم. وهي هنـا تصـف هذه الزيارة الموفقة وصفًا يتجلى فيـه نبـل المشاعر وصـدق الوطنية، قالت: “كنـا ونـحـن في طريقنا إلى السويس نحس بأننـا نحمـل قلـوب المصريين جميعًا إلى هؤلاء الذين هـزوا بريطانيـا وهـم عـزل مـن السـلاح، فجـردوا عليهـم أكـثر مـن عـشرة آلاف جنـدي كامـلي العتـاد، محصـين بالمصفحات والدبابات ليخرجوهـم مـن ديارهم ويبيدوا قريتهم الآمنة الوادعة. فقـد وجدناهم يعيشون في فصـول المدارس بينما ينعم الغاصبـون بـالأرض التي أخرجوهـم منها. إنني بعد هذه الزيارة اعتقدت أن من واجب كل وزيـر وكل زعيـم أن يقوم بمثـل هذه الزيارة التي لا تكلفـه شـيئًا ولكنها تشعر هؤلاء المواطنين أن وطنهم لا يمكن أن ينساهم في محنتهم. إن المبالغ التي حملناهـا إليهـم وإن كانت في نظرنا قليلـة فـقـد كانت في نظـر هـؤلاء القنوعين كباقة ورد رخيصة الثمن، جليلة المعـنى. ولقد كان مـن بين هذه المبالغ مبلغ ٤٧ جنيهًا تبرع بـه طفـل دون السابعة، ومبلغ ستة عشر جنيها تبرعت به تلميذات صغيرات، وهذا يثبـت في نفوسنا أن أبناء الوطـن قلـب واحـد وروح واحـدة، والذي أرجـوه أن تبادر الحكومة إلى تنفيـذ مـا اتخذتـه مـن قـرارات لإسعاف هـؤلاء المعذبين“.

وفي تلك الزيارات كنـا نقـوم بالتردد على المستشفيات لدراسـة حـالـة الجرحـي مـن الفدائيين فيهـا وتقديم التقارير اللازمة بمـا نـراه ونقترحـه للجهات المختصة، وكان نتيجة تلك الزيارات والتقارير سرعة إمداد هذه المستشفيات في جميع مناطق القنـال بالأدوية والأدوات الطبية اللازمـة الـتي كانت تنقصهـا.

ولقـد سجلت مجلة المصـور نبـذة عمـا نفعلـه في هـذا الخصوص في عددها الصادر بتاريخ 11 يناير سنة ١٩٥٢، وقالت:

سافرت سيدتان مـن أعضـاء الاتحاد النسائي المصري إلى الإسماعيلية يـوم السـبت الماضي وستطوفان بالزقازيق والسويس لدراسة الحالة هنـاك وتقديم التقاريـر بمـا تريانه للجهات المختصة. ومما يذكر أن تقارير سيدات الاتحاد اللائي زرن الإسماعيلية في الأشهر السابقة كان لها الفضل الكبير في إمداد المستشفى الأميري بالأدوية والأدوات التي كانت تنقصه“.

كنت أتلقى من الجرحى الكثير من الشكاوى عـن إهمالهـم وسـوء معاملتهـم وعـدم قيام المستشفيات بواجب العناية بهم، وكنت أسارع فـور ذلك بمقابلة وزير الصحة في ذلك الوقت الدكتور عبد الجواد حسين، وكذلك الدكتور محمد نصر وكيل الوزارة اللذين كانا على قمة الواجب الوطني إذ استجابا لكافة طلباتي في هذا الشأن مما حقق آمال الجرحي ومنع تكرار شكاويهم.

ولقـد كـتـبـت مجلة المصور في عددها الصادر بتاريخ 18 يناير سنة ١٩٥٢ تقـول: “أرسـل أحـد الفدائيين الجرحـي وهـو نـزيـل مستشفى الزقازيـق خطابًا إلى الاتحاد النسائي المصري شكا فيـه مـن أن إدارة المستشفى تضع جرحى المعارك في الدرجة الثالثة. وقد اتصـل الاتحاد النسائي بوزير الصحة ليأمر بالعناية بهؤلاء الأبطال ليشعروا ولـو أدبيًا بأن الحكومة تقدرهـم وتحترم بطولاتهـم“.

كما نشرت نـداًء مـن اللجنـة النسائية للمقاومة الشعبية تحـت عنـوان (معسكرات الشباب تنقصهـا الضروريات) بإمضـاء حـواء إدريس، وسيزا نبراوي، وزينـب الـغـزالي جـاء بـه: “ولمـا كانـت اللجنـة فـد أخـذت على عاتقهـا القيام بواجـب مواجهة الحالة الحاضرة وتسهيل السبل المؤدية لنجاح الكفاح القائم ضد المستعمر الغاشم، فقد قامـت بعـدة رحلات إلى منطقة القناة للوقوف على حقيقة الحـال هناك والوصـول إلى الطرق الفعالة لنجاح المقاومة. وكانـت آخـر زيارة للجنـة مدينة الزقازيق في يـوم السبت 19 يناير سنة ١٩٥٢، وكان لهذه الزيارة أثر عميق في نفوسنا لما لمسناه من روح التضحية والوطنية الصادقة بين أهـل هـذه المناطق كمـا شـعرنا بالأسف الشديد لما رأينـاه مـن تهـاون بعـض المسؤولين في واجبهـم نحـو مـن يضحون بأرواحهم الغالية في سبيل استقلال بلادهـم والاحتفاظ بكرامـة مواطنيهم. ولكـن لـم تحـرك نفـوس هـؤلاء المسؤولين تلك الأعمال المجيدة والبطولة الرائعة التي أعجب بها العالم واعترف بها الأعداء، فقد وجدنا معسكرات الشباب المجاهـد تنقصهـا حـتى الضروريات، بالرغـم مما جمع من المبالغ الطائلة لهذا الغرض السامي، وبالرغم من العهـود الـتي قطعـت لنـا مـن المسؤولين عن توزيع المبالغ المحصلـة مـن زيارتنا لهذه المنطقة في الأسبوع الأسبق لتوفير ما تحتاج إليه المعسكرات من الضروريات، فإننـا مـع الأسف الشديد لم نجد أثرًا لتنفيذ هذه الوعود. إن خطورة الموقف تتطلب السرعة والحزم في تنفيذ العون للمجاهدين وبذل كل مجهود لمساعدتهم، ذلك إذا كنا جادين حقيقة في العـزم على استقلال البلاد.

فإلى المسؤولين نتوجـه بـهـذا النـداء وأملنـا ألا يتهاونوا في سبيل مساعدة مـن أوقفـوا حياتهم في سبيل الوطن ويبذلون الروح الغالية من أجلـه وهـم صـفـوة الشباب وثـروة البلاد“.

عقب هذه الزيارات قدمت تقريرًا إلى لجنة اتحادنا قلـت فيـه إنـي تمكنـت مـن الاتصال بأسر الشهداء في الإسماعيلية والسويس، وقيدت أسماء أمهات الشهداء أعضاء شرف في لجنة المقاومة، وكنت في الإسماعيلية نواة لمركز فرعي للجنة انضمت إليه الكثيرات من سيدات المدينة وعلى رأسهن حـرم المحافظ الـتي صحبتنا في كل الزيارات التي قمنا بها.

كما قدمت تقريرًا آخر قلت فيه:

بناء على قرار اللجنة النسائية للمقاومة الصادر في 19/10/1951 بانتخابي وزميلتي للسفر إلى الإسماعيلية لدراسة الحالة بهـا ومواساة الجرحى وتقديم العزاء لعائلات الشهداء والاتصال بالمواطنات الإسماعيليات

نلخص ما قمنا به وما رأينا ملاحظته فيما يلي:

برحنـا القاهرة إلى الإسماعيلية في الصباح الباكـر مـن يـوم ٢٠ أكتوبر سنة 1951، وقـد أوقف القطـار عند النقطة العسكرية في مدخل المدينة وفتـش تفيشًا دقيقًا بمعرفة قوة عسكرية مسلحة لمقولـة وجـود أسلحة مهربة بين الركاب لأهالي الإسماعيلية. ولما وصلنا إلى المدينة وسرنا في طريقنا إلى المستشفى، ألقيناهـا وكأنهـا مـيـدان حرب لكثرة الدوريات العسكرية المسلحة وما أحيطت بـه مـن وسائل حراسة، ومـا أعـد مـن أسلاك شائكة فاصلة بين الحي الوطني والحـي الأوروبي. ولا شك أن منظـر جـنـود الاحتلال بأسلحتهم ومـا يقومـون بـه مـن حـركات عسكرية كان يستفز شعور الأهالي. ويلاحظ الزائر إلى الإسماعيلية والمدن الأخرى المحتلة أثر ذلك واضحًا مما يبـدو عـلى وجـوه الأهالي من توتر في الأعصاب وقلق دائـم وخشية من المستقبل المجهول. وعنـد وصولنا إلى المستشفى تقدمنا إلى مديره وشرحنـا لـه الغـرض مـن زيارتنا، وصحبنـا لعيادة الجرحى وكان عددهم ثلاثة وعشرين جريحًا بينهم سيدتين وطفل في السابعة من العمر. ولقـد واسيناهم وأبلغناهـم تحية اللجنة وتقديـر نسـاء مـصر لموقفهـم الوطني الرائع.

كان لزيارتنـا هـذه أكبر أثر في نفوسهم، إذ شاع على وجوههم الشاحبة البِشر والفرحـة وحمدنا الله أن وفقنـا إلى إدخال بعض السرور على هذه النفـوس الكبيرة المتألمة. هـذا مجمـل مـا قـمنـا بـه. وأنـا أسـجـل مـع الأسف الشديد بعـض الملاحظـات الـتـي نـود لـو سارعت الحكومة وتعاونت لجنتا معها في معالجتهـا فـورًا.

أولاً: لاحظنـا سـوء الحالة الغذائية للجندي المصري، وما يترتب على ذلـك مـن تدهـور حالته المعنوية إذا قورنت بحالة الجندي الإنجليزي، فهـل للحكومة أن تسرع فتوفـر على جنودنا البواسـل مـا يشعرون بـه مـن مـذلـه أمـام الجنـدي المحتل، ونحـفـظ لـه كرامتـه بمـا توليـه مـن عنايـة بغذائه ورفع مستواه الأدبي؟

ثانيًا: لاحظنا أن المستشفى الأميري الذي تكدس بالجرحى صغير جدًا وينقصه الكثير من الاستعدادات ليؤدي مـا تتطلبه الظروف الراهنة، ومـا قـد يـجـد مـن الأحـداث والطوارئ، ولـذا نرجـو أن تقـوم جمعيتنـا ومـبرة محمـد عـلي الكبير والهلال الأحمـر المصري بمـا تعودنا منهمـا في مختلف الظروف بإمداد المناطـق الـتي تـجـري فيهـا المقاومـة بمـا يعوزهـا مـن وسـائل التطبيـب والتمريض.

ثالثًا: نـرى سرعـة البـت في أمر العمال الذين رفضوا الاستمرار في العمل في معسكرات الإنجليز؛ لأن حالتهـم بـدأت تسـوء ونخشى أن تضيـق بهـم سـبـل الحيـاة فيتضـورون وعائلاتهم من الجـوع، وفي ذلـك مـا فيـه مـن الخـزي والعار، ولذلك نأمـل سرعة نجدتهم وإنقاذ عائلاتهم.

هذا وقد اتصلنا بالمواطنات الإسماعيليات لتكوين مركز نشاط لحركتنـا داخـل منطقـة المقاومة، وتقدمت إلينـا بعـض السيدات المجاهـدات فشرحنـا لهـن الفـكـرة والهـدف اللذين تألـفـت مـن أجلهمـا لجنة المقاومة النسائية، فوجدنـا منـهـن ترحيبًـا وحماسًا شديدين، ووعدن بنشر الفكرة وتكوين لجنة فرعية في القريب العاجـل تقوم بالاتصال الدائم بالمركز الرئيس بالقاهرة لتنظيم المقاومة.”

وانتهي التقرير بتوقيعي، حواء إدريس، وإلى جانبي توقيع زميلتي حكمت الغزالي.

هذه سطور سريعة استطعت أن أسجلها عـن دوري في الكفاح في منطقة القنـاة خـلال عام 1951 ومطلع عام ١٩٥٢.

كانت أمنية السيدة هدى شعراوي زعيمة النهضة النسائية في الشرق الاتصال عـن قـرب بالمرأة السودانية وتوثيـق عـرى الصداقة والألفة معها، بعد أن استطاعت – رحمها الله – أن تجمع إلى جانبها في الجهاد نساء الشرق، ولـم يبـق خـارج نطاق الاتحاد النسائي المصري إلا المرأة السودانية، بالرغم مما يربطها بأختها المصرية من روابط الأخـوة في الوطن، ولكنها توفت إلى رحمة الله قبل أن تحقق أمنيتهـا هـذه. لذلك لم أتردد لحظة عندما طلب مني مجلس إدارة الاتحاد النسائي المصري السفر إلى هذا القطر الشقيق، إذ وجدتها فرصة لتحقيق أمنيـة ابنة عمتي التي كنت أعرفها تمامًا بحكـم وجـودي معها ومعاونتها في جميع أعمالها.

وقصة سفري إلى السودان لا تخلو من طرافة ككل قصـة سـفر مفاجئ، إذ تلقى الاتحاد النسائي المصري من رئيسة الاتحاد النسائي السوداني بأم درمان، الذي تأسس لأول مرة عام ١٩٥٢، دعـوة لايفـاد مـندوبـة تمثـل اتحادنا لحضور مهرجـان (أسبوع المـرأة)، وهـو عبارة عن مهرجـان ثقـافي اجتماعي يبرز نشاط المرأة السودانية الأدبي والفني، ويتضمن دراسات وأبحاث وعرض المشاكل المختلفة المتعلقة بالمرأة، كما يشمل حلقات نقاش ثقافية واجتماعية تعالج هذه المشاكل وتضع الحلول العملية لها. وهكذا كان برنامج تلك الدعـوة الـتي شرفني اتحادنا بالانتداب لحضورهـا، بـعـد أن عارضـت بـعـض الأفكار الرجعيـة الـتـي نـادت بهـا بـعـض عضـوات مجلس إدارة جمعيتنا بالاكتفاء بالاعتذار عن قبول الدعوة وإرسال برقية شكر وتهنئة. وقـد أسست اعتراضي على أن فكرة التخلف عن هذا الاجتماع المهـم سـتعد عملاً خطيرًا غير مقبول، نظرًا للرابطة التي تربط بين شعبي مصر والسودان قوميًا وسياسيًا واقتصاديًا، كما أن الاعتذار في حد ذاته سيسبب حرجًا للمرأة السودانية إذ سيشعرها بعدم اهتمامنا بأمرهـا بمثـل هـذا القـدر الـذي لا يغتفر.

قصة سفري وكما سبق القـول لا تخلـو مـن طـرافـة. فقد وصلتنا الدعـوة متأخـرة جـدًا، وكان من المستحيل الاستعداد للسفر إلى الخارج في ظرف ساعات قلائـل مـع وجـود الصعوبات والقيود المفروضة على كل مسافر في الظروف الاستثنائية، التي كانت قائمة ولكن بالرغم من هذا كلـه فـقـد صممت على السفر لــئلا تفوتـي فـرصـة الاشتراك في المؤتمر، وإزاء ذلك كان لازمًـا عـليَّ أن أجهـز نفـسي خلال تلك الساعات القلائـل حـتى أتمكن من اللحاق بالأيام الباقية من أسبوع المرأة السوداني. ويمكن للقارئ أن يتصـور مدى الحيرة والقلق اللذين انتابـاني إذا تصـور الإجراءات التي كان من المحتم إتباعهـا، ولكن إزاء التصميم تمكنت من التغلب على كافة الصعوبات.

كانت الخطوة الأولى التوجه إلى سفارة السودان للحصول على تأشيرة دخـول، وكـم كانت دهشة الموظف المختص أن أطلب إليـه إنجـاز الإجراءات لسفري خلال ساعات معدودات، إذ أجابني وابتسامة الشـك ترتسـم عـلى أسارير وجهـه باستحالة طلبـي لعدم توفر الوقت الكافي للرجوع إلى وزارة الداخلية السودانية للحصـول عـلى الإذن المطلوب. ولكن عندمـا بلغتـه أنــي يجـب أن ألحـق أسبوع المرأة السوداني الـذي كان قد بدأ فعلاً منذ يومين، بذل جهدًا مشكورًا وعاونني مقـدرًا تلـك الظروف، وقـام بالاتصال التليفوني بالخرطوم وحصل على تصديـق دخـولي إلى السودان. وكان باقيـًا بعـد ذلك أن اقنع السلطات المصرية بمنحي تأشيرة خروج، ولـم يكـن ذلـك مـن الميسـور أيضًا، ولكنني تمكنت في النهاية من الحصول على تلك التأشيرة. وما إن حانت الساعة العاشرة مساء حتى وجدت نفسي داخل الطائرة في طريقي إلى السودان وأنا لا أستطيع أن أصـدق كـيـف تمكنـت مـن إتمام كل تلك الاستعدادات الضخمة في مثل ذلك الوقت الضيـق، بـل الضيـق جـدًا.

كان سفري في مساء يوم 4 فبراير سنة 1956، وخلال ساعات السفر القصيرة وضعـت النقاط الـتي سأتكلم عنهـا في ذلك المؤتمـر

وكانت على النحو الآتي:

1- تهنئة المرأة السودانية وشعب السودان لتحرير بلادهم ومنح المرأة حقوقها السياسية في السودان.

۲واجب المرأة عمومًا نحو وطنها وبنات جنسها في الحقلين الاجتماعي والثقافي، وبخاصة رفع مستوى الأسرة ورعاية الأمومة والطفولة.

3- نبذة عن دور الاتحاد النسائي المصري في الحركات القومية ونشاطه الاجتماعي وأثر ذلك في حياة الأمم العربية.

٤نبذة عن نشاط لجنة الشؤون الصحية للاتحاد النسائي في ميدان الطفولة والأمومة التي أتشرف برئاستها.

5- اشتراك الاتحاد النسائي في مختلف المؤتمرات الدولية والعربية.

6- كلمة ختام عن توثيق العلاقات الودية بين المرأة السودانية وأختها المصرية مع طلب انضمام الاتحاد النسائي السوداني إلى الاتحاد النسائي العربي العام، والتعريف بأن المرأة المصرية كانت السابقة دائمًا إلى جمع شمل البلاد العربية في تأسيس الاتحاد النسائي العربي العام.

ثم غفوت قيلاً وفتحـت عيـني والطائرة تهبط مطار الخرطوم في الساعة الرابعة صباح اليوم التالي حيث كان في استقبالي وفـد مـن أعضاء المؤتمر وفي مقدمته رئيسته السيدة نفيسة المليـك. وقـد كان كريمًـا مـن السيدات الحاضرات الحضـور لاستقبالي في تلـك الساعة المبكرة من الصباح، إلا أنني شعرت أنهن أردن التعبير عن تقديرهم وشكرهم تلبيتي الدعـوة نيابة عن الاتحاد النسائي المصري والاتحاد النسائي العربي العام، إذ كان اتحادنا هو الوحيد الذي لبى الدعوة من بين سبعة عشر دولة عربية وغريبة وجهت إليها الدعوات.

كان أول عمل قمـت بـه فـور وصـولي هـو زيارتي لرئيس الوزراء السيد إسماعيل الأزهـري بصحبة بعض عضـوات الاتحاد النسائي السوداني، تحقيقًا للموعد الذي كان قد تحدد مـن قبـل لمقابلة رئيس الوزراء بمكتبه بدار الرياسة.

استغرقت تلك الزيارة زهـاء نصف ساعة تناول فيها الرئيس الأزهـري الحديـث عـن مجهودات سيدات السودان، كما وجه إلىّ الشكر لمشاركة أخـواتي السودانيات في مؤتمرهن ومـا يأملـه مـن المصريات بخاصة والعربيات بعامـة مـن تآزر وتضامن. وكان يبـدو مـن حديثه إيمانه العميـق برسالة المرأة وتأييده المطلـق لـهـا لأهميـة الـدور الـذي يمكـن أن تقوم به في خدمة الوطن ورفع مستواه الاجتماعي والإنساني. كما تناول بالتقدير مجهودات اتحادنا في النهوض بالمرأة العربيـة ومـا لمسه من نشاطها في المضمار الـدولي وأثر ذلك النشاط في تعريف العالم الغربي بقضايانا وكسب الرأي العالم لصفوفنا. وبعد انتهاء تلك الزيارة عدت إلى فندق جراند أوتيـل حيـث نزلت ضيفة على حكومة السودان. وكنت أرحب بالوفـود النسائية التي كانت تأتي لتحيتي والتعارف بي.

ذهبت في مساء نفس اليوم إلى أم درمـان لزيارة السيدة حـرم الرئيس الأزهـري وفي صحبتي رئيسة المؤتمر وبعض العضوات، وقد رأيـت الـدار على خلاف مـا كنـت أتصـور باعتبارها مقرًا لرئيس الحكومة، بل لأول رئيس حكومة للسودان مستقل، كانـت الـدار عبـارة عن فيلا صغيرة مكونـة مـن طـابـق واحـد بـه ثـلاث غرف وصالة كبيرة تضـم الصالون وغرفـة المائدة. كان منزلاً متواضعـًا ولكنـه عـلى بساطته يدل على القناعـة والعظمـة المجـردة من المظاهر الكاذبة. وللرئيس الأزهـري أربـع بنـات جميلات على قسط وافـر مـن الكمـال والـظـرف. وعندمـا رأيتهـن وقـد أقبلـن لتحيـتـي قـلـت في نفـسي لعلهـن مـن البواعـث الـتـي حـدت بالرئيس إلى مناصرة قضية المـرأة.

بعـد ذلك بدأت اجتماعات أسبوع المرأة السودانية بأم درمان وكان الاجتماع الخاص بالأمومة والطفولـة شـعبيًا كبيرًا، حضره عدد كبير من النساء والرجـال والمشتغلين بالأمور الاجتماعية والنسائية، ممـا دلـل عـلى نهضة قومية ووعي عـال واهتمام عظيم بقضيـة المـرأة. وفي اليـوم التالي عقد اجتماع خـاص شبه مغلـق ضـم عـضـوات فـروع الاتحاد النسائي السوداني بالأقاليم حيث ناقش مشاكل المرأة السودانية.

خلال اليومين التاليين زرت جامعة الخرطوم ثـم عـددًا مـن المـدارس الإعدادية والثانوية. ومـن طـرائـف تـلـك الزيارات أن انتهزت ناظـرة المدرسة الثانوية للبنـات بـأم درمـان فـرصـة وجـودي وطلبـت مـني أن أتحـدث إلى طالبات السنة النهائيـة عـن الحركة النسائية في مصر والشرق، فأبديـت لهـا اسـتعدادي وفضلت أن يأخـذ ذلك الحديث شكل السؤال والجـواب. وقد دللت تلك الندوة السريعة على سعة مدارك الطالبات الناشئات واهتمامهـن بـمـا تقـوم بـه نـسـاء العـرب مـن مجـهـودات في خدمـة المـرأة، وتتبعهن الحركات النسائية في الأقطار العربية الشقيقة، وهذا بلا شك كان أكبر دليـل على وعي جديـد ظـهـر في أفـق السودان المستقل.

أمـا آخـر أيـام المؤتمـر فـقـد كان يومًـا حافلاً إذ حضره جميـع الشخصيات السودانية الكبيرة وعلى رأسها الرئيس إسماعيل الأزهري، الـذي لـم تفتـه أي جلسـة مـن جلسات المؤتمر، وكذلـك حـضره أعضـاء سـفارتنا المصرية بالخرطوم.

ألقيت في هـذا اليـوم العظيـم كلمـتـي عـن تـطـور الحركة النسائية في مصر ومـا قـامـت بـه المـرأة المصريـة مـن خـدمـات وطنية وقومية إلى جانب اهتمامها بأمـور مجتمعها. وقوبلـت كلمـتي مـن جمهور الحاضرين بكثير من التصفيق تحيـة منهـم لجهـود المـرأة ومناصرة وتأييدًا لنشاطها العظيم في خدمة بنات جنسها، وقالت لي نخبة ممتـازة مـن سيدات السودان بأنهن يعتبرن اتحادنا النسائي المصري رائدًا لأمثاله في الأقطار العربية جميعها باعتباره أقـدم اتحاد نسائي في الشرق.

ونشرت الصحف السودانية جميعها فقرات من كلمتي وبعضها قام بتلخيصها.

قالت جريدة الاستقلال في11/2/1956:

وتقدمت السيدة حـواء إدريس وألقـت كلمـة ضـافيـة تعرضـت فيهـا لنشاط الاتحـاد وضرورة التعاون بين الاتحاديـن السـوداني والمصري وربـط كفاحهمـا في سبيل تطويـر المـرأة في القطريـن الشقيقين، وقوبلت كلمتهـا بالتصفيـق الـحـاد“.

وقالت جريدة صوت السودان في 12/2/1956:

افتتحت السيدة حـواء إدريس المؤتمر وألقت خطابًا ضافيًا يعتبر سجلاً لنشاط المـرأة المصرية وتاريخها للاتحاد النسائي المصري واتصالاته بالاتحادات والحركات النسائية في العالم، وسنقدم تلخيصًا له في غير هذا المكان“.

وكتبت جريدة السودان الجديد بتاريخ 13/2/1956:

وألقت السيدة حـواء إدريس مندوبة الاتحاد النسائي المصري خطابًـا رائعًـا أكـدت فيـه تضامـن المـرأة المصريـة مـع أختهـا السـودانية. ولقـد كانت زيارة السيدة حـواء إدريس مظهرًا عمليًا للتضامن بين الشعبين الشقيقين وكانت دلالة أكيـدة على الوشائج الكفاحيـة والأخويـة الـتي تربـط شـعبي الـوادي“.

وكتبت مجلة المنار تقول:

حـواء تدعو وفدًا من السودانيات لزيارة الاتحاد النسائي المصري، وأضافت في المؤتمر الذي عقده الاتحاد النسائي في اليـوم الأخير مـن أسبوع المـرأة، وقفـت حـواء هانـم إدريس أمـام رئيـس الـوزراء والصحفيين والصحفيات وأعضاء الاتحـاد تحيي نهضـة الفتـاة السودانية وتتحدث عن الاتحاد النسائي المصري. وقـد بـدأت خطبتهـا بـيـت شعر جمع فيه كل معاني الترحيب والتعاون والتقدير، ثم هنأت السودانيات باستقلال السودان ومنحهـن الحقوق السياسية التي ستمكنهن مـن مبـاشرة الاشتراك الفعـلي في شـؤون وطنهن، ولم تنس أن تشكر الحكومة على هذه الخطوة العادلة وعلى تقديرها للمـرأة ومـا تستوجبه مكانتها في الشعب، ومـا يستوجبه الجهاد في سبيل الوطـن مـن اشتراك في شؤونه والقيام بأعبائه مع الرجـل جنبًا إلى جنب، وقـد بينت السيدة حـواء إدريس مسؤوليات المـرأة غير مبالغـة أو مفاخـرة، فمـن قيامها بالأعمال والوظائـف العامة إلى إنتاج الجيل الجديد وتربيته وتنشئته. وانتقلـت حـواء إلى الحديث عن قضية فلسطين الشقيقة التي أولتها المغفور لهـا السيدة هدى شعراوي عناية كبيرة وجهدًا عظيمًا، إذ انخرطت رحمها الله في سلك الجهاد في هذه القضية العادلة منـذ عـام ۱۹۲۹، وفي سنة 1938 عقدت المؤتمر النسائي الشرقي خصيصًا للدفاع عن فلسطين، وحضر هذا المؤتمر مندوبات من جميع البلاد العربية، واتخـذ المؤتمـر عـدة قـرارات رفعت إلى ملوك ورؤساء الدول العربية كان لها صدى كبيرًا في بلاد الغرب“.

خطبـت بـعـد ذلك الأنسة حاجـة كـاشـف، فأبرزت عددًا من القضايـا الـتي يـرى الاتحاد النسائي السوداني أنهـا تـمثـل مشـاكل النساء في السودان ومطالب الاتحاد اتجهـت إلى المطالبة بضمان حق العمل للمرأة بأجـر مسـاو لأجـر الرجل، كذلك التوسع في حقـوق المرأة السياسية بإعطـاء حـق الترشيح للانتخابات لـكل مـن تلقت قسطًا من التعليم كما اقترحت إنشاء قسم خاص في وزارة الشؤون تديره النساء للإشراف على حـل مـشاكلهن.

في هذا الاجتماع أيضًا ألقي السيد الرئيس إسماعيل الأزهري خطابًا رائعًا تضمن تأييـده لمطالب المرأة السودانية وشجعها على المضي في تنفيذ برنامجها الإصلاحي، واقترح تكوين لجنة مشتركة بين الاتحاد النسائي والمسؤولين في الحكومة لبحث المقترحـات التي قدمها الاتحـاد، ووعـد المـرأة السودانية بالاهتمام التام بقضيتهـا معتبرًا أنهـا قضية السودانيين جميعًا.

في اليـوم التالي طلـب مـني المسئولون في دار الإذاعـة السـودانية أن أعقـد نـدوة للإذاعـة على الهـواء مباشرة أقـوم فيهـا بالـرد على أسئلة عضويـن مـن أعضاء الاتحاد النسائي السوداني، همـا الآنستين ثريا إمبابي وفاطمة سعد الدين الصحفيتين، وكانت الأسئلة كلها تدور حول نشاط الاتحاد النسائي المصري سـواء في المحيط المحلي أو المحيط الدولي، وعن تكوين الاتحاد النسائي العربي العام وصلاتنـا بالاتحاد النسائي الدولي، وأثر ذلك في توجيـه المـرأة المصرية والنهوض بهـا حـتى وصلت إلى مستواها الحـالي علميًا واجتماعيًا. وقد انتهـزت هذه الفرصة، حيث كان جمهور كبير من أهـل السـودان يستمع في مختلف الأقاليم، وشرحت مهمة اتحادنا النسائي المصري، مبينـة الأغراض التي أنشئ مـن أجلهـا والجهـود الـتي قام بها، والأعمـال الـتي حققهـا والخدمـات الـتي أداها للوطن بعامة وللمرأة بخاصـة، وكيـف انعكـس تـطـور المرأة المصرية على نساء البلاد العربية الشقيقة فاقتدين بها رغبة منهـن في النهوض بشعوبهن، مما دعي أولـو الأمر في تلك البلاد إلى مساندة نسائهم تشجيعًا لهن على التحرر من القيود والعادات البالية.

من الجدير بالذكر أن الإذاعة السودانية قامت بتسجيل ذلك الحديث كاملاً، إذ اعتبرته سجلاً مهمًا لجهـود الاتحاد النسائي المصري وأعماله، ومـدى مـا أحـرزه مـن نـجـاح في خدمة الوطـن والـمـرأة العربية، وتكـرر إذاعـة ذلـك الحديـث مـرة أخـرى. ولقـد علمـت فيما بعـد من السيدات السودانيات أن كلمتي هذه لاقت استحسانًا وتقديرًا كبيريـن مـن جمهور المستمعين.

والأسئلة التي وجهت لي في تلك الندوة الإذاعية كانت كالآتي:

1- هل هذه أول زيارة لكم للسودان؟

٢ما هي أول ظاهرة استلفتت نظركم عند وصولكم للخرطوم ؟

۳کیف بدأت الحركة النسائية في مصر؟ وهل وقفت القوانين والتقاليد في سبيلها؟ وكيف ذللت مثل تلك العقبات؟

4-هل شاركت المرأة المصرية في معركة التحرير؟

5- ما رأيكم في منح المرأة حقوقها السياسية؟

6-هل تستطيع المرأة الجمع بين العمل وإدارة البيت، وبصفة خاصة بين الزوج والخدمة الاجتماعية، أو العمل على تنمية موارد الأسرة؟

7- هل أجدى أن تتكتل الهيئات النسائية في هيئة واحدة أم تنفرد كل منها بنشاطها؟

8-خلف الاستعمار لنا تركة مثقلة فنحن فقراء نعاني من الجهل والمرض، ومن عبء ثقيل من العادات الرجعية والتقاليد السخيفة، فمن أين نبدأ؟

۹ما هي الانطباعات التي خلقتها زيارتكم للسودان؟

10- ما مدى التعاون الذي يمكن أن يتم بين الهيئات النسائية في السودان والأقطار العربية من جهة والهيئات العالمية من جهة أخرى؟

11- ما رأيكم في الزي السوداني التوب؟

۱۲ما رأيكم في الاتحاد النسائي السوداني ونشاطه؟

۱۳مـا هـي ملاحظاتكـم عـن أسبوع المرأة السودانية وهـل ترين أن الغـرض الـذي مـن أجلـه أقـيـم قـد تحقق؟

١٤ما هي أهم الأعمال التي قام بها الاتحاد النسائي المصري؟

مـن أهـم انطباعـاتي عـن تلـك الرحلـة هـي أن عمـل المـرأة السودانية لـم يكـن يـتـعـدى محيط التدريس والصحافة والتمريض، وعـدد قليل جدًا منهـن مـن يعملن في الإذاعـة في ركـن المـرأة. أمـا نشـاطها في الميدان الاجتماعي فيمتاز بالحيوية والتدفق، إذ امتـد من العاصمة إلى الأقاليم، حيث انتشرت فـروع الاتحاد النسائي السوداني التي تعمـل وتجـد في نشر دعـوة الاتحـاد في أرجـاء السـودان. وسـاعـد عـلى ذلك أن معظـم رجـال السودان اهتم اهتمامًا كبيرًا، وعن إيمان منهم، بالحركة النسائية لذلك فقد شجعوها وساندوها وذللـوا المصاعب أمامهـا مما جعلها تخطـو خـطـوات سريعة نحـو التقـدم والرقي. وهكذا انتهت رحلتي الأولى السـودان، ذلك القطر الشقيق وعـدت بعدها إلى أرض الوطـن وأنـا أحـمـل لهـذا البلـد ولشعبه المضياف كل تقدير واعتزاز وافتخـار.

كُلفت في فبراير سنة 1958 مـرة أخـرى بالسفر إلى السودان لتمثيـل جمعيتنـا، جمعيـة الاتحاد النسائي المصري، في أسبوع المرأة السودانية الـذي أقامته جمعيـة الاتحـاد النسائي السوداني، وهكـذا ركبـت الطائرة المتجهة إلى الخرطوم مساء اليـوم الأول مـن شهر فبراير سنة 1958، وفي مطار الخرطوم كان في استقبالي الآنسة حاجـة كـاشـف عـلى رأس وفـد مـن أعضاء المنظمة النسائية السودانية، وأخذنا طريقنا من المطار إلى فنـدق جر اند أوتيل، حيث تقرر نـزولي ضيفة على الاتحاد النسائي السوداني، وهناك علمـت من رئيسة الاتحـاد أن الدعوة وجهت إلى كل المنظمات النسائية في دول آسيا وأفريقيا، ولكن كالعادة لم تلـب الدعوة سـوى منظمتنا المصرية.

استغرقت رحلتي الثانية إلى السودان سبعة أيام، زرت خلالهـا كثيرًا مـن المنشـآت التعليمية بالخرطوم وأم درمـان، كمـا زرت المتاحف والمؤسسات، ذلك أن برنامـج الحفلة كان حافلاً بالزيارات العامـة في الصباح وبالاجتماعات والمناقشات في المساء. ومـن الزيارات المهمة التي قمت بها زيارتي لجامعة الخرطوم والمعهـد الفـني وكليـة الزراعة بشببات، وهي قرية نموذجية خصصت للتجارب الزراعية وتربية المواشي على أحسن الطرق العلمية، وكذلك زيارتي للمتحف الصحي بالخرطوم ، ومدرسة الصحة، وكلية التمريض، ومـدارس الاتحاد النسائي بالخرطوم وأم درمان، وكليـة المعلمات، ومدرسة البنات الوسطى بكرري، وهي مدرسة نموذجية تضم قسمًا للتدريب المنزلي شيد على أحـدث طراز ملحـق بـهـا مـسرح في الهـواء الطلق وملعـب كـرة. وتصـادف أن كانت زيارتي لتلك المدرسة توافـق يـوم الذكرى الأولى لأول رجـل سـوداني نادي بتعليم الفتاة السودانية هو المرحوم الشيخ بابكـر بـدري، وأقامت مدرسة الأحفاد التي أسهم فيها حفلاً كبيرًا احتفالاً بذكـراه قدم فيها الطلبة والطالبات العديد من المناظر الفنية الحيـة، ومنهـا عـلى مـا أذكـر تمثيليـتي (على ضفاف اليرمـوك)، و(بلاط سيف الدولة). ومـن ضـمـن المظاهر الجميلة التي لفتت نظري عند زيارتي لمصنع الأحذية الضخم بالخرطوم بحـري أن شاهدت المرأة السودانية تعمـل بـه جنبًا إلى جنب مع الرجـل السوداني، ولم تفتني زيارة قبر المهدي الكبير ووضع إكليل من الزهور باسم منظمتنا عليه.

كما زرت أيضًا الإمام المهدي، وكذلك رئيس الوزراء بالنيابة السيد ميرغني حمزة اللذان تفضلا باستقبالي استقبالاً رسميًا بالرغم من انشغالهما بالانتخابات السودانية التي كانت جارية في ذلك الوقت، واحتفيا بي وأبديا اغتباطهما باشتراك مصر في المؤتمر وتقديرهما لجهـود الاتحاد النسائي المصري ونشاطه في المحيط الـدولي بعامـة والعـربي بخاصـة، وعملـه عـلى ربط الصلة وخلق التعاون بين نساء البلاد العربية كما عبرا عن تأييدهما لرسالة المرأة العربية بوجه عام ورسالة المرأة السودانية بوجه خاص.

ودُعيت إلى الكثير من الحفلات والمهرجانات، أخص منها بالذكر الحفل الساهر الـذي أقامـه الاتحاد النسائي السـوداني بنـادي الأرمـن بالخرطوم لصالح أعماله الاجتماعيـة، واليـوم الرياضي بإستاد الخرطوم الرياضي حيث ضم العديد من مختلف الفـرق مـن الجنسين، وكذلك حفل العشاء الذي أقامه لي سفير مصر بالخرطوم والسيدة حرمه ومهرجـان يـوم السـل الـذي شاهدت به تمثيلية جيدة الإخـراج عن مرضى السـل وكيفية الوقاية منه.

أعدت لي جمعية الاتحاد النسائي السوداني في يوم عطلتها، الجمعة، رحلة نيلية إلى أم دوم على الباخرة الطاهرة باخـرة الإمام المهدي، الذي تفضل بوضعها بطاقمها تحت تصرفنـا، وقضينا في تلك الرحلة يومًـا مـن أجـمـل وأمتـع الأيـام. ودعتنـا السيدة حـرم الرئيس إسماعيل الأزهري لتناول الشاي في دارهـا، وذهبنـا بعـد ذلـك وهـي برفقتنـا إلى حفل العشاء الـذي أقامتـه سيدات الاتحاد النسائي بالخرطوم بـدار الاتحاد.

كان برنامج زياري يشمل مشاهدة فـرح عروس سودانية، حيث ذهبت بصحبة سيدات الاتحاد فاستقبلتنا ببشاشة فتاتان سودانيتان عند مدخل دار العروس، وكانتا واقفتين أمـام منضدة صـفـت فوقهـا مختلـف زجاجـات العطـر، وأوقفتـني إحـدى السيدات المرافقات أمام تلك المنضدة، وقالت إن من عاداتهـن أن تتعطر المدعـوات بالعطـر الذي تتخيره. وتقدمت نحـوي في هذه اللحظة واحدة من الفتاتين، وقالت وهي تشير إلى مجموعـة مـن زجاجـات العـطـر قائلة إنهـا عطـور أوروبية، ثـم أشارت إلى مجموعـة أخـرى قائلة إنهـا عطـور سـودانية. وطلبـت مـني الاختيـار فـقـلـت عـلى الفـور إني أفضـل العطر السوداني لأني في السودان، ولم أكن أتصور أن هـذا الاختيار يسعدهن إلى مثـل ذلـك القـدر الـذي لاحظتـه، بل ويجعلهـن يصفقـن تصفيقًـا حـادًا.

أما الاجتماعات والمناقشات فقـد كانـت تتـم، كمـا قلـت مـن قبـل، بعد الظهر لأن غالبية السيدات العضوات إمـا مدرسات أو موظفات، وقد اشتركت في الاجتماع العـام الـذي عقد في دار الثقافة بالخرطوم، وكان موضوع المناقشة الصعوبات التي تواجه الحركة النسائية في القطرين، وقمت بافتتاح الاجتماع بإلقاء خطابي الذي أوضحـت فيـه تلـك الصعوبات وطرق التغلب عليهـا. وأعقب ذلـك نـدوة اشترك فيها الجمهـور الحـاضر حيث وجـه كثيرًا من الأسئلة إلى المتكلمات من الاتحاد النسائي السوداني عن المشاكل والصعوبات التي واجهت منظماتهن، ونشرت الصحف السودانية أخبار تلك الندوة في أبرز صفحاتهـا، وأخـص منهـا بالذكـر صحيفـة الـرأي العام الصادرة بتاريخ 5/2/1958 وتكملة بتاريخ 7/2/1958 وصحيفة الميدان بتاريخ 6/2/1958واقتطـف نبـذة ممـا نشرته مجلة الصباح الجديد السودانية بتاريخ 7/2/1958 عـن تلـك النـدوة لطرافتها قالت: “الحقيقة إن جـو الندوة كان عنيفًا صارخًا بالإثارة والتحدي، ولقـد صالت الآنسة حاجة كاشف وجالت في ردودهـا السريعة الحاسمة، ولكنها كانت في كثير من الأحيان تلقـم السائلين حجـارة صلدة ولـم يكـن الحـاضرون مـن الشجاعة والإقدام في شيء، نظـرًا لتلك الردود المفحمة التي كانت في الكثير وفي جملتهـا تـأتي مقنعة، وربما سافرة، وكان لمندوبتي مصر نصيب كبير في تنظيم الندوة وكان لردودهما البسيطة الظريفة أثر كبير في الاحتفاظ بروح النقاش في مستوى يقظ ومثير، إذ طردتا السأم والتثاؤب بعيدًا عن جـو النـدوة، ونادت السيدة حـواء إدريس بوجـوب مـن تشريع لبيت الطاعة للرجـل لأن المرأة لا تقـل في إدراكهـا وبيولوجيتهـا عـن الرحـل، ولـم يتفـوق الرجـل حـتى يـفـرض نفسه ويشرع لصالحه في فـرض بيت الطاعـة للمـرأة، وتحدثت السيدة ليـلى شـكري في كثير من الإيضاح عـن الـدور الذي قامت به المرأة المصرية في سبيل تدعيم نهضتها وربطه ربطًا منطقيًـا بـكل النهضات الصاعدة في العالم العربي. ولقـد تـصـدى السـيد صالح الشنقيطي حينما دخـل الحديث في حوش القضاء“. ولقـد أكثر جمهور الحاضرين من الأسئلة المعقدة الصعبة ليعـرف مـدي اطلاعنـا ودراستنا للمواضيـع الـتي نطالب بتدعيمهـا وإصلاحها، وكانت النتيجة أن أفحمنـاه بإجاباتنـا وردودنا المقنعة.

وآخـر اجتمـاع عـام لأسبوع المرأة السودانية عقد لمناقشـة بنـود وثيقـة حـقـوق المـرأة، واشترك في تلك المناقشة أعضـاء بـارزون مـن حـزب الأمة والإخـوان المسلمين والجبهـة المعارضة للاستعمار والموضوعات التي نوقشت هي:

أولاًحق المرأة في التعليم:

1- أن يـزاد عـدد مـدارس البنات في كل المراحـل حـتى يستوعب الأعـداد المتطلعـة إلى التعليم في القرى والمـدن.

۲نشر التعليم بين الكبار خصوصًا النساء في كل أنحاء السودان.

3-فتح المجال للتعليم المهني حتى تجـد أعمال المرأة مجالاً أوسع للتطور وأن تكفـل لها وسائل التشجيع من دور حضانة لأطفالها.

ثانيًاحق المرأة في العمل:

وذلك بأن تفتح لهـا مجالات العمل وتمنح الفرصة الكاملة للتدريب الفني والمهني على أن تعطى أجـرًا مساويًا للرجـل مراعاة للكفاءة والمؤهلات، كما ينظر إليها بعين الاعتبار عنـد تقرير أجازتها أثناء الحمل والوضع.

ثالثًاالحق السياسي للمرأة:

أن تمنح المرأة حقوقها السياسية كحـق الانتخاب والترشيح حـتى تشترك مع الرجـل في تكوين الحكومة التي تعمـل مـن أجـل مصالح بلادها، ولتتمكن من الدفاع عن حقوقها عن قرب كمـا تـخـدم قضية بلادها.

رابعًاحماية الأسرة والطفولة:

تكفـل للأسرة الضمانات الاجتماعية لحفظ كياتها في حالة العجز المادي، وتشرع القوانين لحماية المرأة من شبح الطلاق وتعدد الزوجات، وتنشأ الدور والمعاهد اللازمة لإيـواء اليتامى ورعاية الطفولة المشردة.

ومن الملاحظات الجديرة بالذكر أن قضية المرأة في السودان تحظى باهتمام كبير من معظم رجال الدولة الرسميين وغير الرسميين لإيمانهم بها وعدالتها، وهم يشجعونها بكل السبل تساندها الصحافة. وخلاصة القول إن المرأة السودانية تخطو إلى الأمام بخطوات واسعة راسخة نحو تحقيق آمالهـا وحل مشاكلها.

وخلال زيارتي الثانية هـذه استطعت أن أكسب ود الشعب السوداني وتقديره مما لفت نظر الجميع وبخاصـة رجـال الصحافة، وقـد سـألني أحدهـم سـؤالاً صريحًا عن كيف استطعت أن أكسب ود الشعب السوداني، فأجبت قائلة إن كسب ود الشعوب ليـس بالأمر الصعب. وكل ما هناك أنه يجب أن يكون الإنسان مهذبًا متواضعًا في معاملته صادقًا في أقواله، لا يكـون مغـرورًا ولا يحاول أن يظهر بمظهـر المتعالي على الغير دون مبرر“. وهكذا انتهت زيارتي الثانية إلى السودان وعدت إلى أرض الوطن وأنـا أحـمـل لهذا البلد أجمل الذكريات والتقدير.

من وراء كواليس المؤتمرات

عقـب اشـتراكي في أسبوع المرأة السودانية الثـاني الـذي عقـد عـام ١٩٥٨ توقفـت عـن الاشتراك في الكثير من المؤتمرات والاجتماعات، بالرغم من البرقيات والدعـوات الـتي كانـت تـرد لي وأذكر منهـا البرقيـة الـتي تلقيتهـا في ٢٥ مايـو سـنة 1965

ونصها:

السيدة حواء إدريس المكرمة القاهرة:

أسفنا جميعًا لتغيبـك عـن الاجتماع السنوي للمكتب الدائم للاتحاد النسائي العـربي العـام وحرماننـا مـن أنسـك راجيـات التعويض علينـا في ظـرف آخـر.

الرئيسة، ابتهاج قدورة

ومـن قبـل هـذه البرقية كان مجلس إدارة جمعية الاتحاد النسائي المصري قد انتخبـني في شهر إبريل سنة ١٩٦٤ لتمثيله في الاجتماع المزمع عقده في مدينة القدس بناء على الدعوة التي تلقاهـا مـن السيدة ابتهاج قدورة رئيسة الاتحاد النسائي العربي العـام تأكيدًا لدعـوة سابقة تأجـل الاجتماع فيها.

وتلقيت بهذه المناسبة برقيـة مـن السيدة نجمـة مـرزا عضـو الاتحاد النسائي الأردني نصها كالآتي:

الأخت الكريمة حواء إدريس

۱۱ شارع الأنتكخانة القاهرة

نحن بانتظاركـم حـال تشريفكـم عمّـان، رجـاء الاتصـال حـال وصولكـم برقم هاتف ٢٢٩٢١ الأردن في 11/4/1964 نجمـة محـمـد سـليـم مـرزا“.

وهيأت نفسي لذلك السـفر وأعـددت كلمـة عـن (دور المرأة في تنظيم المجتمع العـربي وتطويره). وبعد تمام الاستعداد

وكنت على وشك السفر تلقيت برقية بتاريخ 12/4/1964 نصها كالآتي:

السيدة حواء إدريس المكرمة

11 شارع الأنتكخانة القاهرة

تأخرت ردود الاتحادات لم تكتمل الأنصاب، نرجئ الاجتماع التفاصيل في البريد. ابتهاج قدورة.

وبعـد مـضي وقـت طويـل تـجـددت الدعـوة مـرة أخـرى، ذلك أنني تلقيت بتاريخ 18 يناير 1960 خطابـًا مطـولاً من السيدة ابتهاج قـدورة تحدد فيـه موعدًا جديدًا للاجتماع الذي كان قد تأجـل للأسباب التي وردت في برقيتها، ولكن استبان فيما بعد أن حقيقة أسباب تأجيل الاجتماع كانت نتيجة اعتذار الكثيرات عـن الاشتراك فيـه بسبب وجـود خلافات سياسية بين حكومة مصر وحكومة الأردن، وهو ما دفع عضوات الاتحاد النسائي المصري إلى رفض الاشتراك. ومـن ثـم كنت الوحيدة التي قبلت الاشتراك في ذلك الوقت لإيماني التام بالقانون الأساسي للاتحاد النسائي العربي العام الذي ينص في مادته الأولى على الدفـاع عـن قضية فلسطين، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تجتمع فيهـا المـرأة العربية ممثلة في منظمة دولية عربية لتسمع صوتهـا في ميدان المعركة، وظـل مـكان الاجتمـاع كـمـا هـو في مدينة القدس. ولكـن هـذه المـرة لـم أكـن الوحيـدة الـتي تمثـل الاتحاد النسائي العربي المصري، لأن الأمـور كانت قد تحسنت بين الحكومتين العربيتين وزالت الكثير من الخلافات، ومـن ثـم رأت إحـدى الزميـلات مـن عضـوات مجلـس إدارة الاتحاد أن الطريق أصبح سهلاً ميسورًا، بـل ناعمًا لا يمنعهـا مـن السـفر فانضمت إلي. ولكن، وبالرغم مـن ظـروف سـفرهـا الهـادئ لـم تـر سيادتها بـل لـم يعجبها أن أشاركها في تمثيل الاتحاد النسائي المصري في هذا الاجتماع، فاتفقـت مـع أحـد موظفـي مكتـب الدكتورة حكمـت أبـو زيـد وزيرة الشؤون الاجتماعية في ذلك الوقت على أن يرفـع اسـمي من المذكرة التي عرضت على الوزيرة للموافقة على السفر باعتبارها رغبة جمعيتنـا الـتي طلبت التصريح لنا بالاشتراك في هذا الاجتماع.

كانت النتيجـة مـا أرادت العضـوة الزميلة، إذ سافرت بمفردهـا ممثلة الاتحاد النسائي المصري في الوقت الذي كان اجتماع الاتحاد النسائي العربي العـام يضـم رئيسـات وسكرتيرات الاتحادات النسائية في البلاد العربيـة أو مـن ينـوب عنهـن.

سافرت سيادتها، بالرغـم مـن كـوني إحـدى مؤسسات المنظمة المصرية؛ بل توليـت بعـد وفاة ابنـة عمـتي المرحومـة هـدى شعراوي مكان الفقيـدة الراحلة في كافة المؤتمرات التي عقدت في مختلف الدول العربية، بعد أن تم انتخابي في اجتماع كبير عقد برئاسة السيدة ابتهـاج قدورة حضرته مندوبات الاتحادات النسائية في البلاد العربية، في دار الكتب ببيروت في أغسطس سنة ١٩٤٨، مكان الزعيمة الراحلة في حضـور هذه المؤتمرات واجتماعات المكتب الدورية، ومن ثم قمت بحمل الشعلة التي تركتها الزعيمة الخالدة أمانة في أعنـاقنا، وكان نتيجـة ذلك أن نجحـت هـذه المؤتمرات نجاحًا باهرًا واتخذت العديد مـن القـرارات المهمـة الـتي تشغل بال المـرأة واستمر نشاطي هـذا حـتى عـام 1958.

بعـد ذلك وكالعادة، تعرضـت هـذه المنظمة النسائية في السنوات الأخيرة إلى عدد من التيارات السياسية وغير السياسية التي تتنازع في المنطقة بقصـد جـعـل هـذه المنظمة أداة استغلال لمآرب كل طرف فيها، مما سبب لها نكسات كثيرة حتى أصبحت أخيرًا شبه منحلة لسوء اختيار اتحاد مصر رئيسة له دون الرجوع إلى المنظمات التي يتكـون منها الاتحاد النسائي العربي العام احتجاجًا على ذلك التصرف غير المقبـول وهـذا الاختيار الـذي لـم يصادف أهـلاً لـه.

فوجئت الوزيرة فيما بعـد بالسيدة سيزا نبراوي تبلغها بعدم سفري إلى مؤتمر القـدس، فأجـرت تحقيقًـا دقيقًـا أسـفـر عـن اللعبـة الـتي قامـت بهـا الزميلـة العضـوة وعوقـب الموظف المسؤول أشـد العقاب.

ولما حضرت إلى مصر صديقتي السيدة إميلي بشارات المحامية، التي كانت مندوبة عن الأردن والجـزء الباقي من فلسطين في ذلك الاجتماع سألتني عن سبب تخلفي عن اجتماع القدس مع أهميته وضرورة وجـودي فيـه، أجبتهـا أن ظروفًـا خـارجـة عـن إرادتي منعتـني مـن الاشـتراك، ولكنها قالت: “ظروف إيـه وجـوابـات إيـه عزيزتي حـواء، المندوبـة الـتي اختارتها جمعيتكم لم تكن في مستوى العمل الذي كلفت به مما جعل الفلسطينيات الحاضرات يستأن منها، إذ كان واضحًا أنها لم تكن تعرف شيئًا عن القضية التي جاءت لتمثـل مـصر فيها، بل اعتقد أنها لم تكن تعرف شيئًا عن المؤتمر الذي جاءت إليـه إذ لم تتقدم بأية فكـرة أو اقتراح أو حتى تشترك في مناقشة الموضوعات المدرجة في جـداول أعماله“. ومن الطبيعي أنني لـم أخاطـر بالتعقيـب عـلى هـذا الكلام حتى لا أطيل المناقشة، وحتى لا أضطر أخيرًا إلى أن أصارحهـا بحقيقة ما دار خلف الكواليس.

ومـن قبـل ذلـك أذكـر أن اثنتين من عضـوات الاتحاد النسائي المصري كانـتا قـد اشـتركتا في مؤتمر الاتحاد النسائي العربي العام الذي عقـد خـلال عام 1955 في بيروت، قد نقلتا لي أن من ضمن الموضوعات التي أثيرت في ذلك المؤتمر وجـوب إدماج الاتحاد النسائي المصري في الجمعيات النسائية المصرية الأخـرى، فأسرعـت عقب ذلك إلى الكتابة إلى السيدة ابتهاج قدورة رئيسة الاتحاد النسائي العربي العام معترضة على مجرد التفكير في مثـل ذلـك الاقتراح، وأثمـر اعتراضي ثمرته وظل اتحادنا النسائي المصري مستقلاً لـه كيانه وشخصيته على نحـو مـا رغبت مؤسسته المرحومة هدى شعراوي.

وأكتفي هنـا بنـقـل خطـاب الاعتراض وصـورة فوتوغرافية من كتاب السيدة ابتهاج قدورة ردًا عليه، الأمر الذي وضع الأمور في ميزانها ونصابها الصحيح.

القاهرة في 5 نوفمبر سنة 1955

عزيزتي السيدة ابتهاج قدورة

رئيسة الاتحاد النسائي العربي العام

بيـروت

تحيـة وشـوقًـا لـك وللعائلـة جميعًـا وأرجـو أن تكـوني عـلى مـا أتمنـاه لـك مـن الـصحـة والسعادة، وأن تكون خطاباتي التي أرسلتها لك في الصيف الماضي من الإسكندرية قـد وصلتك، لأنه حتى الآن لم يصلـني مـا يفيد ذلك، كمـا لـم يصلـي مـن وديعة أي جـواب مع أني كتبت إليها مهنئة بانتخابهـا في الاتحاد النسائي الدولي في مؤتمر كولمبو، وكان ذلك في الوقت الذي كتبت إليـك فيـه لنفس الغرض.

كان بـودي أن أكتب إليـك قبـل الآن لـولا مـا لاحظتـه مـن عـدم التشجيع، لكـن حـدث أمـس مـا حـفـزني إلى المبادرة بالكتابة، فقـد أثير أثناء اجتماع مجلس إدارة جمعيتنا الأسبوعي مـن السيدتين بهيجة رشيد وماتليـدة جريس موضوعـًا عجبـت أن يثـار مثلـه في مؤتمـر نسائي عـربي عـام والاتحاد النسائي المصري كان مؤسسًـا بـه ومـا زال الدعامة القوية الوحيدة للاتحاد النسائي العربي العام، وقد استبعدت كثيرًا أن يكـون هـذا الموضـوع يعـرض أمامـك دون أن توقفـي التيـار الـذي كان سببًا في إثارته.

وتفصيـل الموضـوع عـلى حـد قولهمـا هـو وجـوب إدماج الاتحـاد النسائي المصري في الجمعيات النسائية. وتعلمين حضرتك أن جمعيتنـا هـذه أسستها عمتي المغفور لهـا هدى شعراوي سنة ١٩٢٣ حين لم تكن بمصر والأقطار العربيـة جمعيات نسائية ذات شأن. وأن الاتحاد النسائي في أي بلد ليست ألفاظـه مكلفـة بإظهـار مدلولـه فـوقـت تسميته بهذا الاسم كان لـه نظير بهذا الاسم أيضًا في الدول الأوروبية المنطوية تحـت لـواء الاتحاد النسائي الدولي العام، الذي انضم إليـه الاتحاد النسائي المصري عام ١٩٢٣ ومازال الأمر كذلك إلى الآن، تحمل الجمعية الاسم دون أن تكـون جامعـة للجمعيات النسائية في الدولة. ومنذ سنة ١٩٢٩ والجمعية برئاسة عمتي جـادة في الدفاع عن قضية فلسطين حتى مطلع سنة ١٩٣٨، إذ دعت إلى عقد المؤتمر النسائي الشرقي للدفاع عن قضية فلسطين دفاعًـا فـعـالاً عـرف الأمـم العربيـة بخطورة هذه القضية. وكان هـذا المؤتمر جامعًا لجمعيات الاتحادات النسائية في الدول العربية،.وفي سنة ١٩٤٤ دعـت عمتي مـرة أخـرى باسم الاتحاد النسائي المصري إلى مؤتمر نسائي عربي للدفاع عن قضية المرأة العربية، وكان من نتائج هذا المؤتمر التفكير في إنشاء رابطة نسائية عربية لجمع كلمـة نساء العروبة، وانبثقـت عنـه الجامعة النسائية باسم الاتحاد النسائي العـربي العام. وكانت المادة الأولى من دستور هذه الجامعة بعـد مراجعتي لها المادة الأولى: تأسس في القاهـرة في يوم ٢١ ديسمبر سنة ١٩٤٤ مـن الاتحـادات النسائية في الأقطـار العربية مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن هيئة نسائية باسم الاتحاد النسائي العربي العـام، ومعلـوم منـذ وقتهـا أن جمعية الاتحاد النسائي المصري لـم تكن جامعـة أو شـاملة للجمعيات النسائية بمصر، فلكل جمعية مبادئها واتجاهاتهـا، ولها أن تخلع على نفسها مـا تشـاء مـن الأسماء، وإنما الاتحاد النسائي المصري كغيره من الاتحادات النسائية في العالم جمعية مستقلة لهـا مبادئهـا ولهـا قانونهـا ودستورها منـذ نـيـف وثلاثين عامًا، فإذا عـنَّ لبعـض الجمعيات المنافسة أو المتزعمـات القائمات ببعض الأعمال الاجتماعية أن يصلن إلى أغراضهن عن طريـق هـدم جمعيتنا أو العمل على تتبيعها لبعض هذه الجمعيات الخيرية فأعتقـد تمام الاعتقاد أنك لا تقريـن هـذا الأمـر ولا ترضين به، وإنـي أربـأ بـك أن يثـار أمامـك أو بأي طريقة تعلمينهـا مثـل هـذا الموضوع ولا تكونين أول المبادرات لإيقاف أية محاولـة مـن هـذا القبيل. وأرجـو إعادة اطلاعك على قانون تشكيل الاتحاد النسائي العربي العام حيث ستجدين في مـواده ما يفسر كلامي تفسيرًا واضحًا إلا إذا كنتـم قـد عدلتـم مـواد القانون المشار إليـه. فإذا كان الأمر كذلك فرجائي إرسال آخـر نسخة لقانون الاتحاد النسائي العربي العام الذي يعمل بمقتضاه الآن وفي أي تاريخ عـدل، وفي أي مؤتمر اقترح تعديله. كذلك أود أن أكـون عند حسن ظنك فابعثي إلىَّ بحقيقة ما دار في هذا الموضوع من مناقشة لأنني فهمت من مندوبتنـا أن الاتجاه يهـدف عكس الحقائق والوقائع والمنطق، وأود أن تكـوني الحكـم الذي أعتمـد علـيـه في استظهار هذه المناقشة. وأمـلي أن يصلـني مـنـك هـذه المـرة الـرد فالموضـوع جد خطير، وهـو فضلاً عن كونه مسـألة عامـة تمـس جمعيتنا في الصميم فهو مسألة خاصة بالنسبة إلىَّ، لأنه يتعلـق بـتراث كبير تركتـه لنـا عمتي التي ناضلت مـن أجـل حـريـة المـرأة وبنيان كيانها في الشرق زهاء أربعين عامًا.

وفي انتظار رد منـك يطمئن خاطـري. أبعث إليـك وإلى العائلة بتحياتي القلبية وتمنياتي الطيبة،

حواء إدريس

التطوع في لجنة سيدات الهلال الأحمر المصري سنة ١٩٤١:

تطوعت في شهر يوليو سنة ١٩٤١ في لجنـة سيدات الهلال الأحمـر المـصري، واخـتـرت التدريب على فن التمريض وانتظمت لهذا الغرض في قسم دروس التمريض، حيث تولى تدريسـه لنـا الدكتـور منصـور شـوقي، أستاذ جراحة العظام، وهـو اليـوم يعـد من مشاهير جراحي العظام في الشرق، بمعاونة زميله وصديقه الدكتور عبد الحميد أحمد، أستاذ جراحة العظام. كان الدكتـور شـوقي يـدرس لـنـا علـوم التشريح في حين يتولى الدكتور عبد الحميد شرح طرق الإسعافات الأولية الضرورية أثناء الغارات أو الحـوادث طبقًا للبرنامج الـذي أعدته جمعية الهلال الأحمر المصري في ذلك الوقت لكل المتطوعـات مـن السيدات.

كانت مجموعتنا مكونة مني ومـن الآنسات: عنايات رفعت، وفاطمة رمضان، ونعمات درويش، وعليـة بليغ، وثريا حسني ووالدتها، وغيرهن كثيرات لا يحضرني أسمائهن، وقـد ضمت دفعتنـا أربعين سيدة وآنسة، وكنا نذهب يوميًا ولمدة ستة أشهر إلى مدرسة التمريض، وفي نهاية المـدة عـقـد لنـا امتحان اجتزناه بنجـاح وحصلنـا عـلى شـهادات تمريض، مما أهلنا إلى تحمل مسئولية ذلك العمل الإنساني الجليل. وعقب تخرجنا تم توزيعنـا عـلى مختلف أقسام المستشفى للتدريب على العمل، وكان قسم الجراحة من نصيب.

ذات يـوم، جاءني الدكتـوران منصـور شـوقي وعبـد الحميـد أحـمـد وطلبـا مـني إبلاغ أحـد المصابين بـأن ثمـة عملية جراحية خطيرة ستجرى لـه في اليـوم التالي تستوجب بـتر أحـد سـاقيه. سألت الطبيبين عن سبب اختياري أنـا بالـذات لهذه المهمة المزعجـة فقالا لي إنهمـا واثقـيـن مـن حـسـن تقديـري وتصرفي لإقناع المريـض عـلى قـبول تـلـك الجراحة. ولـم أجـد بـدًا مـن أن أقبـل تلك المهمـة الشـاقة على النفس، وصحبـاني إلى عنبر المريض. ولما وصلنا إلى جـوار سريره شعرت فجأة بالحيرة تتملكني ولـم أعـرف كيـف أبـدأ حديثي معه، فنظرت إلى الدكتور منصور شوقي أستفهمه ماذا أفعل. فأشار إلي بالبدء في الحديث. جمعـت أطـراف شجاعتي ورحـت أجـاذب المريض حديثًا هادئًا سائلة إيـاه عـن حـالـه وعـن سير العلاج، وانتهزت فرصـة قولـه لي إنـه متعـب جـدًا مـن ساقه وأنـه لـم يـذق طعـم النـوم في الليلة السابقة مـن شـدة آلامه، فقلـت لـه إنـني أتيت إليـه مـع الطبيبـين مـن أجـل هـذا الأمر، إذ إن الـرأي قـد اسـتقر على العمـل عـلى شفائه، وإن ذلـك لـن يـأتي بعـد الفحوص الدقيقة التي قام بها الطبيبان إلا بعـد ضرورة إجـراء عملية جراحيـة لـه في أقرب وقـت. سكت الرجـل بـرهـة وأخـذ يـسرح بعينيـه بيـني وبين الطبيبين ثم التفت إلي وسألني عـن نـوع تلك العملية. وهنـا نظـرت مـرة أخـرى إلى الدكتـور شـوقي أستنجده فشجعني على أن أصارحـه بالحقيقة، فقلت له: “إنه يهمـك بطبيعة الحال أن تحتفظ بحياتـك مـن أجـل أسرتك وأولادك، ولمـا هـز رأسـه علامـة الإيجاب استطردت القول: “إذن مـن أجـل هـؤلاء أطلب إليك أن تتشجع وتترك للأطباء الأساتذة إجـراء عمليـة لـك وإني في غاية الأسـف أن أبلغـك أنـك مضطر إلى التخـلي عـن ساقك المريض إلى الأبد لكي تنجو بحياتك، قابل المريض ذلك الخبر بشجاعة فذة، ولم يبد عليه الانزعاج بالقدر الذي كنت أتصـوره وقال: “أنا مستعد أن أترك الأطباء يفعلون مما يشاءون بشرط واحـد هـو أن تحضري أنـت مـع الأطباء تلك العملية فهـل تعديـني بذلك؟، أجبتـه بعـد تـردد بسيط نعـم أعـدك“. وانصرفنا.

وفي اليوم التالي عندما وصلت إلى مستشفى الهلال الأحمر في الساعة الثامنة صباحًا سمعت ضوضاء في قسم الجراحة فأسرعت الخطى، وإذا بي أجـد ذلك المريض جالسًا على النقالة يتعارك مع الممرضين. وعندما رآني قـال لي: “يا سيدتي إن هـؤلاء الرجـال كانوا يريدون أن يِكَلفِتـوني قبـل حـضـورك، ولكني قاومتهـم ولـم أتركهم يدخلون في غرفة العمليات، قلـت لـه مبتسمة: “والآن هل أنت مستعد للدخول، قال: نعـم مـا دمـت هنا واقفة إلى جانبي. وظللت بجـواره حـتى تم تخديره ثم تراجعت إلى ركـن قـصي مـن الغرفة لأن وعـدي لـه كان ألا أبـارح الغرفة إلى أن تنتهي عمليتـه وينـقلـوه إلى فراشـه مـرة أخـرى، وكانت النتيجة أن كللت عمليتـه بنجـاح؛ إلا أن أعصـابي كادت تنهـار ولـم أستطع مباشرة عملي لمدة أسبوع كامل.

وكان هذا هو فدية الواجب الإنساني.

بمناسبة الحديث عن تطوعي في الهلال الأحمر المصري لإسعاف وتمريض الجرحى، فإني أتذكر حادثة صادفتـني رأيت أن أقصهـا لطرافتها ولما تضمنتـه مـن معـان إنسانية. ذلـك أنـه في صبـاح أحـد أيـام شـهر أبريـل سـنة ١٩٤١ كنـت في طريقي إلى مستشفى جمعية الهلال الأحمر المصري، وعندما انعطفت بسيارتي عند تقاطع شارع الأنتكخانة وشارع رمسيس (الملكـة سابقاً)، وجـدت تجمعًا كبيرًا حـول رجـل مسـن يـرتـدي ملابـس الرهبان وملقى على الطريق والدمـاء تنــزف منـه بـغـزارة، فأوقفت سيارتي وسألت أحـد المتجمعين وكان جنديًا إنجليزيًـا إن كان ذلك المصـاب مـا زال على قيد الحياة، فأجابني إنـه مـازال حيًـا. فطلبت إليـه أن يحملـه بمعاونة أحـد زملائه إلى سيارتي لأسرع بـه إلى المستشفى الـتي أنا في طريقي إليها. أظهـر الجنـدي الإنجليزي ارتياحًا إلى ذلك الاقتراح وشكرني وحمـل المصـاب مـع زميله ووضعـاه فـوق المقعد الخلفي للسيارة، وكان يبـدو في حالة سيئة للغايـة فـاقـدًا وعيـه، إذ إن الإصابة كانت في رأسـه. ولمـا بـدأ السائق في التحرك تقـدم أحـد جـنـود البوليس وأمسك بنافذة السيارة قائلاً:”ممنـوع نقل المصاب من مكان الحادث قبـل إتمام الإجراءات والمعاينة، فقلـت لـه: “ولكـن الـرجـل فـاقـد النطق وينزف بغزارة مـن أذنيه وأنفـه ولا يمكن أن أتركـه يـمـوت دون إسعاف، ولكنـه أصر على موقفـه ولـم يتركني أمضي بالراهب المصاب إلى المستشفى على قيـد خطـوات من المكان. وحاولت أن أقنعـه هـو الآخـر بضرورة نقل المصاب إلى مستشفى في الحال قبل أن يفارق الحياة، إلا أنه رفـض هـو أيضًا يتركني أمضي إلى المستشفى التي كنت في طريقي إليها. فتضايقـت جـدًا وقلت له: “إني لن أترك هذا المصاب يموت في الطريق كأنـه حـشرة، وإذا اعترض المحققـون عـلى تـصرفي هـذا فليأتـوا لمناقشـتي وأنـا كفيلـة بإقناعهم، لأنه ليس معقـولاً ولا مقبولاً ترك المصابين عرضة للموت في انتظار حضـور عضو النيابة للتحقيق“. وأخرجـت مـن حقيبـة يـدي إحـدى البطاقات التي تحمل اسمي وكتبت عليهـا عنـواني ورقم تليفوني وكذلـك عنـوان ورقم تليفون المستشفى وناولتهـا للضابط قائلة: “من الممكن أن يرافقني عسكري البوليس“. وهكذا مضيت بالمصاب إلى المستشفى ومعـي عسكري البوليس، وحـال وصـولي ناديـت الدكتور مصطفي الطويل أحـد أطباء الهلال الأحمر المعروفين بإنسانيته وعهـدت إليـه بالراهب المصاب فتـولى إسعافه والعناية به، وظل إلى جواره حتى مطلع الفجـر خشية انتكاس حالته. وعندما قابلني مدير المستشفى قال لي: “هل كان من الضروري إحضار ذلـك القـس الإيطالي إلى هذه المستشفى؟، فأجبته والدهشة ترتسم على وجهي أليس ذلـك القـس إنسانًا خلقة الله كغيره من البشر ؟!”.

وعندما عدت إلى منزلي بعد انتهائي مـن عمـلي قصصت على ابنة عمتي السيدة هدى المتاعـب الـتي صادفتـي حـتى تمكنـت مـن نقـل المصاب إلى المستشفى، فدهشت أن يكون الناس على هذا القدر من عدم المبالاة غير مكترثين بالمصابين أو لعـل حياتهـم رخيصة لديهم، واندفعت قائلـة يـا ابـنـتي مـازال لهـذا القسيس بقيـة مـن العمـر لأن العناية الإلهية وضعتك في طريقه. وعقب ذلك انقطعـت عـن عمـلي بالمستشفى أسبوعًا كاملاً إذ أحسست بأن أعصابي قـد تأثرت نتيجة الانفعالات والمضايقات التي صادفتني. وبالرغـم مـن ذلـك كنـت اتصـل تليفونيًا باستمرار للسـؤال عـن صحـة المصاب، فكان مدير المستشفى يجيبني بأن حالته في غاية الخطورة إلا أن الأطباء المعالجين يأملـون شفاءه. كما أخبرني مدير المستشفى أن ذلك المصاب طبقًا لبطاقته التي عثروا عليها معه إنما هو مدير معهـد سـاليزيان الإيطالي بالإسكندرية، وأن إدارة المستشفى اتصلت بالمعهـد وأبلغـت المختصين بـه عـن ذلـك الحادث، وأن ذلك المعهـد اتصـل بـدوره بفرعـه بالقاهرة بضاحية روض الفرج ليتولى رهبانـه السـؤال عنـه ونقله إلى المستشفى الإيطالي بالعباسية، إلا أن الأطباء أبلغوهم باستحالة ذلك حتى يتماثل للشفاء.

ومضت الأيـام وأنـا في زحمـة العمـل إلى أن تلقيت خطابـًا باللغة الفرنسية مـن مـديـر معهـد سـاليزيان بالقاهـرة أسطر فيمـا يـلي ترجمتـه:

معهد ساليزيان بالقاهرة

30 إبريل سنة ١٩٤١

الآنسة حواء هانم إدريس

۲ شارع قصر النيل

القاهرة

آنستي

علمـت مـن مستشفى الهلال الأحمـر بـشـارع الملكة نازلي بعملـك الطيب الكريـم نـحـو زميلنا الأبليبرو بيوندي مدير معهدنا بالإسكندرية عندما وقعـت لـه حـادث في شـارع الأنتكخانـة صبـاح يـوم الاثنين. ويهمني أن أقـدم لـك بنفسي شكري الشخصي واعترافي بجميلك وكذلك تقدير وأمتنـان محـفـل الساليزيان لـك. ومـن أجـل ذلـك توجهت مرتين إلى مركز الهلال الأحمر لمقابلتك دون أن أتمكـن مـن ذلـك، ومـن ثـم حصلـت عـلى عنوانـك مـن إدارة المستشفى.

ولهذا أبادر بالكتابة إليـك برجاء التفضل بزيارتنا إذا كان ذلك ممكنًا ودون إرهاق لك. ومـن جهـة أخـرى يـسرني أن أبلغـك أن حالة المصاب آخـذة في التحسن وأمـل الأطبـاء وطيـد بـأن يشـفي تمامًا، أرجـو يـا آنسـتي أن تتنازلي بقبـول شـكري وامتنـاني مـع عبـارات شعوري العظيم، والله يباركك،،،

المدير

الأب ج بيفانو

التطوع في جمعية الهلال الأحمر المصري1956:

عندما وقع الاعتداء عـلى مـصـر عـام 1956 لبيـت نـداء الواجب الوطـني وتطوعـت للتمريض في مستشفى جمعية الهلال الأحمر المصري، وكنـت عضـوة في لجنة السيدات حتى أستطيع أن أؤدي عملاً إنسانيًا في مضمار الخدمة الوطنية. وقبـل ذلـك التطـوع انضممت إلى مجموعة السيدات عضـوات الاتحاد النسائي المصري في تنظيم تدفـق جموع المهاجرين واستقبالهم في محطة القاهـرة. وقـد عملت في تلك المحطـة عـدة أيام متصلة حتى استدعاني الدكتور الغريني مدير مستشفى الهلال العسكري، وطلب مني مساعدة الجرحى الذين ينقلون من منطقة بورسعيد بكثرة، فانخرطت في سلك المتطوعات للتمريض. وكنـت أعمـل ليلاً ونهارًا في معظم الأيام داخل المستشفى في تجهيز أماكن للجرحى الذين يفدون في قطارات الليـل وتقديم الإسعافات العاجلة لهـم فور وصولهم، وكانت حالة البلاد في ذلك الوقت تستوجب تقديم المزيد والمزيد من الخدمات الإنسانية في مختلف الميادين. لذلك فقـد كونت كل مجموعة من السيدات وحـدة تختص بأحـد هـذه الخدمات، فاختصـت وحـدة منهـن بأعمـال معاونة الجرحي في مكاتباتهم ومراسلاتهم والأعمال الإداريـة الأخـرى، واختصـت وحـدة بالعمـل ضابـط اتصال بين أبطال بورسعيد وأسرهم، ومجموعة منهن للتبرع بدمائها، ووحـدة لقيادة السيارات، وخامسة لحياكة الملابس. وهكذا تم تدبير الأمـر مـن كافـة نواحيـه وكان من المألوف أن تـرى سيدة في الملابس البيضاء في زي التمريض لأنها كانت تؤدي واجبها في كل مكان وأينما ناداهـا الواجب الإنساني.

ومـن الحـوادث التي لا أنساها في هذا المجال، أنـني بينمـا كنـت أعمـل بالقسم الأول في المستشفى لاحظت جريحًـا قـد أهـمـل أمـره إهمـالاً شـديدًا وصـارت حالته خطيرة. وعندما استفسرت عـن أمـره مـن أحـد الأطباء علمت أن حروقـه بليغـة جـدًا، وأن حياته في خطـر وأنـه لا يمكـن التصرف في أمـره، فطلبت أن تطهـر جروحـه عـلى الأقل، إذ كانت تفـوح منهـا رائحة كريهـة لرفع معنويات ذلـك الجريـح حـتى يـقـضي الله أمـره. ولكـن السيد الطبيب سامحه الله لـم يهتم بكلامـي ومـضي إلى طريقـه. ولكـني لـم أيـأس وأشفقت على هذا الجريح المهمل، وبدأت بتنظيف فراشـه ومعاونة إحدى الممرضات الموظفات، وكذلك توليـت بـقـدر مـا استطعت تنظيف الأجـزاء الممكـن تطهيرها من جسمه، ولذلك فقـد كان من الصعـب تطهيرها أو تنظيفهـا. لمـا علمـت أن ممرضـات المستشفى الرسميات لـم يكـن يقبلن مساعدة ذلك المريض أو معاونته بسبب الرائحة التي كانت تنبعث من جراحه، طلبت أن يتقـل فـورًا إلى القسم الذي أشرف عليه، وكنت أحضر في الصباح الباكر حتى الحـق ميعاد توزيع إفطـاره فـإذا تأخرت لعـذر قهـري كـنـت وللأسف أجـد طعامه إلى جانب سريره وقـد برد، وكنت أتـولى تدفئة ذلك الطعام ثم أقف إلى جانب فراشه أطعمه لعدم تمكنـه مـن استعمال يديه، حتى إذا انتهـي منـه كنـت أعاونه أيضًـا عـلى أن يدخن سيجارته، واستمر في الحـال عـلى هـذا المنوال ليـلاً ونهارًا في فطـوره وغذائـه حـتى انقضى أسبوع، وكنـت خـلال تلك الأيام لا أكـف عـن طلب إسعافه مـن كل طبيب يصادفـني في طريقي، ولكـن الـرد لـم يكـن يختلـف أبـدًا، أنه سيمضي إلى طريق اللاعـودة وستنقضي حياتـه عـن قريب، وبين لحظة وأخـرى. ولكـني لـم أيأس أبـدًا مـن رحمـة الله، حتى حضر ذات يـوم طبيب ضابط وقـف ينظـر إليَّ في تعجـب وأنـا أساعد ذلك الجريـح عـلى تناول طعامه، وظـل هـذا الطبيب واقفًا مكانه حتى انتهى المريض من طعامه، وأخيرًا قال لي: “يا صبرك“. فما كان مني إلا أن قلـت لـه منفعلـة مـاذا تقصد بذلك؟ وهـل مـن الإنسانية أن أتـرك هـذا الجريح يموت جوعًا أيضًا؟ وهـل هـذا هـو الواجب الإنساني نحـوه، ومـن تكـون أنـت حـتـى نقـول لي هذا؟فجاءني رده بأنه الطبيب الجديد الذي عين في المستشفى، فقلت له: “إن هـذا حسن وأخـذت أسرد على مسامعه قصة ذلك الجريح وما سمعته مـن شـأنه من الأطباء المدنيين بالمستشفى، وإذا به يفاجئني بالإجابـة ذائهـا وعبارات هؤلاء الأطباء نفسها، وفي هذه اللحظة شعرت أن الغضب يتملكني وقلـت لـه: “ألا تشعر بالخجـل وأنـت عـلى هذا القدر من عدم المبالاة نحـو زميل لك في السلاح قام وضحى بحياته من أجلك وأجـل أمثالك من الأنانيين، وتستكثر عليه الآن بعض الرحمة والعناية في حالته البائسة هذه؟ حقًا إن هذا الكثير، ينم عن سلوك لا يمكن أن يغتفر مما يدعوني إلى الانسحاب مـن هـذا المكان الملعـون حـتى لا تتحطم أعصـابي مـن هـول مـا أرى وأسمع“. وتركـت هذا الطبيب وأسرعت بالانصراف بعـد أن دفعت الباب ورائي دفعة خلتهـا قـد خلعتـه من مكانه، وكانت الساعة في ذلك الوقت قد قاربت على الواحدة بعد الظهـر ولـم أعـد إلى عملي في الساعة الثانية في اليوم نفسه كالمعتاد.

في اليـوم التالي وجـدت نفـسي بدافـع مـا يـشـعـر بـه ضميري أرتـدي زي المتطوعـات وأسرع إلى المستشفى حيث تذكـرت ذلـك الجريـح البائس ينتظـرني لإطعامـه ورعايته وعندما وصلت إلى باب المستشفى وأخذت أصعـد درجات السلم أقبلت نحـوي بعـض الزميلات اللاتي سمعت المناقشة التي دارت بيني وبين ذلك الطبيب الضابط، وقلـن لي في صـوت واحـد أن لديهـن أخبـارًا سـارة، ولمـا قـلـت لهـن أنـه ليـس في هـذا المـكان الملعـون أخبارًا سارة، قلن لي إذن تفضـلي معنا لتشاهدي بنفسك ذلك الخبر السار. وساروا بي إلى المكان الذي يرقد فيه الجريح البائس إذا بي أسمع أنه نقـل بعـد انصرافي في اليوم السابق مباشرة إلى غرفة العمليات، وأجريت له عملية ترقيع وطهرت جروحـه وضمـدت وأصبح في غاية النظافة، ووجـد مـن تـتولى العناية بأمـره وتعاونـه عـلى تناول طعامه، ووجدت أن ذلك الجريح وكأن الـروح قـد دبـت فـيـه مـن جديـد واسترد نفسيته المحطمة، ولمـا جـاورت فراشـه وسـمع صـوتي، لأن الضمادات كانت تلـف وجهـه وتشمل عينيه، قال إنني أشعر الآن أنـي عـدت إنسانًا كمـا كـنـت ولـن أنـسى لـك هـذا المعـروف أبدًا“.

ومضت الأيـام وشـفي ذلـك الجريح. وفي ذات يوم أقبـل إلى منزلنـا بشـارع قصر النيل ليشكرني باسمه وباسم والدته العجوز التي لم يرهـا منـذ مدة طويلة، ولم تكن تعرف عنه شيئًا لـولا أنـي أجبرتـه عـلى الكتابة إليهـا حـتـى جـاءت مـن أقـاصي الصعيـد لزيارته بالمستشفى برفقة أخيه وزوج أختـه. وذكـرني بالموقـف الـذي وقفتـه عنـدمـا منعـوا مـن دخـول المستشفى حتى اضطررت إلى الحصـول لهـم على تصريح بالزيارة من السيد المدير، وقال لي إن حضـور والدته كان له تأثيرًا كبيرًا على حالته المعنوية، حيث كان يظن أنه سيقضي قبل أن يراهـا ولـمـا شـاهدها تشبث بالحيـاة مـن أجـل أمـه، وأن فضـل ذلك يعود لي. شكرته على عباراته الرقيقة وأبلغتـه أنـي لـم أؤد سـوى رسالة الإنسانية على وجـه يدعو إلى الارتياح.

وهكذا تمضي الأيام بي في شتى ميادين الخدمات الاجتماعية والوطنية ابتغاء رضاء ربي ووطني وضميري. كنـت أجد خـلال تلك الأيام الكثير من التأييـد الـذي شجعني على الصمود أمام الكثير من المعارضـة الـتي كنـت أصادفهـا عمـلاً مـني عـلى نصرة قضية المرأة والوصـول بنهضتها إلى أحسن المستويات. ولـن أتعـرض إلى رسائل التأييد فهي في غني عـن البيان، ولكـن رأيـت في هذا المقام أن أنـشر إحـدى الرسائل الأدبيـة الـتي تلقيتها، إذ تحتـوي تأييدًا ومعارضة في الوقت نفسه.

جاءتني تلك الرسالة من مواطـن اسـمه محمـد البرعي ويعمـل في ذلك الوقـت بـإدارة البلديات العامة بالقاهـرة….

سطر بها ما يلي:

القاهرة في 21/1/1945

آنستي المحترمة

ولا أحسبني مغاليًـا إذا قلـت لـك في صراحة أن مـا سـمعته منـك أخيرًا عن قضية المرأة ومـا أبديتيـه مـن آراء وتعليقات على نهضتها الحديثة هـو أحسـن مـا سمعت. ولكـني لا أظنك تنكرين أن هنالك خلافات جوهرية في الرأي مـا زالت قائمة بين كل من عنصري الرجال والنساء، ولكل من الفريقين آراءه التي يعتز بها ويدافع عنهـا بحـرارة وإيمـان ويحاول جهـد مـا استطاع أن يكـون الحق في جانبه. وقـد أدى هـذا الخلاف إلى قيـام جدل أفلاطـوني شهدنا لـه مـعـارك حامية الوطيس على منصات الخطابة وصفحـات الجرائد بين الرجل والمرأة، فالرجل يعتقـد تمام الاعتقاد أن حـواء هي الخاطئة التي سقطت عن عرشها منذ اليوم الأول، وسقط هو معها ثم سقطنا نحـن مـع الاثنين. وعلى النقيض تقـوم المـرأة وتحـاول أن تهـدم هـذا القـول مـا وسـعـت لهـا المعرفة وتعتقد أن آدم هـو الخاطئ الـذي عليه أن يتحمـل جـزاء مـا قـدمـت يـداه. وباعتبـاري أحد الذين يرتقبـون لها خيرًا ويعطفـون على قضية المرأة العادلة أرى مـن واجبنـا نحـن الاثنين أن نزيـل كل مـا علـق بذهنينـا مـن شـوائب أوجدتهـا الآراء المتضاربـة عـلى ضـوء مـن الجـدل النزيه، الذي يترفع عن التحزب العاطفي والانتصار للجنس. فلنبحث أولاً عن الفوارق العقلية بين الرجل والمرأة، وعلاقـة هـذه الفوارق بقضيـة اليـوم، فالرحـل ينظر إلى كل ما يحيط بـه نظـرة التعميم، أمـا المـرأة فهي تنظر دائمًـا نظـرة التخصيص؛ ولهـذا فـقـد كان مـن أخـص خصائص الرجـل أن يكافـح خـارج البيـت فاتخـذ مـن فـجـاج الأرض مسرحًا لجهاده المتواصل، والمرأة كان ميدانها دائمًا هو ساحة المنزل فنشطت فيـه وجـدت ودبـرت مـا شـاء لهـا أن تدبر، فأقامـت دولـة صغيرة بين جدرانه الأربع. فمثلاً لو تكلمت المرأة عن الحياة المنزلية خصصت حياة زميلات لهـا بالـذات وقرنته بحياتها الخاصة، أما الرجل فكثيرًا ما يتكلم في هذه الناحية من الوجهة العامة، ومن جهـة أخـرى لـو دققنا النظر لوجدنا أن المـرأة غالبًـا تفـوق الرجـل في الأشياء العملية وهـو يفوقهـا حتمًا في الأشياء النظرية. بمعنى أنها تحسن جيدًا عملية الاقتصاد وتدبير المال، وهـو يتقن إلى أبعد الحدود كيفية الحصول عليه، وربمـا حـدا بـه الأمـر إلى خلـق المشروعات الخيالية والتحايـل بشتى الوسائل على إيجاده. وقـد نلمـس هـذا الفـارق في الحروب القائمـة الآن فقـد جـعـل الرجـل للمخاطـرة، ومـا أوسع مجالهـا فتقـدم في الصفوف محاربًا مستشهدًا تحت قصف المدافع وقعقعة السيوف، وقد جعلت هي لتمريض الجرحى ومواساتهم بين جدران المستشفيات أو في مخازن المهمات الحربية لضبط عمليـة الصرف والإضافـة. ومـا أضيـق حـدود الاثنين فحيـاة الرجـل عمومـًا حيـاة خيال فمنهم الشعراء والفنانون والفلاسفة، ومـا النظريات إلا وليـدة الخيال، حـتى الثورات وأساسها الخيال المطلق يلهب أوارها الرجال، ومـا سمعنا بامرأة قادت ثـورة عالمية أو غير عالمية.

وبهذه المناسبة أذكـر وأنـا أكـتـب إلـيـك هـذا الخطـاب بـأني قـرأت منذ سنوات مقـالاً للأستاذ أحمـد أمـين بـك عـن هـذا الموضـوع جـاء فـيـه أن النساء محافظات غالبـا والرجـال أحـرارًا غالبًا، فالثـورات الاجتماعية والدينية والسياسية من الرجال أولاً لا مـن النساء، حـتى طلـب تحريـر المـرأة كان مـن قاسم أمين أولاً قبل أن يكـون مـن السيدة الجليلـة هـدى هانم شعراوي، ثم قال وإلحاد الرجال أكثر منه في النساء لأن الإلحاد ثورة والثورات السياسية وليدة الرجال لأنهـا وليـدة الخيال، وقد تحسن المـرأة الثـورة على الأزيـاء فـكـل يـوم نمـط مـن الأزياء الجديـدة مـن شـعر طويـل بعـد شـعر قصير وثوب طويـل بعـد ثـوب قصير وهكـذا ملابس وأوضـاع أنماط وأنماط، هـذا رأى أحـد الأساتذة الرجال.

ورأي الشخصي أن هـذه الفوارق الـتي ذكرتهـا أنفًـا بـين الرجـل والمـرأة يجـب أولاً أن تضمحـل وتتضاءل أو بالأحرى تختفي نهائيًـا فـلا يقـوم لـهـا قـائمـة في ظـل المساواة المنشـودة بين الرجل والمرأة.

وأظنك ستسألين نفسك دهشـة ومـا علاقـة هـذه الفوارق بقضيـة المـرأة؟ والسؤال لا يحتاج إلى جـواب إذا علمنا أن الحياة كفاح لا حدود لهـا ولا قـرار، والخيـال سـواء بسواء يقـوم عـلى أسـاس نـظـري محـض، وأن ميدانـه الفسيح قـد يتسـع لـكـل مـن الجنسين.

ولكـني أخـشي أشـواكه النابتة في أرضـه تدمـي لهـا أناملهـا الرقيقة، وأن أحجـاره الناتئـة تكـون أقـسى على قدميهـا الصغيرتين مـن الحـراب المسمومة.

وأخيرًا أظن أن وقتك لا يتسع للكتابة في هذه النقطة بالذات بأكثر من هذا، وحتى إذا مـا قـرأت هـذا بإمعـان أكـون قـد أعـددت لك رسالة أخـرى فيهـا بحـث آخـر عـن قـضيـة المرأة العادلة التي أدافع عنهـا بحـرارة وإيمان، فكمـا سبق أن قلـت لـك في أول خطابي أن الواجب علينـا نـحـن الإثنين (الرجل والمرأة) أن نزيـل كـل مـل علـق بذهنينـا مـن شـوائب أوجدتها الآراء المتضاربة على ضوء من الجدل النزيه.

وإني في انتظار ردك وإلى الأمام،

محمد البرعي

إدارة البلديات العامة

وقمت بالرد عليه بعكـس مـا تـوقـع…. وأعتقد أن ردي جـاء مفحمًا، لأنه اقتنع بـه فـلـم يعلق عليـه بعـد ذلك، ومن المؤسف أن مكتبـتي لـم تسعفني بصـورة ردي المذكور.

يعلم الجميع أنني أديت الكثير من الأعمال. ويعلـم الـداني والقاصي المصري على وجه الخصوص وكل عربي عـاصرني على وجه العموم، أنني خدمت بيئتي ومجتمعي. كل هـذا مـن أجـل بـلادي، حبـًا لـهـا وإيمانًـا مـني بحقهـا عـليَّ ودفاعًا عـن عدالة قضاياهـا. وليس في ذلـك مـن شـك. فماذا كانت النتيجة؟ ومـا الجـزاء الـذي جوزيـت بـه؟ لـم أكن أطلب جزاءً ولا شكرًا. ولكنني كنت أرجـو بـعـض التقديـر مـن مواطني، مـن أهـلي وناسي، عرفانًا منهـم بذلك المجهـود الـذي بذلتـه عـلى مـدى خمسة وثلاثين عامًا متواصلـة داخـل الوطن وخارجـه وتشجيعًا لي على المضي في هذا الطريق. ولكن كان جـزائي كجـزاء سنمار، الإساءة والنكران والجحود والنسيان.

وأذكـر إحـدى المـآسي التي تدلـل عـلى مـا أقـول.. بـل هـي في الحقيقة والواقـع قـمـة تلـك المآسي. ففي شهر يونيـو سـنة 1963 فوجئـت عـلى صفحات جريدة الأهرام بـأن قـرارًا جمهوريًـا قـد صـدر بالاستيلاء عـلى مـنزل ابنـة عمـتي المرحومـة هـدى شعراوي، ذلـك المـنـزل الـذي قـضيـت فيـه طفولـتي وشبابي، والذي كان المـأوى الوحيـد لي عـلى مـدى السنين. وكان سبب هذا الاستيلاء هـو هـدمـه وإقامـة فـنـدق مكانه، كأن البلـد قـد خـلي من الفنادق، والفنادق السياحية بالذات، التي لا تكاد تفـي بنفقاتهـا لكـثرة عددهـا، أو كأن الدنيـا قـد ضـاقـت إلا مـن رقعـة الأرض التي تحمـل ذلـك المنزل!!!!

وتوالت النكبات. فبعـد أسبوع واحـد مـن نـشـر ذلـك الخـبر تلقينـا، أنـا وأحـفـاد هـدى شعراوي قاطني ذلك المنزل، خطابًا يطلب إلينـا فيـه الجـلاء خلال خمسة عشر يومًا. ولمـا كـانـت أزمـة المساكن عـلى أشـدها وكان مـن المستحيل، بـل أشـبه بالمعجـزات أن أجـد مسكنًا في مثل هذه المدة الوجيزة، خصوصًا وقـد كنـت أعـاني مـن شـلل في النصـف الأيمـن مـن وجهي نتيجة صدمة تسببت فيهـا إحـدى الزميـلات مـن عضـوات مجلـس إدارة جمعيـة هـدى شعراوي حينمـا دافعـت عـن مبـني الجمعيـة ضـد أهـداف وزارة التربية والتعليم للاستيلاء عليه، لذلـك لـم أجـد سـوى أن أطلـب مـن الحكومـة مـد تلك المهلة حتى نتمكن مـن تدبير أمرنـا ومنعًـا مـن ألا يكون مصيرنا في الشارع. وبعـد مجهـود عنيف ومشاورات ومناقشـات قبـل المسؤولون أن تمـد المهلـة إلى شهرين بـدلاً مـن الخمسـة عشر يومًا.

ولمـا أوشـك الشهر الأول على الانقضـاء بـدأت مـن جـديـد المتاعـب والمصاعب، إذ كنا نصحـو في الصباح عـلى طرقات أحـد رجـال الشرطة يهـدد بطردنـا مـا لـم نترك المنزل في أقرب وقـت. ولـم تفلح محاولات إقناعـه بـأن المـدة مازالت متسعة وإن الأجـل لـم يحـل بعـد، ولكنه كان يجيبنـا دائمًـا ألا شـأن لـه بذلك، وأن المهـم تـرك المنزل فـورًا، يستوي في ذلك أن نجـد مسكنًا أو نفترش أرض الشارع، وكأن قلبـه قـد تـحـجـر، أو كأنـه كان يعمل طبقًا لمخطط مرسـوم ابتغاء إرهابنا للجـلاء عـن تلـك الـدار، كأن هـذه الـدار إحـدى المستعمرات!!

وخلال هذه المدة انهالت آلاف البرقيات من كل البلاد العربية والآسيوية على الرئيس السابق جمال عبد الناصر يناشدونه عـدم هـدم المنزل وتحويله إلى متحف يبرز تاريخ النهضة النسائية في مصر والحركات القومية في الشرق. بـل ذهـب بعضهم في برقياتـه إلى القول إن منزل هـدى شعراوي ليس ملكًا لمصر فقط، وإنمـا ملـك للبلاد العربية أيضًا، لأن كل الحركات الوطنية والنهضـات النسائية ولـدت فـيـه وخـرجـت منـه لتنتشر في ربوع البلاد“. وكتبت الصحف المصرية على اختلافها في هذا الموضوع بإفاضـة. ولكـن كل ذلـك لـم يكـن سـوى صرخة في واد أو حبرًا على ورق.

وبـلا رحمـة أو إنسانية أو تقديـر لأي اعتبـار، وبعدًا عـن التهديدات المتلاحقـة ورأفـة بأعصابي، خرجت من المنزل عملاً على راحة نفسي وحرصًـا مـني عـلى صحتي وأعصـابي، وقبـل نهايـة المـدة بخمسـة وعشريـن يومًـا. وأقمـت في إحـدى البنسيونات في غرفـة متواضعة، ومازلـت بهـا إلى يومنـا هـذا. وذهـب أحـفـاد هـدى شـعراوي إلى دار إحـدى مدرساتهم الأجنبيات بعـد أن عرضته عليهـم عرفانًا وحبًـا وتقديرًا، وبعـد أن افتقـدوا شعور مواطنيهم أو على الأصح بعض مواطنيهم المسؤولين!! خرجـت مـن ذلـك المنزل حيث عشت طفولتي وشبابي وأقسمت أن أحتكم إلى الرأي العام في يـوم مـن الأيـام. وهـا أنـا رأيت الفرصة سانحة في هذه المذكرات لأسجل فيهـا بعـض مـا عـانيـت ضيقًا وحرمانًـا مـمـا يـؤرق لهـا القلـوب العامة بالإيمـان.

وقـد يتساءل البعـض لمـاذا لـم أحـاول أن أطـرق آذان المسؤولين؟ ولكني أقـول، فعلت وفعلت مرارًا وتكرارًا وللأسف الشديد كانت كل هذه الآذان الصماء لا تسمع ومـن ثـم لا تستجيب، بل رأيـت بعيـني مـن يشير وسمعت من يقـول: “أنـت مـن الإقطاعيين فكفـاك ما تمتعـت بـه مـن حيـاة، وأن الأوامـر الـتي لدينـا أن نجعلـك تعانين مـن حـرمـان ونمنع عنـك كل شيء ونرفـض لـك كل طلب، إلى آخـره“. والله يعلـم كـم كانت تلك الاتهامات قاسية لأنها لم تكن تحمـل ولـو ذرة واحـدة مـن حقيقة.

والحق أن الناس في دنيانـا هـذه صنفان: الأول يعـرف الصواب ويعمـل بـه، والثاني يمضي وقتـه باحثًـا عـن أسـبـاب عـدم معرفتـه الصـواب ولا يجدهـا. ومـن المؤسـف أن يجـد الإنسان في مجتمعنـا نسبة كبيرة من الحاقدين والأشرار، بصرف النظـر عـن المعتوهين وذوي النفوس أو الميول الضعيفة. لقد علمتني التجارب الطويلة أنني مازلت في حاجة إلى أن أتعلم الكثير عن الطبائع البشرية لكي أتفهـم بالـذات أولئك الذين يسيؤون إلى الآخرين لمجرد إرضاء غريزتهم. ولقد قضيت وقتًا طويلاً كي أتعلم أن العقل والتجارب شیئان مختلفـان لا يجـب الخلط بينهمـا أبـدًا.

نـحـن الـلاتي أعطينا الكثير لمجتمعنـا وبذلنـا الكثير مـن أجـلـه نتمنى أن تنتظـم الأمـور وتنصلح الأحـوال حتى يستقر بلدنا ويصل إلى أحسـن مـا يصبو إليـه ويأملـه كل مواطـن أبي حـر يعتز بكرامتـه وشـرفـه ووطنه. وبالتالي يمكنه أن يبذل المزيد طالما لمـس تقدير بلـده لـه واعترافًـا منـه بأفعالـه، وهمـا أمـران يكسبانه قيمـة أدبيـة كبيرة بين مواطنيـه تجعله يستهين بالمصاعـب ويقبـل بنـفـس راضيـة عـلى التضحية في سبيل رفعـة بلـده. وهـذا بطبيعـة الحـال أفضـل مـن أن يعمـل في ظـل مـن شـعـور عـام مشـوب بـروح الاستهتار واللامبالاة وفقـد القيم الإنسانية، مما ينعكـس أثـره بـلا شـك عـلى الصالح العام. وأعتقد أن ذلك الأمـل ليـس ببعيد، وأن المعجزة تلك الكلمة التي تنبع مـن العـدم وتضيء فجـأة حيـاة الناس بسرعة الصاعقة وتهـدي المسافر التائـه طريقـه في الظلام آتيـه لا ريب.

بعـد اختلاطـي بشـعوب الأمـم العربية في ميادين العمل الوطني والاجتماعي ودراسـاتي لطبائعهـا، يمكن القول إن أسباب تأخـر هـذه الأمـم هي في الحقيقة متعـددة، ولكـن أساسها الجهـل المتفشي في معظمهـا، وتمـرد أفرادهـا عـلى تقبـل أي تحسن أو تقدم في أوضاعهم وحياتهم الخاصة والعامة، ومن هنا يكون من العسير جدًا لأي مصلح أن يتوصل إلى نتائج مرضية، لأنهم لا يريدون أن يعترفـوا بحاجتهم إلى مزيد من التطـور والعلم والمعرفة والتهذيب.

وأعجب ما في هذه الأوضاع الشاذة هي العلاقة بين الرجل والمرأة سواء كان ذلك بين زوجين أو بين رجل وامرأة عمومًا. إن الرجـل العـربي لـم يتعلم كيفية احترام المـرأة إذ تعـود أن ينظر إليهـا عـلى أنهـا مـجـرد قطعـة مـن أثاث البيت، ووقـت اللـزوم وسيلة لإرضـاء مزاجـه. إن الرجـل العـربي حقًـا يجـب أن يقتـل نفسـه عـارًا مـادام يكرس النساء لشهواته فقط وخادمات لـه ولرغباته، الأمر الذي يجعلهـن مسـلوبات الإرادة والشخصية، فلا يعرفن كيـف يوجهن أطفالهن أو يتصرفن في الحياة، وبذلك يشب أطفالهن ضعفاء الإرادة والشخصية مثلهن، مترددين غير ناضجي الفكر. أما التربية والتهذيب والتقويم فنصيب المجتمع العربي منهـا ضئيـل جـدًا ويرجع ذلك لعدم دراية الأمهات بأساليب تربية النشء، وبالتالي يتعرض الأطفـال لكثـير مـن مركبـات النقـص مـمـا يلازمهـم في حياتهم الاجتماعية والعملية.

إن الحياة الاجتماعيـة الـتي تعرفـت عليهـا الأمم المتحضرة المتدينـة لا وجـود لهـا في المجتمعات العربية، لأن أساس الحياة الاجتماعيـة عنـد الشعوب العربية ما عدا القلـة منها قائم على طلب المتعة فقط، ولذا أصبح عالمًا يسير من سيء إلى أسوأ. وإنقاذ العالم العربي من هذا الطريق والرجوع به إلى الحياة الاجتماعية الهادفة السامية يكاد يكـون مـن الأمـور الشاقة التي تحتاج إلى المزيد من الزمن، حـتى يـقـدر الرجـل العـربي قيمة المرأة ويضعها في مكانها المناسب، ويهتـم بروحهـا وأخلاقهـا ويبعـد عـن أفكاره الاهتمام بها كأنثى فـقـط.

مع الأسف الشديد، فإن المرأة العربية مسؤولة تمامًا عما وصل إليه اتجاه الرجـل العربي، لأنهـا تنظر إلى ذلك دون أية غضاضـة، تحتمـل سـلب إرادتها وحريتهـا وفكرهـا دون أن تـدرك حقيقـة رسالتها في هذه الحياة وقيمتها في رقي الأمـم وتمدينهـا وأثرها في تنشئة أولادها ودون أن تدرك حقيقة المثل القائل (إن وراء كل عظيـم امـرأة).

وهل هناك شك في أن الحياة ليس فيها غير أوضاع مقلوبة، أليس خمول الذكـر وسـوء التقدير والجحـود جـزاء مـن يحـرص في هذه الدنيا على الأمانة والصدق والعمل النافع وما إليهـا مـن مـكارم الأخلاق؟ أي إنسـان فـطـن راجـح العقـل نقـي الضمـير سـلم مـن الاضطهاد؟ أي عمل إنساني خـلا الطريق إليه من العقبات؟ ولـم يـلـق صاحبه ألوانـًا مـن العنت والإساءات!

أليس مـن المحتم على المجتمع أن يعطي إذا أراد أن يأخـذ مـن الفـرد جـهـدًا مـا؟ هـذه على الأقل في القاعدة التي ينبغي أن يقيم عليها كل مجتمع متمدين قاعدته. وأعتقـد أن المجتمع الذي يسلب الإنسان حقوقه الحيوية ويقوم على عنصر كريـه مـن الأنانية والجهل، ولا يحـد مـن ذلـك غـير أنانيـة أشـد وأقصى، ولذلك فلست أرى داعيًا لأن تتفـانى الواحدة منا في خدمة مجتمعها حتى لا تنال منه سوى النكران والجحود.

إنـه مـن الحقائق المحزنة في الطبيعة البشرية خصوصًا المجتمعات غير الناميـة، أن الإنسان يطغي إذا تهيأت لـه أسباب ذلـك، وهـو يـمـلي إرادتـه ونزواتـه عـلى الذين يخضعون لنفـوذه دون أن يحفـل بما يخلفـه مـن المظالم والمشاكل في سبيل الاستمتاع بشهوة النفـوذ والسطوة.

إنني أنصح كل مؤيد لمبـدأ أن لا يتحمس لذلك دون التأكيد أولاً أين يضع قدميه، وإذا أراد أن يقوم بخدمة ما فعليه أن يثـق أولاً أن يـزرع جميله في أرض طيبة، لأنـه قـد يحـز في نفس الإنسان الجحود ونكران الجميـل اللذيـن يلقاهمـا ويقتـلان في نفسـه كل حـب لخدمة مثلـه العليـا إذا كان حقًا من عشاق هذه المثل.

وأنـا عـن نـفـسي إذا عـدت مـرة أخـرى إلى هذه الدنيـا وبـدأت حيـاتي فيهـا مـن جـديـد فإنني لـن أتصرف كمـا تصرفت في الماضي، بـل سـأعرف كيـف أعامـل النـاس، لأني أعلـم الآن أن الناس لا يهتمـون سـوى بالتوافـه مـن الأمـور، ولكـن نـحـن نستحق هذا منهم، لأننا لم نحسن اختيار الطريق الذي سلكناه. لـو أنـا ملأنا الدنيا صراخًا قائلين بأننا أبطال وطنيون لـم يجـد الزمـن بمثلنا، وأننـا أتينا المعجزات دون أن نفعل شيئًا، لكننا الآن قد دخلنا التاريخ من أوسع أبوابه، وكسبنا إعجـاب مواطنينا. حقًـا، يحز في نفـس الإنسـان عـدم المبالاة الـذي يلقاه، ويقتـل فيـه كـل حـب لخدمة المثل العليا.

واليـوم، بعـد المشوار الشـاق الـذي سرناه عندما أجلس في غرفتي المتواضعة في إحـدى أحياء القاهرة، حيث أعيـش بعـد أن استولت الحكومة على منزلنا (۲ شارع قصر النيل ميدان التحرير)، لإقامـة فـنـدق سياحي مكانـه، أحـاول أن استرجع الماضي بأحداثـه المثيرة المدهشة، وأتأمل جهودنا وكفاحنا المتواصـل الـذي قـمنـا بـه مـلء الثقة والإيمان بحق بلادنا في الحرية والاستقرار، مسهمات مـن جانبنـا بـكـل مـا نملـك مـن طاقـة لـرقي وطننـا وإعلاء شأنه، مضحيات في سبيل ذلك بالشيء الكثير. ثـم أنظـر حـولي وأسـأل نفسي، هل استطعنا حقًا أن نحرر مجتمعنا من الجهل والعادات السيئة البالية؟ بعـد كل المجهـود الـذي بذلناه؟ أرى الآن أنـه مـع الأسف الشديد لـم يكـن لـدى مجتمعنا الاستعداد اللازم والاقتناع الكافي للتخلص من رواسب أجيال من التأخـر، لأنه عنيـد لا يريد التغيير حتى لو كان في صالحه. إنـه لـم يعترف بالحضارات القائمة ولم يستفد منها لإنقاذه من التخلـف. اختـار أن يعيش في عالم التـواكل واللامبالاة.

ذكريات وذكريات، بعضهـا مـر وبعضها باقة جميلة من الأزهار. عصفت بها ريح عاتية وشوهت رونقها وأصبحت غير قادرة حتى على اجتذاب الأنظار!!!

1 انظري على سبيل المثال لا الحصر:مذكرات هدى شعراوي، تقديم أمينة السعيد، دار الهلال 1981:وهدى الصدةهدى شعراوي، مذكرات امرأة مصرية, مذكرات وطن“, مذكرات هدى شعراوي دار التنوير2013: هدى الصدة و عماد أو غازي، مسيرة المرأة المصرية: علامات ومواقف، المجلس المحلي القومي للمرأة 2001؛

Sare Shara Lantrarch Cating of the veil The Life of Fuca Shaurant Egypt’s First Feminist, London, 18 Tauric 2012 Hala Kamal, “A Century of Egyptian worrent Demands: The Four Wares of the Egyptian Feminist Movement in Gender and Race Matter Global Perspectives on Reing ‘Woman 25 August 2016 522.

2 هذا التاريخ موجود على موقع مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة. ومن المرجح أن حواء أودعت أوراقها في المكتبة قبل ذلك ببضعة أعوام .

3 انظري مقالةالأوقاف والوزارةبقلم: إبراهيم الهضيبي في الشروق، لجمعة 3 أغسطس 2012

4 انظري موقع جمعية هدى شعراوي حيث ترد الإشارة إلى تغيير اسم الاتحاد النسائي إلى جمعية هدى شعراوي بأمر من جمال عبد الناصر.

5- نشرت مذكرات هدى شعراوي عن دار الهلال سنة ۱۹۸۱

6- كانت مصر في ذلك الوقت تحت الحماية التركية.

7- أدلي بهذه المعلومات اليَّ والي عمتي سعيد شامل أحد أحفاد الشيخ شامل عندما جاء لزيارتنا في مارس سنة 1935م، وهو في طريقه إلى أمريكا، وكنا نستعد في تلك الأيام لإقامة حفلة خيرية لصالح جمعية الاتحاد النسائي ، ومن ضمن البرامج منظر كنا قد استوحينا فكرته عن حياة الشراكسة وعاداتهم، ولما رآه سعيد صحح لنا بعض الوقائع.

8 طعن محمد علي جناح لتعاونه وتـأزره مع الإنجليز.

9-الجوركا هي منظمة وطنية للتدريبات العسكرية مثل حرس الفتوة.

 

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي