النسوية والمنظور الإسلامي

التصنيفات: النساء والأديان
طباعة: Promotion Team

رقم الايداع:

2013/20074

الترقيم الدولي:

1-30-5895-977-978

تاريخ النشر:

2013

تأليف:

التدقيق اللغوى:

تنسيق:

لماذا نحتاج إلى نسوية من منظور إسلامي

أميمة أبو بكر

إن فكرة المطالبة بحقوق النساء من خلال الإحالة إلى القيم والمبادئ الإسلامية العليا أي الجمع بين الوعي النسوى والمنظور الإسلاميشملت عددًا من رائدات العمل النسائي في المنطقة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، مثل عائشة تيمور (١٨٤٠١٩٠٢) وزينب فواز (١٨٤٤١٩١٤) وملك حفني ناصف (١٨٨٦١٩١٨) وعائشة عبد الرحمن (۱۹۱۲۱۹۹۸) وهدى شعراوي (١٨٧٩١٩٤٧) ونظيرة زين الدين (١٩٠٨١٩٧٦)، حيث إن السعى إلى التمكين من الحقوق على خلفية ثقافية إسلامية عامة كان من البديهيات، وإن غاب عن ذلك السعي التنظير المباشر والمناهج التحليلية المتعمقة للمصادر الرئيسية والمسميات من أجل طرح رؤية تجديدية شاملة حول قضايا المرأة في منظومة الفكر والعلوم الدينية.

وقد تطورت الفكرة في العشرين عامًا الأخيرة في العالم الإسلامي من خلال تطبيق الوعي النسوي لفهم معضلة التفاوت بين رسالة الإسلام التوحيدية وترجمة قيم تلك الرسالة السامية إلى عدالة وتكافؤ فرص وشراكة على أرض الواقع بين الجنسين وإلي الأخذ في الاعتبار الكرامة الإنسانية المتساوية للمسلمات والمسلمين، ثم الاتجاه كذلك إلى استخدام المناهج النسوية التحليلية – ليس فقط – لغربلة الكثير من فكر العلوم الإسلامية من وجهة نظر المرأة المسلمة وواقع حياتها، ولكن أيضًا لفتح باب الاجتهاد لها حتي يتسنى بناء معرفة إسلامية تحيي وتؤكد معاني العدل والمساواة والشراكة، معرفة بديلة عن منطق الاستبعاد والتمييز والأفضلية الذي شاب خطابات التراث وطرق استنباط العلماء للأحكام، الذين رغم براعتهم العلمية وجهدهم في تحري الشريعة ما كانوا إلا نتاج عصورهم، وكان من الطبيعي أن يتأثروا بثقافات هذه العصور، ومن الطبيعي أيضًا ألا يهتموا بتأسيس المكانة الواحدة المتساوية للرجال والنساء. لذا حان وقت تعبير المنظومة الإسلامية عن هذه العدالة والمساواة في المكانة والقدرات والحقوق الأساسية وتكافؤ الفرص.

إن الدافع الرئيسي وراء توجهات البحث النسوي الإسلامي اليوم هو تفعيل المبادئ والمقاصد العليا لإنتاج معرفة نسوية في نطاق الإسلام وبه، معرفة تنقض الأبوية السلطوية والتحيز في خطابات وتفسيرات التراث ثم تعيد بناء رؤية إصلاحية جديدة تلبي احتياجات النساء داخل مجتمعاتهن وثقافاتهن. يتم هذا بداية عن طريق استخلاص معانٍ فاعلة محددة من مبادئ الحقوق الإنسانية المتضمنة في النص القرآني لبناء نظام من الإصلاحات القانونية / الفقهية للتطبيق ولتعزيز دور النساء بوصفهن مستخلفات في الأرض أيضًا، أي أنأساس ومنطق التغيير يأتي مباشرة من المصدر الرئيسي للإسلام الأكثر تعويلاً عليه وثقة فيه ألا وهو القرآن ذاته“.1 مركزية القرآن هذه والتكليف الإلهي للبشر جميعًا بمسئولية تجسيد وتحقيق المثل الأخلاقية في الحياة الدنيا هما أساس المشروع التأويلي للنسوية الإسلامية. وقد عبرت أسماء المرابط في كتابها القرآن والنساء: قراءة للتحرر عن هذا المنظور قائلة:”إن الرسالة الروحية على حد ما يصفها لنا القرآن في الكثير من الآيات بمثابة تذكير أو ما سمّاه القرآن نفسه بالذكر، وتتلخص وظيفته في كونها توقظ في الكائن البشري الجانب النبيل في ذاكرته ووعيه، من أجل أن يظل في قرب شديد مع ربه واتصال دائم مع خالقه. ومن خلال هذا الذكر يحصل الاطمئنان الباطني بالعدل الإلهيمن هذا المنظور ليس هناك أي شيء في النص القرآني يمكن أن يبرر أو يدافع عن أي نوع من أنواع التمييز ضد النساء“.2

كما يشرح خالد أبو الفضل العلاقة التفاعلية بينالطرح الأخلاقي العام للرسالة القرآنية“”وتلمس هذه المبادئ الأخلاقية من قبل القارئ نفسه“.3 يضرب مثلاً بالآية 135 من سورة النساء التي يأمر فيها الله (سبحانه وتعالى) المؤمنين بإقامة العدل وسريانه على الجميع مهما كان:”تستند فكرة أن المسلمين مأمورون بالعدل حتى لو ضد مصالحهم الشخصية على افتراض أن لدى البشر القدرة على ممارسة هذه الوساطة (أو الاستخلاف) ومتوقع منهم أن يتمثلوا مستوى عاليًا من الضمير الإنساني الذي يستحضرونه في علاقتهم مع الله (عز وجل). وفيما يخص أي أمر أو توجيه ما، يفترض النص القرآني حسًا أخلاقيًا فطريًا مسبقًا لدى الإنسان في فهمه وتعامله مع النص، بمعنى أن النص يثري القارئ أخلاقيًا، فقط لو أن القارئ أيضًا يعزز النص بأخلاقه“.

تشكل تلك الرؤية إذن منهجًا هرمينوطيقيًا (تأويليًا) تستطيع أن تطبقه الدارسات والباحثات في مجال السعي إلى مساواة وعدالة النوع، مثله في ذلك مثل التوجه المعاصر إلى عودة الاهتمام بمفهوم مقاصد الشريعة وإحيائه في ضوء متغيرات العصر ومتطلبات الاجتهاد في الأحكام الشرعية. وكما جاء في دراسة جاسر عودة المستفيضة عن تاريخ وتطور فقه المقاصد (وفي إحالة إلى الطاهر بن عاشور) المقاصد العامة هي المعاني التي لوحظت في جميع أحوال التشريع أو في أنواع كثيرة منها، كمقاصد السماحة والتيسير والعدل والحرية، كما تشمل الضرورات المعروفة التي استهدفتها الشريعة بما يعود على العباد بالخير في دنياهم وأخراهم، وهي التي ذكرها كثير من العلماء ضمن أبواب المصالح4. مبدئيًا يكون استقراء واستقصاء الهدف أو المقصد الإلهى من القرآن الكريم وثوابته، إلا أن آليات التفعيل ومجالات التطبيق قد تتطور حتى تمس مشاكل الناس وتتعامل مع واقعهم المتغير، وهذا هو التجديد في نظريات المقاصد وليس تثبيتها مع تغير الزمان والواقع الذي يطرحه جاسر عودة؛ لأن تعريف العلماء للمقاصد الستة أو غيرهاعبارة عن تصور نظري في ذهن المجتهدوهذا التصور قابل للتغير بحسب العقول وبحسب تغير الزمان والمكان” (ص ۱۸). فهذه المقاصد المتجددة يمكن أن تحقق المرونة للفقه الإسلامي وتلعب حاليًا دور حلقة الوصل بين الأحكام الشرعية والمفاهيم الحديثة، مثل حقوق الإنسان وكفالة الحريات وحفظ الكرامة البشرية والتنمية والحقوق المدنية وغيرها، بل أن تتحول من مجردبيان لحكمة التشريع إلى خطة شاملة ومنهج متكامل لتنمية الأمة” (ص ۲۱۳).

يندرج التمحيص في توازن وعدالة علاقات النوع تحت التطبيقات المتطورة للمفهوم المعاصر للمقاصد، وكذلك فكرة استخدام المنظور النسوي في التأويل لاستقراء العدل والمساواة من النصوص، وليس الامتيازات للرجال بحسب المنظور الأبوي المنحاز. وتبحث مقالة منشورة مؤخرًا حول القراءة أوالهرمينوطيقا غير الأبوية للقرآنهذا الموضوع بوصفه وسيلة لإصلاح قوانين الأسرة5.

يقدم هذا الكتاب موضوعات حول تقاطع المنظور النسوي مع البحث في الموضوعات الإسلامية التي تخص حياة النساء – وإن كان تناول المقالات يقع في محاور متنوعة ومن زوايا مختلفة، وأهميته أكبر في كونه توثيقًا لحدث كان مهمًا وفريدًا في جوانب متعددة؛ فهو نتاج لمؤتمر تم عقده على مدار يومي ۱۷ و ۱۸ مارس ۲۰۱۲، بمشاركة باحثات وباحثين من العالم العربي وأوروبا، ولذا تشكل أوراق أعماله منبرًا للحوار وبناء الجسور على أكثر من مستوى: فقد جمع بين نساء عربيات من مصر وتونس والمغرب ولبنان والسودان والسعودية وأوروبيات من الدانمارك وإيطاليا وألمانيا وفرنسالتبادل المعرفة حول قضايا النساء في الثقافة الإسلامية في سياقين مختلفين، وقدمت الأوراق إما باللغة العربية أو الإنجليزية (ترجمت المجموعة الأخيرة إلى العربية هنا)، فكانت فرصة للالتقاء بين المسلمات النسويات في المجتمعات العربية والأوروبية لاستكشاف القضايا المشتركة أو اختلاف الأولويات. كما حضر الجلسات والمناقشات جمهور من الإسلاميات المحافظات اللاتي يتحفظن على الأفكار النسوية من ناحية، وناشطات نسويات لا يثقن بدورهن في فعالية التأويلات الدينية في إحداث التغيير المطلوب من ناحية أخرى، وإن أظهر هذا التواجد اهتمامًا مشتركًا بالمسألة ورغبة في إيجاد الحلول وإمكانية التحاور والتعاون. كذلك عكس حضور الشيخ الدكتور جمال قطب الأمين العام السابق للجنة الفتوى بالأزهر الشريف بدعوة منا أهمية مد جسور التواصل داخليًا بين النسويات الإسلاميات ومجتمعاتهن العربية بمؤسساتها التقليدية وثقافتها السائدة، وبين المسلمات النسويات ومجتمعاتهن الأوروبية بتيارها الرئيسي أو مع شركائهم في الدين داخل هذه المجتمعات. وأخيرًا جسّر الفجوة في فهم المسلمين بين مبادئ ومقاصد الدين المبنية على العدل والرحمة والحكمة ومصلحة الناس (كما جاء في تعريف ابن قيم الجوزية) 6وتفعيل هذه المبادئ في فقه النوع وفي إصلاح مفاهيمنا الثقافية وممارساتنا المجتمعية.

تم دعوة متحدثتين لإلقاء الكلمات الافتتاحية وعرض أفكارهما حول النسوية الإسلامية بوصفها حقل دراسات أو تجربة في الواقع المعيش. بدأت الدكتورة أماني صالح بتعريفات تأسيسية للموضوع بوصفه مفهومًا وظاهرة ثم قدمت تحليلاً مفصلاً وتشريحيًا للجوانب المعرفية لهذا المشروع الاجتهادي وتوصيفًا لمرجعيته وسماته المميزة. ومن مجال التنظير إلى إطلالة على تجربة حياة، لخصت الأستاذة أسماء عبد الحميد، في شكل سردية شخصية مبسطة، قضية الهويّات المتداخلة وما قد يشوبها من تعقيدات وتنميط من كل جانب، مما مهد إلى فكرة أهمية التواصل والتباحث لدحض الصور النمطية وتعزيز الفهم المتبادل وبلورة المواقف.

الجزء الأول من الكتاب يستكشف العلاقة بين النسوية الإسلامية والعمل العام في المجتمعات العربية، فتربط الدكتورة فوزية خالد ذلك بسياق ثورات الربيع العربي بدءًا من يناير ۲۰۱۱ وتبحث تأثير التغييرات في المشهد السياسي ومطالب الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان على قضية الإدماج الحقيقي للنساء في المجتمع. كما تتساءل: في سياق تحرر الشعوب العربية من السلطوية السياسية والأبوية بوصفها نظامًا مؤسسيًا، هل يمكن لأفكار ونشاطات النسوية الإسلامية أن تشكل مقاومة فعالة لكل أنواع السلطوية والإقصاء واحتكار المعرفة؟ وبالتحديد ما دور المرأة السعودية داخل مجتمعها وكيف تستمد إلهامًا من موجات الانتفاضات العربية لمقاومةرعويةأو أبوية الدولة تجاه المواطنين بصفة عامة وتجاه النساء للإبقاء على النظام المحافظ سياسيًا واجتماعيًا؟ وتنتقل بنا الدكتورة يولي بروزانيورجينسين إلى ثلاث بلاد عربية أخرى – المغرب والأردن ومصرلتعرض من خلال بحث ميداني ومقابلات صورة عامة لأنشطة قطاع كبير من النساء الإسلاميات في مجالات العمل الإصلاحي الاجتماعي والثقافي والقانوني، اللاتي يضعن عملهن العام في إطار مرجعي إسلامي واضح من حيث القيم الحاكمة والدافع الرئيسي للقيام به. وتقدم الباحثة تقييمًا موضوعيًا لهذه الظاهرة من حيث أهم إمكانياتها الإيجابية بالنسبة إلى النساء أنفسهن ومجتمعاتهن من ناحية، ثم مخاطر أو سلبيات هذا النوع من الفاعلية من ناحية أخرى. ثم تسلط الدكتورة مروة شرف الدين الضوء على المشهد في مصر وعلى محور التعامل مع تعقيدات وإشكاليات منظومة قوانين الأحوال الشخصية وإصلاحها. ولأنها بالأساس قوانين مستخرجة من الأحكام والتفسيرات الفقهية للشريعة، فإن أي إصلاحات أو تعديلات تطالب بها المنظمات النسائية تحتم التعامل مع هذا الفقه ومع ما المقصودبالشريعة الإسلامية،رغم سعي هؤلاء الناشطات إلى إنصاف وتحسين أحوال المرأة أيضًا من خلال معايير القوانين الدولية لحقوق الإنسان ومنع التمييز. هذا الفصل ذو أهمية وفائدة كبيرة حيث إنه يركز على أصل المشكلة المعلقة في التعارض بين التوجهين أو المقاربتين، وفي الجدل حول تحرير المفاهيم والمرجعيات الدينية والسلطة المعرفية المنوط بها تفسير الأحكام والحقوق – وهي كلها قضايا تدخل في حيز المعرفة الدينية وتأثيرها على القوانين وفي حيز النقاش الدائر بين النسويات الإسلاميات والمنظمات النسائية الحقوقية.

الجزء الثاني ينتقل بنا من الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للنساء في المجتمعات العربية الإسلامية إلى السياق الأوروبي. إذا كان السؤال الرئيسي في الجزء الأول هو كيف يلبي المنظور النسوي الإسلامي احتياجات النساء ويسهم في تفعيل الحقوق وتغيير الخطابات الثقافية والإصلاح على أرض الواقع، ففصول هذا الجزء تستكشف حياة النساء المسلمات داخل سياق جماعاتهن ودوائرهن المسلمة وكذلك في المجتمعات الأوروبية الأوسع. ما القضايا التي تؤثر فيهن وكيف يطبقن أفكارهن النسوية ويعشنها في المجالين؟ تُطلعنا الدكتورة كاثرين كلاوزينج على معلومات وحقائق مهمة في هذا الشأن من داخل ألمانيا وتقدم عرضًا للعديد من التحديات التي تواجهها المسلمات الألمانيات ثم الأنشطة المختلفة التي ينخرطن فيها بوصفها استراتيجيات للمقاومة والتمكين، مثل عمل كثير من المنظمات النسائية التي نشطت لخدمة المسلمات في مجالات متنوعة منذ تسعينيات القرن الماضي.

من أبعاد الموضوع كذلك فكرة التواصل والتفاعل مع مجموعات أخرى متشابهة داخل المجتمع الأوروبي نفسه. هل يمكن لتيار النسوية الإسلامية أن يتفاعل مع تيارات النسوية في الأديان الأخرى للبحث عن المشترك في القيم الإيمانية التحررية وفي رفض التمييز والتراتب بين الجنسين باسم الدين؟ وما سبل التعاون مع الحركات النسوية المغايرة داخل المجتمع الواحد؟ تتناول أنّا فانتسان بالتحديد نقطة الالتقاء هذه بين الناشطات النسويات المسلمات والكاثوليكيات، اللاتي لا يرغبن في إهمال الإيمان أو المرجعية الدينية، وفي الوقت نفسه يعترضن على التفسير الأبوي المنحاز لكل من الإسلام والمسيحية. يستعرض الفصل العديد من الفعاليات والأنشطة في الحوار بين الأديان حول النوع والمرأة في إيطاليا، حيث تشترك مجموعات من اللاهوتيات (عالمات الدين) الكاثوليكيات والنسويات الإسلاميات في التدارس والتباحث حول قضايا الخطاب الديني وإمكانية التعاون المتبادل. أما الدكتورة مليكة حميدي، فهي تقدم منظورًا آخر من فرنسا وبلجيكا حيث تواجه المرأة المسلمة في العموم النظرة النمطية الاستشراقية أو الكولونيالية التي تركز على مسألة الحجاب ورمزيته، كما تواجه مزاعمالعالميةمن قبل الاتجاه الرئيسي للنسوية الغربية لتبرير إقصاء النساء المسلمات وتحجيمهن في موقع الضحية. إلا أن الباحثة ترى في التشبيك والتفاعل العابر لحدود الدول الإقليمية فرصة لإيجاد مساحات جديدة في الحيز العام العولمي لمقاومة النسويات الإسلاميات هذه الأفكار، وأن تلعب النسوية الإسلامية دورًا في تغيير سوء الفهم المتبادل وربما في القضاء على النزعة الكولونيالية لتيار النسوية الغربية السائد.

يحول الجزء الثالث الانتباه من السياقات الحياتية إلى النصوص، من واقع المجتمعات إلى المصادر الإسلامية الحاكمة ذاتها التي تشكل قناعات المسلمين وحياتهم. تتناول دراستان هنا موضوع السلطة المرجعية للتراث القانوني أو الفقهي العريض وتناقشان التفاوض بشأن مناهجه ونتائجه التقليدية. تعكف الدكتورة نيفين رضا على فحص جدل فقهي قديم ولكن متجدد دائمًا حول قيادة المرأة السياسية أو مكانها من السلطة العامة استنادًا إلى حديث نبوي صحيح، وتقدم الخلفية البحثية والتاريخية اللازمة لهذا الموضوع الذي يثير في الحقيقة قضية أخرى أشمل, وهي تحديد العلاقة بين مصادر الأصول نفسها (مثلاً القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة) عندما يبدو وكأن هناك تعارضًا في شأن محدد، وما إمكانيات الاجتهاد في مثل هذه القضايا وبخاصة عندما يتعلق الأمر بسحب حقوق شرعية للمرأة في الإسلام. هذا الفصل نموذج جيد للاجتهاد والبحث في المعرفة الدينية من منظور نقدي يفند التراث ويطرح البديل من خلال استخدام نفس أدواته المنهجية ومخزونه للوصول إلى نتائج مختلفة.

وتتكامل دراسة الدكتورة ملكي الشرماني مع الفصل السابق عندما تخضع الأساس الذي قامت عليه افتراضات الفقهاء في استنباطهم أحكام الأسرة للمساءلة والنقد. لماذا لم يطبق الفقه الإسلامي في عمومه معيار العدل والإنصاف بدقة على منظومة العلاقات الأسرية؟ وهل من سبيل إلى المراجعة وإعادة الفهم لإنتاج نظام للحقوق والواجبات أكثر عدلاً وبعدًا عن التمييز المجحف؟ تطرح الباحثة رؤيتها من خلال عرض نموذجين من التحليلات النقدية المعاصرة لكاتبتين رائدتين زيبا مير حسيني وكيشيا علي ثم تربط ذلك بنتائج استخلصتها من أبحاث ميدانية سابقة في محكمة الأسرة بمصر لرصد تجارب المتقاضيات على أرض الواقع لضرب أمثلة حية لتأثير التفسيرات الفقهية والتطبيقات غير العادلة للقانون على حياة النساء. أي أن هذا الفصل يجيب عن السؤال المطروح دائمًا حول العلاقة بين إنتاج معارف وقراءات بديلة وبين الإصلاح والتغيير في الواقع المعيش.

يقترب الجزء الرابع أكثر من خطابات بعينها ومفاهيم وتفسيرات ومبادئ مستمدة من القرآن الكريم مباشرة. تبدأ الدكتورة هند مصطفى أولاً بمسح للمدارس والتيارات النسوية المختلفة في الغرب وبعرض أفكارها الرئيسية مع تقييم وتحليل إيجابيات وإنجازات الفكر النسوي الغربي في عمومه وبعض الإشكاليات التي ينطوي عليها أيضًا، ثم من منطلق هذا التفنيد وبناًء على التفاعل والاستفادة من تجارب تلك المدارس في النشأة والتطور تطرح الباحثة صياغة لخطاب نسوي بديل يستلهم مفاهيم قرآنية مساواتية حول الإنسان والنوع، مشيرة في الوقت نفسه إلى بعض جوانب القصور في التنظير النسوى الإسلامي لافتقاده صفة الفعالية على الأرض كما تقترح أن تتبلور هذه الدعوة إلى رؤية أو منظور يدخل في أي إسهامات بحثية أو علمية أخرى وليس بالضرورة العلوم الدينية فقط. وتستكمل الدكتورة أسماء المرابط هذا التوجه في التدقيق في النص القرآني من منظور مغاير وباستخدام منهجية النظر إلى مجموع الآيات التي تتناول موضوعًا واحدًا بوصفه وحدة عضوية مترابطة لاستخلاص مبادئ ومعانٍ مختلفة عن السائد يمكن أن تبني عليها أحكام جديدة، وهو ما تفعله في مسألة الطلاق عند تمحيص آياته كلها لتبين عدم الاتساق بين الأحكام الفقهية والرؤية القرآنية الشاملة بشأن إنهاء الزوجية وشروط الانفصال ومراحله والفرق بين الطلاق والتطليق..إلخ. والفصل تطبيق جيد للمنهج التأويلي (المشار إليه في بداية المقدمة) الذي يعتمد مركزية القرآن بنصوصه الكلية وطرحه الأخلاقي الشامل في إعادة تفسير نصوص النوع والنساء. وعلى الخط نفسه يقدم الدكتور نصر الجويلي مسألة أخرى لها إرث تفسيري طويل من العصور القديمة حتى الحديثة والمعاصرة وهي مفهوم قوامة الرجل أو الزوج كما ورد في سورة النساء، آية 34. يستعرض الكاتب أهم شروح وآراء المفسرين من القدامى والمحدثين مع تحليل منطلقاتهم ومنهجياتهم التي أدت بهم إلى هذه التأويلات، ثم يقارن المجموعتين بالقراءات المعاصرة لأمثال نصر حامد أبوزيد ومحمد شحرور اللذين توصلا إلى نتائج مختلفة تمامًا في هذه القضية بسبب تباين المنهج المتبع والمنطلقات الفكرية واستراتيجيات التعامل مع النص المقدس.

يختم الكتاب بفصل يضم قائمة توصيفية لأهم أدبيات هذا الحقل المعرفي المكتوبة باللغة العربية أو المتاحة بالعربية من خلال الترجمة مع تصنيف لأنواع هذا الإنتاج العلمي في العشرين سنة الأخيرة تقريبًا ورصد اتجاهاته وإسهاماته. قامت بالجمع والتصنيف والعرض الدكتورة حسن عبود، من أجل تحقيق أكبر فائدة ممكنة للقراء والباحثات والباحثين المهتمين برصد وتتبع هذه النوعية من الدراسات والفكر في الكتابات العربية بالتحديد.

المأمول في النهاية من تجربة نشر أوراق هذا المؤتمر أن يستمر التحفيز على مزيد من البحث والإنتاج العلمي باللغة العربية أو في سياقاتها وتراثها في هذا المجال، وكذلك المزيد من بلورة دور النسوية الإسلامية في تعزيز الحوار بين عالم الشمال والجنوب، بين المجتمعات الأوروبية والعربية، حيث بإمكان النسويات المسلمات أن يدفعوا التيار الأساسي السائد لدى النسويات في الغرب إلى مراجعة علاقتهن المضطربة مع الدين وإعادة التفكير في بعض الأفكار الجامدة بشأن استحالة الوصول إلى الوعي النسوي التحرري بالدين أيضًا 7، أو ما يعرف بنظرياتالتحديثالعلمنةالتي تربط بين التقدمية والحداثة وبين سقوط المرجعيات الدينية.

 

1 أمينة ودود:

Amina Wadud, “Aishah’s Legacy: The Struggle for Women’s Rights within Islam,” The New Voices of Islam: Reforming Politics and Modernity – A Reader, ed. Mehran Kamrave (London: I.B. Taurus, 2006), p. 204.

2 أسماء المرابط، القرآن والنساء: قراءة للتحرر، ترحمة محمد الفران (الرباط: مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الاسلام، ۲۰۱۰).

3 خالد أبو الفضل:

Khaled Abou El Fadl, The Place of Tolerance in Islam (Boston: Beacon Press, 2002), p. 14.

4 جاسر عودة، فقه المقاصد: اناطة الأحكام الشرعية بمقاصدها (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الاسلامی: ۲۰۰۸)، ص 15-16

5 أديس دوديريجا:

Adis Duderija, “Maqasid Al Shariah, Gender Non-patriarchal Qur’anic Hermeneutics and the Reformation of Muslim Family Law,” New Age Islam.com (11 June, 2013).

6ابن قيم الجوزية، اعلام الموقعين، تحقیق طه عبد الرؤوف سعد (بیروت: دار الجیل، ۱۹۷۳)، ج۳، ص14-15

7زیبا میر حسینی:

Ziba Mir-Hosseini, “Understanding Islamic Feminism: Interview.” Countercurrents.org (7 February, 2010).

مقالات المجلة

الأبعاد المعرفية لنسوية إسلامية
أن تكوني نسوية أوروبية مسلمة
الجزء الأول: النسوية والنشاط النسائي في العالم العربي
الجزء الثاني: الوعي النسوي والحوار في السياق الأوروبي
الجزء الثالث: الفكر الإسلامي القانوني: نظرية وممارسة
الجزء الرابع: خطابات وتفسيرات جديدة
شارك:

اصدارات متعلقة

أسئلة وأجوبة بشأن الوقاية من كوفيد 19 ومكافحتها للعاملين /ات في مجال الرعاية الصحية
الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي