تحديات الثابت والمتغير في القرن التاسع عشر

التصنيفات: رائدات
طباعة: Promotion Team

رقم الايداع:

2004/4316

الترقيم الدولي:

977-17-137905

رقم الطبعة:

الطبعة الأولى

تاريخ النشر:

2004

تصميم الغلاف:

التحرير:

مراجعة:

عائشة تيمور وتحديات الثابت والمتغير

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

هدى الصدة

تقديم :

يقدم هذا الكتاب مجموعة من الأبحاث القيمة التي قدمت في مؤتمرعائشة تیمور: تحديات الثابت والمتغير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي انعقد في ۹۱۰ من شهر مايو ۲۰۰۲، نظم المؤتمر ملتقى المرأة والذاكرة ودعا إليه نخبة من الباحثين والباحثات وذلك بهدف إحياء ذكرى شخصية رائدة أثرت الحياة الثقافية والمصرية، وإلقاء الضوء على تلك المرحلة الانتقالية الحاسمة في تاريخنا، وهي مرحلة شهدت تحولات وتغيرات مهمة على صعيد الثقافة العربية. هذا المؤتمر هو الثالث في سلسلة المؤتمرات التي ينظمها ملتقى المرأة والذاكرة، حيث سبق أن عقد مؤتمران للتذكير بملك حفنى ناصف ونبوية موسى. والهدف من هذه السلسلة من المؤتمرات، والتي يصحبها إعادة نشر لبعض أعمال الرائدات، هو إنعاش الذاكرة الجماعية، وذلك بتسليط الضوء على مساهماتهن في الحياة الثقافية والسياسية المصرية، وأيضا من خلال إدماج أصوات النساء المنسية في صياغة المفاهيم الثقافية. وهناك سؤالان أساسيان حاول المؤتمرون والمؤتمرات الإجابة عليهما هما: ما هي القضايا الاجتماعية والثقافية التي شغلت مفكري هذا العصر؟ وكيف تفاعلت عائشة تيمور مع تلك القضايا وأثرتها، وكيف، ربما، ساهمت في إعادة صياغة البعض منها والإضافة إليها؟

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطورات سريعة على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي. فبعد إنشاء مطبعة بولاق في النصف الأول من القرن – سنة ١٨٢٠ – انتشرت المطابع الخاصة منذ سنة 1860 ووصل عددها إلى ١٣٠ مطبعة في أوائل القرن العشرين. انتشر التعليم حيث بدأ التوسع في إنشاء المدارس الحديثة إلى جانب الكتاتيب، ونشطت حركة الترجمة، وزاد عدد الصحف والمجلات الصادرة في مصر بشكل ملحوظ، ولا سيما المجلات النسائية التي أفسحت الطريق لأعداد كبيرة من النساء للتعبير عن همومهن، والمساهمة في المناقشات الثقافية الدائرة على الساحة. ومن ثم ازدهرت وانتشرت المنابر الثقافية والسياسية المكرسة للتحاور والجدل, وأصبحت متاحة لفئات مختلفة من الناس. قامت ثورة أحمد عرابي سنة 1881 ثم أعلنت الحماية البريطانية على مصر سنة ١٨٨٢ ليبدأ عصر الاحتلال البريطاني. ومع الاحتلال زادت الامتيازات الأجنبية واتسع النفوذ الأوروبي في مصر. احتدم الجدل في الأوساط الثقافية والسياسية حول العلاقة المرغوبة بين التراث والمعاصرة، بين الشرق والغرب، ودارت معارك فكرية وسياسية حول شكل المجتمع الحديث، حول الصورة الأمثل للرجال والنساء في الوطن، حول قضايا اللغة والأنواع الأدبية والفنون، حول الانتماءات الأيديولوجية والتحالفات السياسية. تعقدت القضايا واختلطت الهموم بسبب التدخل المستمر لممثلى الاحتلال الإنجليزي في الشأن المصري والعربي.

ومن القضايا الرئيسية التي طرحت بقوة على الساحة الثقافية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قضية وضع المرأة في المجتمع. ارتبطت هذه المسألة بمشروع تحديث المجتمع بسبب شيوع فكرة أساسها أن وضع المرأة العربيةالمتخلفهو من أهم أسباب تخلف المجتمعات العربية، وأن تحسين هذا الوضع هو شرط أساسي لقيام الدولة الحديثة. كان لممثلى الاستعمار الفضل في الترويج لهذه الفكرة, واستخدمت حجة معاناة المرأة العربية من القهر الواقع عليها بسبب سطوة المجتمع الذكوري العربي لتبريرضرورةاستمرار قوات الاحتلال البريطاني في حكم مصر لأن رجالها غير قادرين على توفير العدل والمساواة لكافة أفراد الشعب. المهم أن هذه الفكرة الاستعمارية كان لها أثر بالغ على جميع الأطراف، واختلفت ردود الأفعال، ولكن نجد أن معظم الفاعلين اتفقوا على أهمية التركيز على تحسين وضع المرأة في المجتمع. ولذا، نجد أن جميع مفكري النهضة بلا استثناء تطرقوا بطريقة أو بأخرى لمسالة المرأة، وأدلوا بدلوهم في موضوعات متعددة منها ما هو متوقع منها في المستقبل، القواعد التي سوف تحكم علاقتها بالرجل. تطرفوا بشكل أو بآخر إلى تعريف ماهية الأنوثة، أو الشكل الأمثل للمرأة وفق المتغيرات الجديدة التي يأتي بها المجتمع الحديث.

كان من تداعيات هذه الفكرة أن سادت واستقرت فكرة أخرى بالغة الخطورة, مفادها أن المجتمع الحديث جاء بكل الحقوق للنساء، فلقد أتاح للنساء التعليم وفرص الخروج للعمل والظهور في المجال العام، وأن جميع الانحيازات أو المشاكل التي تواجه نهضة النساء هي من بقايا العهود القديمة التي عزلت النساء وحرمتهن من حقوقهن الإنسانية. استشرت هذه الفكرة في القرن العشرين وتأصلت في جميع المحافل التي تركز على إنجازات النساء في العصر الحديث، وظهور أول طبيبة وأول مدرسة وما إلى ذلك. يستند خطاب الأوائل هذا إلى فرضية أن هذه المهن، على سبيل المثال لا الحصر، لم تمارسها النساء إلا في العصر الحديث حين حصلن على حقوق لم تكن متاحة لهن من قبل.

هذا الخطاب مبنى على مغالطة تاريخية تركز فقط على فترات الانحسار وتتجاهل انخراط النساء في مجتمعات ما قبل العصر الحديث، وتنفي عنهن مساهماتهن في صنع التاريخ والحضارة الإنسانية. ومع اعتبار أن المجتمع الحديث أتاح فرصة التعليم لأعداد كبيرة من النساء والرجال، وأنه هناك تطورات وإضافات على مستويات كثيرة في الحياة الاجتماعية والثقافية لا يمكن إغفالها، ولكن، الإصرار على فكرة أن جميع الإيجابيات في حياتنا هي نتاج العصر الحديث، وجميع السلبيات هي تراث الماضي تؤدي إلى مغالطات جسيمة:

أولا, إن المبالغة في تمجيد العصر الحديث والمفاهيم الحداثية التي تدعم من التعارض بين الجديد والقديم، أدت في مجال تاريخ النساء مثلاً إلى إغفال مساهمات لنساء قدموا خطابا مغايرا للخطاب الحداثي السائد، أو حاولوا تقديم رؤى لا ترى حتمية هذا الصراع بين القديم والجديد. وقد تكون عائشة تيمور خير مثال على ذلك. فمن خصائص الكتابة الشعرية والنثرية عند عائشة أنها امتداد للأسلوب العربي القديم الذي استخدمته وطورته للتعبير عن قضايا معاصرة. ولكن، وبسبب سطوة التعريف الحداثي للأدب وفن القصة والرواية بالتحديد، تم التقليل من أهمية الأعمال الأدبية التي استوحت أسلوب الكتابة القديم. مثل حديث عيسى بن هشام للمويلحي ونتائج الأحوال لعائشة تيمور، والتركيز على الشكل الجديدالحديثالممثل في روايةزينبلهيكل.

ثانيا، يؤدي هذا الإصرار على إيجابيات العصر الحديث إلى التعمية على المشاكل والسلبيات التي استجدت في حياتنا وثقافتنا مع قدوم هذا العصر الحديث. بل والأدهى من ذلك، أننا نجد أن أفكارًا حديثة مناهضة لحقوق النساء والتي لم يكن لها وجود قبل القرن التاسع عشر قد أضفيت عليها صبغة ثقافية وأصبحت تقدم بوصفها جزءًا أصيلاً من ثقافتنا العربية.

ثالثًا وأخيرًا، أدت هذه المبالغة في طرح قضية المرأة بوصفها رمزًا للمجتمع الحديث أن أغفل المحللون تناولقضية الرجل، أو بعبارة أخرى، لم يلتفت كثيرًا إلى أن أية محاولات لتعريف ماهية الأنوثة في سياق ثقافي تنطوي على محاولات لتعريف ماهية الرجولة، ومن ثم المواقف المعلنة بصفة متكررة تجاه قضية المرأة هي مواقف مستترة من مأزق الرجل العربي في العصر الحديث. وتكون النتيجة خلطًا مفزعًا للأوراق حينما نتحدث عن مسألة المرأة.

تناقش بعض الأوراق المضمنة في هذا الكتاب بعض الافتراضات المستقرة في تأريخنا للنهضة النسائية وتفككها وذلك بهدف إعادة صياغة بعض الأسئلة الثقافية التي ما زالت مطروحة علينا الآن في القرن الحادي والعشرين. تناقش هذه الأفكار من خلال تقديم قراءات جديدة لأعمال عائشة تيمور ومساهماتها في الحياة الأدبية والثقافية, كما تناقش من خلال أوراق تبحث في السياق الثقافي المحيط بعائشة. وقبل تقديم هذه الأوراق وإلقاء بعض الضوء على القضايا المطروحة، سوف أتعرض بإيجاز شديد لفكرتين أو أسطورتين على درجة عالية من الشيوع تم استحداثهما في العصر الحديث وكانت لهما سطوة بالغة، ولا تزال, في التأثير على تعريفات الأنوثة والرجولة, والطرح الثقافي والاجتماعي لقضية المرأة: أسطورة أن البيت هو مملكة المرأة, وأسطورة أن الرجل متفوق بيولوجيا، ومن ثم عقليا على المرأة.

 

من أعتى المعوقات التي تقف أمام النساء في سعيهن نحو الحصول على المساواة في الحقوق والواجبات إلى يومنا هذا افتراض أن المكان الطبيعي للمرأة هو المنزل وأن وظيفتها هي رعاية الزوج والأولاد، وأن هذا النمط من الحياة هو النمط المعبر عن ثقافتنا العربية. فمن القضايا التي احتلت حيزًا كبيرًا على الساحة الثقافية قضية وضع المرأة وعلاقتها بالمجال العام. وضمن مشروع وطني لتحديث المجتمع والنهوض بمستوى جميع أفراده طرحت هذه الأسئلة: هل يمكن للمرأة أن تخرج العمل مثل الرجل، أو أن مكانها الأمثل هو البيت؟ هل مطلوب من النساء المشاركة في المجال العام، أم أن وظيفتهن الأساسية هي رعاية الأسرة والأطفال؟ هل النساء قادرات على القيام بأعمال الرجال؟ هل هن مؤهلات لحمل أعباء الحياة الثقيلة، أو أن طبيعتهن لا تسمح لهن بذلك؟

فكرة أن البيت هو مملكة المرأة فكرة حديثة بالدرجة الأولى. فلقد كان للثورة الصناعية في القرن الثامن عشر في أوروبا بعض الآثار العميقة على حياة النساء في إنجلترا على سبيل المثال. أفرزت الثورة الصناعية أشكالا جديدة من العمل وظهرت أنماط من العيش لم تكن شائعة من قبل. فقبل قيام هذه الثورة الصناعية، كان النساء والرجال يعملون جنبا إلى جنب في الحقول مثلاً، ولم يكن هناك هذا الفصل الصارم بين ما هو داخل المنزل وما هو خارجه. مع بدايات القرن التاسع عشر، تبلورت سمات الطبقة المتوسطة الصاعدة التي ارتبطت حياتها بمقومات الإنتاج الصناعي الحديث وبأشكال العمل الجديدة. فنجد الأسرة التي يذهب الزوج فيها إلى العمل خارج المنزل في المصنع أو المكتب، ويترك المنزل تحت رعاية زوجته. في هذه اللحظة تبلور مفهوم المجال العام والمجال الخاص، وارتبط المجال العام بعمل الرجال مدفوع الأجر خارج حدود المنزل، وتحدد المجال الخاص بعمل النساء غير مدفوع الأجر داخل حدود المنزل. وبالتدريج، تشكلت أيديولوجية جديدة عن ماهية الأنوثة، بحيث أصبحت المرأة مكلفة برعاية بيتها وأولادها في أثناء ذهاب زوجها للعمل خارج المنزل. وتحددت خصائص هذه الأنوثة الأصيلة بصورة مثالية عن امرأة الطبقة المتوسطة التي تحافظ على بيتها في غياب زوجها ولا تضطر للقيام بأعمال شاقة خارج المنزل. وفي عصر الملكة فيكتوريا (۱۸۳۷۱۹۰۱) انتشرت هذه الأيديولوجية الجديدة واستقرت، متأثرة بالصورة المثالية التي قدمت للناس عن الملكة فيكتوريا راعية الأسرة ورمز الأمومة المثالية. ومع ازدهار الصحافة والتوسع الذي شهده القرن التاسع عشر في صدور المجلات النسائية، انتشرت هذه الأيديولوجيا وأثرت على قطاعات كبيرة من الناس.

وعلى الرغم من أن هذه الصورة المثالية لامرأة الطبقة المتوسطة القابعة في مملكتها الصغيرة لم تكن ممكنة أو متاحة لأغلبية النساء من الطبقات الفقيرة اللاتي كن يعملن ليعُلن أسرهن، إلا أن هذه الأيديولوجية استقرت واستشرت إلى درجة أنها أصبحت تمثل النموذج القيمى لسلوك المرأة وعلاقتها بالمجتمع. ومن الكتب الشهيرة التي روجت لهذه الصورة كتاب جودي أو s Ladies Book’ Godeyالذي صدر سنة 1850. أما كتاب السيدة بيتون أو Mrs. Beeton’s Book of Household Management الصادر سنة ١٨٦١، فكان من الكتب الأكثر مبيعًا لمدة خمسين عامًا. ثم طغت هذه الأيديولوجية على محتوى المجلات النسائية فامتلأت هذه المجلات بنصائح لربة المنزل الحديثة ترشدها إلى كيفية إدارة شئون منزلها على أكمل وجه. ومن الجدير بالذكر أن تلحظ التزامن بين ظهور هذه الأيديولوجية الطاردة للنساء من المجال العام، وبين نمو حركات المطالبة بحقوق النساء ودخولهن المجال العام في إنجلترا وبلدان العالم.

انتقلت هذه الفكرة إلى العالم العربي من خلال الكتب والصحف والمجلات. فمن تجليات الاهتمام العميق بوضع المرأة في المجتمع، أن اهتم رواد النهضة بصورة المرأة الأوروبية، وعقدت مقارنات عديدة بينها وبين المرأة المصرية، وقامت معظم الصحف والمجلات بالحديث عن حياة هذه المرأة الغربية باعتبارها نموذج المرأة العصرية الحديثة. تنوعت المادة المقدمة، فقدمت المرأة الغربية وهي تقتحم مجالاتجديدةغير متاحة للمرأة المصرية في ذلك الوقت، وامتلأت الصحف بصور لهذه المرأة الجديدة. وفي نفس الوقت، تم تقديم مادة مستوحاة من المجلات الغربية التي تقدم نصائح عن تدبير المنزل، وكيفية رعاية الأطفال. نرصد هنا أبوابًا استقرت بعد ذلك في الصحف والمجلات عنوانهاالمرأة والطفل،تدبير المنزل، وغير ذلك من الأبواب التي تكرس لنمط حياة لنموذج محدد من النساء المنتميات للطبقة المتوسطة، وتروج لهذه الأيديولوجية المستحدثة عن البيت بوصفه المكان الأمثل للنساء.

ومن الجدير بالذكر أن كثيرًا جدًا من المجلات التي صدرت في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين اعتمدت على ترجمة موضوعات مأخوذة من مجلات غربية، أو استوحت موضوعات وطوعتها لتناسب السياق العربي، هذا بالطبع إلى جانب نشر الموضوعات والقضايا النابعة من الواقع العربي. ليس الهدف من هذا الطرح القول بأن الصحافة النسائية المصرية مثلاً وقعت تحت أسر أفكار غربية وقدمتها، ولكن القصد هو توضيح أن هذه الأفكار التي تحول المنزل إلى المكانالطبيعيللنساء، وتجعل الوظيفة الأساسية للنساء هي خدمة الزوج والأولاد، هي أفكار تم بلورتها ونشرها على نطاق واسع نتيجة للتفاعل الذي حدث بين الثقافة العربية والثقافة الغربية.

وعندما نادي قاسم أمين ( 1863 – 1908) بتحرير المرأة، كان يتحدث عن امرأة الطبقة المتوسطة التي تعيش في المدينة. فهذه المرأة هي التي اعتبرها سبب تخلف المجتمعات العربية لأنها لا تتساوى مع زوجها في التعليم ولا تعرف مقداره. وبالتالي، وفقا لقاسم أمين، فهي لا تكسب احترامه لأنها تفشل في إدارة منزله وتفشل في رعاية أولادها حسب قواعد التربية الحديثة ولا تستطيع أن تكون شريكة الحياة والروح التي يتطلع لها الرجل المصري الحديث(۱). أيضًا, تشكلت حياة هذه الطبقة في العصر الحديث وفقا للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت أشكالاً جديدة من العمل خارج المنزل، وحصرت نساء هذه الطبقة داخل المنزل. فنجد أن قاسم ركز على إتاحة التعليم الابتدائي للنساء لكي يساعدهم على القيام بوظيفتهم الأساسية في رعاية الزوج والأولاد.

أدرك قاسم أمين أن هذه الفجوة بين الزوج وزوجته هي من خصائص عائلة الطبقة المتوسطة، وليست موجودة بين الفلاح والفلاحة، حيث تعمل الفلاحة جنبًا إلى جنب مع زوجها، كما تتساوى مع زوجها في مستوى التعليم والثقافة. ولكن، تجاهل قاسم أمين وضع المرأة الفلاحة المنتجة ولم يعتبرها النموذج المعبر عن وضع النساء في المجتمع، وركز على نساء الطبقة المتوسطة وصاغ خطابًا ليبراليًا عن تحرير المرأة يستوحي حياة طبقة بعينها ليعممه على جميع النساء. أما عبد الله النديم، فعلى الرغم من توجهه إلى عامة الناس في كتاباته، إلا أنه يروج لقيم وأخلاقيات الطبقة المتوسطة ويتجاهل واقع حياة النساء والرجال من الطبقات الفقيرة حيث تعمل النساء مع الرجال وحيث تتلاشي ثنائية العام والخاص خاصة في الريف. أي أن النديم يروج هو أيضا لأيديولوجية مستحدثة في العصر الحديث قوامها أن البيت مملكة المرأة وأن المرأة الفاضلة هي التي لا تخرج عن حدود بيتها(٢).

من النظريات التي كان لها تأثير قوى على صياغة وبلورة الأيديولوجية الحداثية عن البيت بوصفه المكان الطبيعي والمفضل للنساء، هي نظرية تعرف الآن بالعنصرية العلمية. ويرجع تاريخ نشأة هذه النظرية إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر ويمتد ليصل إلى ذروته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تشمل هذه النظرية اتجاهات مختلفة أو تيارات فكرية متعددة، ولكنها في النهاية تصب في رافد واحد وهو التأصيل العلمي لتراتب هرمي بين الحضارات والأجناس والأعراق والأنواع؛ حيث تقدم الأبحاث والنظريات العلمية مبرراعلميًاللممارسات العنصرية أو الاستعمارية التي تميز بين الأجناس والشعوب بدعوى التمايز في درجة الرقي أو الحضارة أو التطور.

وإذا حاولت تقديم أهم الاتجاهات التي ظهرت ضمن هذه النظرية العلمية باختصار، يمكننا رصد اتجاهين أساسيان.الاتجاه الأول هو ما يطلق عليه monogenesis القائل بوحدة الأصل أو أن جميع الأجناس والأعراق تأتي من أصل واحد ولكنها تختلف في درجة التطور أو في مرحلة التطور، حيث يحتل الجنس الأبيض أعلى مراتب التطور ومن ثم يحق له إرشاد بقية الأجناس إلى طريق الحضارة والمعرفة. أما الاتجاه الثاني فيطلق عليه polygenesis أي أن الأجناس المختلفة تأتي من أصول مختلفة ومن ثم لها خصائص وقدرات مختلفة، وبهذا يحتل الرجل الأبيض المكانة الأعلى ولكن يتقلص أمل بقية الأجناس في الوصول إلى نفس درجة التطور لأنها، وفقا لهذا الاتجاه، لا تملك الخصائص المؤهلة (3) يرصد روبرت يونج Robert Young مسار هذه الاتجاهات المتعددة في سياق تاريخي اجتماعي، فيذهب إلى أن في أوائل القرن التاسع عشر، تأثرت الأيديولوجيا العنصرية بالفكر التبشيري المسيحي الذي تعامل مع التوسع الاستعماري من منطلق نشر قيم مسيحية من شأنها تحقيق السمو الأخلاقي ومن ثم الحضاري للشعوب، وهي أيديولوجية متسامحة لدرجة ما، كما تأثرت النظرية بحركات تحرير العبيد التي علا صوتها خاصة في أمريكا والتي نادت بالمساواة بين البشر من حيث القيمة الإنسانية.

ولكن، في منتصف القرن، خاصة في ١٨٥٠ مع ظهور كتاب روبرت نوکس Robert Knox الأجناس البشرية (The Races of Man) انتشرت نظرية تعدد أصول الأجناس ووجدت صدى واسعا، خاصة في أمريكا ضمن دوائر مناهضة حركة تحرير العبيد, وأيضا عند منظري التوسع الاستعماري الذي نشط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر(4). استخدمت النظرية أيضا لتبرير التفاوت غير العادل بين الطبقات الاجتماعية في المجتمعات الغربية. وكما يقول يونج، أصبح الجنس (race) المحدد الأساسي للحضارة والشخصية والتاريخ (5). كان لهذه الاتجاهات تداعيات علمية ونظرية عديدة، فمثلاً،استخدم منظرو العنصرية العلمية نظرية داروين Charles Darwin عن التطور وفكرةالبقاء للأفضلللتأكيد على التراتب بين لشعوب والأجناس و الطبقات الاجتماعية والأنواع الجنسية.

روّج هربرت سبنسر Herbert Spencer للداروينية الاجتماعية حيث أصبح الرجل الأبيض الغني مثالاً على مبدأالبقاء للأفضلوأصبح الفقر دليلاً على تدني القدرات وفقًا لقانون الانتقاء الطبيعي. استحدث فرانسيس جالتون Francis Galton، وهو من أقارب داروين، نظرية الـ eugenics حيث قام بالترويج لضرورة تشجيع الأشخاص الذين يملكون جينات أفضل على التناسل من أجل تحسين مقومات البشرية، وهي أفكار دعت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى التخلص من الأشخاص أو الأجناسالأدنى، ويرى كثير من المحللين أن هذه النظرية ساهمت بشكل أساسي في صياغة الأيديولوجية النازية في ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين. أما اوجست Auguste Comte وهو مؤسس علم الاجتماع، فلقد استخدم أيضًا نظريات العنصرية العلمية للقول بأن للرجل خصائص عقلية تميزه عن الحيوان وأن هذه الخصائص في درجة أعلى عند الرجل مقارنة بالمرأة ومن ثم فإن الدعوى إلى المساواة بين الجنسين تتعارض مع الطبيعة البيولوجية والاجتماعية للإنسان. مرة أخرى، نجد أن البيولوجيا، أو الخصائص التشريحية للإنسان هي المحدد الأول لمصيره الأبدي(6).

وجدت هذه النظريات العنصرية طريقها إلى الشرق والعالم العربي بطبيعة الحال من خلال كتابات ومفكرين كثيرين نهلوا من المصادر العلمية الغربية ونقلوا النظريات والأفكار من أجل إثراء الواقع الثقافي العربي. ومن المهم في هذا المقام التأكيد على أهمية الدور الذي لعبه هؤلاء المفكرون في التقريب بين الشرق والغرب وسعيهم نحو نهضة الشرق بواسطة نقل أحدث النظريات العلمية إليه، وهو هدف جليل في مشروع النهضة العام. ولكن، أحاول هنا التدقيق في فحوى بعض هذه النظريات، لا بهدف التشكيك في المشروع الثقافي ككل، ولكن بهدف تفكيك مقولة أن كل ما جاء مع الحداثة كان جيدًا ومساندًا لحركة تحرير النساء. وكما هو واضح من العرض المختصر السابق لنظرية العنصرية العلمية، لم يكن العلم والعلماء من مساندي حركة تحرير النساء بالضرورة، بل استخدم العلم ضد النساء كما استخدم ضد الشعوب والأجناس في مرحلة تاريخية معينة.

سوف أعرض باختصار لمقالة كتبها شبلي شميل سنة ١٨٨٦ ونشرها على صفحاتالمقتطف، عنوانها:” المرأة والرجل وهل يتساوياندرس شبلی شمیل (1850- 1917) الطب في سوريا وباريس ثم جاء إلى مصر حيث مارس مهنة الطب وانخرط في الحياة الثقافية المصرية. من أهم أعمال شميل ترجمته لكتاب بوكنر عن فکر داروين. ويعد شميل واحدًا من مفكري القرن التاسع عشر الذين أمنوا بأهمية العلم والنظريات العلمية الحديثة في توضيح بعض القضايا الثقافية والاجتماعية وإيجاد حلول لها. وكما فعل أوجست كومت، استخدم شميل نظريات عنصرية علمية للترويج لمقولة أن هناك اختلافاتطبيعيةبين الرجل والمرأة مرتبطة برحلة التطور والارتقاء بحيث يحتل الرجل مرتبة أعلى من المرأة. يقول في نهاية مقالته:

والخلاصة من جميع ما تقدم أن غلبة الأنثى على الذكر لا ترى إلا في بعض أنواع الحيوانات السفلي أو في بعض فروع البشر السفلي ولا يرى تساويهما إلا في ما كان فوق ذلك قليلاً كما في بعض الأنواع الحيوانية والفروع البشرية السافلة وكما في أحداث الأمم المتمدنة ومشايخهم. إذ إن الطرفين يتساويان في كل أمر. وأما في الأنواع الحيوانية العليا وفي فروع البشر المرتقية وفي منتهى النمو فالغلبة دائمًا للذكر جسديًا وعقليًا وأدبيًا ولا تكون غير ذلك إلا إذا انقلب الموضوع وانعكس المطبوع. وعليه فنطلب في المستقبل أن لا يقدر لنسائنا أن يتغلبن على رجالنا أو يساوينهم ولا نظن أن نساءنا يرضين غير ما طلبنا بناء على ما عهدن من سنن الارتقاء (7).

وجدت هذه الأفكار صدى واسعًا، خاصة ضمن الدوائر العلمية الثقافية. وقام بعض الأطباء والمتخصصين في العلوم الطبيعية بإبداء رأى العلم في القضايا الاجتماعية. وفي عام ١٨٩٤، عندما أرسل أحد القراء رسالة إلى مجلة الهلال يسأل فيها رأى المفكرين في شرعية حركة المطالبة بحقوق النساء، أحال جورجی زیدان الرسالة إلى أمين خوري، وهو طبيب، لإبداء رأيه في هذا الخصوص. أستخدم أمين خوري النظريات العنصرية مرة أخرى لمناهضة دعاوى المساواة، واستمر الجدل حول هذا الموضوع ستة أشهر، واشترك فيه النساء والرجال، ثم قرر زيدان إنهاء الجدل وأعطى أمين خوري فرصة أن تكون له الكلمة الأخيرة. والنقطة الأساسية في هذا الموضوع أن هذه النظرياتالعلميةعن طبيعة المرأة، وعن العلاقة الحتمية بين صفاتها البيولوجية وقدراتها المجتمعية أدرجت في المناقشات التي دارت حول دور المرأة في المجتمع. واستخدمت هذه النظريات لدعم مقولات أن المرأة مخلوقة للبيت وأن خروجها للعمل خارج البيت يتنافى معطبيعتها البيولوجية“.

الخلاصة أننا نجد أنفسنا أمام أفكار ونظريات مناهضة لحقوق النساء ظهرت وتبلورت في العصر الحديث، أي أنها ابتدعت مع قدوم رياح الحداثة. ومع هذا، وإلى يومنا هذا، نجد كثيرًا من هذه المقولات في خطابنا المعاصر ولكنها تقدم بوصفها أفكارًا أصيلة نابعة من تراثنا وثقافتنا. أو، نجد أنه لا يزال هناك اتجاه قوى يمجد كل ما هو حديث بدون تمحيص.

فماذا عن عائشة تيمور وفكرها بين تحديات الثابت والمتحول؟

عائشة تيمور(۸)

عائشة تيمور (1840-1902) هي ابنة الطبقة الأرستقراطية التي قرضت الشعر بالعربية والفارسية والتركية وكتبت أعمالاً نثرية تعد من بشائر الأدب القصصي في العصر الحديث. كان أبوها من أصل كردي تركي وأمها معتوقة من أصل شركسي. أجادت ثلاث لغات، التركية والفارسية والعربية. وكما كان شائعًا في بعض الأسر الميسورة، جاء لها أهلها بمدرسين في البيت وتعلمت القرآن والفقه. تروى عائشة قصتها الشعر والكتابة وتقول في مقدمة كتابها، نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال أنها رفضت تعلم فنون الرسم والتطريز وطلبت حضور مجالس العلم والعلماء، فلبی أبوها طلبها بل وشجعها على ذلك، بينما توخت أمها الحرص خوفًا على ابنتها من المضي في طريق قد يجلب لها المشقة والحزن.

كتبت عائشة الشعر ثم انقطعت عنه بعد زواجها وانهماكها بواجباتها العائلية. سنة ١٨٨٢ توفي والدها ثم زوجها بعده بثلاث سنوات، وكما تقول زينب فواز،صارت حاكمة نفسها فأحضرت لها اثنتين لهما إلمام بالنحو والعروض إحداهما تدعى فاطمة الأزهرية والثانية ستيتة الطبلاوية. وصارت تأخذ عليهما النحو والعروض حتى برعت وأتقنت بحوره وأحسنت الشعر وصارت تنشد القصائد المطولة والأزجال” (۹). تفرغت عائشة للكتابة الشعرية والنثرية وعملت مترجمة في بلاط الخديوي. ولكن، مرضت ابنتها توحيدة وتوفيت، ولامت عائشة نفسها فبكت ابنتها سبع سنوات وأحرقت دواوين الشعر التي نظمتها في تلك الفترة. تركت عائشة ديوان شعر باللغة العربية حلية الطراز(1884) تضمن قصائد في الغزل والرثاء والمديح لاقت استحسان معاصريها رجالاً ونساًء، وديوانًا آخر بالفارسية(10) أشكوفة، وأعمالاً نثرية، نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال (۱۸۸۸)، ومرآة التأمل في الأمور (۱۸۹۲)، واللقا بعد الشتات، ورواية أخرى بخطها غير كاملة(١١).

تعد أعمال عائشة تيمور أولى الكتابات المدونة للمرأة العربية في العصر الحديث من شعر ونثر، ويمكننا القول أنها فتحت الباب أمام المزيد من النساء للتعبير عن أنفسهن، إذ اعتبرتها كاتبات كثيرات ممن ألهمتهن المثابرة والهمة(١٢). كتبت مي في سنة ١٩٢٢ سيرة عائشة تيمور تضمنت بحثًا أدبيًا وفكريًا من وجهة نظر امرأة كاتبة تؤسس لكتابة المرأة في العصر الحديث. رأت مي أن عائشةفي طليعة نساء العهد الجديد المتعرفات حقهن في حرية العواطف ومشروعيتها ضمن حدودها الطبيعية، هي في طليعتهن، ليس في الشرق فقط بل في العالم المتمدن كله” (۱۳). اعتبرت مي زيادة نتائج الأحوالبارقة الفن القصصى الحديثذ“,(14). أو بعبارة أخرى، تجارب أولية في فن الرواية، ووصفها حفيدها بأنهارسالة في الأدب“. ثم، تطرقت عائشة تيمور إلى وضع المرأة في المجتمع وعبرت عن آرائها في مرآة التأمل في الأمور سنة ١٨٩٢, تأملت فيها حال العلاقة بين الرجل والمرأة في ظل ما شاهدته من تغيير في الأدوار المنوطة بالجنسين. وهي بهذه الوثيقة تكون من أوائل من تناولن قضية المرأة في القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى ذلك، كتبت مقالة اجتماعية نشرتها في جريدة الآداب عنوانهالا تصلح العائلات إلا بتربية البنات” (15).

لعائشة تيمور بعض الأشعار في الغزل تشي بعمق المشاعر ونضج الأدوات. كما أن مرثيتها لابنتها تستحق وقفة وتأمل. تثنى مي زيادة على عائشة صدق مشاعرها،(16). وجمال لغتها الشعرية، وقوة تصويرها، وجمال نغمتها. تلوم عليها ميلها للتقليد مما يترتب عليه أنها كثيرًا تكونمتكلمة بلهجة الرجل،(۱۷) فتنظم أناشيد ساذجة تفسح المجال أمام المزيد من التجارب الشعرية للنساء حتى يصلن إلى النضج والإبداع. وتفسر مي هذا الأمر باستئثار الرجل بزمام التقاليد الشعرية، مما شجع عائشة، وغيرها، على تقليد أسلوبه لتحظي بالاعتراف والتقدير. أما العقاد، فوجد أن شعرهايعلو إلى أرفع درجة من الشعر ارتفع إليها أدباء مصر في أواسط القرن التاسع عشر إلى عهد الثورة العرابية، واعتبر هذا استثناء لقاعدة لأن المرأة في رأيه لا تحسن الشعر بالذاتلأن الأنوثة من حيث هي أنوثة ليست معبرة عن عواطفها .. بل هي أدنى إلى كتمان العاطفة وإخفائها، وتبرع فقط في الرثاءولهذا كانت الشاعرة الكبرى التي نبغت في العربية باكية راثية وهي الخنساءويستطرد أن أجود شعر عائشة هو مرثياتها،أما الغزل فلم يكن شعرها فيه إلا من قبيل تمرين اللسان كما قالت غير مرة” (۱۸).

في المقابل، نجد عائشة عبد الرحمن تعلى من شأن الشعر الغزلي للتيمورية بل تذهب إلى أنه أشعر أبياتها كانت في الغزل لا في الرثاء. فلقد استطاعت عائشة تيمور التعبير بجرأة غير مسبوقة عن مشاعر الحب والعشق، وأفردت ثلث ديوانها لباب الغزل، وتستطرد بنت الشاطئ فتؤكد على ريادة هذا الاتجاه في الشعر وفتحه آفاقا واسعة أمام الشاعرات في العصر الحديث، فتقولإن شعر التيمورية يسجل تحررًا من الوأد العاطفي، شجع من جئن بعدها على التعبير عن مشاعرهن بحرية وإطلاق” (١٩). ومن أبياتها في الغزل:

مولای کم حمل النسيم سلامی…… فعلام تعنيفي وطول ملامي

ولكم بعثت مع البريد رسائلاً….. ومنعت حتى الطيف في الِأحلام

ولطالما ضحكت بروق رسائلی….. ولم بكت بسريرها أقلامي

فسل النسيم عن المحب فما به….. إلا سهاد مع مزيد سقام

قلبي بحبك يا غزال متيم….. يشكو ظمأه لثغرك البسام

واسأل خيالك عن هواي فإنه….. في الليل مع طول النهار أمامي

أنا لا أحول عن الوداد فإنني….. في مبدأ الأشواق مثل ختامي (20)

ولقد قدمت عائشة تيمور هذه الأبيات، كما ذكر العقاد، بعبارة تصر فيها على أنهامتغزلة في غير إنسان، والقصد تمرين اللسان” (٢١). ولكن، إن كان العقاد قد فهم عبارتها تلك بحرفية مفرطة للتأكيد على فكرته أن النساء لا يستطعن إجادة الشعر وأن الرثاء هو أكثر الأنواع الشعرية قربًا لطبيعة المرأة، فلقد تعاملت عائشة عبد الرحمن مع عبارة التيمورية من منظور مختلف يأخذ في عين الاعتبار الضغوط الاجتماعية التي تحرم على النساء البوح بالعشق والغرام، وقررت بنت الشاطئ أن ما قالته التيمورية كان بمثابة التحايل الذكي على بيئتها المحافظة(٢٢).

عن نتائج الأحوال، تقول مي:” هذه ككل قصة قديمة تحترم نفسها، فيها ملك وابن ملك ووزير ونديم” (23). كان هذا هو النمط الذي كتبت عليه التجارب الأولى في الرواية العربية، كانت الروايات الأولى تاريخية, ميلودرامية، تهدف إلى الوعظ والتسلية(٢٤) استخدمت عائشة في روايتها هذه لغة المقامات وضمنتها الجماليات التقليدية من سجع وكناية. وبما أن الأدب العربي الحديث دخل في منعطف بعيد عن هذه الجماليات، فقد اعتبرت مي زيادة هذه الخاصية التقليدية في كتابة عائشة من عيوب أدبها، سببها التقليد وعدم اكتمال الرؤية الشعرية، ونهج نهجها أغلبية مؤرخي الأدب، فتجاهلوا هذه البداية الهامة التي مزجت بين القديم والجديد (25). انتمت عائشة إلى زمرة الأدباء الانتقاليين، الذين تلقوا تعليمًا عربيًا إسلاميًا، وتربوا على تقاليد الشعر العربي القديم، وتشربوا موسيقى اللغة البلاغية واستخدموها في الوقت الذي هبت فيه رياح التغيير آذنة ببدايات تحولات هامة في الأدب العربي والمجتمع ككل. وعندما اشتدت هذه الريح وقوى عودها، عصفت بهذه البدايات الهامة في تاريخ الكتابة الأدبية في العصر الحديث (٢٦).

تحاول الأوراق المقدمة رصد وتحليل التراث النقدي عن عائشة تيمور بهدف الوصول إلى فهم أعمق المساهمات هذه الرائدة في الحياة الثقافية والاجتماعية المصرية. بالإضافة إلى ذلك، تسعى بعض الأوراق إلى إعادة النظر في بعض المفاهيم الثقافية التي استقرت في وعينا الثقافي إلى الحد الذي أصبحت فيه لا تناقش ولا تُساءل. ولقد حاولت فيما تقدم عرض فكرتين حداثيتين في حاجة إلى إعادة نظر وتمحيص. هذه الأوراق تنطلق من هذه الخلفية النظرية لتناقش قضايا أدبية واجتماعية وسياسية.

تبدأ لطيفة سالم بعرض للتاريخ الاجتماعي والثقافي لفترة 1890، ثم يضع کمال مغيث أعمال عائشة ومساهماتها الفكرية في إطار التاريخ الاجتماعي والسياسي, ويبحث عن كيفية تناول عائشة لأسئلة النهضة المصرية في ذلك الوقت. أما إيمان عامر فهي تلقى بالضوء على مواقف بعض الكتاب من قضية المرأة في فترات تاريخية مختلفة وذلك من خلال تتبع تراث عائشة تيمور في الصحف وبعض الكتابات النقدية. تلفت الباحثة النظر إلى وجود خطاب ذكوري عتيد لا يقبل دخول النساء في مناطق أدبية أو اجتماعية يعتبرها حكرًا على الرجال دون النساء، ومن ثم يرفض أشعار الغزل التي كتبتها عائشة والتي يعتبرها بعض النقاد عن أفضل ما كتبت عائشة من شعر.

وعن تراث عائشة الأدبي، تلفت نبيلة إبراهيم نظرنا إلى التناقض الذي وقعت فيه مي زيادة مثلاً حين افترضت تبعية المرأة للرجل في الكتابة، لأنها بهذا تكون قدجمدت كتابات الرجال في قوالب معينة تحاكيها الكاتبات، كما أنها تعارض هدفها المعلن في البحث عن خصوصية كتابة المرأة.

وتعيد لمياء توفيق في دراستها تعریف خصائص شعر عائشة التي قد يعتبرها بعض النقاد دليلاً على تمسكها بالتقاليد الشعرية السائدة. فتعرف هذه الخصائص بوصفها شكلاً من أشكال المقاومة المستترة التي تصل إلى ذروتها في شعر الرمد الذي كتبته بعد وفاة ابنتها الوحيدة. تذهب الباحثة إلى أن في شعر الرمد تبتعد عائشة تيمور عن قواعد الخطاب العامالذي تتخذ فيه الأساليب المختلفة لنيل رضا عالم الرجال والتأكيد على الالتزام بمتطلبات الحياة النسوية التقليدية، وتظهر صورًا من الخطاب الخفي الذي تبرز فيه صور المقاومة والتعبير عن معاناة الانغلاق“.

وفي ورقة ميرفت حاتم، تسعى الباحثة إلى تفكيك الرؤية الحداثية الممثلة في نقد می لشعر عائشة تيمور، وتحاول تسليط الضوء على مشاركة الشاعرة في الرصد والتعبير عن حركة التغيير الاجتماعي والسياسي في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين من خلال أشعارها. وكما لاحظت میرفت حاتم، كان من الآثار المترتبة على مقولة تقليدية شكل شعر عائشة أن أهمل النقاد التدقيق في مضمون شعرها وافترضوا تقليدية الموضوعات المتناولة، وهو افتراض تطرحه الباحثة للمساءلة والتمحيص.

أما أميمة أبو بكر، فتتبع صورة الرجل ودوره في الأسرة كما تتجلى في خطابات بعض المفسرين لبعض الآيات القرآنية. تلفت الباحثة النظر إلى بعض السلبيات فيما تسميه الخطاب الإسلامي الحداثي الذي يعظم من دور المرأة في الأسرة بينما يقلل من دور الرجل ومن ثم يغفل مسئولياته، وذلك خلافًا مع بعض الخطابات الإسلامية في قرون سابقة حيث جرى التركيز على أهمية دور الرجل في المسئوليات الأسرية والمنزلية.

وفي ورقة هدى الصدة، تتابع الباحثة نقد الخطاب الحداثي الممثل في كتابات عبد الله النديم عن النساء، حيث يتبنى النديم مفاهيم حداثية مرتبطة بالطبقة المتوسطة عن دور المرأة في أسرتها ويروج لها من خلال أصوات الطبقات الشعبية. وفي هذه الورقة كما تفعل ميرفت حاتم وأميمة أبو بكر، تسعى الباحثات إلى تسليط الضوء على بعض المفاهيم الحداثية التي تؤدي إلى التمييز ضد النساء وكتاباتهن.

وفي النهاية، نتمنى أن تساهم هذه المجموعة من الأبحاث في إعادة النظر في بعض المفاهيم الحداثية التي تسيطر على حياتنا الثقافية إلى يومنا هذا. ليس الهدف بالتأكيد هو العودة إلى ماض مجيد، ولا هو دعوة إلى التقوقع على الذات وعدم الانفتاح على ثقافة الآخر. الهدف من المضي في هذا المشروع هو إلقاء مزيد من الضوء على العلاقة المتشابكة بين الثابت والمتغير من أجل فهم أعمق للحاضر وبأمل تلمس طريق للمستقبل

1- انظر هدى الصدة،المرأة منطقة محرمات: قراءة في أعمال قاسم أمين، في هاجر، القاهرة. سينا للنشر، ۱۹۹۳، ص ١٤٤١٦٠ و هدى الصدةرؤية الرجل لذاته في مرايا تصوراته التمثيلية حول المرأة، في مائة عام على تحرير المرأة، الجزء الأول، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ۱999، ص ٣٤٩٣٦٨

2- انظر مقالة هدى الصدة في هذا الصدد.

3- انظر Douglas A. Lorimer,” Nature, Racism and Late Victorian Science,” in Canadian Journal of History, 25:3, (December 1990) pp.369-386.

4- انظر Robert Young, Colonial Desire: Hybridity in Theory, Culture and Race, London and New York, Routledge, 1995, 119-120 .

5- انظر Young, 122.

6- كما يقول يونج: For the new racial theorists, as for Freud, anatomy was destiny” p.121

7- شبلی شميل،المرأة والرجل وهل يتساويانخطبة تليت في جمعية الاعتدال بالقاهرة ونشرت في المجلد الحادي عشر للمقتطف سنة ١٨٨٦ طبعت في كتاب قضية المرأة، تحرير وتقديم محمد كامل الخطيب، دمشق، منشورات وزارة الثقافة، 1999، ص ۹۰.

8- هذا الجزء عن عائشة تيمور مأخوذ من مقالة عنوانهاالكتابة الإبداعية للنساء في مصرفي کتاب ذاكرة للمستقبل: موسوعة المرأة العربية. (طبعة تجريبية) القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة ومؤسسة نور، الجزء الأول، ۲۰۰۲، ص ۱۸۹٢٦٦.

۹عائشة تيمور، زينب فواز، الدر المنثور في طبقات ربات الخدور.

۱۰أو التركية على حسب قول زينب فواز.

11- يصف أحمد كمال زادة، حفيد عائشة، العملين الأخيرين بالرواية التمثيلية وهما غير موجودين في المكتبات، في حلية الطراز: دیوان عائشة التيمورية (١٨٨٤)، القاهرة. مطبعة دار الكتاب العربي، ١٩٥٢.

١٢من الرائدات اللاتي يتحمسن لذكرى عائشة تيمور، زینب فواز، ومي زيادة، ملك حفنى ناصف ونبوية موسمى.

۱۳مي زيادة، عائشة تيمور، شاعرة الطليعة، بيروت، مؤسسة نوفل، ١٩٧٥، ص١٦٢.

١٤المرجع السابق، ص ٢٠٦.

١٥عائشة تيمور،لا تصلح العائلات إلا بتربية البناتفي جريدة الآداب، السبت 9 جمادي الثاني سنة ١٣٠٦ هجرية.

١٦مي زيادة. المرجع السابق، ص۱۳۲.

17- المرجع السابق، ص 167.

۱۸انظر العقاد، شعراء مصر وبيئاتهم, القاهرة، مكتبة النهضة، الطبعة الثالثة، 1965، ص 153.

۱۹عائشة عبد الرحمن، الشاعرة العربية المعاصرة، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر,١٩٦٢، ص ۱۹.

۲۰حلية الطراز، ۱۹5۲، ص۲۳۳٢٣٤.

۲۱حلية الطراز، ص۲۳۳.

۲۲عائشة عبد الرحمن، الشاعرة العربية المعاصرة، ص۲۸.

۲۳ – می زيادة، عائشة تيمور، ۱۹۹.

٢٤انظر Badawi ص ۹۹.

٢٥من الاستثناءات الهامة في هذا الصدد كتاب محمد رشدی حسن، أثر المقامة في نشأة القصة المصرية الحديثة. القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، ١٩٧٤.يتتبع الكاتب أثر المقامة على القصة الحديثة ويشير إلى نتائج الأحوال ويلفت النظر إلى العناصرالحديثةالتي أدخلتها عائشة على المقامة التقليدية. يقول:” وعائشة التيمورية في سجعها ومحسناتها البديعية لم تكن مقيدة للمعنى أو مخفية له، بل جعلت منها رداًء جميلاً زخرف بذوق الأنثى، ليس في لغتها إغراب كنا نلاحظه في المقامات، وذلك لأن الهدف القصصي لا الإغراب اللغوي هو المسيطر المتغلبص ۱۳۷.

٢٦ فكان حالها ولفترة طويلة مثل حال المويلحي عندما كتب حديث عيسى بن هشام واستوحي شكل وأسلوب المقامة وطورها، ولكن لم يلتفت لريادته، حيث حاول وصل الجديد بالقديم, وأصبحت زينب لهيكل في الرواية النموذج التي حققت القطيعة مع الماضي، ودشنت بدايات الأدب الحديث في العالم العربي.

مقالات المجلة

سجن الرمد وآفاق الهوية في شعر عائشة التيمورية
خطاب الحداثة
صورة الرجل في الكتابات الإسلامية
تناقضات الخطاب الوطني في تناوله لمسألة المرأة
التاريخ الاجتماعي والثقافي لفترة 1890
عائشة تيمور وأسئلة النهضة
المجتمع وخطاب المرأة
من أدبيات الكتابة النسوية
شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي