العدد الثالث – رسائل الذاكرة
رقم العدد:
3
تاريخ النشر:
أبريل 2000
التقديم:
فريق البحث:
المرأة في الخطابات المعاصرة والماضية
مفهوم الخطاب التاريخي. إن دراسات تحليل الخطاب ترتبط ارتباطًا قويًا بالتاريخ، حيث أنها تبحث أيضا في جذور وأصل تكوين هذه الخطابات وتطورها ونشأة التيارات الفكرية المتعددة والاختلافات بينها في تبني خطابات معينة تحت ظروف تاريخية معينة. وبصفة عامة نقصد بالخطاب هنا الاستخدام الواعي لمنظومة أفكار ومفاهيم وتصورات (عن موضوع ما) بحيث لا تكون انعكاسًا حقيقيًا لوضع قائم أو وجهة نظر لها مسوغاتها الفعلية،بقدر ما هي تستهدف خلقًا وترسيخًا لأنماط سلوكية واجتماعية معينة والتبرير لها. ويرتبط تحليل الخطاب كذلك بدراسة أصل التنميط الثقافي والاجتماعي لفئة ما داخل المجتمع، كيف ولماذا ينشأ على “مستوى الخطاب” في لحظات بعينها، وكيف يتعارض مع وجهة نظر المرأة فيما يخص إنسانيتها وحقوقها وقضاياها. وقد رأينا أن نقف في هذا العدد من رسائل الذاكرة وقفة مع المرأة “المسلمة” كـ “موضوع” للمناقشة داخل ما يسمى بالخطاب الإسلامي أو الخطاب العلماني أو الخطاب الاستشراقي الغربي أو الخطاب القومي الرسمي، باعتبار أن هذا الموضوع يُعد مثلاً جيدًا لما نقصده عن نشأة الخطابات والخطابات المعاكسة بجذورها وأصولها ومظاهرها. يفيد تحليل الخطاب هنا في توضيح التناقض المفترض غير الحقيقي بين التيارات الفكرية المتعارضة عن سمات مشتركة خفية بينهما. وهذا يتطلب إعادة بحث وقراءة وفي الكشف وتفسير المراحل التاريخية المختلفة ومؤثراتها والخطابات المستخدمة حول المرأة (مثلاً المرأة في الإسلام) من قبل المؤسسات الرسمية أو التيارات الفكرية المتعددة على مر العصور والحقب.
إعادة قراءة التاريخ. تختلف النظريات الحديثة في دراسة التاريخ عن المنهج التقليدي في إنها تفتش لا عن الأحداث وشخوصها فقط ولكن عن الخطابات الثقافية المجتمعية التي يفرزها التاريخ وتطوراته والتي يصورها في مصادره ونصوصه. وهذا يدخل في نطاق التحليل أو إعادة التفسير الذي يولد تحولاً جذريًا في فهم ظواهر معينة والنظر إليها هذه بطريقة مغايرة تمامًا، وهكذا يتضح دور التفسيرات الجديدة في تنظيم أو إعادة ترتيب تجارب الماضي، فيما معناه تفسير الماضي من منطلقات الحاضر ومن أجل الحاضر. وفي هذا رأي لبعض المؤرخين المعاصرين الذين يزعمون أن مجتمعاتنا المعاصرة بمؤسساتها الرسمية تقدم لنا صورة معينة عن الماضي وكأنه يمشي في خط مستقيم وفي صورة توحي بحتمية الأوضاع الراهنة، وذلك لتطبيع منظومة الهيمنة والخطاب السائد في نظر الشعوب، فيصبح المطلوب من الأبحاث التاريخية الحالية بمنهجها الجديد أثناء تحليلها وإعادة تفسيرها للماضي أن تنزع عنصر القداسة من المفاهيم غير العادلة والظواهر الثقافية المغلوطة وأن تزعزع النظم الاجتماعية والسياسية السلطوية بالكشف عن تاريخ تصويرها المشوه للماضي. المقصود هنا بطبيعة الحال القدرة على التمييز بين الخطاب السائد المهيمن في التواريخ التي تصلنا والخطاب المهمش ومحاولات إخفاء بدائل كانت واردة بالفعل في الماضي كطريقة للحجر على أية بدائل مقترحة للحاضر.
ومثل هذا النوع من التوجه في إعادة تفسيرات التاريخ وتحديد الخطابات لا شك أنه ينعكس على دراسة تاريخ المرأة بطريقة تساهم وتؤثر في حاضرها، فالهدف من البحث التاريخي الجديد هو زعزعة مفهوم “الثبات” والكشف عن طبيعة منظومة السيطرة التي أدت ومازالت تؤدي إلى ظهور ثنائيات متضادة بين الجنسين والتنميط لها لتبدو وكأنها أشكال كانت دائمًا ممتدة أبدية لا تتغير. هذا يستلزم تأريخًا يطبق التحري النقدي على كل التصنيفات والفرضيات والإطارات المرجعية التحليلية التي كان مفروغًا منها. مثلا في حالة التاريخ الثقافي العربي نجد ظهور الدراسات العديدة الآن التي تعيد النظر في مفاهيم الحداثة والتنوير الحداثي و “ما قبل” الحداثة والتضاد المفترض بين التيار الإسلامي المعاصر (المتشدد) والعلمانية الليبرالية الحديثة في فيما يخص النظرة إلى المرأة؛ وهي موضوعات ترد في مقالات د. میرفت حاتم ود. فاطمة موجي جوتشك وكتاب د. جوديث تاکر، فمن خلال تحليل الخطابات التاريخية يتم تفكيكها وإعادة فهم معانيها ودلالاتها. فقد أجمع الدارسون المحدثون أن المدرسة التاريخية الجديدة يجب أن تعني بتكون المفاهيم والترسبات الثقافية بالمجتمعات وتفنيدها ومعارضتها إذا لزم.
هذا العدد. ولا شك أن التراث العربي والإسلامي غني بالأعمال التاريخية في أشكالها المتعددة من حوليات وقواميس أعلام وسير وتراجم وأخبار، التي هي مادة وافرة الوعي ثرية كمصدر تاريخي في حد ذاته ينقل لنا الماضي بكل تنوعه، وكرصد لتطور “الوعي” بهذا التاريخ والكتابة عنه وتحويله إلى “موضوع” للتصنيف والشرح والتعليق. ولهذا السبب اخترنا أن نقدم كتابي طريف الخالدي (١٩٩٤) وعبد الرحمن السخاوي (ق ۱٥) للتأكيد على هذا البعد التنظيري في تراث الكتابة التاريخية العربية، حيث قام الخالدي بجهد في هذا الاتجاه شارحًا الجذور الفكرية لتطور الوعي التاريخي على مر العصور، وحيث أخرج المؤرخ المملوكي السخاوي كتابًا صغيرًا متفردًا في فلسفة التاريخ و استخدامه كـ “علم” ينفع “العقلين: العقل المطبوع والعقل المسموع، والأخير هو “ما يزداد به العقل المطبوع الغريزي من التجربة.” كما قدم تعريفات ومناقشات حول هذا الموضوع تتقارب مع مفهومنا الراهن للخطاب التاريخي ومع وعينا بأهمية تحليل التاريخ وتحديد الخطابات والتصورات الثقافية واستخدامها. أي أن الأسس الفكرية في التراث العربي والإسلامي موجودة وتنتظر مزيدًا من البحث والنقد والتفسير، خاصة إذا كان على أساس إضافة منظور جديد وهو وجهة نظر المرأة حيث الملاحظ ندرة التاريخ لفئة النساء كعنصر فعال في صنع التاريخ والحضارة من ناحية، واختفاء المنظور التحليلي الذي يأخذ في الاعتبار التشكيل الثقافي والاجتماعي للجنسين في الماضي أو الحاضر من ناحية أخرى، وكذلك الوعي بموضوع المرأة الذي يعتبر حاليًا نقطة استقطاب بين الخطابات المعاصرة.
وهذا مثلاً ما تحاول كل من ميرفت حاتم وفاطمة موجي جوتشيك أن توضحه من خلال مقالتيهما، فليس الهدف هو الدفاع عن تيار بعينه ضد آخر ولكن هناك هدفان مشترکان:
أ) نقد الاستقطاب الحاد، حيث يعتقد كل تيار أنه مناقض للآخر تمامًا وأنه وحده الذي سيقدم الحل التحرري الأمثل (التيار الإسلامي “المحافظ” على أساس أنه يستند إلى تعاليم الدين،والتيار العلماني الليبرالي على أنه يستند إلى الديمقراطية والمدنية الغربية)، وتصبح المسألة في عُرف الجميع هي التعبير عن العداوات “التاريخية” المفترضة بين النموذجين الديني والعلماني وكسب الجولات. وتوضح لنا فاطمة موجي جوتشيك أن هذا الانفصام حاصل الآن في تركيا حيث لا يتم الوصول إلى حل أو حتى إحراز أي تقدم.
ب) الهدف الثاني: من خلال التحليل المتعمق لهذه الخطابات المتعارضة، نجد أن كليهما يتفق في أفكار تقليدية وسلبية حول دور المرأة وشخصيتها في المنزل والمجتمع والحياة رغم اختلاف ظواهر مواقفهما. وهذا الاتفاق يعبر في حقيقة الأمر عن خطاب يُعرف لا من حيث هو إسلامي أو علماني ولكن من حيث أنه رؤية غربية / استشراقية للحداثة استوعبها كل من التيارين،وهي رؤية معاصرة محافظة ومنحازة للقيم الأبوية بتختلف عن قيم وممارسات الموروث الثقافي والديني في ما قبل الحداثة (انظري / انظر مرة أخرى عرض كتاب جوديث تاكر بالداخل). أي أن التناقض الحقيقي كما حاولت فاطمة موجي جوتشيك ان توضح في تركيا هو بين الشكل الأبوي للحداثة والدولة القومية الحديثة من ناحية ومحاولات النساء المسلمات أنفسهن في الشرق الأوسط لصياغة حداثة غير غربية وغير أبوية “تقليدية” منحازة. أما في مقال د. إبراهيم موسى فهو يتعرض لفكرة إعادة التعرف على خريطة الفكر للماضي الإسلامي الذي في رأيه كان من المرونة والتعددية بحيث يسمح بمثل هذه الصياغات ووجهات النظر التحررية والقيم العادلة.
ونعتبر هذه التوجهات البحثية تحررية على مستويين: التحرر من أسر مفاهيم ووجهات نظر استعمارية أو استشراقية أو سلطوية تم فرضها في لحظات تاريخية معينة، ثم استكشاف محطات في تاريخنا تطرح رؤى مغايرة للعلاقات بين الجنسين قد يجدي استلهامها الآن.
كلمة أخيرة. نأمل أن يصب هذا العدد في مجرى إنتاج مادة معرفية ثقافية يكون لها تأثيرها الإيجابي على قضايا المرأة، ونحو صياغة لخطابات تحررية ذات تأصيل تاريخي وحضاري. وتجدر الإشارة إلى أن هذا العدد من رسائل الذاكرة قد تأخر عن موعده المحدد بفترة طويلة بسبب الانتظار حتى تستكمل كل المادة في شكلها النهائي، ونحن نعتذر ونأمل أن نستعيد المواظبة على إخراج الأعداد المقبلة في موعدها بإذن الله.
مقالات الاعداد
- الناشر: المرأة والذاكرة