الحياة بدون أطفال

افتتاحية العدد

العقم إحدى الكلمات المحملة بتداعيات سلبية: الحرمان, الجدب، الحزن, النبذة, الهجر، عدم الأمان, اليأس الخ. قائمة طويلة من الكلمات التى تعكس معاناة مستمرة للأطراف المعنية والأطراف المعنية لا تعنى فقط الزوجان اللذان يعانيان من العقم، بل تتسع دوائرها لتشمل الأجداد, بل وفى عديد من المجتمعات تنعكس على الأسرة الممتدة كلها . لكن في قلب هذه الدوائر تبرز معاناة النساء بشكل خاص، فما زالت كل المجتمعات تقريبًا تقيم النساء على أساس دورهن الانجابى، وتحديدًا قدراتهن على الحمل والولادة. والمرأة التى لا يمكنها الإنجاب، تعامل باعتبارها, مشروع فاشل، أقل من إنسان لا تستحق الحياة مثلها مثل الأخريات، مصدر شؤم على النساء الأخريات المنجيات فهي تحمل العجز والحسد.

يمثل موضوع العقم نقطة تقاطع بين العديد من المجالات: الصحة العامة وحقوق الإنسان، والثقافة السائدة فيما يتعلق بأدوار النساء والرجال. وعلى الرغم من أن السبب فى العقم قد يعود إلى أى من الزوجين, إلا أن العبء الاجتماعي للعقم عادة ما تحمله النساء، وعادة ما تتواطأ المجتمعات المختلفة على عجز الرجال عن الإنجاب مما يكرس فكرة أن العقم مسألة نسائية. الدليل الوحيد على عجز الرجال عن الإنجاب هو ألا تحمل نساؤهم. ولذا كثيرًا ما يتم التواطؤ على أن تحمل النساء من غير أزواجهن بوسائل تتباين في المجتمعات المختلفة، من خلال ذهابهن إلى المعالجين المحليين, أو المعابد، أو من خلال أحد أقارب الزوج كما في بعض القبائل الأفريقية. وما تزال معظم الثقافات تدين النساء اللاتى يطلبن الطلاق بسبب عقم أزواجهن، بينما تبارك تطليق الرجل لزوجته العاقر، أو زواجه من أخرى فى المجتمعات التى تبيح تعدد الزوجات.

علاوة على ذلك فان العقم أحد قضايا الصحة العامة التي عانت من التجاهل خصوصًا في مجال الصحة الانجابية: حيث يسود الفكر السكانيالذي يمثل الخوف من الانفجار السكاني فى العالم وفى الدول النامية على وجه الخصوص المحور الرئيسى له, والتحكم فى عدد السكان لمواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية الهدف الرئيسي له، ويركز من حيث الأساس على التحكم فى خصوبة النساء.

ورغم أن التسعينيات شهدت تطوراً مهماً للفكر السكاني حيث طرحت الحقوق الإنجابية للنساء كجزء متكامل من منظومة حقوق الإنسان في المؤتمر الدولى للسكان والتنمية ١٩٩٤ ، والمؤتمر الدولى الرابع للمرأة ١٩٩٥ إلا أن الاهتمام كان منصبًا على تحرير النساء والرجال، من تحكم السياسات السكانية، وعلى تدعيم فكرة الاختيار الحر.. أي حق النساء وليس الدولة في التحكم في خصوبتهن (تحديد عدد مرات الحمل وتوقيتها، والحق في الإجهاض الآمن وتوقى الحمل غير المرغوب فيه, إلخ…) . لكن للأسف أن الحق في إنجاب الأطفال ليس جزءًا من تفاصيل الحق في التحكم في الخصوبة التي ناقشتها تلك المواثيق باستفاضة. وجدير بالذكر أن وثيقة المؤتمر العالمي الرابع للمرأة (بكين ١٩٩٥) لم يرد فيها القسم المتعلق بالمرأة والصحة ( الفقرات ۸۹ – ۱۱۱) – أى ذكر للعقم أو للحق في الإنجاب.

من جانب آخر يمثل العقم إشكالية كبرى من الناحية الاقتصادية، فالعمل البحثي في مجال اكتشاف العقم وعلاجه أمر حديث بالمقارنة بالموضوعات الصحية الأخرى ( موانع الحمل على سبيل المثال). وخبرات المهنيين الصحيين خاصة على مستوى برامج الرعاية الصحية الأولية تكاد تكون مفتقدة, والميزانيات المخصصة له شديدة المحدودية مقارنة بحجم التكلفة الاقتصادية التى يقتضيها علاج العقم والتى تقع فى الواقع على عائق من يعانون العقم. وكما هو الحال مع قضايا صحية أخرى مثل الإجهاض الآمن، أو علاج السرطانات. تفاقم الأوضاع الطبقية من المشكلات الصحية, حيث يمكن للأغنياء السعى للحصول على العلاج من العقم بينما تعانى النساء الفقيرات منه بلا دعم من النظام الصحي، وهن الأكثر احتياجًا إذ يعانين أيضًا من أمراض أخرى وثيقة الصلة بالعقم, علاوة على الأمية وانعدام فرص العمل مما يجعل العبء النفسي والاجتماعى عليهن أشد.

وأخيرًا فإن العقم يفجر إشكاليات أخلاقية متعددة، فإضافة إلى إشكالية تحديد أولويات الإنفاق الصحي وموقع العقم منها، هناك الإشكاليات التى تثيرها التقنيات الحديثة من التخصيب خارج الرحم وبنوك البويضات والحيوانات المنوية، وتأجير الأرحام, والتخلص من التوائم المتعددة التي تنتج عن الأدوية المحفزة للتبويض، الخ. هذا إضافة للإشكاليات الدينية المتعلقة بالتبنى فى المجتمعات التي تحرم التبني.

لذا فان هذا العدد من قضايا الصحة الإنجابية يطرح تساؤلات وخبرات من ثقافات متنوعة, نأمل أن تكون حافزًا للمهتمين بقضايا الصحة وحقوق الانسان والنوع الاجتماعي لإجراء دراسات مشابهة في بلداننا العربية, كأساس لفهم حجم المشكلة لدينا ، سواء من حيث انتشار ظاهرة العقم بين النساء والرجال أو من حيث تعامل المجتمعات معها، ومن ثم طرح التعامل مع تلك الإشكاليات بشكل واقعى يضع في اعتباره كل المدخلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية.

وقبل أن نستعرض مقالات هذا العدد نشير إلى مسألة الترجمة التى واجهتنا فى هذا العدد مجددًا. فرغم أن هناك فرق بين العقم sterility (عدم القدرة على الحمل أو الإخصاب)، والعقر أو عدم الخصوبة Infertility (عدم القدرة على إنتاج مولود حي) في المجال الطبي، إلا أن الكتابة عن الموضوع خاصة من قبل غير المتخصصين الطبيين تنزع إلى استخدام التعبيرين كمرادفين لنفس المعنى وهو عدم القدرة على الإنجاب. في اللغة العربية توجد كلمتان مرادفتان أيضًا لعدم القدرة على الإنجاب هما العقم والعقر ولا توجد تفرقة واضحة بين الاثنتين. فالعقم هو الداء الذي لا يبرأ منه (مختار الصحاح) وهو حالة تحول دون التناسل فى الذكر أو الأنثى ( الوجيز). ولا يوجد في الاثنين تعريف واضح للعقر, ولكن العاقر هي المرأة التى لا تحبل (الصحاح)، أو العقيم رجلاً كان أو امرأة (الوحيز) على أن المعجم الذى أعده المكتب الأقليمى لمنظمة الصحة العالمية يعتمد العقم كترجمة لكلا الكلمتين. ولذا فقد استخدمنا تعبير العقم في ترجمة كلمتى infertility و sterility واستخدمنا مصطلح عدم القدرة على الإنجاب لترجمة كلمة childlessness في مقالات هذا العدد.

واعتبارًا من هذا العدد سنبدأ فى نشر الترجمات التي نستخدمها للمصطلحات الطبية وغيرها، وإننا لنرحب بالتعليقات والاجتهادات من قارئاتنا وقرائنا.

ومثلما أشارت مارج بيرو في مقدمتها المترجمة فى هذه العدد الحياة بدون أطفال“. فإن العدد (سواء العدد الأصلي الصادر باللغة الانجليزية أو هذا العدد الصادر باللغة العربية) يضم على غير المعتاد مقالات عن العقم في الدول المتقدمة، وذلك من جانب لأن موضوع العقم حظى باهتمام أكبر فى الدول المتقدمة وتنقل لنا تلك المقالات خبرات عامة للنساء (مثل مجموعات الدعم الذاتى). كذلك تنقل لنا مشاعر نساء مررن بتجربة العقم وكتبن بأنفسهن عنها. وهو أمر لم يلق عليه الضوء بشكل كاف فى الثقافة العربية. بينما فى معظم المقالات الأخرى تنقل لنا مشاعر وآراء النساء في دول العالم الثالث (نيجيريا, الهند, بنجلاديش…) من خلال عيون الباحثين / الباحثات الذين أجروا دراساتهم حول العقم ولا يقلل هذا من أهمية تلك الدراسات، لكن هناك فارق كبير بين أن تكتب النساء عن تجربتهن مباشرة، وأن يكتب الآخرون عنها مهما كانت درجة تعاطفهم.

تثير مقالة مارج بيرر قضايا متعددة وأسئلة هامة حول موضوع العقم من خلال استعراضها للمقالات المنشورة في العدد الصادر باللغة الانجليزية العدد ۱۳ مايو ۱۹۹۹ ، ورغم أننا لم نترجم كل مقالات ذلك العدد التي تشير إليها بيرو في مقدمتها، إلا أننا رأينا الأبقاء على المقدمة كما هي لأهميتها. وبالاضافة الى مقدمة بيرر هناك أيضًا مناظرة حول ما إذا كان علاج العقم ترف أم ضرورة, تبارى فيها إقبال شاه وناهد طوبيا في تفنيد وجهة نظر مارسيل فيكمانز عن أن ميزانيات الصحة تعانى بالفعل من العجز، موردة عدداً من الحجج ضد التكلفة الإضافية التي يمثلها علاج العقم. ورغم أن هذه المناظرة قد جرت منذ ما يزيد عن عشر سنوات إلا أن الآراء الواردة فيها مازالت تتصارع في واقعنا حتى الآن.

تطرح ورقة الجوانب الإكلينيكية للعقم ودور خدمات الرعاية الصحية رؤية بانورامية عن انتشار العقم وأسبابه, والخدمات التي يمكن / ينبغى أن توفرها مؤسسات الرعاية الصحية، مع التركيز على جهود البرنامج الخاص للأبحاث والتنمية والتدريب فى مجال التناسل البشري الذي أنشأته منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الانمائي، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، والبنك الدولى فى سبعينيات القرن الماضي وهي مقالة ذات أهمية خاصة لمن يعملون في مجال الخدمات الصحية.

ثلاث مقالات تتناول العقم فى عدد من البلدان النامية (نيجيريا, والهند وبنجالاديش)، وكلها توضح كيف يمثل العقم وصمة اجتماعية تعانى منها النساء بشكل خاص. وتوضح المقالتان عن الهند وبنجالاديش رحلة النساء في علاج العقم والتى تمتد لسنوات طويلة, والتكلفة الباهظة سواء ماديًا أو نفسيًا التي تحول بينهن وبين استكمال العلاج. أما المقال عن نيجيريا فيبرز تجربة خاصة لإحدى المجموعات المسيحية في لفت الانتباه إلى ضرورة تحدى البنى الثقافية التي تؤثر على الوضع الاجتماعى للنساء عمومًا، ولاولئك اللاتي يعانين من العقم بشكل خاص.

وتتناول مقالتان خبرة من الدول المتقدمة، ألا وهى خبرة مجموعات المساندة الذاتية التى شكلتها النساء التي يعانين من العقم. وتطرح المقالتان وجهتى نظر مختلفتين. يصف مقال عندما تحاول النساء الإنجاب بعد سن الأربعين، كيف ساهمت عضوية أولئك النساء في المجموعة فى مساعدتهن على مواجهة العقم، وتقبل حقيقة أنه برغم أن التكنولوجيا قد تمنح بعض الأمل إلا أنه ليس بالضرورة أن يكون الأمل واقعيًا . بينما على الجانب الآخر ترفض كاتبة مقال ضحكة سارة ما تحمله تلك التجربة من اجترار للحزن, يفاقم من معاناة النساء بدلاً من أن يساعدهن على تجاوز تلك التجربة الأليمة.

أما مقال التأقلم مع الحرمان من الأطفالفيعكس من خلال تجربة كاهنة تعمل في أحد المستشفيات في السويد التطور فى طريقة التعامل مع العقم (الرعاية الصحية والدينية). وتناقش الكاتبة استراتيجيات التأقلم البناءة التي تساعد على الانتقال من حالة اليأس إلى الثقة والقدرة على التعبير صراحةً عن الغضب وغيره من المشاعر، والاهتمام بالآخرين، والعثور على سبل لخلق شئ بناء من الحزن، وتستشهد على ذلك بكتابات بعض من النساء في الأدب الحديث.

وفى نفس الاتجاه يعكس مقال تعيسة بلا أطفال سعيدة بلا أطفال: خبرة شخصية ومهنية حول العقم تجربة طبيبة عانت من العقم, لكنها اتخذت من تجربتها حافزًا لدراسة العقم بوصفه قضية طبية واجتماعية، فجعلت من العقم مصدرًا لتطورها المهنى، مشيرة إلى أن هناك العديد من الطرق المثيرة للاهتمام لشغل تلك المساحات الفارغة, والتى تنتظر ابتكارات فردية لشغلها “.

قارئاتنا .. قراؤنا الأعزاء.. لقد حاولنا فى اختيار الموضوعات أن نراعى التنوع والجوانب المشتركة في نفس الوقت بما يساعدنا على تأمل واقعنا العربى والنظر إليه أيضًا من خلال خبرات الآخرين, ونأمل أن يساهم هذا العدد في تغيير الوعى فى مجتمعاتنا بقضية العقم، وأيضًا فى تغيير السياسات الحكومية بحيث يمكن لكل النساء والرجال العيش بشكل إنسانى كريم سواء استطاعوا أم لم يستطيعوا الإنجاب.

هيئة التحرير

مقالات الاعداد

الجوانب الأكلينيكية للعقم ودور خدمات الرعاية الصحية
تصورات جماعة يوروبا عن العقم
الحياة بدون إنجاب خبرات سكان الأحياء المدنية الفقيرة في بنغلاديش
العقم في الهند: السعى للعلاج وتبعاته
عندما تحاول النساء الإنجاب بعد سن الأربعين
ضحكة سارة كيف تتعامل النساء مع العقم
التأقلم مع الحرمان من الأطفال تأملات كاهنة في مستشفى سويدى
تعيسة بلا أطفال، سعيدة بلا أطفال خبرة شخصية ومهنية حول العقم
علاج العقم، ترف.. أم رغبة .. أم ضرورة ؟
الحياة بدون أطفال
شارك:

اصدارات متعلقة

عيد الأم ما بين الاحتفاء بقيمة الأمومة و ترسيخ الدور النمطي للنساء
خدمات الصحة الجنسية فيما بعد سن الإنجاب ضرورة لتمكين النساء
ختان الإناث في مصر... جريمة تعذيب ضد الإنسانية
حقوق النساء من اجل العدالة والتنمية
الإيدز خطر صامت يهدد حياة النساء في ظل جائحة كورونا
إشكاليات التقاضى فى جريمة التحرش الجنسي
أسئلة وأجوبة بشأن الوقاية من كوفيد 19 ومكافحتها للعاملين /ات في مجال الرعاية الصحية
الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان