مُقدمة اختيار
تأتي هذه الإصدارة كخطوة مكملة لعملنا على الحقوق الجنسية والإنجابية, لبناء خطاب نسوي يرى تلك القضايا بعدسة تقاطعية، إذ لا نريد لهذا الخطاب أن يتبلور بمعزل عن الجهد الذي يبذله على الأرض أفراد ومجموعات ومنظمات معنية أيضًا بتلك القضايا. فمن خلال مقابلات شخصية أجريناها مع بعض من المنخرطات في هذا المجال، استطعنا رسم خطوط عريضة – ما زالت في طور الاكتمال – للعمل المنجز بالفعل في قضايا الحقوق الجنسية والإنجابية. ورصدنا بعض الانتقادات التي صاغتها المشتغلات بتلك القضايا, من خلال خبراتهن العملية ورؤاهن الشخصية المبنية على رصد وتحليل الآثار المحدودة للعمل القائم. وتأتي هذه الانتقادات بدافع من آمالهن الشخصية وتطلعاتهن لمسار عمل مرن وشامل وقادر على رؤية موازين القوى في سياقها المحلي. وكذلك الوعي بكم التقاطعات الموجودة تحت مظلة قضايا الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية.
وفي هذا السياق، نرى أن دور مجموعتنا النسوية هو التفاعل والاشتباك النقدي مع العمل الموجود بالفعل، عن طريق إنتاج مواد باللغة العربية عن قضايا الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية. ونرى أن إنتاج هذه المعرفة هو عمل وفعل سياسي بالأساس، إذ نحاول التعبير عن الآثار الملحقة بتلك القضايا على حيواتنا كنساء. ونحاول أن نكون جزءًا فاعلاً في بناء حركة نسوية تمتلك خطابًا سياسيا بالأساس, وغير مكتفية بالعمل التوعوي وتقديم الخدمات كأدوات وحيدة للاشتباك، دون النظر للظروف التي تنشئ وتعيد إنتاج اللامساواة الهيكلية. فالتعامل المتفق عليه ضمنيًا يحول قضايانا إلى إحصائيات وأرقام ومؤتمرات لا نحضرها، لعرض الاستنتاجات المبنية على تلك البيانات بشكل يفتقد المعالجة التي تربط وتفسر هذه القضايا في إطار الأثر الحقيقي واليومي الذي تتحمله النساء وحدهن في أغلب الأحيان. كما يغيب تفسير السياق السياسي والاقتصادي المحلي الذي تعاني منه النساء، والذي يصعب من مهمتنا في المناصرة والحديث عن تلك القضايا، وطرحها للنقاش المجتمعي وفرضها على أجندة صناع القرار. فمثلاً، لا ترى الأرقام أن هناك أمهات يقمن بإجراء عمليات الختان لبناتهن، لأن جزءًا من واجبات الأسرة هو السيطرة على الأجساد الأنثوية وتحجيم رغباتها الجنسية. وإذا فشلت الأسرة في تلك المهمة, يقع اللوم على الأم. ندرك أن ضرورة السيطرة على أجسادنا يرجع لوجودنا في نظام تراتبي، يضع النساء في مرتبة أدنى ويرى أجسادنا مساحة لهيمنة الرجال، سواء بالمراقبة أو بالتحكم أو بالعنف. وهو نظام يجبر الكثيرات منا على توريث الآلام لنساء أخريات. وهنا نرى الختان بصفته جزء من ممارسة النظام الأبوي المؤسسي، وليس مجرد ظاهرة أو عادة “خاطئة” يمكن أن يتخطاها المجتمع بحملات توعية لا تكترث لفهم التراتبية التي ينتج عنها الختان، وترى أهدافها محصورة في أعداد الحاضرين من الفئة المستهدفة وتحقيقها. قد تقلل تلك الحملات من أعداد النساء اللاتي يتعرضن للختان، لكنها لا تقدم حلول جذرية لأسس القهر الممنهج في كل مناحي حيواتنا.
كما ندعو الإطار التحليلي التنموي المهيمن على الجهود المبذولة حاليًا لاستيعاب هوياتنا المركبة التي تتحكم في مسارات حياتنا اليومية، والتي قد تعرضنا لجوانب متشابكة من القهر.
تقديم هذا الطرح من منظور نسوي تقاطعي يكشف مدى تسطيح الرؤية العامة لقضايا الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، كجزء من ممارسات النظام الأبوي الطبقي الذي يسعى لاستدامة أسسه, لكنه يضطر أحيانًا لمعالجة بعض مشكلاته بشكل سطحي. فيصبح حقنا في الاستمتاع الجنسي, بممارسته في بيئة آمنة بدون الوصم الأخلاقي، أو توفير الخدمات الصحية اللازمة في حالة احتياجنا لها, مجرد رفاهية. كما أن السردية المهيمنة حاليًا على قضايا الصحة الجنسية والإنجابية قاصرة ومضللة، وتغفل الأبعاد المختلفة التي نراها ضرورية للمساهمة في بناء الحركة، وهو أمر يرجع لتجاهل موقعية أجسادنا وعلاقتها بهوياتنا المركبة، وباختلاف امتيازاتنا وأوجه قهرنا.
فضلنا استخدام منهج المقابلات الشخصية والسرد الذاتي لكتابة تلك الورقة، لأننا نرى أن السرد الذاتي يقدم رؤية أوسع وأشمل للمسار الذي مرت به المشاركات في تلك المقابلات، ويدفعهن لتأمل دوافعهن وخبراتهن وانطباعاتهن عن تلك التجارب, التي تشكل جزءًا من واقع اجتماعي وسياسي أكبر منهن. كما تمكننا المقابلات من فهم موقعيتنا في ذلك البنيان السياسي والاجتماعي. ندرك أن ذلك الموقع تتقاطع في صناعته أنظمة مختلفة للقهر، تتداخل وتؤثر على حيواتنا اليومية وعلى تعاطينا مع أجسادنا وعلاقاتنا بها. وتبدأ أنظمة القهر هذه من ممارسة الرقابة على تحركاتنا وسلوكياتنا في الأسرة والعائلة والمجتمع، مرورًا بالمؤسسات الطبية وسلطتها على أجسادنا، ومؤسسات تشريعية أبوية تمارس عنفًا مشرَّع اجتماعيًا على تلك الأجساد من خلال القوانين التي تحد من مساحات حركتنا في الخاص والعام، وصولاً للمؤسسات الدولية التي تحصر قضايانا في أرقام وأهداف ومشاريع مصممة بمعزل تام عن متطلبات السياق المحلى الحقيقية.
بالإضافة لذلك ننشر ثلاث ترجمات لكتابات شخصية سياسية، لنساء من سياقات اجتماعية بعيدة جغرافيًا، لكنها متشابهة من حيث السياق والتحديات التي يواجهنها في عملهن. ترجمنا تلك النصوص لأننا نراها شديدة الأهمية من عدة جوانب؛ الأول هو محاولة إتاحة محتوى مكتوب باللغة العربية, يتخذ من السرد الذاتي مساحة للانعكاسات الشخصية والسياسية، إذ تشارك باميلا بريدج واتر، وهي ناشطة نسوية أمريكية مثلية سوداء، تعمل محامية وأستاذة في القانون, بمقال “تحويل الصمت: منظور شخصي, وسياسي, وتربوي، لسرديات الإجهاض“. وتروي فيه تجربتها في السرد الذاتي وعلاقته بنضالها في تحقيق العدالة الإنجابية، وكيف كان لتجربتها أثر واضح باعتبارها تجربة إيجابية، جاءت قبل حكم “رو ضد ويد” 1. وتحكي كيف ساعد سردها في رؤيتها هي وتلميذاتها لتحكم القانون في حيواتهن كنساء، وكيف يمكنهن أن يصبحن فاعلات في فهم وتطبيق القانون، عن طريق الدفاع عن والمشاركة في الحراك الداعي لإطلاق حرية الإجهاض.
وفي مقال بعنوان “جاين“، تشرح روث سيرجال ظروف تكوين تلك المجموعة الداعمة لحرية الإجهاض، وعن الأثر الذي تركته في مجتمعها. كذلك في مقابلة أُجريت مع ماري لي بندولف, تحكي عن زواجها المبكر وحملها بأول أطفالها في سن صغيرة جدًا، وكيف كانت تجربتها في التعرف على الدورة الشهرية والحمل والولادة قاسية بسبب عدم معرفتها لأي معلومات عنهم، ولأن منعها من استكمال تعليمها كان نتيجة مباشرة لحملها. تحدثت بندولف عن رغبتها الدائمة في امتلاك المعرفة، ومشاركتها مع أبنائها حتى تجنبهم المرور بنفس التجربة.
كما ننشر نصين كتبهما اثنتان ممن أجرينا معهن مقابلات شخصية, تشاركان فيهما بجانب من تجربتهما الشخصية. ويبرز في أحد المقالات اهتمام صاحبته بالبحث في تقاطع قضايا العدالة الاقتصادية والاجتماعية مع قضايا الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، والتفتيش عن المحفزات التي دفعتها للانخراط في المناصرة الدولية في البداية، ثم اهتمامها بالنظر للوضع الداخلي في مصر ورؤية أوجه انعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وأثرها على حيوات النساء. وتسرد محاولاتها المتكررة وإحباطاتها المتتالية، وكيف تعمل على تخطيها. ويتناول المقال الآخر تجربة إحداهن في تكوين مؤسسة في القاهرة الكبرى للتوعية المحلية بآثار العادات الاجتماعية الضارة، ومنها ختان الإناث وزواج القاصرات. وتتحدث فيه عن العقبات التي واجهتها في بداية عملها، وعن المقاومة المجتمعية لما كانت تحاول القيام به، وكيف سارت في هذا الطريق غير الممهد بناء على دوافع وتجربة شخصيين.
نؤمن أن علينا السعي للتعرف على تجارب من سبقننا، والتعلم من الطرق المختلفة التي تعاملن من خلالها مع التحديات التي واجهنها. فنحن لن نعيد اختراع العجلة. وهناك بالضرورة آليات تمكننا من فهم أعمق وإدراك أشمل لطبيعة العمل الذي نقوم به، وكذلك العمل بطريقة منحازة سياسيًا، لا تنظر لقضايا الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية باعتبارها قضايا منعزلة عن السياق السياسي والاجتماعي.
لذا، ندعوكن لقراءة هذه الإصدارة، والتعرف على أطروحتنا ونأمل أن تكون مساحة للتفكير في انعكاساتكن الشخصية والسياسية فيما يتعلق بالخطاب النسوي حول قضايا الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية.
أمیرة نجاتي
لم یكن الكلام أبداً لي فعلاً تلقائیاً ، إنما أحمل كلماتي في قفة أینما ذھبت، أخیطھا ببعض بتردد. كنت طفلة متلعثمة تدرس القاموس وتقرأ الكتب بحثاً عن تعابیر، تحدق في الوجوه والشفاه المتحدثة، تتبع إشارات الأجسام وترددات نغمات الحدیث، ماذا یعني كل ذلك؟ ولماذا الوحدة رغم كل تلك الكلمات؟
ما زالت اللغة تأسرني، ولكنھا سلبت مني من لم یحتمل الصمت.
علیاء علي
مصممة، الصورة المرسومة بالنسبة لي بتتعدى كونھا جمالیات، بشوفھا كمحاولة لفھم و توصیل أفكار و مشاعر اللغة المنطوقة كتیر مابتساعدناش نوصلھم.
مھا القاضي
صحفیة ودارسة للعلوم السیاسیة. مھتمة بالعلوم الاجتماعیة والقضایا المتعلقة بتطبیقاتھا، والاطلاع على المحتوى النسوي وتجارب المجتمع المدني المتعلقة بالتنمیة الاجتماعیة.
نانا أبو السعود
بتشغلھا دلالة الكلمات وبتكره بنیة الجملة وبتحب تلخبطھا، نسویة مناصرة للحقوق الجنسیة والإنجابیة.
نُھیر عماد
بضم النون، مترجمة ومحررة، مھتمة بالعلوم الإنسانیة وكل ما یتعلق باللغة العربیة عموماً.